بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لقد ورد في الحديث الشريف المعروف بحديث المعراج: «يا أحمد، لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا عليّ لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما»(1).
فالحديث عن المعاني السامية والمضامين العميقة في هذا الخبر الشريف إنّما يحتاج إلى مقدّمات حتّى يتبيّن من خلالها معنى هذا الكلام الأقدس، ويتبيّن أيضاً مدى تطابقه مع الدليل العقلي فضلا عن الدليل النقلي.
ومثل هذا الحديث قد يثير التساؤلات الكثيرة في نفوس الذين لا يستطيعون هضم هذه المعاني.
فلذلك نصح بعض الأعلام أن لا تطرح مثل هذه العناوين، ولكنّي ذكرت له من الحجج التي تدفعني إلى التعريف بمقامات أهل البيت (عليهم السلام) ولا بدّ من معرفتهم بمعرفة جمالية، وفي هذا يتمّ لنا بيان ما لدينا من عقائد حقّة مبنيّة على الأدلّة العقلية والنقلية، ولا يهمّنا الردود السلبية التي تصدر من البعض فإنّها لا تشكّل
مانعاً شرعيّاً(2)، فهي غاية ما تكون اتّهامات لا معنى لها ولا تستحقّ الردّ.
وعلى كلّ حال لا اُريد أن أشغلكم بهذا، فإنّه من المسلّم أنّ من يزداد معرفةً يزداد كمالا وخضوعاً وأدباً، فلو دخل علينا رجل كبير السنّ فإنّه نحترمه ونوقّره من باب (وقّروا كباركم)، وإذا عرفنا أنّ هذا الرجل الكهل هو أحد مراجع التقليد فإنّه بلا شكّ يزداد احترامنا وتوقيرنا له ومحبّتنا فيه وإطاعتنا إيّاه، ومن هذا المنطلق من عرف النبيّ والأئمة الأطهار (عليهم السلام) بمعرفة جمالية، فإنّه يزداد مودّةً وتعظيماً وإطاعة، فيفوز بسعادة الدارين.
فاليوم نتكلّم عن سيّدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وهذا من وحي المناسبة(3) ولأنّ محبّيها يعيشون أحزان ذكرى شهادتها فنقول:
ثبت في محلّه أنّ الله سبحانه حكيم وعليم وقادر وجواد وحيّ، وله الأسماء الحسنى والصفات العليا، وإنّه الكمال المطلق، فلكلّ هذا خلق خلقاً، وخلق أرضاً وسماءً وما فيهما وما بينهما عن حكمة وعلم، فلم يكن خلقه لهذا الكون الكبير عبثاً.
فإذن لا بدّ أن نعرف سرّ هذه الخلقة، ونوجز هذا القول بكلمات قصيرة فنقول:
إنّه تعالى خلق الكون لنا وخلقنا لأجله، فنراه سبحانه قد سخّر لنا ما في السماوات وما في الأرض لكي نصل إلى كمالنا الذي هو عبادة الله تعالى فلذلك قال في آية من آيات الكتاب العزيز:
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ}(4).
ثمّ بيّن سرّ خلقة الإنسان بقوله عزّ من قائل:
{وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِـيَعْبُدُونِ}(5).
أي ليعرفون.
فإذن لا بدّ لنا من عبادة المنعم لنتكامل بهذه العبادة، إلاّ أنّ هذه العبادة على أقسام فمنها عبادة الأحرار ومنها عبادة التجّار ومنها عبادة العبيد(6)، ولكن كلّها تؤدّي إلى كمال الإنسان، فالإنسان يتكامل وكلّ شيء في عالم الوجود ما سوى الله تعالى في سير تكاملي، فالنواة تتكامل حتّى تصير شجرة مثمرة والنطفة تتكامل، فكلّ ما في الطبيعة يتكامل، إلاّ أنّ كماله محدود ببداية ونهاية، إلاّ الإنسان فإنّ له بداية ولا نهاية لكماله، لأنّ منتهاه هو الله ومقام الفناء فيه سبحانه
وهو لا نهاية له:
{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}(7).
{وَأنَّ إلَى رَبِّكَ المُـنْـتَهَى}(8).
فالإنسان باعتبار جسده وأنّه من الطبيعة ومن التراب فهو محدود، ولكن باعتبار روحه وأنّه من السماء:
{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}(9).
فهو بلا نهاية.
فالروح تتكامل، وهي من الله تعالى وإليه ترجع.
{إنَّا للهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ}(10).
سؤال:
ما هو كمال الإنسان وبأيّ شيء يتكامل؟
يأتي الجواب من الإمامين الصادقين (عليهما السلام): «الكمال كلّ الكمال التفقّه في الدين، والصبر على النائبة، والتقدير في المعيشة»(11)، ولازم هذا الكمال الحركة أي أنّ كلّ شيء يتحرّك في ذاته كما يتحرّك في الخارج بحركة وضعيّة أو انتقالية فهذه الحركة الذاتية تسمّى بالحركة الجوهرية كما حقّق ذلك الفيلسوف الإسلامي صدر المتألّهين.
فإذن كلّ شيء يسبّح بحمده وهذه هي الحركة التكاملية للأشياء، فلازم التكامل الحركة، وثمرة الحركة هو التكامل، وعندما يقول الإمام (عليه السلام): «الكمال كلّ الكمال التفقّه في الدين، والصبر على النائبة، والتقدير في المعيشة»، فهو يشير إلى ثلاث حركات: علمية وأخلاقية واقتصادية، أي حركات دينية ودنيوية لأنّ هناك ترابطاً بين الدنيا والآخرة، ففي هذا الحديث يتّضح لنا أنّ الدنيا هي متجر أولياء الله تعالى ومزرعة الآخرة، بل هناك من يجعل الدنيا هي الجنّة لأنّ نفسه تيقّنت بالفوز فهو قد وصل إلى علم اليقين وحقّ اليقين وعين اليقين(12)، ومعنى هذا أنّ الكمال والسعادة لا ينحصران في الآخرة فقط ولا بالدنيا فقط بل بهما معاً، فإن قال قائل: إنّ أحاديثاً كثيرة وردت في مذمّة الدنيا، نقول: وهناك أحاديث اُخرى وردت في مدح الدنيا، كما ورد ذلك عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما سمع رجلا يذمّ الدنيا، أجابه: «ويلك، لمَ تذمّ الدنيا، إنّ الدنيا متجر أولياء الله»(13)، أي يمكن
الوصول إلى الله تعالى من خلال الدنيا، فالغني بغناه وجوده، والفقير بصبره وعفّته، وإذا أردنا الجمع بين روايات الذمّ وروايات المدح نقول: إذا أراد الإنسان الدنيا على نحو الاستقلال فهذه دنيا مذمومة، وهي التي أبغضها الله تعالى على لسان نبيّه الكريم (صلى الله عليه وآله) في قوله: «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة»(14)، وجُعل بغض الدنيا من علامات محبّي أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا ما صرّح به النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) في قوله: «ألا ومن أحبّ أهل بيتي فله الجنّة، ألا إنّ لمحبّيهم عشرين خصلة، عشرة منها في الدنيا وعشرة في الآخرة... إلى أن يقول: وتاسعها بغض الدنيا، وعاشرها السخاء...»(15)، وأمّا إذا أراد الدنيا طريقاً إلى الجنّة ومزرعةً للآخرة فلا بأس بذلك، فالدنيا والآخرة ضرّتان في حالة الاستقلالية(16)، وأمّا إذا كانتا على نحو
المقدّمية والتبعية فلا خوف منها ولا ضرر فيها.
فهناك أيّها الإخوة من يعيش الآخرة وهو في هذه الدنيا وهذا ما حصل لأمير المؤمنين (عليه السلام)، فلذلك يقول: «جلوسي في المسجد أحبّ إليّ من جلوسي في الجنّة»، ولمّا سئل: لماذا؟ قال: لأنّ الجلوس في المسجد رضا ربّي، والجلوس في الجنّة رضا نفسي، ورضا ربّي أولى من رضا نفسي، فعلى هذا يكون المسجد جنّة أمير المؤمنين (عليه السلام)، ودخوله فيه يعني دخوله في جنّته. وهناك روضات من الجنّة في الدنيا والداخل إليها داخل إلى الجنّة، كما جاء في الخبر: إنّ قبر الإمام الرضا (عليه السلام) روضة من رياض الجنّة، وكذلك ما بين منبر النبيّ (صلى الله عليه وآله)وداره، فهذه روضات حقيقية لا مجازية، كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام)(17).
سؤال في محلّه:
ذكر الحديث عن الإمامين (عليهما السلام) يوحي بوجود ترابط بين التفقّه بالدين والصبر على النائبة والتقدير في المعيشة، فما وجه هذا الترابط؟
الجواب:
الكمال يبدأ بالحركة الاقتصادية، لأنّها العون في تحقّق الحركة العلمية
والأخلاقية، أي أنّ من لا معاش له لا معاد له، وهكذا الاُمّة إذا فقدت الحالة الاقتصادية فإنّها ستفشل في حركتها العلمية والأخلاقية، فإذن لا بدّ من هذه الحركات الثلاثة لتحقّق تمام الكمال.
والتفقّه في الدين يعني العلم الإلهي الذي فيه نفع الدنيا والآخرة، ولكن لهذا الفقه ولهذه الحركة العلمية مقدّمات دينية ودنيوية، فإذا أردت التكامل لا بدّ من زيادة علمك حتّى تنال السعادة التي ستُغبط عليها من قبل الآخرين، كما ورد في الحديث الشريف: «فمن كان يومه خيرٌ من أمسه فهو مغبوط، ومن كان أمسه خيرٌ من يومه فهو ملعون»، أي مطرود من رحمة الله تعالى.
فعليك بملازمة العلماء والحضور في مجالسهم، وإلاّ سينالك الخذلان كما ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعاء أبي حمزة الثمالي: «أو لعلّك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني»(18)، وهذا الخذلان يصيب الفرد البعيد عن مجالس العلماء، وكذلك يصيب المجتمع الذي استهان بالعلم والعلماء فيصاب عندها بالتخلّف والأمراض الاجتماعية.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لقد ورد في الحديث الشريف المعروف بحديث المعراج: «يا أحمد، لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا عليّ لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما»(1).
فالحديث عن المعاني السامية والمضامين العميقة في هذا الخبر الشريف إنّما يحتاج إلى مقدّمات حتّى يتبيّن من خلالها معنى هذا الكلام الأقدس، ويتبيّن أيضاً مدى تطابقه مع الدليل العقلي فضلا عن الدليل النقلي.
ومثل هذا الحديث قد يثير التساؤلات الكثيرة في نفوس الذين لا يستطيعون هضم هذه المعاني.
فلذلك نصح بعض الأعلام أن لا تطرح مثل هذه العناوين، ولكنّي ذكرت له من الحجج التي تدفعني إلى التعريف بمقامات أهل البيت (عليهم السلام) ولا بدّ من معرفتهم بمعرفة جمالية، وفي هذا يتمّ لنا بيان ما لدينا من عقائد حقّة مبنيّة على الأدلّة العقلية والنقلية، ولا يهمّنا الردود السلبية التي تصدر من البعض فإنّها لا تشكّل
مانعاً شرعيّاً(2)، فهي غاية ما تكون اتّهامات لا معنى لها ولا تستحقّ الردّ.
وعلى كلّ حال لا اُريد أن أشغلكم بهذا، فإنّه من المسلّم أنّ من يزداد معرفةً يزداد كمالا وخضوعاً وأدباً، فلو دخل علينا رجل كبير السنّ فإنّه نحترمه ونوقّره من باب (وقّروا كباركم)، وإذا عرفنا أنّ هذا الرجل الكهل هو أحد مراجع التقليد فإنّه بلا شكّ يزداد احترامنا وتوقيرنا له ومحبّتنا فيه وإطاعتنا إيّاه، ومن هذا المنطلق من عرف النبيّ والأئمة الأطهار (عليهم السلام) بمعرفة جمالية، فإنّه يزداد مودّةً وتعظيماً وإطاعة، فيفوز بسعادة الدارين.
فاليوم نتكلّم عن سيّدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وهذا من وحي المناسبة(3) ولأنّ محبّيها يعيشون أحزان ذكرى شهادتها فنقول:
ثبت في محلّه أنّ الله سبحانه حكيم وعليم وقادر وجواد وحيّ، وله الأسماء الحسنى والصفات العليا، وإنّه الكمال المطلق، فلكلّ هذا خلق خلقاً، وخلق أرضاً وسماءً وما فيهما وما بينهما عن حكمة وعلم، فلم يكن خلقه لهذا الكون الكبير عبثاً.
فإذن لا بدّ أن نعرف سرّ هذه الخلقة، ونوجز هذا القول بكلمات قصيرة فنقول:
إنّه تعالى خلق الكون لنا وخلقنا لأجله، فنراه سبحانه قد سخّر لنا ما في السماوات وما في الأرض لكي نصل إلى كمالنا الذي هو عبادة الله تعالى فلذلك قال في آية من آيات الكتاب العزيز:
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ}(4).
ثمّ بيّن سرّ خلقة الإنسان بقوله عزّ من قائل:
{وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِـيَعْبُدُونِ}(5).
أي ليعرفون.
فإذن لا بدّ لنا من عبادة المنعم لنتكامل بهذه العبادة، إلاّ أنّ هذه العبادة على أقسام فمنها عبادة الأحرار ومنها عبادة التجّار ومنها عبادة العبيد(6)، ولكن كلّها تؤدّي إلى كمال الإنسان، فالإنسان يتكامل وكلّ شيء في عالم الوجود ما سوى الله تعالى في سير تكاملي، فالنواة تتكامل حتّى تصير شجرة مثمرة والنطفة تتكامل، فكلّ ما في الطبيعة يتكامل، إلاّ أنّ كماله محدود ببداية ونهاية، إلاّ الإنسان فإنّ له بداية ولا نهاية لكماله، لأنّ منتهاه هو الله ومقام الفناء فيه سبحانه
وهو لا نهاية له:
{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}(7).
{وَأنَّ إلَى رَبِّكَ المُـنْـتَهَى}(8).
فالإنسان باعتبار جسده وأنّه من الطبيعة ومن التراب فهو محدود، ولكن باعتبار روحه وأنّه من السماء:
{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}(9).
فهو بلا نهاية.
فالروح تتكامل، وهي من الله تعالى وإليه ترجع.
{إنَّا للهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ}(10).
سؤال:
ما هو كمال الإنسان وبأيّ شيء يتكامل؟
يأتي الجواب من الإمامين الصادقين (عليهما السلام): «الكمال كلّ الكمال التفقّه في الدين، والصبر على النائبة، والتقدير في المعيشة»(11)، ولازم هذا الكمال الحركة أي أنّ كلّ شيء يتحرّك في ذاته كما يتحرّك في الخارج بحركة وضعيّة أو انتقالية فهذه الحركة الذاتية تسمّى بالحركة الجوهرية كما حقّق ذلك الفيلسوف الإسلامي صدر المتألّهين.
فإذن كلّ شيء يسبّح بحمده وهذه هي الحركة التكاملية للأشياء، فلازم التكامل الحركة، وثمرة الحركة هو التكامل، وعندما يقول الإمام (عليه السلام): «الكمال كلّ الكمال التفقّه في الدين، والصبر على النائبة، والتقدير في المعيشة»، فهو يشير إلى ثلاث حركات: علمية وأخلاقية واقتصادية، أي حركات دينية ودنيوية لأنّ هناك ترابطاً بين الدنيا والآخرة، ففي هذا الحديث يتّضح لنا أنّ الدنيا هي متجر أولياء الله تعالى ومزرعة الآخرة، بل هناك من يجعل الدنيا هي الجنّة لأنّ نفسه تيقّنت بالفوز فهو قد وصل إلى علم اليقين وحقّ اليقين وعين اليقين(12)، ومعنى هذا أنّ الكمال والسعادة لا ينحصران في الآخرة فقط ولا بالدنيا فقط بل بهما معاً، فإن قال قائل: إنّ أحاديثاً كثيرة وردت في مذمّة الدنيا، نقول: وهناك أحاديث اُخرى وردت في مدح الدنيا، كما ورد ذلك عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما سمع رجلا يذمّ الدنيا، أجابه: «ويلك، لمَ تذمّ الدنيا، إنّ الدنيا متجر أولياء الله»(13)، أي يمكن
الوصول إلى الله تعالى من خلال الدنيا، فالغني بغناه وجوده، والفقير بصبره وعفّته، وإذا أردنا الجمع بين روايات الذمّ وروايات المدح نقول: إذا أراد الإنسان الدنيا على نحو الاستقلال فهذه دنيا مذمومة، وهي التي أبغضها الله تعالى على لسان نبيّه الكريم (صلى الله عليه وآله) في قوله: «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة»(14)، وجُعل بغض الدنيا من علامات محبّي أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا ما صرّح به النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) في قوله: «ألا ومن أحبّ أهل بيتي فله الجنّة، ألا إنّ لمحبّيهم عشرين خصلة، عشرة منها في الدنيا وعشرة في الآخرة... إلى أن يقول: وتاسعها بغض الدنيا، وعاشرها السخاء...»(15)، وأمّا إذا أراد الدنيا طريقاً إلى الجنّة ومزرعةً للآخرة فلا بأس بذلك، فالدنيا والآخرة ضرّتان في حالة الاستقلالية(16)، وأمّا إذا كانتا على نحو
المقدّمية والتبعية فلا خوف منها ولا ضرر فيها.
فهناك أيّها الإخوة من يعيش الآخرة وهو في هذه الدنيا وهذا ما حصل لأمير المؤمنين (عليه السلام)، فلذلك يقول: «جلوسي في المسجد أحبّ إليّ من جلوسي في الجنّة»، ولمّا سئل: لماذا؟ قال: لأنّ الجلوس في المسجد رضا ربّي، والجلوس في الجنّة رضا نفسي، ورضا ربّي أولى من رضا نفسي، فعلى هذا يكون المسجد جنّة أمير المؤمنين (عليه السلام)، ودخوله فيه يعني دخوله في جنّته. وهناك روضات من الجنّة في الدنيا والداخل إليها داخل إلى الجنّة، كما جاء في الخبر: إنّ قبر الإمام الرضا (عليه السلام) روضة من رياض الجنّة، وكذلك ما بين منبر النبيّ (صلى الله عليه وآله)وداره، فهذه روضات حقيقية لا مجازية، كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام)(17).
سؤال في محلّه:
ذكر الحديث عن الإمامين (عليهما السلام) يوحي بوجود ترابط بين التفقّه بالدين والصبر على النائبة والتقدير في المعيشة، فما وجه هذا الترابط؟
الجواب:
الكمال يبدأ بالحركة الاقتصادية، لأنّها العون في تحقّق الحركة العلمية
والأخلاقية، أي أنّ من لا معاش له لا معاد له، وهكذا الاُمّة إذا فقدت الحالة الاقتصادية فإنّها ستفشل في حركتها العلمية والأخلاقية، فإذن لا بدّ من هذه الحركات الثلاثة لتحقّق تمام الكمال.
والتفقّه في الدين يعني العلم الإلهي الذي فيه نفع الدنيا والآخرة، ولكن لهذا الفقه ولهذه الحركة العلمية مقدّمات دينية ودنيوية، فإذا أردت التكامل لا بدّ من زيادة علمك حتّى تنال السعادة التي ستُغبط عليها من قبل الآخرين، كما ورد في الحديث الشريف: «فمن كان يومه خيرٌ من أمسه فهو مغبوط، ومن كان أمسه خيرٌ من يومه فهو ملعون»، أي مطرود من رحمة الله تعالى.
فعليك بملازمة العلماء والحضور في مجالسهم، وإلاّ سينالك الخذلان كما ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعاء أبي حمزة الثمالي: «أو لعلّك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني»(18)، وهذا الخذلان يصيب الفرد البعيد عن مجالس العلماء، وكذلك يصيب المجتمع الذي استهان بالعلم والعلماء فيصاب عندها بالتخلّف والأمراض الاجتماعية.
تعليق