بسم الله الرحمن الرحيم
بعد أن قدمنا سابقا المراحل الست من المنهج القرآني في أثبات الامامه والخلافه,نتوكل على الله ونستعين به للبدأ بالمرحله السابعه منه وهي آية علم الكتاب,
(بسم الله الرحمن الرحيم*ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب).
لقد عالجت هذه الآيه المباركه جانبا من موضوع الامامه واشارت الى بعد من ابعادها .فهذه الآيه المباركه جعلت خاتمه لسورة الرعد المكيه,والمعروف عن السور المكيه انها تتعرض الى شبهات الجاحدين والمعاندين,الذين يكابرون في الحق ويتعامون عن الآيات الواضحه ويستخدمون شتى الاساليب لتبرير انكارهم وعنادهم ,ومنها اسلوب طرح المطاليب والاقتراحات التي يتصورونها تعجيزيه ,كما في قوله تعالى حكاية عنهم(وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا)الى قوله تعالى(أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه)وقوله تعالى(ويقول الذين كفروا لو لا انزل عليه آية من ربه ).
من الواضح ان طرحهم هذه الاقتراحات لم يكن ناشئا من رغبه حقيقيه في الوصول الى الحق لأن الحجج والآيات والادله التي اقامها النبي صلى الله عليه وآله على حقانية نبوته لم تكن قليله بل كانت كثيره وكافيه وانما كانوا يهدفون من وراء ذلك توجيه ضغوط نفسيه على النبي صلى الله عليه وآله واثارة التشكيك والاستهزاء بكلامه,وحتى لو كانت تلك الاقتراحات تنفذ لهم فسيفسرونها بالسحر وامثال ذلك مما تكرر منهم اتهام النبي صلى الله عليه وآله به.
وقد اتخذ القرآن الكريم اساليب عديده للرد عليهم ,منها ثلاث اساليب معروفه وهي,
أولا/تلقين الرسول صلى الله عليه وآله بالرد عليهم بأن(الله يضل من يشاء ويهدي اليه من اناب),متعجبا من موقفهم المعاند والمكابر بعد كل هذه الآيات البينه,التي قدمها الرسول صلى الله عليه وآله لهم وكفى بالقرآن وحده آيه قاطعه لاتقبل الجدل والرد فاذا كانوا يجحدون بكل هذه الادله فبأي دليل بعدها يؤمنون!؟
ومن الواضح ان هذا الجواب والاسلوب في الرد يتضمن نوعا من الاستهانه بهم وبشأنهم ,فكانما النبي صلى الله عليه وآله يقول لهم ,انكم لستم بالشأن الذي تكون هدايتكم نافعه لي او ضلالتكم ضاره بي وان موقفكم هذا غرور وعناد وليس فيه من التعقل شيء.
ثانيا/تلقين الرسول صلى الله عليه وآله في ان يقول في جواب اقتراحتهم تلك,(قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ,انه كان بعباده خبيرا بصيرا).
هو اسلوب ينطوي على تثبيت لقلب النبي صلى الله عليه وآله ورفع لمعنوياته واستهانه بشان الكفار وعنادهم فاذا كان الله تعالى هو الشهيد الشاهد على حقانية النبي صلى الله عليه وآله وصدق دعوته ,فما اذي يضره من جحود الجاحدين وانكار المنكرين؟
وعلى غرار ذلك جاء قول الفرزدق في جواب هشام بن عبد الملك عندما تظاهر بتجاهل شخصية الامام زين العابدين عليه السلام في قصيدته الميميه المعروفه والتي منها قوله
وليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من انكرت والعجم
ثالثا/ تلقين الرسول صلى الله عليه وآله ان يطلب منهم –تبكيتا لهم-ان يتدبروا آيات الله الماثله في كل ذره من ذرات هذا الكون الفسيح ويفكروا في نعمه الغامره للمخلوقات ثم يتحداهم بان يأتوا بمثل معجزته الخالده حيث يقول تعالى(قل لئن اجتمعت الانس والجن على ان يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا).
وعندما ننظر في آية علم الكتاب نجدها تستخدم الاسلوب الثاني في مواجهة جحود الجاحدين وانكار المنكرين,وهو اسلوب تسلية النبي وتشديد عزيمته والاستهانه بخصومه
فلقد كان النبي صلى الله عليه وآله بحاجه ماسه الى زخم سماوي متواصل يتعبأ به في مواجهة تحديات الخصوم التي كانت تملأ نفسه ضيقا والما واسفا رغم ما كان يتصف به من سعة الصدر والاستعداد المثالي لتحمل المشاق والمصاعب ,فقد كانوا ينسبون اليه السحر والجنون محاوله منهم الفت في عضده واضعاف عزم التابعين له,ثم راحوا يكذبونه ويستخفون به محاولين ممارسة الضغط النفسي عليه وايذائه لعله ينهار غما وحزنا ,ولذا كثيرا ما نجد القرآن الكريم يحاول تسلية النبي صلى الله عليه وآله ورفع الحزن عنه من هذه الجهه, قال تعالى(فلعلك باخع نفسك على آثارهم ان لم يؤمنوا بهذا الحديث اسفا),وقال تعالى(لعلك باخع نفسك الا يكونوا مؤمنين )وقال تعالى(فلا تذهب نفسك عليهم حسرات),وهذه الآيات الثلاث تكشف عن النفس الكبيره التي يتحلى بها الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله فانه لم يكن يتالم من تكذيبهم اياه وايذائهم له ,وانما كان ألمه النفسي الشديد بسبب كونهم يحرمون انفسهم من نور الهدايه الالهيه ,ولعدم استفادتهم من فيض النبوه وعطاء الرساله,فكان ألمه لهم ومن اجلهم,فتاتيه التسليه الربانيه السماويه لتقول له :انك قد أديت ماعليك وان هؤلاء لايستحقون هذه الحسرات التي تؤلم نفسك بها عليهم ,وان الله سبحانه كفيل بنصر دينه ,وان تكذيب هؤلاء لاك وعدم ايمانهم بنبوتك لن يؤثر بشيء في مصير الدين وحركة الرساله,والى جانب ذلك كان القرآن يزيده عزما على عزمه واصرارا على اصراره ,عندما يقص عليه أنباء الرسل من قبله وما حصل لهم من التكذيب وما جاءهم من النصر,قال تعالى(قد نعلم انه ليحزنك الذي يقولون فانهم لايكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون*ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا واوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله).
وفي مقابل تكذيبهم كان القرآن الكريم يعطيهم الشهاده تلو الشهاده (انك لمن المرسلين)وهي شهاده عظمى لاتعدلها شهاده ولا يضر معها جحود هؤلاء بل جحود اهل الارض اجمعين,قال تعالى(ان تكفروا أنتم ومن في الارض جميعا فان الله لغني حميد).
وآية علم الكتاب التي نحن بصددها من هذا النوع,فهي تنطوي على شهادتين على نبوة الرسول ,شهادة الله سبحانه وتعالى(قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم)وشهادة من عنده علم الكتاب(.....ومن عنده علم الكتاب)وكفى الشهاده الثانيه فضلا وكرامه انها جاءت مقترنه بشهادة الله سبحانه.
والملاحظ ان الآيه لم تبين اسم الشهيد الثاني,وانما اشارت الى وصفه ب(من عنده علم الكتاب)ولعلها تريد ان تشير من خلال ذلك الى ان الفضل والكرامه والملاك ليست في الاسم والعنوان وانما في الوصف والحقيقيه التي ينطوي عليها ذلك الشهيد الا وهي (علم الكتاب)
وقد كشف القرآن الكريم في موضع آخر عن منزلة ومكانة هذا العلم وهو قوله تعالى(قال الذي عنده علم من الكتاب انا آتيك به قبل ان يرتد اليك طرفك)فتحدث عن عمل عجيب خارق للعاده وهو جلب عرش بلقيس من سبأ خلال اقل من ارتداد الطرف,قام به من (عنده علم من الكتاب),,فما اجل هذا العلم الذي يجعل الحامل للبعض منه بهذه الدرجه من الكرامه والمنزله عند الله سبحانه!!وكيف ستكون منزلة ودرجة (من عنده علم الكتاب)الذي ذكرته الآيه الشريفه؟؟(ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم).
ونتسائل هنا عن الشخص المقصود بهذه الصفه؟
ومن هو الذي كان (عنده علم الكتاب)؟؟
يوجد اتجاهان في تفسير هذه الصفه:هما
الاول/يفسرها بعلماء اهل الكتاب:مثل عبد الله بن سلام,وكأن الآيه تجعل شهادة هؤلاء دليلا على صحة الرساله الاسلاميه,وحينئذ تكون على غرار قوله تعالى(وشهد شاهد من بني اسرائيل)وقوله تعالى(أولم يكن لهم آيه ان يعلمه علماء بني اسرائيل).
ويرد على هذا التفسير :ان الآيه وسواء أكانت نازله في مكه او المدينه فان تفسيرها بامثال عبد الله بن سلام خلاف الظاهر منها فان الآيه مشعره بنوع من المنزله لصاحب هذه الصفه,وهذا الاشعار مستفاد من الاقتران بشهادة الله سبحانه,وهو يتأكد عندما نجمع الآيه مع آية (وقال الذي عنده علم من الكتاب)ولعل هذا التفسير نشأ من الخلط بين مفهوم (من عنده علم الكتاب)ومفهوم(اهل الكتاب)وهما مفهومان مختلفان لااتحاد بينهما ,لأختلاف المقصود بالكتاب في كل منهما,فالكتاب المقصود في الآيه هو القرآن ,وابن سلام وامثاله ليس عندهم علم القرآن,وسبب هذا الخلط ابتعاد أصحابه عن عدل الكتاب وهم أهل البيت صلوات الله عليهم الحاوون على علم القرآن والقادرون على تفسيره-دون سواهم-الذي أمرنا بالرجوع اليهم في حديث الثقلين المتواتر لدى الفريقين (اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتي وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض).
الثاني/تفسيرها بالامام علي عليه السلام والأئمه من بعده وهو التفسير الوارد عن أئمة أهل البيت سلام الله عليهم ,وحينئذ تكون صفة علم الكتاب من صفات الامامه وملاكاتها المطلوبه في الامام,وقد وردت روايات كثيره تؤكد هذا التفسير ومن طرق الفريقين.
فمن طرق أهل السنه:مارواه الفقيه ابن المغازلي الشافعي مسندا عن عبد الله بن عطاء قال :كنت عند ابي جعفر عليه السلام جالسا اذ مر عليه ابن عبد الله بن سلام,قلت:جعلني الله فداك, هذا ابن الذي عنده علم من الكتاب قال:لا,ولكن صاحبكم علي بن ابي طالب الذي نزلت فيه آيات من كتاب الله عز وجل (الذي عنده علم من الكتاب)و(افمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه)و(انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا).
واما من طرقنا فروايات متظافره:منها
ما رواه الكليني محمد بن يعقوب في الصحيح عن بريد بن معاويه,قال:قلت لأبي جعفر عليه السلام (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب)؟قال:ايانا عنى ,وعلي اولنا وافضلنا وخيرنا بعد النبي صلى الله عليه وآله.
ومنها:مارواه ايضا مسندا عن سدير قال:كنت انا وابي بصير ويحيى البزاز وداود بن كثير في مجلس ابي عبد الله عليه السلام اذ خرج الينا وهو مغضب ,فلما أخذ مجلسه قال:يا عجبا لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب !مايعلم الغيب الا الله عز وجل ,لقد هممت بضرب جاريتي فلانه فهربت مني فما علمت في اي بيوت الدار هي,قال سدير:فلما ان قام من مجلسه وصار في منزله دخلت انا وابو بصير وميسر,وقلنا له ,جعلنا فداك سمعناك وانت تقول كذا وكذا في امر جاريتك ,ونحن نعلم انك تعلم علما كثيرا ولا ننسبك الى علم الغيب,قال:فقال:ياسدير,الم تقرأ القرآن؟قلت: بلى,قال:فهل وجدت في ما قرأت من كتاب الله عز وجل(قال الذي عنده علم من الكتاب انا آتيك به قبل ان يرتد اليك طرفك)؟قال:قلت:جعلت فداك قد قرأته,قال:فهل عرفت الرجل؟وهل علمت ما كان عنده من علم الكتاب؟قال: قلت:اخبرني به؟قال:قدر قطرة من الماء في البحر الاخضر فما يكون ذلك من علم الكتاب؟!قال:قلت:جعلت فداك ما اقل هذا,فقال:ياسدير ما اكثر هذا ان ينسبه الله عز وجل الى العلم الذي اخبرك به ياسدير فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عز وجل (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب)؟ قال:قلت:قد قرأته جعلت فداك,قال:أفمن عنده علم الكتاب كله أفهم أم من عنده علم الكتاب بعضه؟قلت:لا,بل من عنده علم الكتاب كله,قال:فأومأ بيده الى صدره وقال:علم الكتاب والله كله عندنا,علم الكتاب والله كله عندنا.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين,وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
تعليق