هو رابع أئمة أهل البيت الطاهر، المشهور بزين العابدين أو سيّدهم، والسجّاد، وذو الثفنات.
ولد في المدينة سنة 38 أو 37 هجري، وتوفّي بها عام 95 أو 94 هجري، يوم السبت الثاني عشر من محرّم.
قال ابن خلّكان: هو أحد الأئمة الإثني عشر ومن سادات التابعين. قال الزهري: ما رأيت قرشيّاً أفضل منه. وفضائله ومناقبه أكثر من أن تحصي وتذكر، ولما توفّي دفن في البقيع في جنب عمّه الحسن في القبّة التي فيها قبر العباس - رضي الله عنه -( وفيات الأعيان 3 / 267 )
ولقد تولّى الإمامة بعد استشهاد أبيه الحسين (ع) في كربلاء، وللاطلاع على النصوص الواردة في إمامته ينبغي الرجوع إلى كتب الحديث والعقائد المتكفّلة بهذا الجانب المهم، وأخص منها بالذكر كتاب «الكافي» للكليني، و«الإرشاد» للشيخ المفيد، و«كفاية الأثر» للخزار، و«اثبات الهداة» للحر العاملي.
ومن أراد الأطلاع على مناقبه وكراماته وفضائله في مجالات شتّى كالعلم، والحلم، والجرأة والاقدام، وثبات الجنان، وشدة الكرم والسخاء، والورع، والزهد، والتقوى، وكثرة التهجّد والتنفّل، والفصاحة والبلاغة، وشدة هيبته بين الناس ومحبّتهم له، وتربيته لجيل عظيم من الصحابة والعلماء أوقفوا حياتهم في خدمة الإسلام، وغير ذلك ممّا لا يسعنا التعرّض لها هنا، فعليه طلب ذلك في الموسوعات المتعدّدة التي تعرّضت لذلك بالشرح والتفصيل.
جوانب من سيرته (ع)
إلاّ أنّا نكتفي هنا بجانب من سيرته (ع) تتعلّق بجملة محدّدة من الأمور:
1 - هيبته ومنزلته العظيمة:
لقد كان (ع) مهاباً جليلاً بين الناس بشكل كبير، حتى أنّ هذه المنزلة العظيمة جعلت الامراء والحكّام يحسدونه عليها، والتاريخ يذكر لنا على ذلك شواهد كثيرة ومتعدّدة، ومن ذلك:
لمّا حجّ هشام بن عبد الملك قبل أن يلي الخلافة اجتهد أن يستلم الحجر الأسود فلم يمكنه ذلك، وجاء علي بن الحسين (ع) فتوقّف له الناس، وتنحّوا حتى استلم، فقال جماعة لهشام: من هذا؟ فقال: لا أعرفه - مع أنّه كان يعرفه أنّه علي بن الحسين (ع) - فسمعه الفرزدق، فقال: لكنّي أعرفه، هذا علي بن الحسين زين العابدين، وأنشد هشاماً قصيدته التي منها هذه الأبيات:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** والبيت يعرفه والحلّ والحرمُ
هذا ابن خير عباد الله كلّهم *** هذا التقي النقي الطاهر العلمُ
يكاد يمسكه عرفان راحته *** ركن الحطيم إذا ما جاء يستلمُ
يُغضي حياء ويُغضى من مهابته *** فما يكلّم إلاّ حين يبتسمُ
إذا رأته قريش قال قائلها *** إلى مكارم هذا ينتهي الكرمُ
إن عُدَّ أهل التقى كانوا أئمّتهم *** أو قيل من خير أهل الأرض قيل همُ
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله *** بجدّه أنبياء الله قد خُتموا
وليس قولك من هذا بضائره *** العرب تعرف من أنكرت والعجمُ
إلى آخر القصيدة التي حفظتها الأمّة وشطرها جماعة من الشعراء. وقد ثقل ذلك على هشام فأمر بحبسه، فحبسوه بين مكة والمدينة، فقال معترضاً على عمل هشام:
أيحبسني بين المدينة والتي *** إليها قلوب الناس يهوى منيبها
يقلب رأساً لم يكن رأس سيّد *** وعيناً له حولاء باد عيوبها
فأخرجه من الحبس فوجّه إليه علي بن الحسين (ع) عشرة آلاف درهم وقال:
«اعذرنا يا أبا فراس، فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا لوصلناك به» فردّها الفرزدق وقال: ما قلت ما كان إلاّ لله، فقال له علي (ع) :
«قد رأى الله مكانك فشكرك، ولكنّا أهل بيت إذا أنفذنا شيئاً لم نرجع فيه» وأقسم عليه فقبلها.
2 - زهده وعبادته ومواساته للفقراء:
أمّا زهده وعبادته ومواساته للفقراء، وخوفه من الله فغني عن البيان.فقد روي عنه (ع) أنّه اذا توضّأ اصفرّ لونه، فيقال: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ قال: «أتدرون بين يدي من اريد أن أقف».
ومن كلماته (ع) : «أنّ قوماً عبدوا الله رياضة فتلك عبادة العبيد، وأن قوماً عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار، وأنّ قوماً عبدوه شكراً فتلك عبادة الأحرار».
وكان إذا أتاه سائل يقول له : «مرحباً بمن يحمل زادي الى الآخرة».
وكان (ع) كثير الصدقات حريصاً عليها، وكان يوصل صدقاته ليلاً دون أن يعلم به احد، وقد روي انه - عليه اللام - كان يعول مائة عائلة من أهالي المدينة لا يدرون من يأتيهم بالصدقات، ولما توفّي (ع) أدركوا ذلك.
وفي رواية: أنّه (ع) كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدّق به
ويقول: «صدقة السر تطفئ غضب الربّ».
وفي رواية كان اهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين - عليه السلام -( تذكرة الخواص 294).
وقال رجل لسعيد بن المسيب: ما رأيت رجلاً اورع من فلان - وسمّى رجلاً - فقال له سعيد: أما رأيت علي بن الحسين؟ فقال: لا، فقال: ما رأيت اورع منه.
وقال أبو حازم: ما رأيت هاشمياً أفضل من علي بن الحسين.
وقال طاووس: رأيت علي بن الحسين - عليهما السلام - ساجداً في الحجر فقلت: رجل صالح من أهل بيت طيّب لأسمعن ما يقول، فأصغيت اليه فسمعته يقول: «عُبيدُك بفنائك، مسكينك بفنائك، سائلك بفنائك، فقيرك بفنائك» قال طاووس: فوالله ما دعوت بهنّ في كرب إلا كشف عنّي.
وكان يصلّي في كل يوم وليلة ألف ركعة، فاذا أصبح سقط مغشياً عليه، وكانت الريح تميله كالسنبلة، وكان يوماً خارجاً فلقيه رجل فسبّه فثارت اليه العبيد والموالي، فقال لهم علي - عليه السلام -: «مهلاً كفّوا» ثمّ أقبل على ذلك الرجل فقال له :« ما ستر عنك من امرنا اكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟» فاستحى الرجل فألقى اليه (ع) خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان ذلك الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنك من أولاد الرسل(كشف الغمّة 2 / 292 - 293).
الثروة العلمية للإمام:
أمّا الثروة العلمية والعرفانية، فهي أدعيته التي رواها المحدّثون بأسانيدهم المتضافرة، والتي جمعت بما أسمي بالصحيفة السجّادية المنتشرة في العالم، فهي زبور آل محمد، ومن الخسارة الفادحة ان اخواننا اهل السنّة - إلاّ النادر القليل منهم - غير واقفين على هذا الأثر القيّم الخالد.
نعم، انّ فصاحة ألفاظها، وبلاغة معانيها، وعلوّ مضامينها، وما فيها من انواع التذلّل لله تعالى والثناء عليه، والاساليب العجيبة في طلب عفوه وكرمه والتوسّل اليه، أقوى شاهد على صحّة نسبتها اليه، وانّ هذا الدر من ذلك البحر، وهذا الجوهر من ذلك المعدن، وهذا الثمر من ذلك الشجر، مضافاً الى اشتهارها شهرة لا تقبل الريب، وتعدّد أسانيدها المتّصلة، الى منشئها، فقد رواها الثقات بأسانيدهم المتعدّدة المتّصلة، الى زين العابدين(في رحاب أئمّة أهل البيت 3 / 414).
وقد أرسل احد الاعلام نسخة من الصحيفة مع رسالة الى العلاّمة الشيخ الطنطاوي ( المتوفّى عام 1358 هجري) صاحب التفسير المعروف، فكتب في جواب رسالته: «ومن الشقاء إنّا الى الآن لم نقف على هذا الأثر القيّم الخالد في مواريث النبوّة وأهل البيت، وإنّي كلّما تأمّلتها رأيتها فوق كلام المخلوق، دون كلام الخالق»( مقدمة الصحيفة بقلم العلامّة المرعشي - قدّس سرّه - 28).
وكان المعروف بين الشيعة هو الصحيفة الاولى التي تتضمنّن واحداً وستين دعاء في فنون الخير وأنواع السؤال من الله سبحانه، والتي تعلّم الإنسان كيف يلجاً الى ربّه في الشدائد والمهمّات، وكيف يطلب منه حوائجه، وكيف يتذلّل ويتضرّع له، وكيف يحمد ويشكر له. غير أنّ لفيفاً من العلماء استدركوا عليها فجمعوا من شوارد ادعيته صحائف خمسة اخيرتها ما جمعه العلاّمة السيد محسن الامين العاملي - قدس سره -.
ولقد قام العلاّمة الحجة السيّد محمد باقر الابطحي - دام ظله - بجمع جميع ادعية الإمام الموجودة في هذه الصحف في جامع واحد، وقال في مقدمته:
وحرّي بنا القول إنّ ادعيته (ع) كانت ذات وجهين: وجهاً عبادياً، وآخر اجتماعياً يتّسق مع مسار الحركة الاصلاحية التي قادها الإمام (ع) في ذلك الظرف الصعب. فاستطاع بقدرته الفائقة المسدّدة ان يمنح ادعيته - الى جانب روحها التعبّدية - محتوىً اجتماعياً متعدّد الجوانب، بما حملته من مفاهيم خصبة، وأفكار نابضة بالحياة، فهو (ع) صاحب مدرسة الهية، تارة يعلّم المؤمن كيف يمجّد الله ويقدّسه، وكيف يلج باب التوبة، وكيف يناجيه وينقطع اليه، واخرى يسلك به درب التعامل السليم مع المجتمع فيعلّمه اسلوب البرّ بالوالدين، ويشرح حقوق الوالد والولد، والأهل، والاصدقاء، والجيران، ثمّ يبيّن فاضل الأعمال وما يجب أن يلتزم به المسلم في سلوكه الاجتماعي، كل ذلك باسلوب تعليميّ رائع وبليغ.
وصفوة القول: إنّها كانت اسلوباً مبتكراً في ايصال الفكر الإسلامي والمفاهيم الإسلامية الأصيلة الى القلوب الظمأى، والافئدة التي تهوى اليها لترتزق من ثمراتها، وتنهل من معينها، فكانت بحق عملية تربوية نموذجية من الطراز الاوّل، أسّس بناءها الإمام السجاد (ع) مستلهماً جوانبها من سير الأنبياء وسنن المرسلين(الصحيفة السجادية الجامعة 13).
ومن أدعيته (ع) في هذه الصحيفة دعاؤه في يوم عرفة، ومنه:
«اللّهمَّ هذا يوم عرفةَ، يومٌ شرَّفتهُ وكرَّمتهُ وعظّمتهُ، نَشَرتَ فيهِ رحمتَكَ، وَمَننتَ فيهِ بعفوكَ، وأجزلتَ فيهِ عطيتكَ، وتفضَّلتَ بهِ على عبادِكَ.
اللهّمِّ وأنا عبدكَ الذي أنعمتَ عليهِ قَبلَ خَلقِكَ لهُ، وبعدَ خَلقِكَ إيّاهُ، فَجَعَلتَهُ مّمِن هَديتَهُ لديِنكَ، وَوفّقتَهُ لحقّكَ، وعصمتَهُ بِحَبِلكَ، وأدخَلتَهُ في حِزبِكَ، وأرشَدتَهُ لموالاةِ أوليائِكَ ومعاداةِ أعدائِكَ».
رسالة الحقوق:
إنّ للإمام علي بن الحسين رسالة معروفة باسم رسالة الحقوق، أوردها الصدوق في خصاله( الخصال 564 - 570 في أبواب الخمسين ) بسند معتبر، ورواها الحسن بن شعبة في تحف العقول( تحف العقول 183 - 195) مرسلة، وبين النقلين اختلاف يسير.
وهي من جلائل الرسائل في أنواع الحقوق، يذكر الإمام فيها حقوق الله سبحانه على الإنسان، وحقوق نفسه عليه، وحقوق أعضائه من اللسان والسمع والبصر والرجلين واليدين والبطن والفرج، ثمّ يذكر حقوق الأفعال، من الصلاة والصوم والحج والصدقة والهدي... التي تبلغ خمسين حقّاً، آخرها حق الذمّة.
كما روى الحفّاظ وتلاميذ مدرسته احاديث وحكماً مختلفة جليلة حوتها بطون الكتب المختلفة، جمع الكثير منها العلاّمة المجلسي في موسوعته الموسومة ببحار الانوار، من مختلف المصادر، فراجع.
ولد في المدينة سنة 38 أو 37 هجري، وتوفّي بها عام 95 أو 94 هجري، يوم السبت الثاني عشر من محرّم.
قال ابن خلّكان: هو أحد الأئمة الإثني عشر ومن سادات التابعين. قال الزهري: ما رأيت قرشيّاً أفضل منه. وفضائله ومناقبه أكثر من أن تحصي وتذكر، ولما توفّي دفن في البقيع في جنب عمّه الحسن في القبّة التي فيها قبر العباس - رضي الله عنه -( وفيات الأعيان 3 / 267 )
ولقد تولّى الإمامة بعد استشهاد أبيه الحسين (ع) في كربلاء، وللاطلاع على النصوص الواردة في إمامته ينبغي الرجوع إلى كتب الحديث والعقائد المتكفّلة بهذا الجانب المهم، وأخص منها بالذكر كتاب «الكافي» للكليني، و«الإرشاد» للشيخ المفيد، و«كفاية الأثر» للخزار، و«اثبات الهداة» للحر العاملي.
ومن أراد الأطلاع على مناقبه وكراماته وفضائله في مجالات شتّى كالعلم، والحلم، والجرأة والاقدام، وثبات الجنان، وشدة الكرم والسخاء، والورع، والزهد، والتقوى، وكثرة التهجّد والتنفّل، والفصاحة والبلاغة، وشدة هيبته بين الناس ومحبّتهم له، وتربيته لجيل عظيم من الصحابة والعلماء أوقفوا حياتهم في خدمة الإسلام، وغير ذلك ممّا لا يسعنا التعرّض لها هنا، فعليه طلب ذلك في الموسوعات المتعدّدة التي تعرّضت لذلك بالشرح والتفصيل.
جوانب من سيرته (ع)
إلاّ أنّا نكتفي هنا بجانب من سيرته (ع) تتعلّق بجملة محدّدة من الأمور:
1 - هيبته ومنزلته العظيمة:
لقد كان (ع) مهاباً جليلاً بين الناس بشكل كبير، حتى أنّ هذه المنزلة العظيمة جعلت الامراء والحكّام يحسدونه عليها، والتاريخ يذكر لنا على ذلك شواهد كثيرة ومتعدّدة، ومن ذلك:
لمّا حجّ هشام بن عبد الملك قبل أن يلي الخلافة اجتهد أن يستلم الحجر الأسود فلم يمكنه ذلك، وجاء علي بن الحسين (ع) فتوقّف له الناس، وتنحّوا حتى استلم، فقال جماعة لهشام: من هذا؟ فقال: لا أعرفه - مع أنّه كان يعرفه أنّه علي بن الحسين (ع) - فسمعه الفرزدق، فقال: لكنّي أعرفه، هذا علي بن الحسين زين العابدين، وأنشد هشاماً قصيدته التي منها هذه الأبيات:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** والبيت يعرفه والحلّ والحرمُ
هذا ابن خير عباد الله كلّهم *** هذا التقي النقي الطاهر العلمُ
يكاد يمسكه عرفان راحته *** ركن الحطيم إذا ما جاء يستلمُ
يُغضي حياء ويُغضى من مهابته *** فما يكلّم إلاّ حين يبتسمُ
إذا رأته قريش قال قائلها *** إلى مكارم هذا ينتهي الكرمُ
إن عُدَّ أهل التقى كانوا أئمّتهم *** أو قيل من خير أهل الأرض قيل همُ
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله *** بجدّه أنبياء الله قد خُتموا
وليس قولك من هذا بضائره *** العرب تعرف من أنكرت والعجمُ
إلى آخر القصيدة التي حفظتها الأمّة وشطرها جماعة من الشعراء. وقد ثقل ذلك على هشام فأمر بحبسه، فحبسوه بين مكة والمدينة، فقال معترضاً على عمل هشام:
أيحبسني بين المدينة والتي *** إليها قلوب الناس يهوى منيبها
يقلب رأساً لم يكن رأس سيّد *** وعيناً له حولاء باد عيوبها
فأخرجه من الحبس فوجّه إليه علي بن الحسين (ع) عشرة آلاف درهم وقال:
«اعذرنا يا أبا فراس، فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا لوصلناك به» فردّها الفرزدق وقال: ما قلت ما كان إلاّ لله، فقال له علي (ع) :
«قد رأى الله مكانك فشكرك، ولكنّا أهل بيت إذا أنفذنا شيئاً لم نرجع فيه» وأقسم عليه فقبلها.
2 - زهده وعبادته ومواساته للفقراء:
أمّا زهده وعبادته ومواساته للفقراء، وخوفه من الله فغني عن البيان.فقد روي عنه (ع) أنّه اذا توضّأ اصفرّ لونه، فيقال: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ قال: «أتدرون بين يدي من اريد أن أقف».
ومن كلماته (ع) : «أنّ قوماً عبدوا الله رياضة فتلك عبادة العبيد، وأن قوماً عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار، وأنّ قوماً عبدوه شكراً فتلك عبادة الأحرار».
وكان إذا أتاه سائل يقول له : «مرحباً بمن يحمل زادي الى الآخرة».
وكان (ع) كثير الصدقات حريصاً عليها، وكان يوصل صدقاته ليلاً دون أن يعلم به احد، وقد روي انه - عليه اللام - كان يعول مائة عائلة من أهالي المدينة لا يدرون من يأتيهم بالصدقات، ولما توفّي (ع) أدركوا ذلك.
وفي رواية: أنّه (ع) كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدّق به
ويقول: «صدقة السر تطفئ غضب الربّ».
وفي رواية كان اهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين - عليه السلام -( تذكرة الخواص 294).
وقال رجل لسعيد بن المسيب: ما رأيت رجلاً اورع من فلان - وسمّى رجلاً - فقال له سعيد: أما رأيت علي بن الحسين؟ فقال: لا، فقال: ما رأيت اورع منه.
وقال أبو حازم: ما رأيت هاشمياً أفضل من علي بن الحسين.
وقال طاووس: رأيت علي بن الحسين - عليهما السلام - ساجداً في الحجر فقلت: رجل صالح من أهل بيت طيّب لأسمعن ما يقول، فأصغيت اليه فسمعته يقول: «عُبيدُك بفنائك، مسكينك بفنائك، سائلك بفنائك، فقيرك بفنائك» قال طاووس: فوالله ما دعوت بهنّ في كرب إلا كشف عنّي.
وكان يصلّي في كل يوم وليلة ألف ركعة، فاذا أصبح سقط مغشياً عليه، وكانت الريح تميله كالسنبلة، وكان يوماً خارجاً فلقيه رجل فسبّه فثارت اليه العبيد والموالي، فقال لهم علي - عليه السلام -: «مهلاً كفّوا» ثمّ أقبل على ذلك الرجل فقال له :« ما ستر عنك من امرنا اكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟» فاستحى الرجل فألقى اليه (ع) خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان ذلك الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنك من أولاد الرسل(كشف الغمّة 2 / 292 - 293).
الثروة العلمية للإمام:
أمّا الثروة العلمية والعرفانية، فهي أدعيته التي رواها المحدّثون بأسانيدهم المتضافرة، والتي جمعت بما أسمي بالصحيفة السجّادية المنتشرة في العالم، فهي زبور آل محمد، ومن الخسارة الفادحة ان اخواننا اهل السنّة - إلاّ النادر القليل منهم - غير واقفين على هذا الأثر القيّم الخالد.
نعم، انّ فصاحة ألفاظها، وبلاغة معانيها، وعلوّ مضامينها، وما فيها من انواع التذلّل لله تعالى والثناء عليه، والاساليب العجيبة في طلب عفوه وكرمه والتوسّل اليه، أقوى شاهد على صحّة نسبتها اليه، وانّ هذا الدر من ذلك البحر، وهذا الجوهر من ذلك المعدن، وهذا الثمر من ذلك الشجر، مضافاً الى اشتهارها شهرة لا تقبل الريب، وتعدّد أسانيدها المتّصلة، الى منشئها، فقد رواها الثقات بأسانيدهم المتعدّدة المتّصلة، الى زين العابدين(في رحاب أئمّة أهل البيت 3 / 414).
وقد أرسل احد الاعلام نسخة من الصحيفة مع رسالة الى العلاّمة الشيخ الطنطاوي ( المتوفّى عام 1358 هجري) صاحب التفسير المعروف، فكتب في جواب رسالته: «ومن الشقاء إنّا الى الآن لم نقف على هذا الأثر القيّم الخالد في مواريث النبوّة وأهل البيت، وإنّي كلّما تأمّلتها رأيتها فوق كلام المخلوق، دون كلام الخالق»( مقدمة الصحيفة بقلم العلامّة المرعشي - قدّس سرّه - 28).
وكان المعروف بين الشيعة هو الصحيفة الاولى التي تتضمنّن واحداً وستين دعاء في فنون الخير وأنواع السؤال من الله سبحانه، والتي تعلّم الإنسان كيف يلجاً الى ربّه في الشدائد والمهمّات، وكيف يطلب منه حوائجه، وكيف يتذلّل ويتضرّع له، وكيف يحمد ويشكر له. غير أنّ لفيفاً من العلماء استدركوا عليها فجمعوا من شوارد ادعيته صحائف خمسة اخيرتها ما جمعه العلاّمة السيد محسن الامين العاملي - قدس سره -.
ولقد قام العلاّمة الحجة السيّد محمد باقر الابطحي - دام ظله - بجمع جميع ادعية الإمام الموجودة في هذه الصحف في جامع واحد، وقال في مقدمته:
وحرّي بنا القول إنّ ادعيته (ع) كانت ذات وجهين: وجهاً عبادياً، وآخر اجتماعياً يتّسق مع مسار الحركة الاصلاحية التي قادها الإمام (ع) في ذلك الظرف الصعب. فاستطاع بقدرته الفائقة المسدّدة ان يمنح ادعيته - الى جانب روحها التعبّدية - محتوىً اجتماعياً متعدّد الجوانب، بما حملته من مفاهيم خصبة، وأفكار نابضة بالحياة، فهو (ع) صاحب مدرسة الهية، تارة يعلّم المؤمن كيف يمجّد الله ويقدّسه، وكيف يلج باب التوبة، وكيف يناجيه وينقطع اليه، واخرى يسلك به درب التعامل السليم مع المجتمع فيعلّمه اسلوب البرّ بالوالدين، ويشرح حقوق الوالد والولد، والأهل، والاصدقاء، والجيران، ثمّ يبيّن فاضل الأعمال وما يجب أن يلتزم به المسلم في سلوكه الاجتماعي، كل ذلك باسلوب تعليميّ رائع وبليغ.
وصفوة القول: إنّها كانت اسلوباً مبتكراً في ايصال الفكر الإسلامي والمفاهيم الإسلامية الأصيلة الى القلوب الظمأى، والافئدة التي تهوى اليها لترتزق من ثمراتها، وتنهل من معينها، فكانت بحق عملية تربوية نموذجية من الطراز الاوّل، أسّس بناءها الإمام السجاد (ع) مستلهماً جوانبها من سير الأنبياء وسنن المرسلين(الصحيفة السجادية الجامعة 13).
ومن أدعيته (ع) في هذه الصحيفة دعاؤه في يوم عرفة، ومنه:
«اللّهمَّ هذا يوم عرفةَ، يومٌ شرَّفتهُ وكرَّمتهُ وعظّمتهُ، نَشَرتَ فيهِ رحمتَكَ، وَمَننتَ فيهِ بعفوكَ، وأجزلتَ فيهِ عطيتكَ، وتفضَّلتَ بهِ على عبادِكَ.
اللهّمِّ وأنا عبدكَ الذي أنعمتَ عليهِ قَبلَ خَلقِكَ لهُ، وبعدَ خَلقِكَ إيّاهُ، فَجَعَلتَهُ مّمِن هَديتَهُ لديِنكَ، وَوفّقتَهُ لحقّكَ، وعصمتَهُ بِحَبِلكَ، وأدخَلتَهُ في حِزبِكَ، وأرشَدتَهُ لموالاةِ أوليائِكَ ومعاداةِ أعدائِكَ».
رسالة الحقوق:
إنّ للإمام علي بن الحسين رسالة معروفة باسم رسالة الحقوق، أوردها الصدوق في خصاله( الخصال 564 - 570 في أبواب الخمسين ) بسند معتبر، ورواها الحسن بن شعبة في تحف العقول( تحف العقول 183 - 195) مرسلة، وبين النقلين اختلاف يسير.
وهي من جلائل الرسائل في أنواع الحقوق، يذكر الإمام فيها حقوق الله سبحانه على الإنسان، وحقوق نفسه عليه، وحقوق أعضائه من اللسان والسمع والبصر والرجلين واليدين والبطن والفرج، ثمّ يذكر حقوق الأفعال، من الصلاة والصوم والحج والصدقة والهدي... التي تبلغ خمسين حقّاً، آخرها حق الذمّة.
كما روى الحفّاظ وتلاميذ مدرسته احاديث وحكماً مختلفة جليلة حوتها بطون الكتب المختلفة، جمع الكثير منها العلاّمة المجلسي في موسوعته الموسومة ببحار الانوار، من مختلف المصادر، فراجع.
تعليق