هذه المناسبة الكبرى
اطّردتِ الأمّة الإسلاميّة على الاحتفال بذكرى مولد النبيّ صلّى الله عليه وآله كلَّ عام ومنذ قرونٍ عديدة، وما تزال هذه الذكرى ماثلةً وحيّةً في قلوب المسلمين وضمائرهم، حيث يُقام الابتهاج السنويّ في المساجد والبيوت في جميع بلدان العالم الإسلاميّ تخليداً لهذا اليوم المبارك، مَثَلُ هذه الأمّة في هذا الأمر مَثَلها في أيّ أمّةٍ تقدّس معتقداتِها وعظماءها.
والاحتفال بالذكرى عند المسلمين.. يعني إحياءَ المناسبة في حياتها، وتخليدَ أيامّها وبعث روح الوقائع التاريخيّة في نفوسها، ويعني الشكرَ لله تعالى واستيحاءً واعياً للتاريخ. فينبغي ألاّ يتوهّمَ البعض أنّ إحياء الذكريات من البِدَع المستَحْدَثة في الدين، بل هو أمرٌ محبوبٌ ومندوبٌ إليه، ويحمل معه شرعيته الواضحة من خلال الأدلّة التالية:
الأوّل ـ قدسيّة الأوقات..
فالله تبارك وتعالى ـ كما جعل بعض البقاع حاملةً لقُدسيّةٍ خاصّة، كالكعبة المشرّفة وعرفاتٍ ومِنى، فكانت لها حرماتها وشعائرها واجبةً ومستحبّة، بل وممنوعاتها محرّمةً ومكروهة ـ كذلك جعل تبارك وتعالى لبعض الأوقات قداستها وحُرُماتها، كشهر رمضان وليالي القَدَر وعِيدَي الفِطْر والأضحى.. فقال عزّ مِن قائل: شَهْرُ رَمضانَ الذي اُنْزِل فيه القُرآن هُدىً للناسِ وبيّناتٍ مِنَ الهُدى والفُرقان.. (1).
إنّا أنْزَلْناهُ في ليلةٍ مُباركةٍ إنّا كُنّا مُنذِرين* فيها يُفْرَقُ كلُّ أمرٍ حكيمٍ * أمْراً مِن عندِنا.. (2).
إنّا أنْزَلْناهُ في ليلةِ القَدْر * وما أدْراكَ ما ليلةُ القَدْر! * ليلةُ القَدْرِ خيرٌ مِنْ ألفِ شَهْر (3).
وقد جاء عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه كان يقول في كلّ ليلةٍ مِن العَشْر الأواخر مِن شهر رمضان: اللهمّ إنّك قلتَ في كتابِك المُنزَل: شَهْرُ رَمَضانَ الذي أُنْزِلَ فيهِ القرآنُ هُدىً للناسِ وبيّناتٍ مِنَ الهُدى والفُرقان ، فعظّمتَ حرمةَ شهرِ رمضان؛ بما أنْزَلتَ فيه مِن القرآن.. (4)
وفي فضل يوم الجمعة نقل مسلم في صحيحه: إنّ الله خلَقَ أدمَ يومَ الجمعة، وأدخَلَه الجنّةَ يومَ الجمعة (5).
فخلود البركة في هذه الأيّام جاء نتيجةً لحوادثَ إلهيّةٍ مهمّة كانت هي منشأَ التقديس، فلماذا لا يكون يومُ مولد النبيّ صلّى الله عليه وآله يوماً مباركاً يستحقّ التقديس الذي يُعبَّر عنه بإقامة الاحتفالات التي مِن شأنها التمجيد لرسول الله صلّى الله عليه وآله وذِكْر فضائله ؟!
وهنا ينبغي على المسلم أن يتحلّى بدرجةٍ من الوعي لا يقبل معها تهمة البدعة بإقامة احتفالات المولد النبويّ الشريف؛ إذ لا يحقّ لأيّ اتّجاهٍ يتظاهر برفع شعار التوحيد أن يُلغيَ كلَّ شيءٍ يرتبط بأولياء الله العظام.. الأنبياء والأوصياء صلوات الله عليهم، الذين هم مصاديق الهداية ومنارات المعنويّة التي تدلّ العباد على معبودها الحقّ تبارك وتعالى.
الثاني ـ الاحتفال بالمولد النبويّ من صميم الدِّين..
يكون الشيء جائزاً في الدين إذا ورد عليه النصّ بخصوصه، كالاحتفال في عيدَيِ الفطر والأضحى، والاجتماعِ في يوم عرفة، فلا بِدْعةَ في ذلك. ويكون الشيء أو العمل جائزاً في الدين أيضاً إذا وقع النصُّ عليه على الوجه الكلّيّ، متروكٌ للمسلم اختيار الأُسلوب والطريقة في التعبير عنه شريطة أن لا يُدخلَه ذلك الأُسلوب في المحرَّمات.. ومن أمثلة ذلك:
1. ندب الإسلام إلى ضرورة التعليم إجمالاً، ولهذا الأمر صورهُ وطرقه التي تتغيّر وتتطوّر على مدى الأزمان، فقد كانت الكتابة بقلم القصب أو بريش الطيور، أمّا الآن فقد تطوّرت أساليب الكتابة وأساليب التعليم معها، فاستُخدم في ذلك الكامبيوتر والأشرطة وما شاكل.. فما الإشكال ؟!
2. جُمِع القرآن الكريم بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله، ولم يصف أحدٌ هذا العمل بأنّه بدعة؛ لأنّه أمرٌ مندوبٌ إليه لِحفظ كتاب الله العزيز، وهذا أصلٌ له أدلّته، والآن يُطبع القرآن الكريم بحلّته الجديدة مُنقَّطاً مُعرَباً مميّزاً بالنقاط والإشارات والعلامات، ويُشجّع الشبّانُ على حفظه في صدورهم، وتقام احتفالات كبيرة في تجويد كتاب الله تعالى وقراءته حفظاً وبياناً لمعاني جملةٍ من مفرداته، وتُهدى الجوائز في ذلك.. فأي البدعة في ذلك ؟!
3. قال تعالى: وأعِدُّوا لَهُم ما استطعتُم مِن قوّة.. (6)، وهذا أصلٌ ثابت في الدفاع عن بيضة الإسلام وحفظ استقلاله وصيانة حدوده من شرّ الأعداء.. أمّا كيفيّة تحقيق هذا الأصل وتطبيقه، فذلك أمرٌ يتّخذ تدابيرَ متنوّعة تعين عليها الإمكانات وتحدّدها الظروف ومقتضياتها الخاصّة، ولا بِدعةَ في ذلك أبداً.
قال ابن رجب: قوله صلّى الله عليه وآله: « إيّاكم ومحدَثات الأمور، فإنّ كلّ بِدعةٍ ضَلالة ».. المراد بالبدعة ما أُحدِث ممّا لا أصلَ له في الشريعة يدلّ عليه. وأمّا ما له أصلٌ فليس ببدعة، وإن كان بدعةً لغةً.. (7)
وقال ابن حَجَر العسقلانيّ في شرح قول رسول الله صلّى الله عليه وآله: « إنّ أحسنَ الحديث كتابُ الله »: المُحدَثات جمع مُحدَثة، والمراد ما أُحدِث وليس له أصلٌ في الشرع، ويُسمّى في عُرف الشرع « بِدْعة ». وما كان له أصل يدلّ عليه الشرع فليس ببدعة، فبالبدعة في عُرْف الشرع مذمومة، بخلاف اللّغة، فإنّ كلّ شيءٍ أُحدِث على غير مثال يُسمى ( لغةً ) بدعة، سواءً كان محموداً أو مذموماً (8).
الثالث ـ لزوم تكريم النبيّ صلّى الله عليه وآله حيّاً وميّتاً
• قال عزّوجلّ: فالذينَ أمَنُوا به وعَزَّروه ونَصَروه واتّبَعُوا النورَ الذي أُنزِلَ معه أُولئك همُ المفلحون (9).. ذكَرَ المفسّرون أنّ التعزير هنا هو التبجيل والتوقير والتعظيم، أو النصرة معه التعظيم (10).
• وقال تبارك وتعالى: يا أيُّها الذينَ أمَنُوا لا تَرفَعُوا أصواتَكُم فوقَ صوتِ النبيِّ ولا تَجْهَروا له بالقولِ كجَهْرِ بعضِكم لبعضٍ أن تَحبَطَ أعمالُكم وأنتم لا تَشعُرون * إنّ الذينَ يَغُضُّونَ أصواتَهم عندَ رسولِ اللهِ أُولئكَ الذينَ امتَحَنَ اللهُ قلوبَهم للتقوى لَهُم مَغفِرةٌ وأجْرٌ عظيم (11).
هذا هو الأدب الذي ينبغي مراعاته مع رسول الله صلّى الله عليه وآله، في حياته وبعد وفاته؛ إجلالاً لمكانته، وتعظيماً لشخصيّته.
• وقال سبحانه جلّ وعلا: لا تَجعلُوا دعاءَ الرسولِ بينَكم كدُعاءِ بعضِكم بعضاً.. (12)، وهذا نهيٌ واضح عن أن يُدعى رسول الله صلّى الله عليه وآله أو يُنادى باسمه، كما يُدعى سائرُ الناس مِن غير توقير وإعظامٍ وتكريم.. سألَ معاويةُ بن أبي سفيان يوماً أمدَ بنَ لبد المعمَّر: هل رأيتَ محمّداً ؟ قال أمد: مَن محمّد ؟ قال معاوية: رسولُ الله، قال أمد: وَيْحك! أفَلا فخّمتَه كما فَخّمَه الله فقلتَ: رسولُ الله صلّى الله عليه وآله ؟! (13)
• وقد قال عزّ مِن قائل: إنّ اللهَ وملائكتَه يُصلّونَ على النبيّ، يا أيُّها الذينَ أمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وسَلِّموا تسليما (14)، اَللهمَّ صلِّ على محمّدٍ وآلِ محمّد، والصلاة هذه دعاء وتمجيد؛ لِما للنبيّ صلّى الله عليه وآله من منزلةٍ عظمى ومقامٍ محمودٍ عند الله سبحانه وتعالى.
كذلك ورَدَ الحثُّ على لزوم تكريم الرسول صلّى الله عليه وآله وتعظيمه ومحبّته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ كما تنقل مصادر المسلمين: لا يؤمنُ أحدُكم حتّى أكونَ أحبَّ إليه مِن مالهِ وأهلِه والناسِ أجمعين (15). وعن ابن عبّاس، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: أحِبُّوني بحبّ الله، وأحِبُّوا أهلَ بيتي لحبيّ (16).
فثبت بدليل القرآن الكريم والسُّنّة الشريفة وجوبُ احترام النبيّ صلّى الله عليه وآله وتكريمهِ ومحبّته، فيكون إظهارُ هذه المعاني تلبيةً لنداء الفطرة وموافقاً لها، بل منعُ التعبير عن ذلك التكريم وتلك المحبّة هو خلاف الفطرة وكبتها!
وقد تركت الشريعة الإسلاميّة الغَرّاء للمسلمين كيفيّة إبراز ذاك التكريم والتبجيل، ليعبّروا عنه وفقَ عاداتهم وتقاليدهم المتنوعة ومستوياتهم المختلفة، وبما تُفيض به عواطفُهم تجاه شخصيّة الرسول صلّى الله عليه وآله، شريطة ألاّ يُرتكبَ عملٌ محرَّمٌ أو مُنافٍ للآداب الإسلاميّة المقرّرة في الكتاب والسنّة.
الرابع ـ أيّام الله تعالى:
مِن أدلّة شرعيّة الاحتفال بذكرى المولد النبويّ المبارك.. قولُه تعالى: ولَقَد أرسَلْنا مُوسى بآياتِنا أنْ أخْرِجْ قومَكَ مِن الظُّلُماتِ إلى النورِ وذكِّرْهم بأيّام الله، إنّ في ذلك لآياتٍ لكلِّ صَبّارٍ شَكُور (17)، ويُفهَم مِن هذه الآية الكريمة أمرٌ إلهيّ بالتذكير بأيّام الله عزّوجلّ؛ إذْ هو أمرٌ مطلوب محبوب يترتّب عليه خيرٌ كثير، بل وآثارٌ نافعة مربّية للأمّة.
وإنّما المقصود من ذلك هو التذكير بالوقائع الكبرى السالفة، وقد سُمِّيتْ بالأيّام لأنّ الأيّام ظرفٌ لهذه الوقائع، سواءٌ منها أيّام النعمة أم أيّام البلاء والمحنة.. فهذه الحوادث هي مصاديقٌ لفاعليّة سنن الله سبحانه في المجتمعات البشريّة، لذا يكون التذكير بها أحدَ مهمات الرسول أو النبيّ، وجانباً من تبليغه وتربيته لأمّته، فتلك الأيّام دروسٌ وآياتٌ ودلائلُ لكلّ صبّارٍ شكور (18).
والأمّة الإسلاميّة في تاريخها العظيم مرّت بحوادث ووقائع كبرى كانت محلاًّ للعبرة والاتّعاظ وأخذ الدروس واستلهام المعاني العظمى، منها مولدُ النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيأتي الاحتفال بهذه المناسبة الجليلة ممارسةً عباديّة ومصاداقاً لذِكْر نعمةٍ عظمى مَنّ اللهُ تبارك وتعالى بها على البشر.. وقد سلّم اللهُ عزّوجلّ على نبيّه يحيى بن زكريّا عليهما السّلام فقال في مُحكَم تنزيله المجيد: وسَلامٌ عليه يومَ وُلِد ويومَ يموتُ ويومَ يُبعَث حيّاً (19)، بل وسلّم عيسى ابنُ مريم عليهما السّلام على نفسه في هذه الوقائع فقال ـ كما يذكر كتابُ الله العزيز ـ: والسلامُ علَيَّ يومَ وُلِدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعَثُ حيّاً (20).
والمصطفى محمّد رسول الله صلّى الله عليه وآله أشرف الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، وهو أولى بالسلام عليه يوم مولده الأغرّ، وأَولى بالتذكير به في صورةٍ أبهجَ وأعظمَ ما يمكن أن تكون، والاحتفال بذلك اليوم الشريف صورة معبرّة عن التذكير والتعظيم معاً، وهو مِن أقلِّ ما ينبغي إقامته؛ شكراً لنعم الله العظمى بمولده المبارك، وتكريماً لجهود رسول الله صلّى الله عليه وآله في تبليغ رسالة الإسلام وإحياء هذه الذكرى هي في الحقيقة إحياءٌ لروح الإسلام في قلوب أبناء هذه الأمّة المرحومة.
الخامس ـ شواهد مُسلَّمٌ بها:
يقول المؤرّخون: كان ازدياد التعظيم للنبيّ صلّى الله عليه وآله بين أهل الورع والصلاح سبباً في أن صار يُحتَفَل بمولده منذ عام ( 300 هجريّة )، أي منذ هذا التاريخ صار الاحتفال يتّخذ صورة اجتماعيّةً كبيرة. قال القسطلانيّ: ولا زال أهلُ الإسلام يحتلفون بشهر مولده صلّى الله عليه وآله، ويعملون الولائم ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويُظهِرون السرور ويزيدون في المبرّات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويَظهرُ عليهم مِن بركاته كلُّ فضل عميم.. إلى أن قال: فرحمَ اللهُ امرءً اتّخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً (21).
وقال ابن عبّاد في رسائله الكبرى: وأمّا المولد ( النبويّ ) فالذي يظهر لي أنّه عيدٌ مِن أعياد المسلمين، وموسم من مواسمهم، وكلُّ ما يُفعَل فيه ممّا يقتضيه وجودُ الفرح والسرور بذلك المولد المبارك.. مِن إيقاد الشمع، وإمتاع البصر والسمع، والتنزيّن بلباسٍ فاخر الثياب، أمرٌ مُباح لا يُنكِر عليه أحد (22).
أجل.. وقد جاء في سورة قُرآنيّة سُمّيت بـ « المائدة » قولُه تعالى: إذْ قالَ الحَواريّونَ يا عيسى ابنَ مَريمَ: هل يستطيع ربُّك أنْ يُنزِّلَ علينا مائدةً مِن السماءِ ؟ قالَ: آتّقُوا اللهَ إنْ كنتُم مؤمنين * قالوا: نُريدُ أنْ نأكلَ منها وتطمئنَّ قلوبُنا ونَعلمَ أنْ قد صَدَقْتَنا ونكونَ عليها مِنَ الشاهدين * قال عيسى ابنُ مريمَ: آللّهمَّ ربَّنا أنْزِلْ علينا مائدةً مِن السماءِ تكونُ لنا عِيداً لأوَّلِنا وآخِرِنا وآيةً مِنكَ وآرزُقْنا وأنتَ خيرُ الرازقين (23).. فكيف يكون نزولُ مائدة عيداً ـ كما في قول عيسى سلام الله عليه ـ ولا يكون مولدُ أشرفِ الأنبياء والمرسلين وأعظمِهم.. عيداً لهذه الأمّة ؟!
ذلك اليوم الذي كان به إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن عمى الشرك والكفر والفسوق إلى بصيرة التوحيد والإيمان والتقوى والصلاح. وقد أُلِّفت العديد من المصنّفات، من الكتب والرسائل، ونُشرت بحوثٌ كثيرة في عظمة يوم المولد النبويّ ومشروعيّة الاحتفال به وبسائر المواسم الإسلاميّة.. كان منها:
1 ـ كتاب ( التنوير في مولد السراج المنير ) لابن دِحْية الذي ألّفه للأمير مظفّر الدين (24).
2 ـ رسالة السيوطيّ المسمّاة بـ « حُسْن المَقْصد ».
3 ـ كتاب ( المولد ) لابن الربيع.
4 ـ كتاب ( النعمة الكبرى على العالَم في مولد سيّد وُلْد آدم ) لشهاب الدين أحمد بن حجر الهيثميّ الشافعيّ (25).
مِن خواصّ المولد النبويّ
إنّ حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله مَلأى بالخصائص الشريفة، وكان منها مولده المبارك الذي فاض بالبركات والمواهب الإلهيّة والهِبات الربّانيّة على العباد؛ مَنّاً منه تبارك وتعالى عليهم ورحمة.
لذا اعتبر العلماء هذا اليوم عيداً للأمّة ينبغي الاحتفاء والاحتفال به، وتعظيمه وإقامة شعائره المهيبة، كما يُفهم من: القسطلانيّ وابن الحاج وابن عبّاد، وابن حجر الذي دعا إلى أن يُعمَل في يوم المولد النبويّ ما يُفهَم منه الشكر لله تعالى.. مِن تلاوةِ القرآن، والإطعام الصدقة، وإنشاء شيءٍ من المدائح النبويّة (26).
وقد افتى البعض باستحباب القيام ووجوب الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله في يوم مولده البهيج، وقد كان الناس يقومون وقوفاً؛ احتراماً وإجلالاً لهذا الحادث العظيم.. قال الصفوريّ: مسألة القيام يومَ ولادته لا إنكارَ فيه؛ فإنّه مِن البِدَع المستحسنة، وقد أفتى جماعة باستحباب القيام عند ذِكْر ولادته صلّى الله عليه وآله، وقال جماعة بوجوب الصلاة عليه عند ذِكْره؛ وذلك من الإكرام والتعظيم له صلّى الله عليه وآله (27).
أجل.. هذا أسلوبٌ اختاره البعض، ودليله النصُّ الواقع على الوجه الكلّيّ بتوقير النبيّ صلّى الله عليه وآله وتعظيمه؛ لقوله تعالى: لِتُؤمنوا باللهِ ورسولِه وتُعزِّروه وتُوَقِّروه.. (28)، وقولِه تعالى: فالذينَ آمَنُوا به وعَزَّرُوه ونَصَرُوه وآتَّبَعُوا النورَ الذي أُنْزِلَ مَعَه أُولئكَ همُ المفلحون (29).
هذا هو الدليل العام، وبقيَ للناس أساليبهم في التعبير عن ذلك التبجيل والتعظيم.. ومن صورها إقامة المهرجانات الكبرى والاحتفالات الواسعة؛ ابتهاجاً بهذه المناسبة العظمى، وتكريماً لشخص رسول الله صلّى الله عليه وآله الذي قال فيه أميرُ المؤمنين عليه السّلام:
ـ إنّ اللهَ بعَثَ محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم نذيراً للعالَمين، وأميناً على التنزيل، وأنتُم معشرَ العربِ على شرِّ دِين، وفي شرِّ دار.. (30)
ـ فبَعَثَ اللهُ محمّداً صلّى الله عليه وآله بالحقّ؛ ليُخرِجَ عبادَه مِن عبادة الأوثانِ إلى عبادته، ومِن طاعة الشيطان إلى طاعته، بقُرآنٍ قد بَيَّنه وأحكَمَه.. (
اطّردتِ الأمّة الإسلاميّة على الاحتفال بذكرى مولد النبيّ صلّى الله عليه وآله كلَّ عام ومنذ قرونٍ عديدة، وما تزال هذه الذكرى ماثلةً وحيّةً في قلوب المسلمين وضمائرهم، حيث يُقام الابتهاج السنويّ في المساجد والبيوت في جميع بلدان العالم الإسلاميّ تخليداً لهذا اليوم المبارك، مَثَلُ هذه الأمّة في هذا الأمر مَثَلها في أيّ أمّةٍ تقدّس معتقداتِها وعظماءها.
والاحتفال بالذكرى عند المسلمين.. يعني إحياءَ المناسبة في حياتها، وتخليدَ أيامّها وبعث روح الوقائع التاريخيّة في نفوسها، ويعني الشكرَ لله تعالى واستيحاءً واعياً للتاريخ. فينبغي ألاّ يتوهّمَ البعض أنّ إحياء الذكريات من البِدَع المستَحْدَثة في الدين، بل هو أمرٌ محبوبٌ ومندوبٌ إليه، ويحمل معه شرعيته الواضحة من خلال الأدلّة التالية:
الأوّل ـ قدسيّة الأوقات..
فالله تبارك وتعالى ـ كما جعل بعض البقاع حاملةً لقُدسيّةٍ خاصّة، كالكعبة المشرّفة وعرفاتٍ ومِنى، فكانت لها حرماتها وشعائرها واجبةً ومستحبّة، بل وممنوعاتها محرّمةً ومكروهة ـ كذلك جعل تبارك وتعالى لبعض الأوقات قداستها وحُرُماتها، كشهر رمضان وليالي القَدَر وعِيدَي الفِطْر والأضحى.. فقال عزّ مِن قائل: شَهْرُ رَمضانَ الذي اُنْزِل فيه القُرآن هُدىً للناسِ وبيّناتٍ مِنَ الهُدى والفُرقان.. (1).
إنّا أنْزَلْناهُ في ليلةٍ مُباركةٍ إنّا كُنّا مُنذِرين* فيها يُفْرَقُ كلُّ أمرٍ حكيمٍ * أمْراً مِن عندِنا.. (2).
إنّا أنْزَلْناهُ في ليلةِ القَدْر * وما أدْراكَ ما ليلةُ القَدْر! * ليلةُ القَدْرِ خيرٌ مِنْ ألفِ شَهْر (3).
وقد جاء عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّه كان يقول في كلّ ليلةٍ مِن العَشْر الأواخر مِن شهر رمضان: اللهمّ إنّك قلتَ في كتابِك المُنزَل: شَهْرُ رَمَضانَ الذي أُنْزِلَ فيهِ القرآنُ هُدىً للناسِ وبيّناتٍ مِنَ الهُدى والفُرقان ، فعظّمتَ حرمةَ شهرِ رمضان؛ بما أنْزَلتَ فيه مِن القرآن.. (4)
وفي فضل يوم الجمعة نقل مسلم في صحيحه: إنّ الله خلَقَ أدمَ يومَ الجمعة، وأدخَلَه الجنّةَ يومَ الجمعة (5).
فخلود البركة في هذه الأيّام جاء نتيجةً لحوادثَ إلهيّةٍ مهمّة كانت هي منشأَ التقديس، فلماذا لا يكون يومُ مولد النبيّ صلّى الله عليه وآله يوماً مباركاً يستحقّ التقديس الذي يُعبَّر عنه بإقامة الاحتفالات التي مِن شأنها التمجيد لرسول الله صلّى الله عليه وآله وذِكْر فضائله ؟!
وهنا ينبغي على المسلم أن يتحلّى بدرجةٍ من الوعي لا يقبل معها تهمة البدعة بإقامة احتفالات المولد النبويّ الشريف؛ إذ لا يحقّ لأيّ اتّجاهٍ يتظاهر برفع شعار التوحيد أن يُلغيَ كلَّ شيءٍ يرتبط بأولياء الله العظام.. الأنبياء والأوصياء صلوات الله عليهم، الذين هم مصاديق الهداية ومنارات المعنويّة التي تدلّ العباد على معبودها الحقّ تبارك وتعالى.
الثاني ـ الاحتفال بالمولد النبويّ من صميم الدِّين..
يكون الشيء جائزاً في الدين إذا ورد عليه النصّ بخصوصه، كالاحتفال في عيدَيِ الفطر والأضحى، والاجتماعِ في يوم عرفة، فلا بِدْعةَ في ذلك. ويكون الشيء أو العمل جائزاً في الدين أيضاً إذا وقع النصُّ عليه على الوجه الكلّيّ، متروكٌ للمسلم اختيار الأُسلوب والطريقة في التعبير عنه شريطة أن لا يُدخلَه ذلك الأُسلوب في المحرَّمات.. ومن أمثلة ذلك:
1. ندب الإسلام إلى ضرورة التعليم إجمالاً، ولهذا الأمر صورهُ وطرقه التي تتغيّر وتتطوّر على مدى الأزمان، فقد كانت الكتابة بقلم القصب أو بريش الطيور، أمّا الآن فقد تطوّرت أساليب الكتابة وأساليب التعليم معها، فاستُخدم في ذلك الكامبيوتر والأشرطة وما شاكل.. فما الإشكال ؟!
2. جُمِع القرآن الكريم بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله، ولم يصف أحدٌ هذا العمل بأنّه بدعة؛ لأنّه أمرٌ مندوبٌ إليه لِحفظ كتاب الله العزيز، وهذا أصلٌ له أدلّته، والآن يُطبع القرآن الكريم بحلّته الجديدة مُنقَّطاً مُعرَباً مميّزاً بالنقاط والإشارات والعلامات، ويُشجّع الشبّانُ على حفظه في صدورهم، وتقام احتفالات كبيرة في تجويد كتاب الله تعالى وقراءته حفظاً وبياناً لمعاني جملةٍ من مفرداته، وتُهدى الجوائز في ذلك.. فأي البدعة في ذلك ؟!
3. قال تعالى: وأعِدُّوا لَهُم ما استطعتُم مِن قوّة.. (6)، وهذا أصلٌ ثابت في الدفاع عن بيضة الإسلام وحفظ استقلاله وصيانة حدوده من شرّ الأعداء.. أمّا كيفيّة تحقيق هذا الأصل وتطبيقه، فذلك أمرٌ يتّخذ تدابيرَ متنوّعة تعين عليها الإمكانات وتحدّدها الظروف ومقتضياتها الخاصّة، ولا بِدعةَ في ذلك أبداً.
قال ابن رجب: قوله صلّى الله عليه وآله: « إيّاكم ومحدَثات الأمور، فإنّ كلّ بِدعةٍ ضَلالة ».. المراد بالبدعة ما أُحدِث ممّا لا أصلَ له في الشريعة يدلّ عليه. وأمّا ما له أصلٌ فليس ببدعة، وإن كان بدعةً لغةً.. (7)
وقال ابن حَجَر العسقلانيّ في شرح قول رسول الله صلّى الله عليه وآله: « إنّ أحسنَ الحديث كتابُ الله »: المُحدَثات جمع مُحدَثة، والمراد ما أُحدِث وليس له أصلٌ في الشرع، ويُسمّى في عُرف الشرع « بِدْعة ». وما كان له أصل يدلّ عليه الشرع فليس ببدعة، فبالبدعة في عُرْف الشرع مذمومة، بخلاف اللّغة، فإنّ كلّ شيءٍ أُحدِث على غير مثال يُسمى ( لغةً ) بدعة، سواءً كان محموداً أو مذموماً (8).
الثالث ـ لزوم تكريم النبيّ صلّى الله عليه وآله حيّاً وميّتاً
• قال عزّوجلّ: فالذينَ أمَنُوا به وعَزَّروه ونَصَروه واتّبَعُوا النورَ الذي أُنزِلَ معه أُولئك همُ المفلحون (9).. ذكَرَ المفسّرون أنّ التعزير هنا هو التبجيل والتوقير والتعظيم، أو النصرة معه التعظيم (10).
• وقال تبارك وتعالى: يا أيُّها الذينَ أمَنُوا لا تَرفَعُوا أصواتَكُم فوقَ صوتِ النبيِّ ولا تَجْهَروا له بالقولِ كجَهْرِ بعضِكم لبعضٍ أن تَحبَطَ أعمالُكم وأنتم لا تَشعُرون * إنّ الذينَ يَغُضُّونَ أصواتَهم عندَ رسولِ اللهِ أُولئكَ الذينَ امتَحَنَ اللهُ قلوبَهم للتقوى لَهُم مَغفِرةٌ وأجْرٌ عظيم (11).
هذا هو الأدب الذي ينبغي مراعاته مع رسول الله صلّى الله عليه وآله، في حياته وبعد وفاته؛ إجلالاً لمكانته، وتعظيماً لشخصيّته.
• وقال سبحانه جلّ وعلا: لا تَجعلُوا دعاءَ الرسولِ بينَكم كدُعاءِ بعضِكم بعضاً.. (12)، وهذا نهيٌ واضح عن أن يُدعى رسول الله صلّى الله عليه وآله أو يُنادى باسمه، كما يُدعى سائرُ الناس مِن غير توقير وإعظامٍ وتكريم.. سألَ معاويةُ بن أبي سفيان يوماً أمدَ بنَ لبد المعمَّر: هل رأيتَ محمّداً ؟ قال أمد: مَن محمّد ؟ قال معاوية: رسولُ الله، قال أمد: وَيْحك! أفَلا فخّمتَه كما فَخّمَه الله فقلتَ: رسولُ الله صلّى الله عليه وآله ؟! (13)
• وقد قال عزّ مِن قائل: إنّ اللهَ وملائكتَه يُصلّونَ على النبيّ، يا أيُّها الذينَ أمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وسَلِّموا تسليما (14)، اَللهمَّ صلِّ على محمّدٍ وآلِ محمّد، والصلاة هذه دعاء وتمجيد؛ لِما للنبيّ صلّى الله عليه وآله من منزلةٍ عظمى ومقامٍ محمودٍ عند الله سبحانه وتعالى.
كذلك ورَدَ الحثُّ على لزوم تكريم الرسول صلّى الله عليه وآله وتعظيمه ومحبّته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ كما تنقل مصادر المسلمين: لا يؤمنُ أحدُكم حتّى أكونَ أحبَّ إليه مِن مالهِ وأهلِه والناسِ أجمعين (15). وعن ابن عبّاس، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: أحِبُّوني بحبّ الله، وأحِبُّوا أهلَ بيتي لحبيّ (16).
فثبت بدليل القرآن الكريم والسُّنّة الشريفة وجوبُ احترام النبيّ صلّى الله عليه وآله وتكريمهِ ومحبّته، فيكون إظهارُ هذه المعاني تلبيةً لنداء الفطرة وموافقاً لها، بل منعُ التعبير عن ذلك التكريم وتلك المحبّة هو خلاف الفطرة وكبتها!
وقد تركت الشريعة الإسلاميّة الغَرّاء للمسلمين كيفيّة إبراز ذاك التكريم والتبجيل، ليعبّروا عنه وفقَ عاداتهم وتقاليدهم المتنوعة ومستوياتهم المختلفة، وبما تُفيض به عواطفُهم تجاه شخصيّة الرسول صلّى الله عليه وآله، شريطة ألاّ يُرتكبَ عملٌ محرَّمٌ أو مُنافٍ للآداب الإسلاميّة المقرّرة في الكتاب والسنّة.
الرابع ـ أيّام الله تعالى:
مِن أدلّة شرعيّة الاحتفال بذكرى المولد النبويّ المبارك.. قولُه تعالى: ولَقَد أرسَلْنا مُوسى بآياتِنا أنْ أخْرِجْ قومَكَ مِن الظُّلُماتِ إلى النورِ وذكِّرْهم بأيّام الله، إنّ في ذلك لآياتٍ لكلِّ صَبّارٍ شَكُور (17)، ويُفهَم مِن هذه الآية الكريمة أمرٌ إلهيّ بالتذكير بأيّام الله عزّوجلّ؛ إذْ هو أمرٌ مطلوب محبوب يترتّب عليه خيرٌ كثير، بل وآثارٌ نافعة مربّية للأمّة.
وإنّما المقصود من ذلك هو التذكير بالوقائع الكبرى السالفة، وقد سُمِّيتْ بالأيّام لأنّ الأيّام ظرفٌ لهذه الوقائع، سواءٌ منها أيّام النعمة أم أيّام البلاء والمحنة.. فهذه الحوادث هي مصاديقٌ لفاعليّة سنن الله سبحانه في المجتمعات البشريّة، لذا يكون التذكير بها أحدَ مهمات الرسول أو النبيّ، وجانباً من تبليغه وتربيته لأمّته، فتلك الأيّام دروسٌ وآياتٌ ودلائلُ لكلّ صبّارٍ شكور (18).
والأمّة الإسلاميّة في تاريخها العظيم مرّت بحوادث ووقائع كبرى كانت محلاًّ للعبرة والاتّعاظ وأخذ الدروس واستلهام المعاني العظمى، منها مولدُ النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، فيأتي الاحتفال بهذه المناسبة الجليلة ممارسةً عباديّة ومصاداقاً لذِكْر نعمةٍ عظمى مَنّ اللهُ تبارك وتعالى بها على البشر.. وقد سلّم اللهُ عزّوجلّ على نبيّه يحيى بن زكريّا عليهما السّلام فقال في مُحكَم تنزيله المجيد: وسَلامٌ عليه يومَ وُلِد ويومَ يموتُ ويومَ يُبعَث حيّاً (19)، بل وسلّم عيسى ابنُ مريم عليهما السّلام على نفسه في هذه الوقائع فقال ـ كما يذكر كتابُ الله العزيز ـ: والسلامُ علَيَّ يومَ وُلِدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعَثُ حيّاً (20).
والمصطفى محمّد رسول الله صلّى الله عليه وآله أشرف الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، وهو أولى بالسلام عليه يوم مولده الأغرّ، وأَولى بالتذكير به في صورةٍ أبهجَ وأعظمَ ما يمكن أن تكون، والاحتفال بذلك اليوم الشريف صورة معبرّة عن التذكير والتعظيم معاً، وهو مِن أقلِّ ما ينبغي إقامته؛ شكراً لنعم الله العظمى بمولده المبارك، وتكريماً لجهود رسول الله صلّى الله عليه وآله في تبليغ رسالة الإسلام وإحياء هذه الذكرى هي في الحقيقة إحياءٌ لروح الإسلام في قلوب أبناء هذه الأمّة المرحومة.
الخامس ـ شواهد مُسلَّمٌ بها:
يقول المؤرّخون: كان ازدياد التعظيم للنبيّ صلّى الله عليه وآله بين أهل الورع والصلاح سبباً في أن صار يُحتَفَل بمولده منذ عام ( 300 هجريّة )، أي منذ هذا التاريخ صار الاحتفال يتّخذ صورة اجتماعيّةً كبيرة. قال القسطلانيّ: ولا زال أهلُ الإسلام يحتلفون بشهر مولده صلّى الله عليه وآله، ويعملون الولائم ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويُظهِرون السرور ويزيدون في المبرّات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويَظهرُ عليهم مِن بركاته كلُّ فضل عميم.. إلى أن قال: فرحمَ اللهُ امرءً اتّخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً (21).
وقال ابن عبّاد في رسائله الكبرى: وأمّا المولد ( النبويّ ) فالذي يظهر لي أنّه عيدٌ مِن أعياد المسلمين، وموسم من مواسمهم، وكلُّ ما يُفعَل فيه ممّا يقتضيه وجودُ الفرح والسرور بذلك المولد المبارك.. مِن إيقاد الشمع، وإمتاع البصر والسمع، والتنزيّن بلباسٍ فاخر الثياب، أمرٌ مُباح لا يُنكِر عليه أحد (22).
أجل.. وقد جاء في سورة قُرآنيّة سُمّيت بـ « المائدة » قولُه تعالى: إذْ قالَ الحَواريّونَ يا عيسى ابنَ مَريمَ: هل يستطيع ربُّك أنْ يُنزِّلَ علينا مائدةً مِن السماءِ ؟ قالَ: آتّقُوا اللهَ إنْ كنتُم مؤمنين * قالوا: نُريدُ أنْ نأكلَ منها وتطمئنَّ قلوبُنا ونَعلمَ أنْ قد صَدَقْتَنا ونكونَ عليها مِنَ الشاهدين * قال عيسى ابنُ مريمَ: آللّهمَّ ربَّنا أنْزِلْ علينا مائدةً مِن السماءِ تكونُ لنا عِيداً لأوَّلِنا وآخِرِنا وآيةً مِنكَ وآرزُقْنا وأنتَ خيرُ الرازقين (23).. فكيف يكون نزولُ مائدة عيداً ـ كما في قول عيسى سلام الله عليه ـ ولا يكون مولدُ أشرفِ الأنبياء والمرسلين وأعظمِهم.. عيداً لهذه الأمّة ؟!
ذلك اليوم الذي كان به إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن عمى الشرك والكفر والفسوق إلى بصيرة التوحيد والإيمان والتقوى والصلاح. وقد أُلِّفت العديد من المصنّفات، من الكتب والرسائل، ونُشرت بحوثٌ كثيرة في عظمة يوم المولد النبويّ ومشروعيّة الاحتفال به وبسائر المواسم الإسلاميّة.. كان منها:
1 ـ كتاب ( التنوير في مولد السراج المنير ) لابن دِحْية الذي ألّفه للأمير مظفّر الدين (24).
2 ـ رسالة السيوطيّ المسمّاة بـ « حُسْن المَقْصد ».
3 ـ كتاب ( المولد ) لابن الربيع.
4 ـ كتاب ( النعمة الكبرى على العالَم في مولد سيّد وُلْد آدم ) لشهاب الدين أحمد بن حجر الهيثميّ الشافعيّ (25).
مِن خواصّ المولد النبويّ
إنّ حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله مَلأى بالخصائص الشريفة، وكان منها مولده المبارك الذي فاض بالبركات والمواهب الإلهيّة والهِبات الربّانيّة على العباد؛ مَنّاً منه تبارك وتعالى عليهم ورحمة.
لذا اعتبر العلماء هذا اليوم عيداً للأمّة ينبغي الاحتفاء والاحتفال به، وتعظيمه وإقامة شعائره المهيبة، كما يُفهم من: القسطلانيّ وابن الحاج وابن عبّاد، وابن حجر الذي دعا إلى أن يُعمَل في يوم المولد النبويّ ما يُفهَم منه الشكر لله تعالى.. مِن تلاوةِ القرآن، والإطعام الصدقة، وإنشاء شيءٍ من المدائح النبويّة (26).
وقد افتى البعض باستحباب القيام ووجوب الصلاة على النبيّ صلّى الله عليه وآله في يوم مولده البهيج، وقد كان الناس يقومون وقوفاً؛ احتراماً وإجلالاً لهذا الحادث العظيم.. قال الصفوريّ: مسألة القيام يومَ ولادته لا إنكارَ فيه؛ فإنّه مِن البِدَع المستحسنة، وقد أفتى جماعة باستحباب القيام عند ذِكْر ولادته صلّى الله عليه وآله، وقال جماعة بوجوب الصلاة عليه عند ذِكْره؛ وذلك من الإكرام والتعظيم له صلّى الله عليه وآله (27).
أجل.. هذا أسلوبٌ اختاره البعض، ودليله النصُّ الواقع على الوجه الكلّيّ بتوقير النبيّ صلّى الله عليه وآله وتعظيمه؛ لقوله تعالى: لِتُؤمنوا باللهِ ورسولِه وتُعزِّروه وتُوَقِّروه.. (28)، وقولِه تعالى: فالذينَ آمَنُوا به وعَزَّرُوه ونَصَرُوه وآتَّبَعُوا النورَ الذي أُنْزِلَ مَعَه أُولئكَ همُ المفلحون (29).
هذا هو الدليل العام، وبقيَ للناس أساليبهم في التعبير عن ذلك التبجيل والتعظيم.. ومن صورها إقامة المهرجانات الكبرى والاحتفالات الواسعة؛ ابتهاجاً بهذه المناسبة العظمى، وتكريماً لشخص رسول الله صلّى الله عليه وآله الذي قال فيه أميرُ المؤمنين عليه السّلام:
ـ إنّ اللهَ بعَثَ محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم نذيراً للعالَمين، وأميناً على التنزيل، وأنتُم معشرَ العربِ على شرِّ دِين، وفي شرِّ دار.. (30)
ـ فبَعَثَ اللهُ محمّداً صلّى الله عليه وآله بالحقّ؛ ليُخرِجَ عبادَه مِن عبادة الأوثانِ إلى عبادته، ومِن طاعة الشيطان إلى طاعته، بقُرآنٍ قد بَيَّنه وأحكَمَه.. (
تعليق