بسم الله الرحمن الرحيم
جزْءٌ منْ مقاطع.. أحدها هنا والبقية.. تبصر النور بهيئةٍ أخرى.
لروحكم أرسلتُهَا هديَّةْ.. مُكلَّلة بالدُّعَاء..
يومٌ هادِئٌ رانت عليهِ سُحُبٌ قاتِمَــة.. الأنفاسُ تسيرُ مُضْطرِبَةً تقْرَعُ الآذانَ فَترعِدُهَا وكأنَّها بِصَوْتِهَا تُفْزِعُ حتَّىْ قَرْعَ الطُّبُولْ..!!! تتلظَّى خلَجَاتُ الشَّوْق، تُطرِقُ رأْسَهَا حزْنَاً، تتَذكَّر سُبُلَ حياتِهَا، خطَايَاهَا، ذُنُوبهَا، عِلَلَ رُوحِها.. فتذُوبُ خجَلاً.. تنْحَنِي الأجسادُ حتّى تكادُ تَتَكَوَّمُ على نفْسِها حياءً، خوفاً، رهْبَةً، لا تمْلِكُ لحظَتَهَا أيَّ سبيلٍ سِوَى طَحْنَ الجُمُودِ وإعْلانِ ساعَة الضَّجِيجِ إلَى الله سُبْحانهُ وتَعَالَى أمَلاً بِنَيْلِ شيْءٍ مِنْ سَخَاءِهِ وعَفْوِهِ ومغْفِرَتِهِ وتحنُّنِهِ عَلى عِبَادِهِ: يا مَنْ لا يَفِدُ الْوافِدُونَ عَلَى أَكْرَمَ مِنْهُ، وَلا يَجِدُ الْقاصِدُونَ أَرْحَمَ مِنْهُ، يا خَيْرَ مَنْ خَلا بِهِ وَحِيدٌ، وَيا أَعْطَفَ مَنْ أَوى إلَيْهِ طَرِيدٌ.. آآه يــَـا الله... صَوْتٌ رتِيبٌ ينْعَى النَّفْسَ بِنَغَمٍ حَزِينْ، يقُولُهَا بتذَلُّلٍ يجُرُّ خلْفَهُ نَحِيبَاً مَوْجُوعَاً مُتَوَجِّعَــــاً مَخْنُوقاً مَكْرُوبَاً، يُنَاجِي بصَمْتِ حتَّى يعْلُو صوْتهُ وهُوَ يُنَادِي بِفَزَعٍ أخَّاذْ: إِلَهِــــي إِلَى سَعَةِ عَفْوِكَ مَدَدْتُ يَدِي وَبِذَيْلِ كَرَمِكَ أَعْلَقْتُ كَفِّي، فَلا تُولِنِي الْحِرْمانَ، وَلا تُبْلِنِي بِالْخَيْبَةِ وَالْخُسْرانِ، يا سَمِيعَ الدُّعآءِ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.. تسْقُطُ العبَرَاتُ راجِيَةَ عَفْوَ الجَلِيـــلْ، تبْكِي بحُرْقَةٍ والوَجْهُ غارِقٌ في بحْرِ العُبُوسْ.. ليْسَ لـيأسٍ بلْ حَيَاءً.. نحْنُ إنْ أخْطَأنَـا بحقِّ أحَدِ الأفرادِ نسْتَحي أن نواجِهَهُ، أنا إن أخطأتُ بحقِّ فُلَانٍ أخجَلُ من كرمِهِ مَعِي.. وما حالنا مع الله سبحانه..!! كم وكَمْ أخْطَأنا وعصَيْنَــاه..! كمْ تجرَّأْنـَـا وتمَرَّدْنـَـا علَى أحْكَامِهِ..؟؟ وهو لمْ يزَل يلطُف عليْنا ويمدُّ العطَايَا لَنَا..! يـــــــَـا الله.. بَأَيِّ وجْهٍ ندْعُوهُ الآن..؟ حَقٌّ أنْ نخْفِي وُجُوهنا بيْنَ أيْدِينا بلْ نعفِّرَها بالتُّرابِ تذلُّلَاً طلبَاً للرَّحْمَةِ والمغْفِرة.. آآآآه يـــا الله.. كمْ ظلَمنا أنفُسَنا وتجَرَّأْنَا علَى معْصِيَتكَ إلهِي سامِحْنـَا اعْفُ عنَّا اغْفِرْ لنَا.. آآه يا الله يا الله يا الله.. تخرُّ الأجْسَاد سَاجِدَةً حتَّى تكَادُ تلصِقُ جسدهَا كلَّهُ بِالأَرْضِ حيَاءً.. تصْرخُ والفَزَعُ يأخُذها العَفْو العَفْو العَفْو العَفْو العَفْو العَفْو العَفْو يا أرحَمَ الرَّاحِمِين.. تهِيمُ العَبَرات مُخَاطِبَةً الموْلَى بِصَوْتٍ مُتَهدِّجٍ: إلهِي لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ بِقُدْرَتِكَ، وَلا نَجاةَ لِي مِنْ مَكارِهِ الدُّنْيا إلاَّ بِعِصْمَتِكَ، فَأَسْأَلُكَ بِبَلاغَةِ حِكْمَتِكَ، وَنَفاذِ مَشِيَّتِكَ، أَنْ لا تَجْعَلَنِي لِغَيْرِ جُودِكَ مُتَعَرِّضاً، وَلا تُصَيِّرَنِي لِلْفِتَنِ غَرَضاً، وَكُنْ لِي عَلَى الأَعْداءِ ناصِرَاً، وَعَلَى الْمَخَازِي وَالْعُيُوبِ ساتِراً، وَمِنَ الْبَلاءِ واقِياً، وَعَنِ الْمَعاصِي عاصِمَاً، بِرَأْفَتِكَ وَرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ..
صارَتِ الأرْضُ تنْثُرُ زَهْــــراً علَى أرْضِ الأحِبَّة، تفيضُ الحشائشُ عليْهَا حُسْناً يَخْفقُ بنورِ القَمَرْ.. تلألَأتِ النُّجوم وقد أثارَت انْعِكَاسَاتِهَا ثوْرَةً فِي الرُّوحِ تَشُجُّ شِرْيَانَ السُّكُون.. الله الله ما أروَعَها مِنْ لَحَظَات، رُغْمَ صُعُوبَتِها المَرِيرَة اسْتَطَعْتُ إيجَاد شَيْء مِنَ الأُنْسِ المُتَقَطِّرِ بِهَا.. يمْضِي الرَّحَالُ متعزّياً بِعَزَاء الحُسَيْن، تَثُورُ ثائِرَتهُ فيَحْكِي وَيَبْكِي ويَصْرُخُ بِكُلِّ قُوَّةٍ ممْتَزِجَةً بِه، مَتَى الوُصُول سيِّدي..؟ صارَ كُلّ موْجُودٍ بعيْني صَارخاً باسمِ الحُسَيْن...!! تهيمُ اللحَظاتُ بِقَعْرِ السُّكونِ مُبَعْثَرَةً.. يَصْمُتُ كلُّ شَيْء.. ترْتَفِعُ بِرُوحِي نغْمَةُ الأحْجَارِ الصَّارِخــة، ونزف جُرْحِها القَدِيم صَارَ يَنْزِفُ بِوعَاءِ رُوحِي.. امْتَزَجَتْ هِتَافاتُ التَّكْبِيرِ والتَّهْليلِ عَلَى كُلِّ أرْضٍ حَتَّى تَدَاخَلَتِ الأصْوَاتُ مَعَ بَعْضِهَا البَعْض، فشَكّلَت أنْغَامَاً مُرِيحَةً تَتْركُ فِي النَّفْسِ آثَاراً بَدِيعَة.. الله الله الله.. أذَّنَ الأذانُ مخلِّفَاً عَلى جَمِيع المَوْجُودَاتِ أيْنَمَا كَانُوا أنْوَارَاً أرْيَحِيَّـــــة، تجْعَل كُلَّ خَلِيّةٍ بِهِمُ تخفقُ عِشْقـَـاً إلهِيَّـاً، تسْتَرجِعُ لحظاتِ المَاضِي..: هَكَذَا أذَّنَ بلالْ..! كان صَوْتَ [الرَّاحةِ] الَّتي يُنْشِدُها الجَمِيع.. وَنَحْنُ بِزَمَانِنَا نبْحَثُ فِي كُلِّ أرضٍ عَنْ صَوْت بِلَالٍ وهُوَ يَهِيمُ فِي الأجْوَاء... الله، ما أروعكَ يا بِلَالْ..! ما أروَعَكْ..!
بَغْتَةً انْقَلَبَتْ موْجَةُ أفْكَارِي..! أينذرُ الزمانُ بِعَاصِفَةٍ هَوْجَـاء..؟ تَصَفَّحْتُ إحْدَى الأَرَاضِي واخْتَبَأتُ بِهَـا..!!! هِيَ أرْضِيَ الفَاضِلَة.. مهْبَطُ رُوحِي.. أرْضُ النُّورِ الفَاضِل والعِلْمُ البَاسِلْ.. ارْتِبَاكٌ يَسْألُ نَفْسِي بِأيِّ وجهٍ أذهب..؟ بوجهٍ قبّحَتْهُ الذُّنُوب..؟ مَاذَا أفْعَلُ الآن..؟؟؟ مَاذَا أُرِيدُ أنْ أفْعَلْ..؟ لسْتُ أدْرِي..!! هَلْ يسْمَعُ العَالَمْ.؟؟ وجُودِي رَاحِــلْ..!! ارْتِبَاكٌ واضِحْ.. إِنَّهــَــا اللحَظَاتُ الأَخِيرَة.. لَحَظَاتٌ تَأْخُذُ الجَمِيع نحْوَ عُروجٍ سَمَاوِيّ فتَخْطَفُ الألْبَاب وتُفْزِعُ أبْوَابَ الأَوْبَةِ بِذَاكَ الضَّجِيجِ الحَزِينْ والخَطَرَاتُ المَمْزُوجَةِ بِالأَنِينْ.. يَا الله..! تَنَفَّسَ الجَمِيعُ بِسُكُونٍ لِتَبْقَى المَحَاجِرُ النَّازِفَة عَلَامةً تُبَيِّن الرَّحْمَة الإلَهِيَّة النَّابِضَة عَلى صفحةِ وَجْه العَبْد الضَّعِيف.
لم نلبث شيئاً حتى صار لنا استعدادَيْن أرْعَدَا سُكونَ المنزِل، الأوَّلُ لشدِّ رباطِ الرحيل، وآخرٌ لاستقبالِ الأحبَّةِ.. أحبتي... ليتني لا أذهب دونكم، ليتكم جميعاً معي.. آه عليكَ يا قلبي.. أتراكَ ستحتملُ اللقاء..؟ هبْ أنكَ صبرتَ حتى حانَت لحظةً كنتَ بها على أرضِ الحبيب.. كيفَ ستصبرُ على الخروجِ منها..؟ أيا جسدي، لو انتُزِعت روحكَ في ذلك الحين.... صِدْقَـاً، عذرتك... عذرتك.
تهاتفتِ الجموع إلى حيثُ نسكن، استقبالٌ رحبٌ تضمّهم قلوبنا قبل أذرعنا، جلسْنَ يتحدّثنَ عن السَّكنِ هناك والغذاء والكراماتِ التي تحصل، وحالُ الماشينَ والزَّاحفين، الباكينَ والنادبين.. هذهِ عناوينٌ كنت أنتبهُ لها في بعضِ أوراقها، فلم أكن معهم بجميعِ لحظاتهم.. فوجودي يتخلّف بعضَ الأوقات وفكري يروحُ ويجيء في أرضِ العراق. يا الله يا الله يا الله.
يحارُ الحال ماذَا يَكْتِبُ ومَاذَا يَصِف..! هَكَذَا تَصَوَّرْت.. سيعْجَز لِسَاني عنِ النُّطْقِ فِي ذَلِك الحِين.. أرَى الجمع يحثّني على بَدْءِ أسْطُرِي وكِتَابةِ مَلاحِمٍ ومَجَازِرَ عَدِيدَةٍ تَبُثُّ الحَالَ ومَا يَجْرِي مِن أحدَاثٍ وَمَا شَابهَ ذَلِك، لكِنَّ مَا أخْشَاهُ أنْ تَعْجَزَ حُرُوفِي بِذَلِكَ الوَقْتِ عنِ التَّعْبِير فَهِي مُقْبِلَةٌ عَلَى أمْرٍ جلَلْ..!
إنَّ الأيام القادمة حقيقةً تحملُ أحداثاً كَثِيرةً ووَفِيرَة، وأمُورَاً سَتُغَيِّر مَجْرَى الحَيَاة بِأسْرِها.. سَيَكُون بها ميعادٌ بينَ لُجَّةِ أحَاسِيسِي ونورانيّةِ صَاحب المَقَام.. كأنَّ رُوحِيَ بَحْرٌ وهُوَ بَحْرٌ آخَر.. غيْرَ أنَّ موْجِي قاصرٌ وموجهُ زاهِرٌ زاخرٌ.. السلامُ عليكَ سيدي ومولايْ..
أعتَقِدُ الحَرْفُ هَذَا سَابِقٌ لِعَهْدِهِ لَكِنَّهُ لا يَسْتَطِيع كبْحَ نفْسِهِ ولَا يَمْلِك التَّحَكُّمَ فِي تَصَرُّفَاتِهِ ولا يَقْدِرُ عَلَى لجْمَ خلَجَاتهِ بِالصَّمْتِ، حتَّى حُرُوفَهُ لِفَرْطِ شَوْقِهَا صَارَت عَاجِزَةً عَنْ تَنْظِيمِ هِنْدَامِهَا...!
وَجَدْتُ العالمَ يَمُوجُ بحبِّهِ تحْتَ أنْوَارِهِمْ، يسْعَوْنَ فيها من أرضٍ لأخرى، تُشْبِهُ بِوَقْعِهـَــا تلبيةَ الصفا والمروة..! رُفِعت الأكفَّ فوقَ الرؤوسِ مواجِهَةً قَبْرَ الأحِبَّة، الصَّوْتُ يموجُ ويهتِفُ بقوَّةٍ وكأنَّ رُوحَهُ هِيَ التي تفزعُ بالنداء [السلامُ عليك يا قتيلَ العِدى، السلامُ عليك يا سليب الرِّدَى] فيفزعُ القومُ بعد هذا بصوتٍ مضرَّجِ بالدُّموع كأنَّهُ طوْدٌ منتظم: آآهٍ واااااا حُسَيْناااااااه، تخرُّ الأبدانُ من هوْلِ المصَـاب.. وااااا حسيناااااه.. حينها يرتدُّ الصَّدَى والجوابُ يحومُ في الأجْوَاء يجيبُ سَلام المحبين الملهوفين: وعليكمُ السَّلامَ عبادَ الله المُخْلصِين..
التاعَت رُوحِي تنْشُدُ الهَرَب.. تريد الخلاص من هذا الشَّوقِ المَحْبُوس.. تريد إطلاق العنانِ لهُ.. صَارَت تَجْرِي.. تَجْرِي والعِشْقُ أوْهَنَ قدمَيْهَا حَتَّى أبقاها زَاحِفةً والدَّمْعُ يَشْخبُ كالميزابِ بكلِّ خليَّةٍ من جَسَدِهَا..
اغرورَقَت عيْنايَ وكادَت أن تتفجّرَ سُيولها المحفوظة..! نظرتُ إلى اليمينِ وإلى الشمال.. القومُ مُجْتَمِعين.. إنَّها الأيَّامُ الأخِيرَةُ لنَا فِي الوَطَنْ..! لَا أزَالُ فِي الوَطَن..؟ انْسَحَبتُ بهدوءٍ لأبقى بِغُرْفَتِي مُسْتَفْرِدَة بروحي..
عرُقَ الجبينْ، وشخصَتْ عيْنَايَ للسَّمَـاءْ.. سيِّدِي وَمَوْلَاي.. أتُرَاهُ يتحقَّقُ المطلبُ وأكونُ من زوّاركَ قريباً..؟ أم سَتُغَادِرنِي رُوحِي قبْلَ الوُصُولِ إلَيْك..؟ مَوْلاي..؟ لو حصَل وكانَ وُصُولِي حَاصِلٌ؛ لنْ أدَعَ حتَّى نسْمَةً تفِرُّ من رِئَتَايَ، سأتَنَفَّسُّ مِلئَ اسْتِطَاعَتِي، سَأحْتَفِظُ بِكُلِّ نَظْرَةٍ، بِكُلَّ نسْمَةٍ، بكلِّ حادثٍ يَجْرِي، فِي ذَاكِرَتِي وَعَلَى أوْرَاقِي.. إنَّ التَنَقل فِي التَّصَوُّرَاتِ الَّتِي سَتَجْرِي بِتِلْكَ الأَيَّام صَعْب.. صَعْبٌ جِدّاً.. أَتَسْتَطِيعُونَ تصوُّرَ مَوْضِعَ الصُّعُوبَة..؟؟ إنَّهـَا ليست في تَحمُّلِ رُؤْيَةِ الأرْضِ المُقَدَّسَة.. وأظنُّكُم حَزِرْتُم الجوَابْ..! هِيَ تكمُنُ في تحمِّلِ الابتعادِ عن أرضِ الإمام..
لا أزالُ في أرضنا هذهِ وروحي تنازعُ نفسها خشْيةَ الوداع..!! مالكِ يا روحُ..؟!! مالَكِ تغادرين وتستعجلينَ الزَّمَـان..!؟؟؟ رويْدكِ، انتبهي لما يجري الآن..! كان القومُ يوْصُونكِ وأنتِ لستِ معهم...؟؟ آه.. الأمر ليسَ بيدي.. ليسَ بيدي أبداً.. أبداً..
ارتَعَدَت مفاصلي وفزعت كلَّهـا: [ليتني]. إنَّها صرخةٌ تفجّر الأرواح قبل الأجساد، تفجّرها حتى قبل كلّ الوجود..! قبلَ النجومِ والكواكبَ والمجرَّات...!!! [ليتني] طيْرٌ يحلّقُ ملئَ جناحَيْهِ فيبقى هائماً حولَ القبَّةِ الشَّرِيفةِ يلتمسُ أنوارها... ليتني طيرٌ جريحٌ وجرحي كـ فطرسٍ يلتمسُ بركات الحُسَين، لِيُحَلِّقَ بعْدَهَا بِسَعَادَةٍ وحبُورٍ يحمدُ الله وتلفحهُ الغُيُوم بِسُرُور....! [ليْتَ] لِي جَنَاحَيْنِ كبيرَيْنِ يحملانِ العُشَّاق عليهما، فنروي بِدُمُوع الحُبِّ حُقُولاً صريعةً ذابلةً.. نَرْوِيها بِحُبٍّ وأمَلٍ وذِكْرٌ يتخبَّطُ في الهَوَى المَلَكُوتِيّ.. آآه. إنَّهَا صَرْخَةٌ قَتَلَتْهَا لَوْعَة الشَّوْق.. إنَّها صَرْخَةٌ تُفتِّتُ الصَّخْر.. إنَّها صرخةٌ تهيمُ مَعَها الأرْوَاحْ.. آه كَمْ أتَمَنَّى لوْ كُنْتُ طيْرَاً من الطيورِ التي دوماً تحلّق عنْدَ حضرتك.. خرَّت الدموعُ صريعة تحتَ وطأَةِ الشَّوْق.. انتبَهْتُ لِلدَّقَائِق وهي تمرُّ سريعاً، خاطبتُ روحي: عليَّ أن أعود لمجلسهم..
إنَّهُ الوداع..! صاروا يهتفونَ ويبادرونَ بفتحِ أذرعهم لضمِّ المحلِّقِينَ نحوَ صاحبِ [دمعةِ الساكبينْ] أفواجاً أفواجْ.. يغادرونَ فتأتِي مجموعةً غيرَهم.. لتهتِفَ الأُخْرى أيضاً: إنَّهُ الوداع..! صاروا ينادونَ بهذهِ الكلمة في كلِّ حينٍ فتَشعُّ الرُّوحُ ألماً.. يا أَحِبَّتَنَا.. أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ لِرَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الجنَّةِ.. ابتَسَمْتُ لِقَوْلهِمْ هَذا.. إنَّ فِي قَلْبِيَ مشْرُوعٌ يَكَادُ أن يُصْرعُ إثْرَ شَوْقهِ لمجرّدِ سَمَاعِهِ اسْمَ أرضِ الـحُسَيْن.. آهْ. يا الله. تَجْتَاحُ القُلُوب عَبَرَات تهيمُ حُزْنَاً وألماً.. ليْتَكُم جَمِيعَاً تُشَارِكُونِي هَذهِ اللحَظَات.. لَيْتَكُم جَمِيعَاً تحْتَوُونَ هَذِهِ الأَحَاسِيسَ مَعِي وتُخَفِّفُونَ عَليَّ حِمْلَها، فإنَّها كافيةٌ أن تقْتَلِعَ جَبَلَاً بِأكملهِ..! إهْدَأي يا نَفْسُ اهْدَأِي...! لَكِنْ..! أنَّا لهَا أنْ تَهْدَأَ وهِيَ رَاحِلةٌ نحوَ [أرض العاشقين] ..؟ يااا الله يااا رحيــــــــم..
إنَّهُ الوَدَاعْ.. صَاحُوا بِنَا.. إنَّهُ الوَدَاعُ أحبَّتنَـا.. بل إنَّهُ وداعٌ للقاءٍ جَدِيد.. تَعُودُونَ لنَـَـا بِرُوحٍ جَدِيدَة، وَأحَاسِيس مُخْتَلِفةً، سَتُفْتحُ لَكُمْ أبْوَاباً جَدِيدَةً مَعَ النَّفْس..
خِطَابٌ لِرُوحِي: إنَّهُ الوَدَاع..! نعودُ بِرُوحٍ جَدِيدَة..؟ كيْفَ نَعُودُ وأرواحنا ستبقى معلّقةً بينَ الرَّوْضَةِ والحَائِر..! آآه اعْتَصَرَنِيَ الأَلَم وأصَابَتْنِي لَوْعةٌ شَدِيدَة.. سَنَعُودُ لَكُمْ –إنْ شَاءَ الله- نَعَمْ.. لَكِنْ بِرُوح..؟ لا أضْمَنُ لَكُمْ هَذَا..!
لَمْ ولَنْ يملُّوا تِكْرَارَ تِلْكَ الكَلِمَة..! إنَّهُ وداعٌ بهِ تَوْدِيعُ أمَانَاتٍ..! صَارَ الكَثِيرُ يَتَحَدَّث: هَذِهِ أمَانَتِي وَدِيعَةٌ لَدَيْكُمْ.. هَذِهِ أمَانَتِي لَا تَنْسَوْنَها.. أوْصِلِيهَا.. لَا تنسَيْ..! أمَانَاتٌ بِإذْنِ اللهِ لَنْ أنْسَاهَا.. أمَّا رُوحِي فَهِيَ تَبْقَى مُعَلَّقَة، هِيَ أمَانَتِيَ الَّتِي سَتَبْقَى عِنْدَ [حَبِيبِ السَّالِكِين].
صارَ لمنزلنا دويٌّ كدويِّ النَّحلِ يُسمعُ من على بعدِ أمتَـار للخارجِ.. فِي المرَّاتِ السَّابِقَة كُنَّا نبْقَى ساهِمِينَ نُراقِبُ الزُوَّارَ وهُم يُصافحونا المُصَافَحَةَ الأخِيرَة ونبْقَى نُعَايِن لوْعَةَ الشَّوْقِ المَبْتُورَة، يذْهَبُونَ ونَحْنُ نتحدَّثُ أنَّا الفُقَرَاءُ إلَى اللهِ، ونسأَلُهُ التَّوْفِيقَ للزِّيَارَة لَكِنْ.. هَذهِ المرَّةِ أرْواحنَا جمِيعهَا مُغَادِرَة، فَصِرْنَا نترَقَّبُ ساعَةَ الإقْلاعِ بِذُهُولٍ غَرِيبْ..! مَضَى الوقتُ بطيئاً مهِيبَاً.. هِتَافٌ يتَرَدَّدُ كُلَّ حينٍ بِـأَرْوَاحِنَا: سَنَكُونُ يَا أرْضَ العِرَاقِ قَرِيبَاً بَيْنَ أذْرُعَكِ...!!!! هَذَا أمْرٌ أبْقَى وَجْدِيَ مَذهُــولاً بِشِدَّةٍ..!
وكلّ ما نرجوهُ : دعاء بظهر الغيب.
حفظكم الله
منقول
جزْءٌ منْ مقاطع.. أحدها هنا والبقية.. تبصر النور بهيئةٍ أخرى.
لروحكم أرسلتُهَا هديَّةْ.. مُكلَّلة بالدُّعَاء..
يومٌ هادِئٌ رانت عليهِ سُحُبٌ قاتِمَــة.. الأنفاسُ تسيرُ مُضْطرِبَةً تقْرَعُ الآذانَ فَترعِدُهَا وكأنَّها بِصَوْتِهَا تُفْزِعُ حتَّىْ قَرْعَ الطُّبُولْ..!!! تتلظَّى خلَجَاتُ الشَّوْق، تُطرِقُ رأْسَهَا حزْنَاً، تتَذكَّر سُبُلَ حياتِهَا، خطَايَاهَا، ذُنُوبهَا، عِلَلَ رُوحِها.. فتذُوبُ خجَلاً.. تنْحَنِي الأجسادُ حتّى تكادُ تَتَكَوَّمُ على نفْسِها حياءً، خوفاً، رهْبَةً، لا تمْلِكُ لحظَتَهَا أيَّ سبيلٍ سِوَى طَحْنَ الجُمُودِ وإعْلانِ ساعَة الضَّجِيجِ إلَى الله سُبْحانهُ وتَعَالَى أمَلاً بِنَيْلِ شيْءٍ مِنْ سَخَاءِهِ وعَفْوِهِ ومغْفِرَتِهِ وتحنُّنِهِ عَلى عِبَادِهِ: يا مَنْ لا يَفِدُ الْوافِدُونَ عَلَى أَكْرَمَ مِنْهُ، وَلا يَجِدُ الْقاصِدُونَ أَرْحَمَ مِنْهُ، يا خَيْرَ مَنْ خَلا بِهِ وَحِيدٌ، وَيا أَعْطَفَ مَنْ أَوى إلَيْهِ طَرِيدٌ.. آآه يــَـا الله... صَوْتٌ رتِيبٌ ينْعَى النَّفْسَ بِنَغَمٍ حَزِينْ، يقُولُهَا بتذَلُّلٍ يجُرُّ خلْفَهُ نَحِيبَاً مَوْجُوعَاً مُتَوَجِّعَــــاً مَخْنُوقاً مَكْرُوبَاً، يُنَاجِي بصَمْتِ حتَّى يعْلُو صوْتهُ وهُوَ يُنَادِي بِفَزَعٍ أخَّاذْ: إِلَهِــــي إِلَى سَعَةِ عَفْوِكَ مَدَدْتُ يَدِي وَبِذَيْلِ كَرَمِكَ أَعْلَقْتُ كَفِّي، فَلا تُولِنِي الْحِرْمانَ، وَلا تُبْلِنِي بِالْخَيْبَةِ وَالْخُسْرانِ، يا سَمِيعَ الدُّعآءِ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.. تسْقُطُ العبَرَاتُ راجِيَةَ عَفْوَ الجَلِيـــلْ، تبْكِي بحُرْقَةٍ والوَجْهُ غارِقٌ في بحْرِ العُبُوسْ.. ليْسَ لـيأسٍ بلْ حَيَاءً.. نحْنُ إنْ أخْطَأنَـا بحقِّ أحَدِ الأفرادِ نسْتَحي أن نواجِهَهُ، أنا إن أخطأتُ بحقِّ فُلَانٍ أخجَلُ من كرمِهِ مَعِي.. وما حالنا مع الله سبحانه..!! كم وكَمْ أخْطَأنا وعصَيْنَــاه..! كمْ تجرَّأْنـَـا وتمَرَّدْنـَـا علَى أحْكَامِهِ..؟؟ وهو لمْ يزَل يلطُف عليْنا ويمدُّ العطَايَا لَنَا..! يـــــــَـا الله.. بَأَيِّ وجْهٍ ندْعُوهُ الآن..؟ حَقٌّ أنْ نخْفِي وُجُوهنا بيْنَ أيْدِينا بلْ نعفِّرَها بالتُّرابِ تذلُّلَاً طلبَاً للرَّحْمَةِ والمغْفِرة.. آآآآه يـــا الله.. كمْ ظلَمنا أنفُسَنا وتجَرَّأْنَا علَى معْصِيَتكَ إلهِي سامِحْنـَا اعْفُ عنَّا اغْفِرْ لنَا.. آآه يا الله يا الله يا الله.. تخرُّ الأجْسَاد سَاجِدَةً حتَّى تكَادُ تلصِقُ جسدهَا كلَّهُ بِالأَرْضِ حيَاءً.. تصْرخُ والفَزَعُ يأخُذها العَفْو العَفْو العَفْو العَفْو العَفْو العَفْو العَفْو يا أرحَمَ الرَّاحِمِين.. تهِيمُ العَبَرات مُخَاطِبَةً الموْلَى بِصَوْتٍ مُتَهدِّجٍ: إلهِي لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ بِقُدْرَتِكَ، وَلا نَجاةَ لِي مِنْ مَكارِهِ الدُّنْيا إلاَّ بِعِصْمَتِكَ، فَأَسْأَلُكَ بِبَلاغَةِ حِكْمَتِكَ، وَنَفاذِ مَشِيَّتِكَ، أَنْ لا تَجْعَلَنِي لِغَيْرِ جُودِكَ مُتَعَرِّضاً، وَلا تُصَيِّرَنِي لِلْفِتَنِ غَرَضاً، وَكُنْ لِي عَلَى الأَعْداءِ ناصِرَاً، وَعَلَى الْمَخَازِي وَالْعُيُوبِ ساتِراً، وَمِنَ الْبَلاءِ واقِياً، وَعَنِ الْمَعاصِي عاصِمَاً، بِرَأْفَتِكَ وَرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ..
صارَتِ الأرْضُ تنْثُرُ زَهْــــراً علَى أرْضِ الأحِبَّة، تفيضُ الحشائشُ عليْهَا حُسْناً يَخْفقُ بنورِ القَمَرْ.. تلألَأتِ النُّجوم وقد أثارَت انْعِكَاسَاتِهَا ثوْرَةً فِي الرُّوحِ تَشُجُّ شِرْيَانَ السُّكُون.. الله الله ما أروَعَها مِنْ لَحَظَات، رُغْمَ صُعُوبَتِها المَرِيرَة اسْتَطَعْتُ إيجَاد شَيْء مِنَ الأُنْسِ المُتَقَطِّرِ بِهَا.. يمْضِي الرَّحَالُ متعزّياً بِعَزَاء الحُسَيْن، تَثُورُ ثائِرَتهُ فيَحْكِي وَيَبْكِي ويَصْرُخُ بِكُلِّ قُوَّةٍ ممْتَزِجَةً بِه، مَتَى الوُصُول سيِّدي..؟ صارَ كُلّ موْجُودٍ بعيْني صَارخاً باسمِ الحُسَيْن...!! تهيمُ اللحَظاتُ بِقَعْرِ السُّكونِ مُبَعْثَرَةً.. يَصْمُتُ كلُّ شَيْء.. ترْتَفِعُ بِرُوحِي نغْمَةُ الأحْجَارِ الصَّارِخــة، ونزف جُرْحِها القَدِيم صَارَ يَنْزِفُ بِوعَاءِ رُوحِي.. امْتَزَجَتْ هِتَافاتُ التَّكْبِيرِ والتَّهْليلِ عَلَى كُلِّ أرْضٍ حَتَّى تَدَاخَلَتِ الأصْوَاتُ مَعَ بَعْضِهَا البَعْض، فشَكّلَت أنْغَامَاً مُرِيحَةً تَتْركُ فِي النَّفْسِ آثَاراً بَدِيعَة.. الله الله الله.. أذَّنَ الأذانُ مخلِّفَاً عَلى جَمِيع المَوْجُودَاتِ أيْنَمَا كَانُوا أنْوَارَاً أرْيَحِيَّـــــة، تجْعَل كُلَّ خَلِيّةٍ بِهِمُ تخفقُ عِشْقـَـاً إلهِيَّـاً، تسْتَرجِعُ لحظاتِ المَاضِي..: هَكَذَا أذَّنَ بلالْ..! كان صَوْتَ [الرَّاحةِ] الَّتي يُنْشِدُها الجَمِيع.. وَنَحْنُ بِزَمَانِنَا نبْحَثُ فِي كُلِّ أرضٍ عَنْ صَوْت بِلَالٍ وهُوَ يَهِيمُ فِي الأجْوَاء... الله، ما أروعكَ يا بِلَالْ..! ما أروَعَكْ..!
بَغْتَةً انْقَلَبَتْ موْجَةُ أفْكَارِي..! أينذرُ الزمانُ بِعَاصِفَةٍ هَوْجَـاء..؟ تَصَفَّحْتُ إحْدَى الأَرَاضِي واخْتَبَأتُ بِهَـا..!!! هِيَ أرْضِيَ الفَاضِلَة.. مهْبَطُ رُوحِي.. أرْضُ النُّورِ الفَاضِل والعِلْمُ البَاسِلْ.. ارْتِبَاكٌ يَسْألُ نَفْسِي بِأيِّ وجهٍ أذهب..؟ بوجهٍ قبّحَتْهُ الذُّنُوب..؟ مَاذَا أفْعَلُ الآن..؟؟؟ مَاذَا أُرِيدُ أنْ أفْعَلْ..؟ لسْتُ أدْرِي..!! هَلْ يسْمَعُ العَالَمْ.؟؟ وجُودِي رَاحِــلْ..!! ارْتِبَاكٌ واضِحْ.. إِنَّهــَــا اللحَظَاتُ الأَخِيرَة.. لَحَظَاتٌ تَأْخُذُ الجَمِيع نحْوَ عُروجٍ سَمَاوِيّ فتَخْطَفُ الألْبَاب وتُفْزِعُ أبْوَابَ الأَوْبَةِ بِذَاكَ الضَّجِيجِ الحَزِينْ والخَطَرَاتُ المَمْزُوجَةِ بِالأَنِينْ.. يَا الله..! تَنَفَّسَ الجَمِيعُ بِسُكُونٍ لِتَبْقَى المَحَاجِرُ النَّازِفَة عَلَامةً تُبَيِّن الرَّحْمَة الإلَهِيَّة النَّابِضَة عَلى صفحةِ وَجْه العَبْد الضَّعِيف.
لم نلبث شيئاً حتى صار لنا استعدادَيْن أرْعَدَا سُكونَ المنزِل، الأوَّلُ لشدِّ رباطِ الرحيل، وآخرٌ لاستقبالِ الأحبَّةِ.. أحبتي... ليتني لا أذهب دونكم، ليتكم جميعاً معي.. آه عليكَ يا قلبي.. أتراكَ ستحتملُ اللقاء..؟ هبْ أنكَ صبرتَ حتى حانَت لحظةً كنتَ بها على أرضِ الحبيب.. كيفَ ستصبرُ على الخروجِ منها..؟ أيا جسدي، لو انتُزِعت روحكَ في ذلك الحين.... صِدْقَـاً، عذرتك... عذرتك.
تهاتفتِ الجموع إلى حيثُ نسكن، استقبالٌ رحبٌ تضمّهم قلوبنا قبل أذرعنا، جلسْنَ يتحدّثنَ عن السَّكنِ هناك والغذاء والكراماتِ التي تحصل، وحالُ الماشينَ والزَّاحفين، الباكينَ والنادبين.. هذهِ عناوينٌ كنت أنتبهُ لها في بعضِ أوراقها، فلم أكن معهم بجميعِ لحظاتهم.. فوجودي يتخلّف بعضَ الأوقات وفكري يروحُ ويجيء في أرضِ العراق. يا الله يا الله يا الله.
يحارُ الحال ماذَا يَكْتِبُ ومَاذَا يَصِف..! هَكَذَا تَصَوَّرْت.. سيعْجَز لِسَاني عنِ النُّطْقِ فِي ذَلِك الحِين.. أرَى الجمع يحثّني على بَدْءِ أسْطُرِي وكِتَابةِ مَلاحِمٍ ومَجَازِرَ عَدِيدَةٍ تَبُثُّ الحَالَ ومَا يَجْرِي مِن أحدَاثٍ وَمَا شَابهَ ذَلِك، لكِنَّ مَا أخْشَاهُ أنْ تَعْجَزَ حُرُوفِي بِذَلِكَ الوَقْتِ عنِ التَّعْبِير فَهِي مُقْبِلَةٌ عَلَى أمْرٍ جلَلْ..!
إنَّ الأيام القادمة حقيقةً تحملُ أحداثاً كَثِيرةً ووَفِيرَة، وأمُورَاً سَتُغَيِّر مَجْرَى الحَيَاة بِأسْرِها.. سَيَكُون بها ميعادٌ بينَ لُجَّةِ أحَاسِيسِي ونورانيّةِ صَاحب المَقَام.. كأنَّ رُوحِيَ بَحْرٌ وهُوَ بَحْرٌ آخَر.. غيْرَ أنَّ موْجِي قاصرٌ وموجهُ زاهِرٌ زاخرٌ.. السلامُ عليكَ سيدي ومولايْ..
أعتَقِدُ الحَرْفُ هَذَا سَابِقٌ لِعَهْدِهِ لَكِنَّهُ لا يَسْتَطِيع كبْحَ نفْسِهِ ولَا يَمْلِك التَّحَكُّمَ فِي تَصَرُّفَاتِهِ ولا يَقْدِرُ عَلَى لجْمَ خلَجَاتهِ بِالصَّمْتِ، حتَّى حُرُوفَهُ لِفَرْطِ شَوْقِهَا صَارَت عَاجِزَةً عَنْ تَنْظِيمِ هِنْدَامِهَا...!
وَجَدْتُ العالمَ يَمُوجُ بحبِّهِ تحْتَ أنْوَارِهِمْ، يسْعَوْنَ فيها من أرضٍ لأخرى، تُشْبِهُ بِوَقْعِهـَــا تلبيةَ الصفا والمروة..! رُفِعت الأكفَّ فوقَ الرؤوسِ مواجِهَةً قَبْرَ الأحِبَّة، الصَّوْتُ يموجُ ويهتِفُ بقوَّةٍ وكأنَّ رُوحَهُ هِيَ التي تفزعُ بالنداء [السلامُ عليك يا قتيلَ العِدى، السلامُ عليك يا سليب الرِّدَى] فيفزعُ القومُ بعد هذا بصوتٍ مضرَّجِ بالدُّموع كأنَّهُ طوْدٌ منتظم: آآهٍ واااااا حُسَيْناااااااه، تخرُّ الأبدانُ من هوْلِ المصَـاب.. وااااا حسيناااااه.. حينها يرتدُّ الصَّدَى والجوابُ يحومُ في الأجْوَاء يجيبُ سَلام المحبين الملهوفين: وعليكمُ السَّلامَ عبادَ الله المُخْلصِين..
التاعَت رُوحِي تنْشُدُ الهَرَب.. تريد الخلاص من هذا الشَّوقِ المَحْبُوس.. تريد إطلاق العنانِ لهُ.. صَارَت تَجْرِي.. تَجْرِي والعِشْقُ أوْهَنَ قدمَيْهَا حَتَّى أبقاها زَاحِفةً والدَّمْعُ يَشْخبُ كالميزابِ بكلِّ خليَّةٍ من جَسَدِهَا..
اغرورَقَت عيْنايَ وكادَت أن تتفجّرَ سُيولها المحفوظة..! نظرتُ إلى اليمينِ وإلى الشمال.. القومُ مُجْتَمِعين.. إنَّها الأيَّامُ الأخِيرَةُ لنَا فِي الوَطَنْ..! لَا أزَالُ فِي الوَطَن..؟ انْسَحَبتُ بهدوءٍ لأبقى بِغُرْفَتِي مُسْتَفْرِدَة بروحي..
عرُقَ الجبينْ، وشخصَتْ عيْنَايَ للسَّمَـاءْ.. سيِّدِي وَمَوْلَاي.. أتُرَاهُ يتحقَّقُ المطلبُ وأكونُ من زوّاركَ قريباً..؟ أم سَتُغَادِرنِي رُوحِي قبْلَ الوُصُولِ إلَيْك..؟ مَوْلاي..؟ لو حصَل وكانَ وُصُولِي حَاصِلٌ؛ لنْ أدَعَ حتَّى نسْمَةً تفِرُّ من رِئَتَايَ، سأتَنَفَّسُّ مِلئَ اسْتِطَاعَتِي، سَأحْتَفِظُ بِكُلِّ نَظْرَةٍ، بِكُلَّ نسْمَةٍ، بكلِّ حادثٍ يَجْرِي، فِي ذَاكِرَتِي وَعَلَى أوْرَاقِي.. إنَّ التَنَقل فِي التَّصَوُّرَاتِ الَّتِي سَتَجْرِي بِتِلْكَ الأَيَّام صَعْب.. صَعْبٌ جِدّاً.. أَتَسْتَطِيعُونَ تصوُّرَ مَوْضِعَ الصُّعُوبَة..؟؟ إنَّهـَا ليست في تَحمُّلِ رُؤْيَةِ الأرْضِ المُقَدَّسَة.. وأظنُّكُم حَزِرْتُم الجوَابْ..! هِيَ تكمُنُ في تحمِّلِ الابتعادِ عن أرضِ الإمام..
لا أزالُ في أرضنا هذهِ وروحي تنازعُ نفسها خشْيةَ الوداع..!! مالكِ يا روحُ..؟!! مالَكِ تغادرين وتستعجلينَ الزَّمَـان..!؟؟؟ رويْدكِ، انتبهي لما يجري الآن..! كان القومُ يوْصُونكِ وأنتِ لستِ معهم...؟؟ آه.. الأمر ليسَ بيدي.. ليسَ بيدي أبداً.. أبداً..
ارتَعَدَت مفاصلي وفزعت كلَّهـا: [ليتني]. إنَّها صرخةٌ تفجّر الأرواح قبل الأجساد، تفجّرها حتى قبل كلّ الوجود..! قبلَ النجومِ والكواكبَ والمجرَّات...!!! [ليتني] طيْرٌ يحلّقُ ملئَ جناحَيْهِ فيبقى هائماً حولَ القبَّةِ الشَّرِيفةِ يلتمسُ أنوارها... ليتني طيرٌ جريحٌ وجرحي كـ فطرسٍ يلتمسُ بركات الحُسَين، لِيُحَلِّقَ بعْدَهَا بِسَعَادَةٍ وحبُورٍ يحمدُ الله وتلفحهُ الغُيُوم بِسُرُور....! [ليْتَ] لِي جَنَاحَيْنِ كبيرَيْنِ يحملانِ العُشَّاق عليهما، فنروي بِدُمُوع الحُبِّ حُقُولاً صريعةً ذابلةً.. نَرْوِيها بِحُبٍّ وأمَلٍ وذِكْرٌ يتخبَّطُ في الهَوَى المَلَكُوتِيّ.. آآه. إنَّهَا صَرْخَةٌ قَتَلَتْهَا لَوْعَة الشَّوْق.. إنَّها صَرْخَةٌ تُفتِّتُ الصَّخْر.. إنَّها صرخةٌ تهيمُ مَعَها الأرْوَاحْ.. آه كَمْ أتَمَنَّى لوْ كُنْتُ طيْرَاً من الطيورِ التي دوماً تحلّق عنْدَ حضرتك.. خرَّت الدموعُ صريعة تحتَ وطأَةِ الشَّوْق.. انتبَهْتُ لِلدَّقَائِق وهي تمرُّ سريعاً، خاطبتُ روحي: عليَّ أن أعود لمجلسهم..
إنَّهُ الوداع..! صاروا يهتفونَ ويبادرونَ بفتحِ أذرعهم لضمِّ المحلِّقِينَ نحوَ صاحبِ [دمعةِ الساكبينْ] أفواجاً أفواجْ.. يغادرونَ فتأتِي مجموعةً غيرَهم.. لتهتِفَ الأُخْرى أيضاً: إنَّهُ الوداع..! صاروا ينادونَ بهذهِ الكلمة في كلِّ حينٍ فتَشعُّ الرُّوحُ ألماً.. يا أَحِبَّتَنَا.. أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ لِرَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الجنَّةِ.. ابتَسَمْتُ لِقَوْلهِمْ هَذا.. إنَّ فِي قَلْبِيَ مشْرُوعٌ يَكَادُ أن يُصْرعُ إثْرَ شَوْقهِ لمجرّدِ سَمَاعِهِ اسْمَ أرضِ الـحُسَيْن.. آهْ. يا الله. تَجْتَاحُ القُلُوب عَبَرَات تهيمُ حُزْنَاً وألماً.. ليْتَكُم جَمِيعَاً تُشَارِكُونِي هَذهِ اللحَظَات.. لَيْتَكُم جَمِيعَاً تحْتَوُونَ هَذِهِ الأَحَاسِيسَ مَعِي وتُخَفِّفُونَ عَليَّ حِمْلَها، فإنَّها كافيةٌ أن تقْتَلِعَ جَبَلَاً بِأكملهِ..! إهْدَأي يا نَفْسُ اهْدَأِي...! لَكِنْ..! أنَّا لهَا أنْ تَهْدَأَ وهِيَ رَاحِلةٌ نحوَ [أرض العاشقين] ..؟ يااا الله يااا رحيــــــــم..
إنَّهُ الوَدَاعْ.. صَاحُوا بِنَا.. إنَّهُ الوَدَاعُ أحبَّتنَـا.. بل إنَّهُ وداعٌ للقاءٍ جَدِيد.. تَعُودُونَ لنَـَـا بِرُوحٍ جَدِيدَة، وَأحَاسِيس مُخْتَلِفةً، سَتُفْتحُ لَكُمْ أبْوَاباً جَدِيدَةً مَعَ النَّفْس..
خِطَابٌ لِرُوحِي: إنَّهُ الوَدَاع..! نعودُ بِرُوحٍ جَدِيدَة..؟ كيْفَ نَعُودُ وأرواحنا ستبقى معلّقةً بينَ الرَّوْضَةِ والحَائِر..! آآه اعْتَصَرَنِيَ الأَلَم وأصَابَتْنِي لَوْعةٌ شَدِيدَة.. سَنَعُودُ لَكُمْ –إنْ شَاءَ الله- نَعَمْ.. لَكِنْ بِرُوح..؟ لا أضْمَنُ لَكُمْ هَذَا..!
لَمْ ولَنْ يملُّوا تِكْرَارَ تِلْكَ الكَلِمَة..! إنَّهُ وداعٌ بهِ تَوْدِيعُ أمَانَاتٍ..! صَارَ الكَثِيرُ يَتَحَدَّث: هَذِهِ أمَانَتِي وَدِيعَةٌ لَدَيْكُمْ.. هَذِهِ أمَانَتِي لَا تَنْسَوْنَها.. أوْصِلِيهَا.. لَا تنسَيْ..! أمَانَاتٌ بِإذْنِ اللهِ لَنْ أنْسَاهَا.. أمَّا رُوحِي فَهِيَ تَبْقَى مُعَلَّقَة، هِيَ أمَانَتِيَ الَّتِي سَتَبْقَى عِنْدَ [حَبِيبِ السَّالِكِين].
صارَ لمنزلنا دويٌّ كدويِّ النَّحلِ يُسمعُ من على بعدِ أمتَـار للخارجِ.. فِي المرَّاتِ السَّابِقَة كُنَّا نبْقَى ساهِمِينَ نُراقِبُ الزُوَّارَ وهُم يُصافحونا المُصَافَحَةَ الأخِيرَة ونبْقَى نُعَايِن لوْعَةَ الشَّوْقِ المَبْتُورَة، يذْهَبُونَ ونَحْنُ نتحدَّثُ أنَّا الفُقَرَاءُ إلَى اللهِ، ونسأَلُهُ التَّوْفِيقَ للزِّيَارَة لَكِنْ.. هَذهِ المرَّةِ أرْواحنَا جمِيعهَا مُغَادِرَة، فَصِرْنَا نترَقَّبُ ساعَةَ الإقْلاعِ بِذُهُولٍ غَرِيبْ..! مَضَى الوقتُ بطيئاً مهِيبَاً.. هِتَافٌ يتَرَدَّدُ كُلَّ حينٍ بِـأَرْوَاحِنَا: سَنَكُونُ يَا أرْضَ العِرَاقِ قَرِيبَاً بَيْنَ أذْرُعَكِ...!!!! هَذَا أمْرٌ أبْقَى وَجْدِيَ مَذهُــولاً بِشِدَّةٍ..!
وكلّ ما نرجوهُ : دعاء بظهر الغيب.
حفظكم الله
منقول
تعليق