الوصية في الإسلام
==================================================
==================================================
=
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للهّ ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين. وبعدُ، فقد اكتسبت الوصية شأناً خاصاً في تاريخ الإنسانية منذ بدء الخليقة وإلى يومنا هذا؛ لأنها تُعبِّر عن ديمومة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتساعد على حفظ سلامة الفرد والأسرة، والمجتمع والدولة، من الفوضى والاختلاف بعد رحيل الموصِي، وتُسهِم في نقل تجارب الماضين إلى الآتين. وقد أقرَّت الشرائع السماوية الإلهية مبدأ الوصية، منذ أبينا آدم× إلى خاتم النبيين محمد’. وأكدت مصادر التشريع والتاريخ، تواترَ عهود الأنبياء إلى أوصيائهم، الذين يخلفونهم في هداية الناس إلى الحق والعمل الصالح؛ ليكونوا حجة على العباد وأمناء على الرسالة.
والوصية في تاريخ النبوات، يرتفع فيها الوصي إلى مستوى خطورة المهمة الملقاة على عاتقه، من خلافة النبوة والزعامة في جميع من تشمله دعوة تلك النبوة, ومن هنا لا بد من أن يكون الوصي ممتلكاً مؤهلاتٍ خاصة، ومزايا فريدة ليست في غيره من سائر الناس، تؤهله لتسنّم منصب الخلافة ونيل شرف الوصاية، ولا يكون ذلك إلاّ في ضوء الاصطفاء الإلهي للوصي المٌقترن بالإعداد النبوي؛ ليكون وريثا للعلم النبوي وقائدا رساليا، يقوم بأعباء استكمال المسيرة النبوية في قيادة الأمة.
ونحن نتحدّث هنا ونبحث عن الوصية في الإسلام، فهل أوصى قائد الإسلام محمد’؟ وإذا كان قد أوصى، فهل أوصى فقط في ساعاته الأخيرة، وهو -بأبي وأمي- على فراش الموت؟ أم أنه ذكر الوصية في حياته الشريفة قبل مرضه الأخير؟ وما مضمون الوصية؟ ومن الوصي؟ وهل كانت وصيته’ مكتوبة أم شفوية؟ و... وكثير من الأسئلة ترِد على هذا المجال.
وستتضح -بعونه تعالى- الإجابة خلال هذا البحث مُلخصةً، ومن المصادر الموثّقة والمعتبرة عند جمهور المسلمين، آملين أن نكون قد أزحنا بعض الضبابية التي اكتنفت تلك الحادثة المهمة في تاريخ الإسلام.
==============================================
الوصية في القرآن الكريم
=========================
1- قال تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] فالآية الكريمة تؤكد ضرورةَ الوصية عند الاحتضار، إن لم يكن صاحبها قد أوصى قبل هذا الوقت, وواضح أنّ الآية عامةٌ وشاملة، فهي تشمل جميع المؤمنين بما فيهم الأنبياء والأوصياء, وقد ذهب بعض علماء المسلمين إلى عدم شمول الأنبياء بهذه الآية؛ وذلك لقَصرهم فهمَ كلمة (خيرا) الواردة في الآية الكريمة، على معنى (المال)، وعلى الرغم من هذا الفهم القاصر، فإنّ القرآن الكريم لا ينفي ذلك، أي (توريث الأنبياء للأموال)، والدليل من قوله تعالى {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16]، وقوله تعالى {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] فلا تعارض بين توريثهم^ للأموال، وكونهم إنما بعثوا لا لجمع الأموال أو شيءٍ من حطام الدنيا. وأكثر الظن أنّ فهم بعض العلماء لمثل هذه الآيات؛ إنما جاء نتيجة لاعتمادهم على بعض أحاديث الآحاد بهذا الصدد، وقد غاب عن أفهامهم أنّ للأنبياء الخيرَ الكثير، الذي هو أفضل من الأموال، والذي ينبغي أن يوصُوا به كما سنرى فيما تخبرنا به الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الآتية.
2- قال تعالى {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] فهذه الآية صريحة في أنّ الأنبياء^ يوصون في حياتهم ولا يُستثنون من ذلك، وأنّ هذه سنّتهم ولا يرغب -أي يحيد- عنها إلاّ السفيه {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130], وكانت وصية إبراهيم ويعقوب‘ إلى بنيهم، إبلاغَ رسالة الله تعالى إلى الناس، والثبات على الدين الذي جاؤوا به من عند ربّ العالمين، وعدم ترك الإسلام وترك التعبّد بأحكامه إلى آخر لحظة من حياتهم، أي إلى حين الموت، وهو قوله تعالى {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي فإذا صادفكم الموت يجدكم مسلمين. وفي هذه الآية دلالة على الترغيب في الوصية، وأنه ينبغي أن يوصي الإنسان من يلي أمره بتقوى الله، ولزوم الدين والطاعة.
3- قال تعالى {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133] وهذه الآية الشريفة تؤكد الوصية في حال احتضار النبي يعقوب×، والتي كان قد أوصى بها قبل هذا الوقت كما مرّ في الآية السابقة، ولولا أن يكون أمر الوصية بهذه الخطورة؛ لما جاء تأكيدها هنا في حال الاحتضار، ويُلحظ في الآية السابقة وفي هذه الآية تأكيد الوصية لأبناء الأنبياء؛ لأنهم مصطفون من الله تعالى لأمر الدين.
4- قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] وهذه الآية هي الأخرى جاءت مؤكدة ومشددة على ضرورة جعل شاهدين عادلين على أمر الوصية؛ لما في الأمر من شأن عظيم، وللنهي عن التهاون في أمرها. وفي الآية التفاتة مهمة، إذ تخبر أنه يكفي أن تكون الوصية مشهودة ولا يشترط أن تكون مكتوبة.
كان هذا عرضا سريعا لبعض الآيات القرآنية الواردة على أمر الوصية.
==================================================
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للهّ ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين. وبعدُ، فقد اكتسبت الوصية شأناً خاصاً في تاريخ الإنسانية منذ بدء الخليقة وإلى يومنا هذا؛ لأنها تُعبِّر عن ديمومة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتساعد على حفظ سلامة الفرد والأسرة، والمجتمع والدولة، من الفوضى والاختلاف بعد رحيل الموصِي، وتُسهِم في نقل تجارب الماضين إلى الآتين. وقد أقرَّت الشرائع السماوية الإلهية مبدأ الوصية، منذ أبينا آدم× إلى خاتم النبيين محمد’. وأكدت مصادر التشريع والتاريخ، تواترَ عهود الأنبياء إلى أوصيائهم، الذين يخلفونهم في هداية الناس إلى الحق والعمل الصالح؛ ليكونوا حجة على العباد وأمناء على الرسالة.
والوصية في تاريخ النبوات، يرتفع فيها الوصي إلى مستوى خطورة المهمة الملقاة على عاتقه، من خلافة النبوة والزعامة في جميع من تشمله دعوة تلك النبوة, ومن هنا لا بد من أن يكون الوصي ممتلكاً مؤهلاتٍ خاصة، ومزايا فريدة ليست في غيره من سائر الناس، تؤهله لتسنّم منصب الخلافة ونيل شرف الوصاية، ولا يكون ذلك إلاّ في ضوء الاصطفاء الإلهي للوصي المٌقترن بالإعداد النبوي؛ ليكون وريثا للعلم النبوي وقائدا رساليا، يقوم بأعباء استكمال المسيرة النبوية في قيادة الأمة.
ونحن نتحدّث هنا ونبحث عن الوصية في الإسلام، فهل أوصى قائد الإسلام محمد’؟ وإذا كان قد أوصى، فهل أوصى فقط في ساعاته الأخيرة، وهو -بأبي وأمي- على فراش الموت؟ أم أنه ذكر الوصية في حياته الشريفة قبل مرضه الأخير؟ وما مضمون الوصية؟ ومن الوصي؟ وهل كانت وصيته’ مكتوبة أم شفوية؟ و... وكثير من الأسئلة ترِد على هذا المجال.
وستتضح -بعونه تعالى- الإجابة خلال هذا البحث مُلخصةً، ومن المصادر الموثّقة والمعتبرة عند جمهور المسلمين، آملين أن نكون قد أزحنا بعض الضبابية التي اكتنفت تلك الحادثة المهمة في تاريخ الإسلام.
==============================================
الوصية في القرآن الكريم
=========================
1- قال تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] فالآية الكريمة تؤكد ضرورةَ الوصية عند الاحتضار، إن لم يكن صاحبها قد أوصى قبل هذا الوقت, وواضح أنّ الآية عامةٌ وشاملة، فهي تشمل جميع المؤمنين بما فيهم الأنبياء والأوصياء, وقد ذهب بعض علماء المسلمين إلى عدم شمول الأنبياء بهذه الآية؛ وذلك لقَصرهم فهمَ كلمة (خيرا) الواردة في الآية الكريمة، على معنى (المال)، وعلى الرغم من هذا الفهم القاصر، فإنّ القرآن الكريم لا ينفي ذلك، أي (توريث الأنبياء للأموال)، والدليل من قوله تعالى {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16]، وقوله تعالى {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] فلا تعارض بين توريثهم^ للأموال، وكونهم إنما بعثوا لا لجمع الأموال أو شيءٍ من حطام الدنيا. وأكثر الظن أنّ فهم بعض العلماء لمثل هذه الآيات؛ إنما جاء نتيجة لاعتمادهم على بعض أحاديث الآحاد بهذا الصدد، وقد غاب عن أفهامهم أنّ للأنبياء الخيرَ الكثير، الذي هو أفضل من الأموال، والذي ينبغي أن يوصُوا به كما سنرى فيما تخبرنا به الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الآتية.
2- قال تعالى {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] فهذه الآية صريحة في أنّ الأنبياء^ يوصون في حياتهم ولا يُستثنون من ذلك، وأنّ هذه سنّتهم ولا يرغب -أي يحيد- عنها إلاّ السفيه {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130], وكانت وصية إبراهيم ويعقوب‘ إلى بنيهم، إبلاغَ رسالة الله تعالى إلى الناس، والثبات على الدين الذي جاؤوا به من عند ربّ العالمين، وعدم ترك الإسلام وترك التعبّد بأحكامه إلى آخر لحظة من حياتهم، أي إلى حين الموت، وهو قوله تعالى {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي فإذا صادفكم الموت يجدكم مسلمين. وفي هذه الآية دلالة على الترغيب في الوصية، وأنه ينبغي أن يوصي الإنسان من يلي أمره بتقوى الله، ولزوم الدين والطاعة.
3- قال تعالى {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133] وهذه الآية الشريفة تؤكد الوصية في حال احتضار النبي يعقوب×، والتي كان قد أوصى بها قبل هذا الوقت كما مرّ في الآية السابقة، ولولا أن يكون أمر الوصية بهذه الخطورة؛ لما جاء تأكيدها هنا في حال الاحتضار، ويُلحظ في الآية السابقة وفي هذه الآية تأكيد الوصية لأبناء الأنبياء؛ لأنهم مصطفون من الله تعالى لأمر الدين.
4- قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] وهذه الآية هي الأخرى جاءت مؤكدة ومشددة على ضرورة جعل شاهدين عادلين على أمر الوصية؛ لما في الأمر من شأن عظيم، وللنهي عن التهاون في أمرها. وفي الآية التفاتة مهمة، إذ تخبر أنه يكفي أن تكون الوصية مشهودة ولا يشترط أن تكون مكتوبة.
كان هذا عرضا سريعا لبعض الآيات القرآنية الواردة على أمر الوصية.
==================================================
=
الوصية في السنة النبوية الشريفة
================================
1- حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله’، قال: >ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عنده<.( ) وهذا الحديث على الرغم من وضوحه، وكونه بيانا لما تلوناه أعلاه من آيات، فهو لا يُخوّل المسلم لأكثر من ليلتين من دون وصية.
2- >... عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، أنه سمع رسول الله’، قال: >ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ثلاث ليالٍ، إلا ووصيته عنده مكتوبة<. قال عبد الله بن عمر: ما مرّت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله’ قال ذلك إلا وعندي وصيتي<.( )
3- عن أبي عبد الله الصادق×، قال: >من مات بغير وصية، مات ميتة جاهلية<.( )
4- >... عن سليمان بن جعفر، عن أبي عبد الله الصادق×، قال: قال رسول الله’: من لم يحسن وصيته عند الموت كان نقصاً في مروءته وعقله، قيل يا رسول الله، وكيف يوصي الميت؟ قال: إذا حضرته وفاته واجتمع الناس إليه، قال: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، اللهم إني أعهد إليك في دار الدنيا، أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن البعث حق، وأن الحساب حق، والقدر والميزان حق، وأن الدين كما وصفت، وأن الإسلام كما شرعت، وأن القول كما حدّثت، وأن القرآن كما أنزلت، وأنك أنت الله الحق المبين، جزى الله محمداً’ خير الجزاء، وحيّا محمداً وآل محمد بالسلام. اللهم يا عدتي عند كربتي، ويا صاحبي عند شدتي، ويا ولي نعمتي، إلهي وإله آبائي، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً، فإنك إن تكلني إلى نفسي طرفة عين أقرب من الشر وأبعد من الخير، فآنِس في القبر وحشتي. اجعل لي عهدا يوم ألقاك منشورا< ثم يوصي بحاجته، وتصديق هذه الوصية في القرآن، في السورة التي يذكر فيها عز وجل مريمَ {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87]. فهذا عهد الميت.( )
========================================
هل أوصى النبي’؟
======================
بعد العرض السريع الذي سمعته من آي الذكر الحكيم، والأحاديث النبوية الشريفة في الاهتمام بأمر الوصية، ننتقل إلى الموضوع المهم والسؤال المُلح وهو، هل أوصى النبي’، أو بعبارة أخرى، هل التزم’ بما أخبر عنه القرآن الكريم، وعلى لسانه’، وبما قاله’؟
إليك بعض النصوص المختارة بهذا الصدد، ونترك لك -عزيزي القارئ- حرية الاختيار:
1. عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة، قالت: >ما ترك رسول الله ديناراً ولا درهما ولا شاة ولا بعيراً، ولا أوصى بشيء<.( )
نعم إنه من الواضح عند دراسة حياة الأنبياء^ والرسل الذين بعثهم الله عز وجل لهداية البشرية من آدم× إلى نبينا محمد’، إنهم لم يُبعثوا لجمع المال والدراهم و... إنما كانوا أزهد الناس، وهم القدوة في ذلك، ونبينا محمد’ خاصةً. إذن كيف نوفّق بين ما ترويه أم المؤمنين هنا، والآيات الكريمة والأحاديث التي قرأتها قبل قليل، والتي تشدد على أمر الوصية؟ أفلا يكون’ هو المبادر الأول إلى فعل ما يقول، والتعبّد بآيات الله؟ وقد وجدناه’ بلغ الغاية القصوى في التعبّد بجميع ما في القرآن من أوامر ونواهي، فكيف يمكن التصديق بأنه’ يأمر بالشيء ولا يأتمر به! وهو الواسطة لتبليغ ألفاظ القرآن الكريم وجمله وأحكامه إلى سائر أفراد الأمة. أترى أم المؤمنين أنه’ كان لكتاب الله مخالفاً، وعن أحكامه صادفاً؟ ما هكذا الظن بكِ يا أم المؤمنين!
نعم، قد تكون أم المؤمنين عائشة معذورة فقط في حال فهمها، أن الوصية لا تجوز إلا في التركة والمال، ونحن نقول لها ولمن يذهب مذهبها في تضييق معنى الوصية وفهمها، أن يتدبّروا في الآيات الكريمة المارّة الذكر، وبخاصة وصية إبراهيم ويعقوب‘ لبنيهما، فهل كانت الوصية بالمال أم...؟
إن النبي’ ترك ما هو أغلى وأهم من الدينار والدرهم والذهب و... فقد ترك’ دين الله القويم في بدء فطرته وأول نشأته، ولهو أحوج إلى الوصي من الأموال وغيرها، وأن الأمة لأحوج إلى وصي يقوم مقامه في ولاية أمورهم وإدارة شؤونهم الدينية والدنيوية، ويستحيل عليه’ أن يوكل دين الله إلى الأهواء، أو يتّكل في حفظ شرائعه على الآراء من غير وصي يعهد بشؤون الدين والدنيا إليه.
2- حدّثنا مالك، حدثنا طلحة بن مصرف، قال: >سألت عبد الله بن أبي أوفى: هل كان النبي’ أوصى؟ فقال: لا، فقلت: كيف كتب على الناس الوصيةَ أو أمر بها؟ قال: أوصى بكتاب الله<.( )
فهذا السؤال طرحه المسلمون قبلنا، وأنكروا أن يترك الرسول’ الناس بلا وصية, كيف يكون ذلك وجاءهم هو’ بالوحي من الله أن يوصوا! فلعل مقتضيات السياسة وسلطتها، واضحة المعالم على هذا الحديث، فقد أنكر ابن أبي أوفى أولاً الوصية عنه’، ولكنه تراجع بعدما حاجّه طلحة بن مصرف بقوله، إن القرآن نادى بالوصية، وإنه’ أمر بذلك، وعلى الرغم من أن ّ حديث ابن أبي أوفى أبتر -إذ ستسمع تكملته فيما بعد- فإنك تشم رائحة الكتمان على الوصية من قبل المحدّثين، بل وعلى الكثيرِ من الحقائق التي منعت السلطةُ الحاكمة آنذاك من نشرها وشياعها، وقد فرضت الحصار على من يتحدث بها.
3- عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: >يوم الخميس وما يوم الخميس! ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء، فقال: إشتد برسول الله’ وجعه يوم الخميس، فقال: >ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا< فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع, فقالوا: أهجر رسول الله’، قال’:>دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه< وأوصى عند موته بثلاث: >أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم...< قال: ونسيت الثالثة<.( ) وفي صحيح مسلم: >... أوصيكم بثلاث، أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما أجيزهم, قال: وسكتَ’ عن الثالثة أو قالها - أي النبي’- فأُنسيتها...<.( ) ففي الحديث الأول نفي تام للوصية، وفي الحديث الثاني نفي أولا، ثم العدول إلى الوصية بكتاب الله فقط، أما الحديث الثالث فقد أوصى فيه عند موته -خلاف ما نقل عن عائشة في الحديث الأول- ولكن الراوي قد نسي الأمر الثالث من الوصية أو قد أُنسيها؛ لعلة يعرفها البصير وستتضح معالمها فيما بعد لأولي الألباب.
4- عن إبراهيم، عن الأسود، قال: >ذكروا عند عائشة أنّ عليا× كان وصيا، فقالت: متى أوصى إليه وقد كنتُ مسندته إلى صدري؟ أو قالت حجري... فما شعرت أنه قد مات فمتى أوصى إليه!<.( ) فعلى الرغم من أنّ الحديث يحتوي عدة مطالب، إلاّ أننا سنركّز على ما يهمنا منه تاركين التفصيل فيه إلى أبحاث أخرى. فالحديث يخبرنا أنّ ثمة أناس ذكروا عند السيدة عائشة أنّ عليا× كان وصيا للنبي’، والسؤال هنا من أين لهم ذلك؟ هل أرادوا أن يستفزوا أم المؤمنين عائشة بذلك؟ أم أنهم حقا سمعوا عن رسول الله’ ما كان متعارفا في زمنه’ وبعد وفاته، أنّ عليا× كان وصي النبي؟ وأنا أميل إلى الأمر الثاني، بل أن الأدلة التاريخية تؤيد ذلك،
فلنستمع إلى بعض هذه الأدلة في عجالة:
ففي بواكير دعوته’ في مكة، وعندما نزل عليه قوله تعالى {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] جمع’ أعمامه والمقرّبين من عشيرته، وخطب فيهم قائلا: >يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني ربي أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فأحجم القوم عنها، وقال علي× -وكان أحدثهم سناً- أنا يا نبي الله، أكون وزيرك عليه, فأخذ’ برقبة علي×، وقال: إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا<.( ) واستمر’ يركز مفهوم الوصية لعلي× خلال دعوته للدين، فعن بريدة، عن النبي’ أنه قال: >لكل نبي وصي ووارث، وإنّ وصيي ووارثي علي بن أبي طالب×<.( )
وعن معاذ بن كثير، عن أبي عبد الله الصادق×، قال: >إن الوصية نزلت من السماء على محمد’ كتاباً، لم ينزل على محمد’ كتاب مختوم إلى الوصية، فقال جبرائيل×: يا محمد هذه وصيتك في أمتك عند أهل بيتك، فقال رسول الله’: أي أهل بيتي يا جبرائيل؟ قال: نجيب الله منهم وذريته؛ ليرثك كما ورّثه إبراهيم، وميراثه لعلي× وذريتك من صلبه<.( )
وقال’: >إنّ وصيي وموضع سري وخير من أترك بعدي، ينجز عدتي ويقضي ديني، علي بن أبي طالب<.( )
هذا في ما يتعلق بالمقطع الأول للحديث، أما قولها -أم المؤمنين عائشة-: >متى أوصى إليه وقد كنتُ مسندته إلى صدري أو حجري؟< فهذا ما لا يمكن قبوله؛ لأنه’ مات في حجر علي×، كما تحدثنا النصوص التاريخية الصحيحة عن ذلك، وإليك بعضاً منها:
- >قيل لابن عباس: أرأيت رسول الله’ توفي ورأسه في حجر أحد؟ قال: نعم، توفي وإنه لمسند إلى صدر علي×، فقيل له: إنّ عروة يحدث عن عائشة، أنها قالت توفي بين سحري ونحري، فأنكر ابن عباس قائلا: أتعقل؟ والله لتوفي رسول الله’، وإنه لمسند إلى صدر علي، وهو الذي غسله وكفنه ودفنه<.( ) فهذا حَبر الأمة -وهو من هو- يقسم بالله، أنه’ توفي في حجر علي، ويكذّب بقول عائشة.
- وعن علي×، قال: >قال رسول الله’ في مرضه الأخير: إدعوا لي أخي، فأتيته فقال’: أُدنُ مني، فدنوت منه فاستند إلي، فلم يزل مستندا إليَّ وإنه ليكلمني، حتى أنّ بعض ريقه ليصيبني، ثم نزل برسول الله’< أي الموت.( ) وهذا باب مدينة علم النبي’، والذي يدور الحق معه حيثما دار، يكذّب هو الآخر بقول عائشة.
- وجاء في نهج البلاغة عنه×، قال: >ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد’، أني لم أردُّ على الله ولا على رسوله ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وتتأخر فيها الأقدام، نجدةً أكرمني الله بها، ولقد قبض’ وأنّ رأسه لعلى صدري، ولقد سالت نفسه في كفي، فأمررتها على وجهي، ولقد وليت غسله’ والملائكة أعواني... حتى واريناه ضريحه، فمن ذا أحقُّ به مني حيّا وميتا<.( )
ولا غرابة في اختلاق السيدة عائشة ومن يدور في فلكها مثلَ هذه الأحاديث وإنكارها الوصية لعلي×؛ لأنّ كل من يعرف عائشة وبغضها لعلي× سواء في حياة النبي’ أو بعد وفاته، لا يستغرب ذلك، فخروجها عليه× وقتالها له في حرب الجمل والتي راح ضحية فيها آلاف الصحابة، على الرغم من أنه× ولي أمرها وإمام زمانها، ويجب عليها طاعته ولا يجوز لها مخالفته فضلا عن مقاتلته. وهنالك الكثير من النصوص التاريخية، التي يمكن من خلالها معرفة مدى بغض أم المؤمنين للإمام علي× نذكر بعضاً منها لإتمام الفائدة:
- >عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عائشة زوج النبي’، قالت: لما ثقُلَ رسول الله’ واشتد به وجعه، استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي، فخرج وهو بين رجلين تخط رجلاه في الأرض، بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر. قال عبيد الله: فأخبرت عبد الله بن عباس بالذي قالت عائشة، فقال لي عبد الله بن عباس: هل تدري من الرجل الذي لم تُسمِّ عائشة؟ قال: قلت: لا, قال ابن عباس: هو علي بن أبي طالب<،( ) وفي ذيل الرواية جزء مقطوع لم يذكره البخاري؛ ربما لأنه لا يتلاءم وهواه.
ونجد الرواية كاملة في طبقات ابن سعد،( ) والسيرة الحلبية لابن هشام،( ) ومسند أحمد،( ) وفيها: >هل تدري من الرجل الذي لم تُسّم عائشة؟ قال: قلت: لا, قال ابن عباس: هو علي بن أبي طالب(رض). ثم قال ابن عباس: إنّ عائشة لا تُطيب له نفسا بخير<.( ) فكيف يُرتجى من التي (لا تُطيب له نفسا بخير) أن تُثبِت الوصية إليه×!
وقد تختلف معي أو توافقني أيها القارئ العزيز، في الذهاب إلى أنّ التفسير الوحيد لإنكار أمر الوصية كان قد خُطط له منذ زمن بعيد، من الأيام الأولى التي صدع بها النبي’ بذكر الوصية لعلي×، وإلى آخر لحظة من حياته الشريفة. وكان قائد المعارضة والإنكار الخليفةَ الثاني عمر بن الخطاب وحزبه، وما عائشة إلاّ عضوٌ في هذا الحزب المعارض، فقد أعلن هذا الرجل وبكل فظاظة وغلظة قلب، وبمحضر الرسول’ وأمام جمع الصحابة, بالعبارة اللاذعة والقاصمة للظهر! والتي سجلها التاريخ عليه، وهي كلمة >هجر رسول الله< أو >إنّ النبي يهجر< أو >قد غلبه الوجع< كما تثبته النصوص التأريخية المعتبرة،
وإليك بعضاً منها:
====================
- >عن ابن عباس، قال: لما حضر رسول الله’ وفي البيت رجال، فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي’: >هلمّ أكتبُ لكم كتابا لا تضلوا بعده< فقال عمر بن الخطاب: إنّ النبي قد غلبه الوجع! وعندكم القرآن! حسبنا كتاب الله! فاختلف أهل البيت فاختصموا, منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي كتابا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قاله عمر! فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي، قال لهم: قوموا عني! فكان ابن عباس يقول: إنّ الرزية كل الرزية، ما حال بين رسول الله’ وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، من اختلافهم ولغطهم<.( )
- >عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه قال: يوم الخميس وما أدراك ما يوم الخميس! ... فقال: اشتدّ برسول الله’ وجعه يوم الخميس، فقال: >ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً< فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: هجر رسول الله...<.( )
- >عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: يوم الخميس وما يوم الخميس! ثم جعل تسيل دموعه حتى رؤيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ، قال: قال رسول الله’: >ائتوني بالكتف والدواة، أو اللوح والدواة، أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً< فقالوا: إن رسول الله يهجر<.( )
ونلحظ أن الصحابي الجليل وحَبر الأمة ابن عباس، يصف الحادثة بالرزية، بل كل الرزيّة! فلقد فهم عمر بن الخطاب مراد النبي’ من كتابته، أنه سيوصي إلى علي×، أي أراد’ أن يؤكد أمر الوصية لعلي× كتابةً، بعد أن كررها في أكثر من موطن وموقف كلاماً، لذا نرى أن عمر بن الخطاب انبرى لمنع حصول ذلك، وقابل النبي’ بتلك الكلمات القارصة، والذي يؤيد ما نذهب إليه، أنك ترى عمراً أطلق عبارة >حسبنا كتاب الله< فمن أين علم عمر أن رسول الله’ سيوصي بشيء، أو إلى أحد بحيث يقرنه بكتاب الله؟ هل كان عمر يعلم الغيب! فقد سمع عمرُ النبيَ’ يجهر بالوصية إلى علي×، وقرنه بكتاب الله عز وجل، وبخاصة في غدير خم، عندما نزل على الرسول’ جبرئيل بهذه الآية المباركة {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67] فقال’ في خطبة طويلة له في ذلك اليوم (الثامن والعشرين من ذي الحجة): >ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، فأخذ بيد علي× ورفعها، وقال: >فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله< ثم قال’: >إنّي تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، كتابَ الله حبلٌ ممدودٌ من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي<.( ) وقد بيّن الخليفة عمر بن الخطاب ذلك واعترف صريحاً بالسبب المؤدي لموقفه ومعارضته لرسول الله’ آنذاك، في قوله: >حتى لا يجعل الأمر خطّياً لعلي بن أبي طالب<.( )
ومن المفيد أن ننقل المحاورة التي دارت بين ابن عباس وعمر بن الخطاب أيام خلافته؛ ليطمئن القارئ ويهتدي إلى صواب ما نذهب إليه، فإليك طرفاً منها: >قال عمر لعبد الله بن عباس: يا ابن عباس، ما منع قومكم منكم بعد موت محمد’؟ قال ابن عباس: فكرهت أن أجيبه، فقلت: إن لم أكن أدري، فإن خليفة المسلمين يدري، فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة، فتبجحوا على قومكم بجحا بجحا، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت، قال ابن عباس: فقلت: إن تأذن لي في الكلام، وتمطّ عني الغضب تكلمت، فقال عمر: تكلم، قال ابن عباس: فقلت: أما قولك اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت، فلو أن قريشاً اختارت لأنفسها من حيث اختار الله لها؛ لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود، وأما قولك إنهم كرهوا أن تكون لنا النبوة والخلافة، فإن الله عز وجل وصف قوماً بالكراهية، فقال {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9] فقال عمر: هيهات يا ابن عباس، قد كانت تبلغني عنك أشياء أكره أن أقرّ عليها؛ فتزيل منزلتك مني، قال ابن عباس، فقلت: فإن كان حقاً فلا ينبغي أن تزيل منزلتي منك، وإن كان باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه، فقال عمر: بلغني أنك تقول: صرفوها عنّا حسداً وظلماً، قال ابن عباس: فقلت: أما قولك ظلماً فقد تبيّن للجاهل والحليم، وأما قولك حسداً فإن آدم حُسد ونحن ولده المحسودون، قال عمر: هيهات هيهات، أبت واللهِ قلوبكم يا بني هاشم، إلا حسداً لا يزول، قال ابن عباس: فقلت: مهلاً يا خليفة المسلمين، لا تصف بهذا قلوبَ قومٍ، قد أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا...<.( )
والخلاصة، أن الهدف الرئيس لهؤلاء المعترضين على كتابة الوصية أو المنكرين لها، قد انصبّ بالدرجة الأولى والأخيرة على إبعاد آل محمد عن حقّهم بإمامة الأمة؛ لأنهم عرفوا مراده’، وهؤلاء المعترضين إنما فعلوا ذلك؛ لأنهم قرروا أن ليس من الصواب أن يأخذ الهاشميون المُلك والنبوة معاً؛ لأنهم ولآخر لحظة من حياتهم كانوا يفكّرون بالعقلية القبليّة، ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم، وإن الصواب في نظرهم القبَلي أن يأخذ الهاشميون النبوّة وحدهم، وأن تأخذ بطون قريش الخلافة لا يشاركهم فيها أحد من الهاشميين؛ لذا تراهم عندما تربعوا على عرش الخلافة لم يشركوا أياً من الهاشميين في أي منصب، والتاريخ أكبر شاهد على ذلك.
لقد أقنعوا أنفسهم بأن الترتيبات الإلهية المتعلقة بمن يخلف النبي’ والمتضمنة تولية الإمام علي× واستخلافه واستخلاف أحد عشر من ذرية النبي’ والتي أعلنها الرسول’ في عدّة مناسبات، هذه التدابير والترتيبات في نظرهم غير عادلة ومناسبة، واعتقدوا أن عليهم تجاهل سنّة النبي’ من هذه الناحية ووضع وابتداع سنن بديلة لها!! وختاماً نقول لهؤلاء: هل أن أبا بكر وعمر كانا أحرص على الدين والأمة من النبي’ بحيث أوصى كل منهما عند دنو الأجل، كما تشهد لذلك الروايات المتضافرة، أم على قلوب أقفالها؟ {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14].
/تأليف /الأستاد/حبيب كسّار
تحقيق/ مرتضى علي الحلي/ النجف الأشرف/
الوصية في السنة النبوية الشريفة
================================
1- حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله’، قال: >ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبة عنده<.( ) وهذا الحديث على الرغم من وضوحه، وكونه بيانا لما تلوناه أعلاه من آيات، فهو لا يُخوّل المسلم لأكثر من ليلتين من دون وصية.
2- >... عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، أنه سمع رسول الله’، قال: >ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ثلاث ليالٍ، إلا ووصيته عنده مكتوبة<. قال عبد الله بن عمر: ما مرّت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله’ قال ذلك إلا وعندي وصيتي<.( )
3- عن أبي عبد الله الصادق×، قال: >من مات بغير وصية، مات ميتة جاهلية<.( )
4- >... عن سليمان بن جعفر، عن أبي عبد الله الصادق×، قال: قال رسول الله’: من لم يحسن وصيته عند الموت كان نقصاً في مروءته وعقله، قيل يا رسول الله، وكيف يوصي الميت؟ قال: إذا حضرته وفاته واجتمع الناس إليه، قال: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، اللهم إني أعهد إليك في دار الدنيا، أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن البعث حق، وأن الحساب حق، والقدر والميزان حق، وأن الدين كما وصفت، وأن الإسلام كما شرعت، وأن القول كما حدّثت، وأن القرآن كما أنزلت، وأنك أنت الله الحق المبين، جزى الله محمداً’ خير الجزاء، وحيّا محمداً وآل محمد بالسلام. اللهم يا عدتي عند كربتي، ويا صاحبي عند شدتي، ويا ولي نعمتي، إلهي وإله آبائي، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً، فإنك إن تكلني إلى نفسي طرفة عين أقرب من الشر وأبعد من الخير، فآنِس في القبر وحشتي. اجعل لي عهدا يوم ألقاك منشورا< ثم يوصي بحاجته، وتصديق هذه الوصية في القرآن، في السورة التي يذكر فيها عز وجل مريمَ {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87]. فهذا عهد الميت.( )
========================================
هل أوصى النبي’؟
======================
بعد العرض السريع الذي سمعته من آي الذكر الحكيم، والأحاديث النبوية الشريفة في الاهتمام بأمر الوصية، ننتقل إلى الموضوع المهم والسؤال المُلح وهو، هل أوصى النبي’، أو بعبارة أخرى، هل التزم’ بما أخبر عنه القرآن الكريم، وعلى لسانه’، وبما قاله’؟
إليك بعض النصوص المختارة بهذا الصدد، ونترك لك -عزيزي القارئ- حرية الاختيار:
1. عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة، قالت: >ما ترك رسول الله ديناراً ولا درهما ولا شاة ولا بعيراً، ولا أوصى بشيء<.( )
نعم إنه من الواضح عند دراسة حياة الأنبياء^ والرسل الذين بعثهم الله عز وجل لهداية البشرية من آدم× إلى نبينا محمد’، إنهم لم يُبعثوا لجمع المال والدراهم و... إنما كانوا أزهد الناس، وهم القدوة في ذلك، ونبينا محمد’ خاصةً. إذن كيف نوفّق بين ما ترويه أم المؤمنين هنا، والآيات الكريمة والأحاديث التي قرأتها قبل قليل، والتي تشدد على أمر الوصية؟ أفلا يكون’ هو المبادر الأول إلى فعل ما يقول، والتعبّد بآيات الله؟ وقد وجدناه’ بلغ الغاية القصوى في التعبّد بجميع ما في القرآن من أوامر ونواهي، فكيف يمكن التصديق بأنه’ يأمر بالشيء ولا يأتمر به! وهو الواسطة لتبليغ ألفاظ القرآن الكريم وجمله وأحكامه إلى سائر أفراد الأمة. أترى أم المؤمنين أنه’ كان لكتاب الله مخالفاً، وعن أحكامه صادفاً؟ ما هكذا الظن بكِ يا أم المؤمنين!
نعم، قد تكون أم المؤمنين عائشة معذورة فقط في حال فهمها، أن الوصية لا تجوز إلا في التركة والمال، ونحن نقول لها ولمن يذهب مذهبها في تضييق معنى الوصية وفهمها، أن يتدبّروا في الآيات الكريمة المارّة الذكر، وبخاصة وصية إبراهيم ويعقوب‘ لبنيهما، فهل كانت الوصية بالمال أم...؟
إن النبي’ ترك ما هو أغلى وأهم من الدينار والدرهم والذهب و... فقد ترك’ دين الله القويم في بدء فطرته وأول نشأته، ولهو أحوج إلى الوصي من الأموال وغيرها، وأن الأمة لأحوج إلى وصي يقوم مقامه في ولاية أمورهم وإدارة شؤونهم الدينية والدنيوية، ويستحيل عليه’ أن يوكل دين الله إلى الأهواء، أو يتّكل في حفظ شرائعه على الآراء من غير وصي يعهد بشؤون الدين والدنيا إليه.
2- حدّثنا مالك، حدثنا طلحة بن مصرف، قال: >سألت عبد الله بن أبي أوفى: هل كان النبي’ أوصى؟ فقال: لا، فقلت: كيف كتب على الناس الوصيةَ أو أمر بها؟ قال: أوصى بكتاب الله<.( )
فهذا السؤال طرحه المسلمون قبلنا، وأنكروا أن يترك الرسول’ الناس بلا وصية, كيف يكون ذلك وجاءهم هو’ بالوحي من الله أن يوصوا! فلعل مقتضيات السياسة وسلطتها، واضحة المعالم على هذا الحديث، فقد أنكر ابن أبي أوفى أولاً الوصية عنه’، ولكنه تراجع بعدما حاجّه طلحة بن مصرف بقوله، إن القرآن نادى بالوصية، وإنه’ أمر بذلك، وعلى الرغم من أن ّ حديث ابن أبي أوفى أبتر -إذ ستسمع تكملته فيما بعد- فإنك تشم رائحة الكتمان على الوصية من قبل المحدّثين، بل وعلى الكثيرِ من الحقائق التي منعت السلطةُ الحاكمة آنذاك من نشرها وشياعها، وقد فرضت الحصار على من يتحدث بها.
3- عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: >يوم الخميس وما يوم الخميس! ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء، فقال: إشتد برسول الله’ وجعه يوم الخميس، فقال: >ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا< فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع, فقالوا: أهجر رسول الله’، قال’:>دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه< وأوصى عند موته بثلاث: >أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم...< قال: ونسيت الثالثة<.( ) وفي صحيح مسلم: >... أوصيكم بثلاث، أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما أجيزهم, قال: وسكتَ’ عن الثالثة أو قالها - أي النبي’- فأُنسيتها...<.( ) ففي الحديث الأول نفي تام للوصية، وفي الحديث الثاني نفي أولا، ثم العدول إلى الوصية بكتاب الله فقط، أما الحديث الثالث فقد أوصى فيه عند موته -خلاف ما نقل عن عائشة في الحديث الأول- ولكن الراوي قد نسي الأمر الثالث من الوصية أو قد أُنسيها؛ لعلة يعرفها البصير وستتضح معالمها فيما بعد لأولي الألباب.
4- عن إبراهيم، عن الأسود، قال: >ذكروا عند عائشة أنّ عليا× كان وصيا، فقالت: متى أوصى إليه وقد كنتُ مسندته إلى صدري؟ أو قالت حجري... فما شعرت أنه قد مات فمتى أوصى إليه!<.( ) فعلى الرغم من أنّ الحديث يحتوي عدة مطالب، إلاّ أننا سنركّز على ما يهمنا منه تاركين التفصيل فيه إلى أبحاث أخرى. فالحديث يخبرنا أنّ ثمة أناس ذكروا عند السيدة عائشة أنّ عليا× كان وصيا للنبي’، والسؤال هنا من أين لهم ذلك؟ هل أرادوا أن يستفزوا أم المؤمنين عائشة بذلك؟ أم أنهم حقا سمعوا عن رسول الله’ ما كان متعارفا في زمنه’ وبعد وفاته، أنّ عليا× كان وصي النبي؟ وأنا أميل إلى الأمر الثاني، بل أن الأدلة التاريخية تؤيد ذلك،
فلنستمع إلى بعض هذه الأدلة في عجالة:
ففي بواكير دعوته’ في مكة، وعندما نزل عليه قوله تعالى {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] جمع’ أعمامه والمقرّبين من عشيرته، وخطب فيهم قائلا: >يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني ربي أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فأحجم القوم عنها، وقال علي× -وكان أحدثهم سناً- أنا يا نبي الله، أكون وزيرك عليه, فأخذ’ برقبة علي×، وقال: إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا<.( ) واستمر’ يركز مفهوم الوصية لعلي× خلال دعوته للدين، فعن بريدة، عن النبي’ أنه قال: >لكل نبي وصي ووارث، وإنّ وصيي ووارثي علي بن أبي طالب×<.( )
وعن معاذ بن كثير، عن أبي عبد الله الصادق×، قال: >إن الوصية نزلت من السماء على محمد’ كتاباً، لم ينزل على محمد’ كتاب مختوم إلى الوصية، فقال جبرائيل×: يا محمد هذه وصيتك في أمتك عند أهل بيتك، فقال رسول الله’: أي أهل بيتي يا جبرائيل؟ قال: نجيب الله منهم وذريته؛ ليرثك كما ورّثه إبراهيم، وميراثه لعلي× وذريتك من صلبه<.( )
وقال’: >إنّ وصيي وموضع سري وخير من أترك بعدي، ينجز عدتي ويقضي ديني، علي بن أبي طالب<.( )
هذا في ما يتعلق بالمقطع الأول للحديث، أما قولها -أم المؤمنين عائشة-: >متى أوصى إليه وقد كنتُ مسندته إلى صدري أو حجري؟< فهذا ما لا يمكن قبوله؛ لأنه’ مات في حجر علي×، كما تحدثنا النصوص التاريخية الصحيحة عن ذلك، وإليك بعضاً منها:
- >قيل لابن عباس: أرأيت رسول الله’ توفي ورأسه في حجر أحد؟ قال: نعم، توفي وإنه لمسند إلى صدر علي×، فقيل له: إنّ عروة يحدث عن عائشة، أنها قالت توفي بين سحري ونحري، فأنكر ابن عباس قائلا: أتعقل؟ والله لتوفي رسول الله’، وإنه لمسند إلى صدر علي، وهو الذي غسله وكفنه ودفنه<.( ) فهذا حَبر الأمة -وهو من هو- يقسم بالله، أنه’ توفي في حجر علي، ويكذّب بقول عائشة.
- وعن علي×، قال: >قال رسول الله’ في مرضه الأخير: إدعوا لي أخي، فأتيته فقال’: أُدنُ مني، فدنوت منه فاستند إلي، فلم يزل مستندا إليَّ وإنه ليكلمني، حتى أنّ بعض ريقه ليصيبني، ثم نزل برسول الله’< أي الموت.( ) وهذا باب مدينة علم النبي’، والذي يدور الحق معه حيثما دار، يكذّب هو الآخر بقول عائشة.
- وجاء في نهج البلاغة عنه×، قال: >ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد’، أني لم أردُّ على الله ولا على رسوله ساعة قط، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وتتأخر فيها الأقدام، نجدةً أكرمني الله بها، ولقد قبض’ وأنّ رأسه لعلى صدري، ولقد سالت نفسه في كفي، فأمررتها على وجهي، ولقد وليت غسله’ والملائكة أعواني... حتى واريناه ضريحه، فمن ذا أحقُّ به مني حيّا وميتا<.( )
ولا غرابة في اختلاق السيدة عائشة ومن يدور في فلكها مثلَ هذه الأحاديث وإنكارها الوصية لعلي×؛ لأنّ كل من يعرف عائشة وبغضها لعلي× سواء في حياة النبي’ أو بعد وفاته، لا يستغرب ذلك، فخروجها عليه× وقتالها له في حرب الجمل والتي راح ضحية فيها آلاف الصحابة، على الرغم من أنه× ولي أمرها وإمام زمانها، ويجب عليها طاعته ولا يجوز لها مخالفته فضلا عن مقاتلته. وهنالك الكثير من النصوص التاريخية، التي يمكن من خلالها معرفة مدى بغض أم المؤمنين للإمام علي× نذكر بعضاً منها لإتمام الفائدة:
- >عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عائشة زوج النبي’، قالت: لما ثقُلَ رسول الله’ واشتد به وجعه، استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي، فخرج وهو بين رجلين تخط رجلاه في الأرض، بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر. قال عبيد الله: فأخبرت عبد الله بن عباس بالذي قالت عائشة، فقال لي عبد الله بن عباس: هل تدري من الرجل الذي لم تُسمِّ عائشة؟ قال: قلت: لا, قال ابن عباس: هو علي بن أبي طالب<،( ) وفي ذيل الرواية جزء مقطوع لم يذكره البخاري؛ ربما لأنه لا يتلاءم وهواه.
ونجد الرواية كاملة في طبقات ابن سعد،( ) والسيرة الحلبية لابن هشام،( ) ومسند أحمد،( ) وفيها: >هل تدري من الرجل الذي لم تُسّم عائشة؟ قال: قلت: لا, قال ابن عباس: هو علي بن أبي طالب(رض). ثم قال ابن عباس: إنّ عائشة لا تُطيب له نفسا بخير<.( ) فكيف يُرتجى من التي (لا تُطيب له نفسا بخير) أن تُثبِت الوصية إليه×!
وقد تختلف معي أو توافقني أيها القارئ العزيز، في الذهاب إلى أنّ التفسير الوحيد لإنكار أمر الوصية كان قد خُطط له منذ زمن بعيد، من الأيام الأولى التي صدع بها النبي’ بذكر الوصية لعلي×، وإلى آخر لحظة من حياته الشريفة. وكان قائد المعارضة والإنكار الخليفةَ الثاني عمر بن الخطاب وحزبه، وما عائشة إلاّ عضوٌ في هذا الحزب المعارض، فقد أعلن هذا الرجل وبكل فظاظة وغلظة قلب، وبمحضر الرسول’ وأمام جمع الصحابة, بالعبارة اللاذعة والقاصمة للظهر! والتي سجلها التاريخ عليه، وهي كلمة >هجر رسول الله< أو >إنّ النبي يهجر< أو >قد غلبه الوجع< كما تثبته النصوص التأريخية المعتبرة،
وإليك بعضاً منها:
====================
- >عن ابن عباس، قال: لما حضر رسول الله’ وفي البيت رجال، فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي’: >هلمّ أكتبُ لكم كتابا لا تضلوا بعده< فقال عمر بن الخطاب: إنّ النبي قد غلبه الوجع! وعندكم القرآن! حسبنا كتاب الله! فاختلف أهل البيت فاختصموا, منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي كتابا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قاله عمر! فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي، قال لهم: قوموا عني! فكان ابن عباس يقول: إنّ الرزية كل الرزية، ما حال بين رسول الله’ وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، من اختلافهم ولغطهم<.( )
- >عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه قال: يوم الخميس وما أدراك ما يوم الخميس! ... فقال: اشتدّ برسول الله’ وجعه يوم الخميس، فقال: >ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً< فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: هجر رسول الله...<.( )
- >عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: يوم الخميس وما يوم الخميس! ثم جعل تسيل دموعه حتى رؤيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ، قال: قال رسول الله’: >ائتوني بالكتف والدواة، أو اللوح والدواة، أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً< فقالوا: إن رسول الله يهجر<.( )
ونلحظ أن الصحابي الجليل وحَبر الأمة ابن عباس، يصف الحادثة بالرزية، بل كل الرزيّة! فلقد فهم عمر بن الخطاب مراد النبي’ من كتابته، أنه سيوصي إلى علي×، أي أراد’ أن يؤكد أمر الوصية لعلي× كتابةً، بعد أن كررها في أكثر من موطن وموقف كلاماً، لذا نرى أن عمر بن الخطاب انبرى لمنع حصول ذلك، وقابل النبي’ بتلك الكلمات القارصة، والذي يؤيد ما نذهب إليه، أنك ترى عمراً أطلق عبارة >حسبنا كتاب الله< فمن أين علم عمر أن رسول الله’ سيوصي بشيء، أو إلى أحد بحيث يقرنه بكتاب الله؟ هل كان عمر يعلم الغيب! فقد سمع عمرُ النبيَ’ يجهر بالوصية إلى علي×، وقرنه بكتاب الله عز وجل، وبخاصة في غدير خم، عندما نزل على الرسول’ جبرئيل بهذه الآية المباركة {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67] فقال’ في خطبة طويلة له في ذلك اليوم (الثامن والعشرين من ذي الحجة): >ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، فأخذ بيد علي× ورفعها، وقال: >فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله< ثم قال’: >إنّي تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، كتابَ الله حبلٌ ممدودٌ من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي<.( ) وقد بيّن الخليفة عمر بن الخطاب ذلك واعترف صريحاً بالسبب المؤدي لموقفه ومعارضته لرسول الله’ آنذاك، في قوله: >حتى لا يجعل الأمر خطّياً لعلي بن أبي طالب<.( )
ومن المفيد أن ننقل المحاورة التي دارت بين ابن عباس وعمر بن الخطاب أيام خلافته؛ ليطمئن القارئ ويهتدي إلى صواب ما نذهب إليه، فإليك طرفاً منها: >قال عمر لعبد الله بن عباس: يا ابن عباس، ما منع قومكم منكم بعد موت محمد’؟ قال ابن عباس: فكرهت أن أجيبه، فقلت: إن لم أكن أدري، فإن خليفة المسلمين يدري، فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة، فتبجحوا على قومكم بجحا بجحا، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت، قال ابن عباس: فقلت: إن تأذن لي في الكلام، وتمطّ عني الغضب تكلمت، فقال عمر: تكلم، قال ابن عباس: فقلت: أما قولك اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت، فلو أن قريشاً اختارت لأنفسها من حيث اختار الله لها؛ لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود، وأما قولك إنهم كرهوا أن تكون لنا النبوة والخلافة، فإن الله عز وجل وصف قوماً بالكراهية، فقال {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9] فقال عمر: هيهات يا ابن عباس، قد كانت تبلغني عنك أشياء أكره أن أقرّ عليها؛ فتزيل منزلتك مني، قال ابن عباس، فقلت: فإن كان حقاً فلا ينبغي أن تزيل منزلتي منك، وإن كان باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه، فقال عمر: بلغني أنك تقول: صرفوها عنّا حسداً وظلماً، قال ابن عباس: فقلت: أما قولك ظلماً فقد تبيّن للجاهل والحليم، وأما قولك حسداً فإن آدم حُسد ونحن ولده المحسودون، قال عمر: هيهات هيهات، أبت واللهِ قلوبكم يا بني هاشم، إلا حسداً لا يزول، قال ابن عباس: فقلت: مهلاً يا خليفة المسلمين، لا تصف بهذا قلوبَ قومٍ، قد أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا...<.( )
والخلاصة، أن الهدف الرئيس لهؤلاء المعترضين على كتابة الوصية أو المنكرين لها، قد انصبّ بالدرجة الأولى والأخيرة على إبعاد آل محمد عن حقّهم بإمامة الأمة؛ لأنهم عرفوا مراده’، وهؤلاء المعترضين إنما فعلوا ذلك؛ لأنهم قرروا أن ليس من الصواب أن يأخذ الهاشميون المُلك والنبوة معاً؛ لأنهم ولآخر لحظة من حياتهم كانوا يفكّرون بالعقلية القبليّة، ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم، وإن الصواب في نظرهم القبَلي أن يأخذ الهاشميون النبوّة وحدهم، وأن تأخذ بطون قريش الخلافة لا يشاركهم فيها أحد من الهاشميين؛ لذا تراهم عندما تربعوا على عرش الخلافة لم يشركوا أياً من الهاشميين في أي منصب، والتاريخ أكبر شاهد على ذلك.
لقد أقنعوا أنفسهم بأن الترتيبات الإلهية المتعلقة بمن يخلف النبي’ والمتضمنة تولية الإمام علي× واستخلافه واستخلاف أحد عشر من ذرية النبي’ والتي أعلنها الرسول’ في عدّة مناسبات، هذه التدابير والترتيبات في نظرهم غير عادلة ومناسبة، واعتقدوا أن عليهم تجاهل سنّة النبي’ من هذه الناحية ووضع وابتداع سنن بديلة لها!! وختاماً نقول لهؤلاء: هل أن أبا بكر وعمر كانا أحرص على الدين والأمة من النبي’ بحيث أوصى كل منهما عند دنو الأجل، كما تشهد لذلك الروايات المتضافرة، أم على قلوب أقفالها؟ {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14].
/تأليف /الأستاد/حبيب كسّار
تحقيق/ مرتضى علي الحلي/ النجف الأشرف/
تعليق