روي أن قوما حضروا عند أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يخطب بالكوفة ويقول:
سلوني قبل أن تفقندوني، فأنا لا اسأل عن شيء دون العرش إلا أجبت فيه، لا يقولها بعدي إلا مدع أو كذاب مفتر فقام إليه رجل من جنب مجلسه، وفي عنقه كتاب كالمصحف، وهو رجل آدم ظرب (1) طوال جعد الشعر، كأنه من يهود العرب، فقال رافعا صوته لعلى (عليه السلام):
يا أيها المدعي لما لا يعلم و المتقدم لما لا يفهم أنا سائلك فأجب.
قال: فوثب إليه أصحابه وشيعته من كل ناحية وهموا به، فنهرهم علي (عليه السلام) وقال:
"دعوه ولا تعجلوه، فإن العجل والطيش لا يقوم به حجج الله، ولا بإعجال السائل تظهر براهين الله تعالى "
ثم التفت إلى السائل فقال:
"سل بكل لسانك ومبلغ علمك اجبك إن شاء الله تعالى بعلم لا تختلج فيه الشكوك، ولا تهيجه دنس ريب الزيغ ، ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم "
ثم قال الرجل: كم بين المشرق والمغرب ؟
قال علي (عليه السلام):" مسافة الهواء "
قال الرجل: وما مسافة الهواء ؟
قال (عليه السلام):" دوران الفلك "
قال الرجل: وما دوران ألفلك ؟
قال (عليه السلام): " مسير يوم للشمس "
قال: صدقت فمتى القيامة ؟
قال (عليه السلام): " عند حضور المنية وبلوغ الاجل "
قال الرجل: صدقت فكم عمر الدنيا ؟
قال (عليه السلام): " يقال: سبعة آلاف ثم لا تحديد " (2)
قال الرجل: صدقت فأين بكّة من مكّة ؟
قال علي (عليه السلام):" مكّة أكناف الحرم، وبكّة موضع البيت "
قال الرجل: صدقت فلم سميت مكّة ؟
قال (عليه السلام):" لان الله تعالى مكّ الارض من تحتها "
قال: فلم سميت بكّة ؟
قال علي (عليه السلام): " لانها بكّت رقاب الجبارين وأعناق المذنبين "
قال: صدقت. قال: فأين كان الله قبل أن يخلق عرشه ؟
فقال (عليه السلام): " سبحان من لا تدرك كنه صفته حملة العرش على قرب ربواتهم من كرسي كرامته، ولا الملائكه المقربون من أنوار سبحات جلاله، ويحك لا يقال: الله أين، ولافيم، ولا أي، ولاكيف "
قال الرجل: صدقت، فكم مقدار ما لبث عرشه على الماء من قبل أن يخلق الارض والسماء ؟
قال علي (عليه السلام):" أتحسن أن تحسب ؟ "
قال الرجل: نعم .
قال (عليه السلام) للرجل : " لعلك لا تحسن أن تحسب "
قال الرجل: بلى إني أحسن أن أحسب.
قال علي (عليه السلام):
" أرأيت أن صُبَّ خردل في الارض حتى يسد الهواء وما بين الارض والسماء ثم أذن لك على ضعفك أن تنقله حبة حبة من مقدار المشرق إلى المغرب ومد في عمرك واعطيت القوة على ذلك حتى نقلته وأحصيته لكان ذلك أيسر من إحصاء عدد أعوام ما لبث عرشه على الماء من قبل أن يخلق الله الارض والسماء، و إنما وصفت لك عشر عشر العشير من جزء من مائةألف جزء، وأستغفر الله من التقليل والتحديد "
فحرك الرجل رأسه وأنشأ يقول:
أنت أهلُ العلمِ يا هاديَ الهدى *** تجلو منَ الشكِّ الغياهيبا
حزتَ أقاصي العلومِ فما *** تُبصَرُ أن غُولبت مغلوبا
لا تنثني عن كلِّ اشكولة *** تُبدي إذا حلّت أعاجيبا
للهِ درُّالعلمِ من صاحبٍ *** يطلبُ إنساناً ومطلوبا
(3)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ
(1) قال الجوهري: رجل ظرب مثال عتل:القصير اللحيم.وقال المصنف : المراد هنا اللحيم الغليظ
(2) قوله: (يقال) ايعاز إلى عدم ارتضائه بذلك
(3) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - (ج 10 / ص 126)
تعليق