القرآن ومنهج التحليل النفسي :
إنّ رُوّاد مدرسة التحليل النفسي هم أولُّ من أشار بوضوح إلى وجود منطقة اللاّوعي في الذهن.، وأكّدوا أنّ الرغبات والعواطف المدفونة في منطقة ما من الدماغ تؤثّر بصورة مَلموسة على سلوك الشخص بالرغم من رغبته العميقة في عدم إعطائها أية فرصة للظهور. وكانت أوّلُّ محاولة ناجحة في هذا المضمار ما قام به يوزيف بروير في عام 1882 عندما قام بعلاج إمراة تُعاني من مرض عقلي بمساعدتها، تحت تأثير التنويم المغناطيسي، على استحضار ذكريات مرتبطة، مع ابتداء أعراض مرضها ثُمّ أصبحت هذه الذكريات مكبوتة في اللاّوعي. إنّ هذا العلاج الذي ينطوي على تحرير الكَبْت قد أثّر تأثيراً بالغاً على سيجموند فرويد الذي أعتبر أنّه يعطي طريقة لاستكشاف المخاوف، والدوافع اللاّواعية، التي كان يُخامِره الشكّ بأنّها تختبئ وراء مرض العُصاب : (neurosis )،وكانت هناك صُعوبات في تطبيق هذه الطريقة لأنّ قِسماً من المرضى كانت لديهم مناعة ضدّ التنويم المغناطيسي، مما اضْطُّر فرويد إلى إتباع طريقة أخرى أطلق عليها أسم التحليل النفسي (psychoanalysis ) ،وكما ألمحنا سابقاً فإنّ فرويد أكتشف أنّ المخاوف والرغبات وعواطف أخرى تُسَبِّب مشاكل سلوكية، لأنّها مدفونة في اللاوعي، من الممكن أن يَتلمَّسها مُعالج حاذِق في التداعي الحر لأفكار المريض وفي أحلامه. ونحن نجد التَشابُه فيما ذهب إليه منهج التحليل النفسي وبين القرآن حين يصف القرآن في آيات عديدة المرض النفسي بأنّه مرض في القلب. وكما يقول الأطبّاء النفسانيون فإنّ القلب، من بين جميع أعضاء البدن، هو العضو الأكثر وضوحاً في قابلية تأثّره بالمؤثّرات العاطفية، ويصفونه بأنّه عضو الَمحطَّة الأخيرة للقلق: ( end-organ of anxiety ). وسوف نبيّن في وقت لاحق أنّ الإشارة إلى القلب في القرآن يُقصد منها العقل والإحساس جميعاً أي الكيان الإنساني بأكمله: (وإذا دُعوا إلى اللهِ ورَسولِهِ ليحكُمَ بَيْنَهُم إذا فَريقٌ مِنهُم مُعرِضون. وإنْ يَكُن لَهُم ُ الحَقُّ يأتوا إليهِ مُذْعنينَ. أفي قُلُوبِهِم مَرضٌ أمْ إرتابوا أمْ يَخافونَ أنْ يَحيفَ اللهُ عَلَيْهم ورَسولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظالِمونَ) (النُور-48-50)، وفي آية أخرى نقرأ: ( أمْ حَسِبَ الّذينَ في قُلُوبهِم مَرَضٌ أنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أضْغانَهُم) (مُحَمَّد-29). ويُطلق القرآن على الأشخاص ذوي النفوس الصحية الطبيعية أصحاب (القَلْب السَليم) كما جاء في الآيات:( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ ولا بَنونَ إلاّ مَنْ أتى اللهَ بِقَلْبٍ سَليمٍ ) (الشُعَراء-88-89). كما يُطلق القرآن على النفس التي شفيتْ من مرضها بأنًّ صاحبها أصبح من ذوي القلوب المُنيبة والتي رجعت إلى طريق النفس الصحية الطبيعية والتحقت بذوي القلوب السليمة: ( هَذا مَا تُوعَدونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفيظٍ. مَنْ خَشِيَ الرَحْمنَ بالغَيْبِ وجاءَ بِقَلْبٍ مُنيبٍ) (ق-32-33)، وكذلك نقرأ في آية أخرى: ( وأنَيبُوا إلى رَبِّكُم وأسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يأتِيَكُمُ العَذابُ ثُمّ لا تُنْصَرونَ) (الزُمَر-54).، وفي آية أخرى:( أَفَلَم يَرَوْا إلى مابَيْنَ أيْديهِم وما خَلْفَهُم من السَماءِ والأرْضِ ، إنْ نَشَاْ نَخْسِفْ بِهُمُ الأرضَ أو نُسْقِطْ عَلَيهِم كِسَفاً مِنَ السَماء ، إنَّ في ذلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنيبٍ) (سَبَأ-9)، إلى غير ذلك من الآيات. وما يقوله التحليل النفسي عن أهمية الجِنس والعلاقات بين المرأة و الرجل فإنّ الإسلام عموماً والقرآن خصوصاً يتعامل معها كمسألة طبيعية جداً، ولذلك فهو لا يُقرُّ الرهبانيّة :( ثُمّ قَفيَّنا على آثارِهِم بِرُسُلِنا وقَفيَّنا بِعيسى بنِ مَريَمَ وآتَيْناهُ الأنْجيلَ وجَعَلنا في قُلُوبِ الّذينَ اتَّبعوهُ رَأفَةً ورَحْمَةً ورَهبانيّة ابْتَدَعوها ما كَتَبناها عَلَيْهِم إلاّ إبتِغاءَ رِضوانِ اللهِ فما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها..) (الحَديد-27). وواضح من هذه الآية أنّ (الرهبانيّة) لم (يكتبها) الله على أتباع السيّد المسيح (عليه السلام) أي لم يأمرهم بها أساساً وعندما تمَّ قبول ذلك منهم فإنهم لم يرعوها حق رعايتها، لأنّها فوق الطاقة البشرية ولأنّهم كلّفوا أنفسهم ما لا ينسجم مع الطبيعة التي خلقها الله في الكائنات الحية ومنها الإنسان.ويقول القرآن عن العلاقة الجنسية :(ويَسْألونَكَ عَنِ المَحيضِ قُلْ هُوَ أذىً فاعْتَزِلوا النِساءَ في المَحيضِ ولا تَقْرَبوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ، فإذا تَطَهَّرنَ فأتُوهُنَّ مِن حَيْثُ أمَرَكُمُ اللهُ، إنَّ اللهَ يُحِبُّ التَوّابينَ و يُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ. نِساؤكُم حَرْثٌ لَكُم فأتوا حَرْثَكُم أنَّى شِئتُم...) (البَقَرَة-222-223). وعن ما يحلُّ في ليلة الصيام فإنَّ الجُماع هو أحد المُباحات: ( أُحِلَّ لَكُم لَيْلَةَ الصِيامِ الرَفَثُ إلى نِسائِكُم هُنَّ لِباسٌ لَكُم وأنْتُم لِباسٌ لَهُنَّ...) (البَقَرَة-187). و(الرَفَثُ) لُغةً يعني المُداعبة والجُماع. وعن الواقعية التي يتعامل بها الإسلام مع العلاقة الجنسية والعاطفية بين الرجل والمرأة ما جاء في حديث الرسول (ص): (الزواجُ نِصفُ الدين). إضافة إلى ذلك فإنّ الإسلام يحثُّ الأهل والشباب والشابّات على الزواج المُبكّر لإشباع الغريزة الجنسية، وتكوين العائلة، وبذلك يمنع الكبت الجنسي من جهة، ويمنع من الوقوع في علاقات غير مدروسة تكون نتائجها وبالاً على المرأة أولاً وعلى الأطفال ثانياً. ويصف القرآن ببلاغة وواقعية نتائج العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة حين يقول:( هُوَ الّذي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنها زَوْجَها لِيَسكُنَ إلَيْها، فَلَمّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفيفَاً فَمَرَّتْ بِهِ، فَلَمَّا أثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ أتَيْتَنا صالِحاً لَنَكونَنَّ مِنَ الشاكِرينَ) (الأعْراف-189)، وواضح أنّ كلمة (تَغَشَّاها) هي تعبير بليغ ومُهذّب لكلمة (جامَعها). وهكذا نرى أنّ القرآن والعقيدة الإسلامية لا يَتردَّدان في التعامل مع الجنس، والعلاقات الجنسية بواقعية كاملة، ومن يتربّى على الثقافة الجنسية القرآنية ينمو لكي يكون شخصاً سوّياً تماماً، وليس كما تفعل الكنيسة المسيحية في محاولة إهمال هذه الغريزة الطبيعية فتكون النتيجة كَبْتاً وحِرماناً عند أتباعها، قد يؤدّي كما هو في عصرنا الحاضر إلى الانفلات واللاّمسؤولية الجنسية عند الشباب، ووضعاً نفسياً مُتأزّماً عند رُهبانها تنطلق من ثناياه الفضائح، بل التعدّيات الجنسية التي يندى لها الجبين. وبهذا التناول لواقِع الفِطرة والحياة فإنّ القرآن والعقيدة الإسلامية لا تدعو أبداً إلى التنكُّر إلى الطاقة البدائية، أو ما أطلق عليه فرويد الليبيدو أو أل id وإنما دعا إلى تهذيبها وقيادتها، في قنوات لا تتعارض ومتطلبات العيش الأخرى: أي إلى إنماء ضمير وسريرة لا تنطوي على عواطف و دوافع مكبوتة. وفي منطق التحليل النفسي فإنّ الُمحصّلة من ذلك تكون لبيدو وأنا ego وأنا أعلى super-egoمُتسالمة و مُتصالحة في الفرد، وليست في عِراك مع بعضها تتسبَّب من ورائه الأمراض النفسية و العقلية.