بسم الله الرحمن الرحيم
بعد ان قدمنا سابقا سبعة مراحل من المنهج القرآني في أثبات الامامه والخلافه.نتوكل على الله ونطلب العون منه للبدأ بالمرحله الثامنه منه,وهي البحث في آية البينه.(بسم الله الرحمن الرحيم*أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى اماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الاحزاب فالنار موعده فلاتك في مرية منه أنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لايؤمنون).
وهذه الآيه قد تناولت جانب من قضية الامامه وأشارت الى خصائصها,ومطلع الآيه هو أستفهام أستنكاري ذكر فيه المبتدأ؟وحذف الخبر,والمعنى من ذلك: أنه ليس من كان على بينة كغيره ممن ليس كذلك,فهي نظير قوله تعالى(أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله).
والبينه:هي الدلاله الواضحه,كما في المفردات للراغب الاصفهاني,وقد كثر أستعمالها فيما يتبين به غيره,كالحجه والدليل,بسبب ان الامور الواضحه قد تكون سببا لوضوح غيرها مما هو متعلق بها ,ولذا أطلق القرآن الكريم البينه على الآيات والبراهين ومعجزات الانبياء,لكونها الدليل الفاصل بين الحق والباطل,كقوله تعالى(قد جاءتكم بينه من ربكم هذه ناقة الله لكم آيه),وقوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام(أرأيتم ان كنت على بينة من ربي وآتاني رحمه من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون),وقوله تعالى حكاية عن قوم هود عليه السلام(قالوا ياهود ماجئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين),وقوله تعالى حكاية عن صالح عليه السلام(قال يا قوم أرأيتم ان كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمه فمن ينصرني من الله ان عصيته فما تزيدونني غير تخسير),وقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام(قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني أسرائيل),وغير ذلك من الموارد القرآنيه.
والبينه قد تكون عقليه ينتزعها الانسان من عقله وقد تكون آيه ربانيه.
والظاهر أنها في المورد الذي نحن فيه الهيه,لأن وصف البينه بأنها" من ربه"يتناسب مع كونها ربانيه لاعقليه,والمراد بها هو القرآن الكريم المعجزه الالهيه الخالده والآيه الربانيه الساطعه ,وقد تكرر في القرآن الكريم اطلاق البينه وارادة الكتاب العزيز منها عدة مرات,منها قوله تعالى(قل اني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به),وقوله تعالى(أو تقولوا لو أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمه فمن أظلم ممن كذب بآيات الله).
ومن هنا يظهر ان المراد باسم الموصول المذكور في مطلع الآيه (أفمن كان على بينه)هو الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله لأنه هو صاحب البينه المذكوره,وبأيضاح ذلك تصبح المعاني الأخرى للآيه واضحه ايضا,فالضميران في قوله تعالى(ويتلوه شاهد منه)يرجعان الى اسم الموصول "من"أي الى الرسول صلى الله عليه وآله مع احتمال ان يكون مرجع الضمير في "يتلوه"هو البينه.
والفعل "يتلو"مأخوذ من "التلو" لا "التلاوه",وحينئذ يكون معنى الآيه :من كان على بينه هي القرآن ويتبعه بلا فصل شاهد منه أي من نفس النبي صلى الله عليه وآله وفي هذا تشريف بيان لمنزلة الشاهد من جهتين:جهة موالاة الشاهد للنبي بحيث يكون تاليا له ,وجهة التبعيض وكون الشاهد من نفس النبي صلى الله عليه وآله,ومثل هذه المنزله لايمكن ان تنطبق الا على أوحدي من أمة الرسول صلى الله عليه وآله ,وصحابته وليس بأمكان أحد ان يفسر الشاهد بأمثال عبد الله ابن سلام.
وقوله تعالى(اُولئك يؤمنون به)أي اُولئك المؤمنون,وقد يكون المراد المؤمنون والشاهد وصاحب البينه,فتكون الآيه بمثابة قوله تعالى (آمن الرسول بما اُنزل اليه من ربه والمؤمنون...).
وقد تكون الجمله بمقام تسلية النبي صلى الله عليه وآله عن طريق أخباره بـأن أهل الكتاب يؤمنون به,نظير قوله تعالى(وكذلك أنزلنا اليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا الا الكافرون),وقوله تعالى(والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما اُنزل اليك ومن الاحزاب من ينكر بعضه)وقوله تعالى(الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون*واذا يتلى عليهم قالوا آمنا به انه الحق من ربنا انا كنا من قبله مسلمين).
قوله تعالى(فلا تك في مرية منه)أي في شك منه,والمخاطب بهذا الخطاب هو النبي صلى الله عليه وآله ,الا أنه على نحو "اياك أعني واسمعي يا جاره" فالمخاطب وان كان النبي صلى الله عليه وآله الا ان المقصود بالخطاب هو سائر الناس,لعدم امكانية نسبة الشك الى النبي صلى الله عليه وآله,وقد روى عبد الله بن بكير عن ابي عبد الله عليه السلام,قال"نزل القرآن باياك اعني واسمعي يا جاره".
ورغم البعد الظاهري للآيه عن موضوع الامامه الا أننا اذا تدبرنا الآيه جيدا وجدناها تنطوي على دلالات بالغة الاهميه بالنسبه الى هذا الموضوع,وهي:
1/ان وصف الشاهد بأنه من صاحب البينه –اي من الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله كما هو البعض من الكل-ينطبق على أهل البيت سلام الله عليهم المذكورين في آية التطهير,وهذا يتسق مع ما جرى عليه خط النبوات من جعل النبوه والامامه في نطاق نسبي متقارب.
2/ان الشاهد يأتي تلو الرسول بل سيأتي في معطيات آية المباهله أنه بمنزلة نفس الرسول صلى الله عليه وآله,وقد مر في آية علم الكتاب أن شهادة هذا الشاهد تساوق شهادة الله سبحانه.
كل ذلك على فرض ان يكون الضمير في"يتلوه"راجعا الى صاحب البينه اي الى الرسول صلى الله عليه وآله,اما لو كان الضمير راجعا الى البينه نفسها-أي الى القرآن-فحينئذ يكون مضمون الآيه مطابقا لمضمون حديث الثقلين الذي جعل العتره عدلا لكتاب الله ومفسرة له.
3/الشهاده هنا لابد ان تكون شهادة التأديه الناشئه عن مشاهده سابقه لموضوع معين وحضور في الواقعه التي يراد الشهاده لها,اي ان اداء الشهاده يفترض مسبقا تحمل الشهاده ,واختصاص الشهاده بفرد معين له تلك الخصوصيات (ويتلوه شاهد منه)يدل على ان التحمل المقصود ليس ناشئاً عن مجرد الايمان بالنبوه,لأن هذا المعنى يشترك فيه الكثير من اتباع الرسول صلى الله عليه وآله,فلابد أن يكون التحمل المقصود هو الشهود لحقيقة النبوه ورؤية جبرئيل حامل الوحي الذي كان يهبط على النبي صلى الله عليه وآله,وهو ما يمكن ان ينفرد به هذا الشاهد عن غيره,ويصحح تلك الخصائص الرفيعه له.
وهذا المعطى الذي توصلنا اليه عبر الاستنتاج,يؤيد قول الرسول صلى الله عليه وآله للامام علي عليه السلام(أنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى)كما جاء في الخطبه القاصمه الوارده في نهج البلاغه,وما روي عن الامام الصادق عليه السلام انه قال"كان علي عليه السلام يرى مع النبي صلى الله عليه وآله قبل الرساله الضوء ويسمع الصوت".وقال الرسول صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام(لو لا أني خاتم الانبياء لكنت شريكا في النبوه).
4/ان الغرض من الشهاده هو ازالة الريب والشك عن المدعى,وهذا ما يتطلب الثقه بنزاهة وضبط الشاهد لموضوع شهادته ,ودرجة الثقه تتناسب تناسباً طرديا مع أهمية موضوع الشهاده,فكلما كان ذلك الموضوع مهما كلما كانت الوثاقه المطلوبه في الشاهد أعلى حتى يصل الامر الى أعظم درجات الاهميه وهو النبوة والرساله,فتكون الوثاقه المطلوبه بنزاهة وضبط الشاهد أقصى ما يمكن,وليست تلك الدرجه الا العصمه عن الخطأ والسهو والنسيان,وهكذا تثبت عصمة الشاهد.
5/اذا جمعنا بين آية البينه وآية علم الكتاب-المرحله السابعه من هذا المنهج-,وجدنا ان الشاهد المذكور في الاولى هو نفس من عنده علم الكتاب المذكور في الآيه الثانيه.
هذه خلاصة المعطيات التي يمكن استفادتها من الآيه,وهي بلا شك ذات علاقه وطيده بنظرية الامامه في القرآن الكريم لانطباقها على أئمة أهل البيت سلام الله عليهم وكونها تتحدث عن أبعاد وخصوصيات الامامه فيهم.
ومما يؤيد هذا المعنى الذي توصلنا اليه الروايات الوارده من طرق الفريقين والتي تدل على ان الشاهد المقصود في الآيه هو الامام علي عليه السلام,فمن طرق أهل السنه عدة روايات منها,
ما رواه الخوارزمي في قوله تعالى(أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه)قال ابن عباس"هوعلي يشهد للنبي صلى الله عليه وآله وهو منه"المناقب ص197(وللأطلاع على المزيد من الروايات مراجعة كتاب الامامه والولايه في القرآن الكريم) الصادر عن المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام.
وأما من طرق الشيعه فروايات كثيره منها,
عن الاصبغ بن نباته:قال قال أمير أمير المؤمنين عليه السلام:
لو كسرت لي الوساده فقعدت عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم وأهل الانجيل بانجيلهم واهل الفرقان بفرقانهم بقضاء يصعد الى الله يزهر ,والله ما نزلت آيه في كتاب الله في ليل أو نهار الا وقد علمت فيمن اُنزلت,ولا أحد مر على رأسه المواسي الا وقد نزلت آية فيه في كتاب الله تسوقه الى الجنه أو النار ,فقام اليه رجل فقال:يا امير المؤمنين فالآيه التي نزلت فيك؟قال:أما سمعت الله يقول(أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه)؟ فرسول الله صلى الله عليه وآله على بينة من ربه ,وانا شاهد له منه وأتلوه معه.
وللمزيد من الاطلاع على الروايات مراجعة المصدر السابق.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
تعليق