النفاثات في العقد .. تفنيد السحر أم توكيده؟
النفث، قذف القليل من الريق شبيه بالنفخ، وهو أقلّ من التفل. ونفث الراقي أو الساحر أن ينفث بريقه في عقد يعقدها بعد كُلّ زمزمة يتزمزم بها ليسحر بها فيما زعموا. والمراد به هنا هي النميمة ينفثها النمامون في العقد أي في الروابط الودّية ليبددوا شمل الألفة بين المتحابين: المرء وزوجه، الوالد وولده، الأخوين، المتشاركين في صنعة أو تجارة أو زراعة وغير ذلك مما يرتبط وأواصر الوّد بين شخصين أو أكثر. والعرب تسمي الارتباط الوثيق بين شيئين أو شخصين عقدة، كما جاء التعبير عن الارتباط بين الزوجين (عُقدة النكاح)، قال تعالى: ( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ) البقرة/ 235. ( إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ) البقرة/ 237.
ومعنى الآية: ومن شرّ النمامين الذين يحاولون بوساوسهم الخبيثة قطع الأواصر بين المتحابين. وهذا من التشبيه في الجمل التركيبية، نظير التشبيه في سورة المسد بشأن أمُّ جميل امرأة أبي لهب ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) المسد/ 4، أي النمّامة. حيث النمّام يحمل على عاتقه حطب لهيب النفاق والتفرقة بين المتحابين. وجاء متناسباً مع تكني زوجها بأبي لهب. فهي تحمل حطب هذا اللهب. فكما أنّها لم تكن تحمل حطباً حقيقةً ـ كما زعمه بعضهم ـ لأنّها بنت حرب أخت أبي سفيان وكذا زوجها أبو لهب، كانا من أشراف قريش الأثرياء، غير أنّهما كانا يحملان خبثاً ولؤماً بالغين.
فالنميمة تحول ما بين الصديقين من محبة إلى بغضاء بالدسائس، وهي وسائل خفية تشبه السحر الذي هو ما لطف ودقّ مأخذه. فالنمام يأتي بكلام يشبه الصدق، ويؤثر في خلدك كما يفعل الساحر المشعوذ إذا أراد أن يحلّ عقد المحبة والوداد بين كُلّ متحابين. إذ يتزمزم بألفاظ ويعقد عقدةً وينفث فيها، ثُمّ يحلها إيهاماً للعامة أنّ هذا حلّ للعقدة بين الزوجين أو غيرهما. فهو من التشبيه المحضّ وليس المقصود ما تفعله السَحَرة بالذات. الأمر الذي يتناسب مع سائر آيات سورة الفلق: ( وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) أي ومن شرّ الليل إذا دخل وغمر كُلّ شيء بظلامه. والليل إذا كان على تلك الحال كان مخوفاً باعثاً على الرهبة والوحشة، لأنّه ستار يختفي في ظلامه ذوو الإجرام إذا قصدوك بالأذى، وعون لأعدائك إذا قصدوا بك الفتك.. وهكذا قوله: ( وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) يعني: شرّ حاسد إذا حاول إنفاذ حسده بالسعي والجدّ في إزالة نعمة مَن يحسده. فهو يعمل الحيل وينصب شباكه لإيقاع المحسود في فخ الضرر والأذى، يعمل ذلك بأدقّ الوسائل لتنفيذ مكائده.
فكما أنّ الآيتين (السابقة واللاحقة) استعاذة بالله من مكائد أهل الزيغ والإفساد، كذلك هذه الآية: ( وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ) هي مكائد يرتكبها أهل النمائم لإيقاع الأذى. شبهوا بالساحرات ينفثن في العقد.
فالاستعاذة منهم جميعاً إلى الله المستعان لإحباط مساعيهم وردّ مكائدهم في نحورهم، وهو الملجأ والمعين.
قال سيد قطب: والنفاثات في العقد: السواحر الساعيات بالأذى عن طريق خداع الحواس، وخداع الأعصاب، والإيحاء إلى النفوس والتأثير في المشاعر، وهنّ يعقدن العقد في نحو خيط أو منديل وينفثن فيها كتقليد من تقاليد السحر والإيحاء. قال: والسحر لا يغير من طبيعة الأشياء، ولا ينشي حقيقة جديدة لها، ولكنه يخيل للحواس والمشاعر بما يريده الساحر.
قال شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدّس سره): ولا يجوز أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) سُحِر، على ما رواه القصاص الجهال، لأنّ مَن يُوصف بأنّه مسحور فقد خبل عقله، وقد أنكر الله تعالى ذلك في قوله: ( وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلًا مَسْحُورًا).
وهكذا قال العلامة الطبرسي في تفسيره للسورة عند الكلام عن شأن النزول.
وقال الأستاذ محمد عبده: قد رووا هنا أحاديث في أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) سحر لبيد بن الأعصم، وأثّر سحره فيه حتى كان يخيل إليه أنّه يفعل الشيء وهو لا يفعله، أو يأتي شيئاً وهو لا يأتيه. وأنّ الله أنبأه بذلك، وأخرجت مواد السحر من بئر، وعوفي مما كان نزل به من ذلك ونزلت هذه السورة!
ولا يخفى أنّ تأثير السحر في نفسه (عليه وآله الصلاة والسلام) ماسّ بالعقل آخذ بالروح. فهو مما يصدّق قول المشركين فيه: (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلًا مَسْحُورًا) .
والذي يجب علينا اعتقاده أنّ القرآن المتواتر جاء بنفي السحر عنه (عليه وآله الصلاة والسلام)، حيث نسب القول بإثبات حصوله له إلى المشركين ووبخهم على ذلك.
والحديث ـ على فرض صحته ـ من أحاديث الآحاد التي لا يؤخذ بها في العقائد، وعصمة الأنبياء عقيدة لا يؤخذ فيها إلاّ باليقين.
على أنّ سورة الفلق مكّية نزلت بمكة في السنين الأولى، وما يزعمونه من السحر إنّما وقع في المدينة في السنين الأخيرة حيث اشتدّ العداء بين اليهود والمسلمين فهذا مما يضعف الاحتجاج بالحديث ويضعف التسليم بصحته.
قال سيد قطب: هذه الروايات تخالف أصل العصمة النبوية في الفعل والتبليغ، ولا تستقيم مع الاعتقاد بأنّ كُلّ فعل من أفعاله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وكلّ قول من أقواله سنة وشريعة. كما أنّها تصطدم بنفي القرآن عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنّه مسحور، وتكذيب المشركين فيما كانوا يدعونه من هذا الإفك. ومن ثُمّ نستبعد هذه الروايات، وأحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في أمر العقيدة، والمرجع هو القرآن. والتواتر شرط للأخذ بالأحاديث في أصول الاعتقاد، وهذه الروايات ليست من المتواتر، فضلاً عن أنّ نزول هاتين السورتين في مكّة هو الراجح، مما يوهن أساس الروايات الأخرى.
تعليق