بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
ما هو التبري من أعداء الله تعالى ؟
ونسألكم الدعاء...~
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
ما هو التبري من أعداء الله تعالى ؟
الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.·
الموقف من أعداء الله تعالى.
يمكن تقسيم المواقف المتخذة من أعداء الله تعالى إلى ثلاثة مواقف:
·الموقف الأول: هو الموقف الذي يحاول تمييع الحدود بين الحق والباطل، أصحاب هذا الموقف يرفضون فكرة أنه لا يوجد إلاّ صراط مستقيم واحد، بل يعتقدون أن هناك صرطاً مستقيمة كلّها توصل سالكيها إلى الله سبحانه بنحو من أنحاء الإيصال، ومن ثم لا يوجد فرق عندهم بين النبي موسى (على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام) وبين من عبد العجل، لأن لكل منهما صراطه المستقيم، ويقولون إن موسى (عليه السلام) عندما أخذ بلحية أخيه يجرّه إليه إنما عاتبه على نهيه قومه عن عبادة العجل! لأن الله - بزعمهم - يجب أن يعبد في أيـّة صورة كان المعبود.
وهذه العقيدة ليست فلسفة تعود للماضي، ولا نظرية جديدة تستوطن أقاصي بلاد الشرق والغرب، بل هي موجودة في قلب البلاد الإسلامية أيضاً.
في هذه النظرية لا معنى للتبري، لأنه يتساوى فيها نبي الله موسى (عليه السلام) وفرعون الطاغية؛ يقول شيخهم الأكبر في كتابه حول فرعون: «فقبضه الله طاهراً مطهّراً لم يشبْهُ دنس» ويقول: «إن قوم نوح إنما أغرقوا في بحار رحمة الله تعالى». ويقول شاعرهم:
لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورة فمرعى لغزلان وديـراً لرهبان.
إلى أن يقول:
أدين بدين الحب أنى توجهتْ ركائبـه فالحب ديـني وإيمانـي
فالدين في هذا المنطق هو الحبّ بشكل مطلق؛ حب القاتل والمقتول، حب الجلاّد والضحية، حب قابيل وهابيل، حب فرعون وموسى، حب نمرود وإبراهيم، حب أبي سفيان وخاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله)، ومن ثم لا معنى للتبري، لأنه لا يوجد شخص ينبغي أن يُتبرّأ منه ما دام الكلّ في طريق الله سبحانه وتعالى.
وقد روي أن رجلاً قدم على أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له: يا أمير المؤمنين إني أحبّك وأحبّ فلاناً فقال (عليه السلام): «أمّا الآن فأنت أعور، فإما أن تعمى وإما أن تبصر»[1].
· الموقف الثاني: هو الموقف الذي يتـبنّى التولي لأولياء الله تعالى ولكنه لا يتبنّى التبري من أعدائه.
هذا الموقف يرى فضائل ومناقب من يتوّلاه فيتوّلاه، ولكنه لا يرى مثالب عدوّه لأن له عيناً واحدة فقط.
وهذا الموقف يختلف عن الموقف الأول، لأن صاحب الموقف الأول يبرّئ الجميع، أما صاحب الموقف الثاني فيقول إني أتولى فلاناً ولا شأن لي بغيره.
· الموقف الثالث: هو الموقف الذي يرتكز على قاعدة التولّي والتبرّي معاً، وكلامنا في هذا البحث هو حول هذا الموقف، ونسعى أولاً لتقصّيه في القرآن الكريم.
التبري من أعداء الله تعالى في القرآن الكريم
يتناول القرآن الكريم قضية التبرّي بصيغتين؛ الأولى: ما يحتوي على عنوان التبري بنفسه، والثانية: ما يتناول بعض مظاهر التبري.
أما الصيغة الأولى فلعلّ أبرز موقف يمثّلها هو موقف نبيّ الله إبراهيم (عليه وعلى نبينا وآله السلام) في قوله تعالى: (فلما تبيّن له أنه عدو لله تبرأ منه).[2]
توضيح ذلك: إن من المحرمات التي ذكرها الفقهاء في كتبهم: الاستغفار للمشرك حتى لو كان أباً أو قريباً؛ قال الله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبيّن لهم أنهم أصحاب الجحيم)[3]; وهذه الشدة في الموقف تعني أنه حتى هذا المقدار من الرابطة العاطفية مع أعداء الله تعالى غير مسموح بـه شرعاً.
لا شك أن التعامل الإنساني لا إشكال فيه؛ يقول تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديارهم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحبّ المقسطين)[4].
ولقد سقى الإمام الحسين (عليه السلام) أعداءه الماء، كما سقى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أعداءه، فالقضية الإنسانية لا تعرف التأطير العقائدي (على التفصيل المقرر في الفقه)، أمّا إنشاء الرابطة العاطفية مع أعداء الله تعالى فغير مسموح حتى على مستوى الاستغفار لهم[5].
(عن أبي إسحاق الهمذاني عن رجل قال: صلّى رجل إلى جنبي فاستغفر لأبويه و كانا ماتا في الجاهلية. فقلت: تستغفر لأبويك وقد ماتا في الجاهلية؟ فقال: قد استغفر إبراهيم لأبيه. فلم أدر ما أردّ عليه، فذكرت ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله) فأنزل الله: وما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ)[6]. ولم يكن آزر أباه الحقيقي بل كان عمه، وفي اللغة العربية يطلق على العم لفظة الأب وعلى الخالة لفظة الأم.
وعلى أيّ حال، يظهر من الآية الكريمة أن آزر وعد إبراهيم (عليه وعلى نبينا وآله السلام) أن يؤمن، ولذلك استغفر له إبراهيم عليه السلام استغفاراً فعلياً أو تعليقياً، ولكنه عندما تبيّن له أنه عدو لله، تبرأ منه؛ لأن الدين لا يقيم قاعدته على أساس العلاقات العائلية بل يقيمها على أساس العلاقات العقائدية، فالعقيدة هي الملاك وليس الروابط.
وفي الآية نكتة جديرة بالالتفات تكمن في كلمة «تبرأ منه» فهي تعني التبري من الفاعل وليس التبري من الفعل فقط، فهناك منطق يقول: نتبرأ من الفعل لا من الفاعل، ولكن منطق القرآن الكريم في هذه الآية الكريمة هو التبرؤ من الفاعل، كما أن هناك آيات فيها تبرّؤ من الفعل مثل قوله تعالى: (وإنني بريء مما تشركون) [7] وقوله سبحانه: (وأنا بريء مما تجرمون)[8].
ومن الموارد التي وردت فيها البراءة بعنوانها سورة كاملة تحمل اسم البراءة وتبدأ به دون البسملة (شعار الرحمة).
أما الصيغة الأخرى من التبري في القرآن الكريم فهي الآيات التي تتناول مظاهر التبري، ومن هذه المظاهر الاستعاذة؛ قال الله تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم)[9] .
ومنها الآيات التي وردت فيها كلمة اللعن.
كثيراً ما يقال: لماذا تلعنون الظالمين؟
والجواب: إن الله تعالى هو الذي شرع لنا اللعن، والآيات القرآنية التي فيها اللعن أكثر من ثلاثين آية، ونحن نلعن من لعنه الله تعالى.
نظرة إلى مقولة التوفيق العقائدي
مع كل ما تقدّم، نسمع اليوم من يذهب إلى فكرة التوفيق العقائدي (أو العقدي).
نحن لا نتحدث عن التوفيق العملي الذي قد يفرضه بعض الظروف، بل في التوافق العقائدي والقول إن على كل طرف أن يتنازل عن بعض ثوابته من أجل الوحدة مع الآخر، إن هذا النوع من التوافق غير صحيح وغير ممكن.
قال أحد الأشخاص لصاحبه: يجب أن نلغي المذاهب فلا سنّة ولا شيعة، فقال صاحبه: إذا أذّن المؤذن كيف نصلّي؟ هل نسبل اليدين أم نتكتف؟ هل نسجد على التراب أم السجّاد...؟
ويقول أحد العلماء: جمعني مع رجل من المذاهب الأخرى لقاء فحلّ موعد الصلاة فقال: أيّنا يؤمّ الآخر؟ فقلت: في مذهبنا هنالك شروط لإمام الجماعة، وأنا لا أصلّي خلف من يفتقد هذه الشروط ولو كان شيعياً، أما أنتم في مذهبكم فتجوّزون الصلاة خلف كل برّ وفاجر، فلأكن أنا الإمام.
لماذا التبري؟
هناك شبهة يثيرها البعض فيقولون: ولماذا التبري من أشخاص وأقوام ماتوا ولم يعودوا بين ظهرانينا؟ ويقولون: أولئك قوم عصمنا الله تعالى من دمائهم فلنعصم أنفسنا من أعراضهم، فنحن لم نشترك في قتلهم، فلنجنّب أنفسنا الخوض في كرامتهم.
إن الإجابة عن هذه التساؤلات بحاجة إلى بحث مستقلّ، لكننا نكتفي هنا بالإشارة إلى نقطتين على نحو الإجمال والاختصار؛ وهما:
النقطة الأولى: إن التبري يعني صنع الحاجز النفسي والاجتماعي مع من تتبرّأ منه، وقضية الحاجز النفسي والاجتماعي قضية مهمة، فمن الناحية الفقهية يحرم على الإنسان أن يجلس على مائدة يُشرب فيها الخمر، إننا الآن نتنفر من الخمرة ويكون تصوّر شربها مقزّزاً لنا، لكن إذا جلس الإنسان على مائدة يُشرب فيها الخمر فإن هذا الحاجز النفسي يقلّ تدريجياً.
وهؤلاء الأفراد الذين نتبرّأ منهم لا يمثلون أفراداً فقط بل يمثّلون مناهج أيضاً، فالحجاج يمثّل منهجاً وهذا المنهج قابل للتكرار في كل مكان وزمان، ألم يتكرر نموذج الحجاج في العراق؟
إذن ينبغي وضع حاجز نفسي واجتماعي تجاه النماذج السيئة لئلا تتكرر، فلو اتخذ أحد أبنائنا شخصاً منحرفاً صديقاً له، ألا نسعى لخلق حاجز في نفسه للابتعاد عنه؟
ولعل هذا يفسّر كثرة النماذج المشابهة للحجّاج في الخطوط الأخرى؛ فلماذا لا يفرز المنهج المخالف أشخاصاً كالحجاج ماداموا معجبين به غير متبرّين منه؟!
إن التبري هو الذي يصنع الحاجز النفسي للابتعاد عن النموذج المتبرّى منه.
النقطة الثانية: وهي نقطة مهمة جداً وإن كان يغفل أو يتغافل عنها الداعون للوحدة العقائدية والفكرية والفقهية؛ وهي: إن موقفنا - إزاء هذه النماذج المنحرفة - دائر بين أمرين، فإما أن ندين أفراداً أو ندين الإسلام، فنحن مضطرون لأحد هذين الأمرين، إن من العوامل المهمة التي تحول دون إسلام كثير من الغربيين هي هذه النماذج السيّئة، وهي نماذج ثابتة تاريخياً ولا يمكن إنكارها أو التستر عليها! هل يستعدّ فرد عاقل اليوم لأن يخضع لحكم البعثيين مع هذا النموذج الذي قدّموه؟ ! هكذا حال هذه النماذج التاريخية، فهؤلاء الأفراد يشكّلون دعاية سلبية للإسلام، فإذا كان الإسلام هو الدين الذي يفرز أمثال الحجاج وهارون فإنه ليس ديناً جديراً بالقبول.
إن أمرنا دائر بين أن ندين هؤلاء الأفراد ونطهّر ساحة الإسلام منهم فنقول: إن هؤلاء لا يمثّلون الدين وإننا نعلن براءتنا منهم، وإما أن نسكت عن هؤلاء وجرائمهم، وهذا معناه إدانة الإسلام.
فأيهما أفضل : إدانة الإسلام أم القول إن هؤلاء يمثّلون شذوذاً عنه وعن تعاليمه؟
إننا لو فكّرنا في قضية التبرّي من الناحية العقلية لرأينا أن التبري من هذه النماذج ضرورة إسلامية يحكم بها العقل قبل الشرع.
أليس التبرّي من تجربة طالبان في أفغانستان ضرورة؟! ولو قلنا للعالم: إن الطالبان يمثّلون الإسلام حقيقة فهل يفكر عاقل في اعتناقه حينئذ؟!
وإذا كنا نتبرّأ اليوم من طالبان وأمثالهم، فمن باب أولى أن نتبرأ من أولئك الذين جلس الطالبان على موائدهم - أعني من تقدمهم وخطّ لهم هذا الخطّ، ومن أسس أساس الظلم والجور - فأولئك أولى بالإدانة والتبرّي، ولذلك نحن نتبرأ منهم.
الصديقة الزهراء عليها السلام أعظم رمز للتبري من أعداء الله تعالى
يبدو أن التخطيط الإلهي كان يقتضي أن تكون الزهراء (عليها السلام) أعظم رمز للتبري من أعداء الله تعالى، إنها الرمز الذي لا يمكن إنكاره، والمخالفون متحيّرون ماذا يفعلون وماذا يقولون تجاه هذا الرمز.
فمثلاً حتى البخاري الذي يأنف عن ذكر حتى رواية واحدة عن الإمام الصادق (عليه السلام) {مع أن المذاهب الأربعة كلّها عيال على المدرسة الفقهية للإمام الصادق عليه السلام}، إنه يروي عن الخوارج وعن عمران بن حطّان الذي يقول في ابن ملجم:
يا ضربة من تقيّ ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حيناً فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا[10]
ولا يروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) ! أجل حتى البخاري هذا لم يستطع الهروب من هذه القضية، ونقل ما يكشف أن فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت رمزاً للتبري، فهو يروي في كتابه الذي يعدّه قومه أصحّ الكتب بعد كتاب الله تعالى: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني»[11] ثم يذكر في مكان آخر من كتابه عن فلان: «فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتى ماتت»[12].
راجعوا كتاب «الإمام الصادق والمذاهب الأربعة» لتعرفوا منهج هذا الرجل في تدوين الحديث، ولكنه ذكر هذه الرواية، وهذا جزء من الهداية الإلهية التشريعية للبشر، لكي تكون معالم الحق واضحة جليّة لا تخفى على أحد.
وقد روي أنّ أحد علماء العامة أراد اللقاء بالعلامة الحلّي ليبحث معه في أمر الإمامة، فأوفد العلامة ولده فخر المحققين لاستقباله خارج البلدة، وبينما هما في الطريق التفت فخر المحققين وسأل ذلك العالم: هل حديث: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» صحيح عندكم؟ فقال: نعم، قال فخر المحققين: فهل كان لفاطمة بعد وفـاة أبيها (صلى الله عليه وآله) إمام أم لا؟ فحار العالم ماذا يجيب، فإن قال: لا، فهل يعقل أن تكون الزهراء قد ماتت - والعياذ بالله - ميتة جاهلية، وهي التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها؟! وإن قال: نعم، فمن كان إمام زمانها؟ لا شك أنه لم يكن أبا بكر لأنها كانت مقاطعة له واجدة عليه رافضة لحكمه مُدينة له، وما رضيت حتى أن يشترك في تشييعها، وإن قال إن إمامها كان علي بن أبي طالب، فقد خصم، وهكذا حار العالم وعاد من حيث أتى دون أن يلتقي بالعلامة الحلي.
فعند الزهراء (عليها السلام) ينتهي كل احتجاج، وهي الرمز الذي لا يقبل التأويل وتنقطع عنده كلّ حجة.
ومما ينقل في هذا الصدد أيضاً أنه «أتت عائشة وحفصة إلى عثمان تطلبان ميراثهما من ضياع أموال رسول اللّه (صلّى الله عليه و آله) التي في يديه، فقال: ولا كرامة، لكن أجيز شهادتكما على أنفسكما، فإنّكما شهدتما عند أبويكما أنّكما سمعتما من رسول اللّه صلّى الله عليه وآله يقول: إنّ النبيّ لا يورث، ما ترك فهو صدقة، ثم لقّنتما أعرابيّا جلفاً ... فشهد معكما، لا من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولا من الأنصار أحد شهد بذلك غير أعرابيّ، أما و الله ما أشكّ في أنّه قد كذب على رسول الله صلّى الله عليه وآله، وكذبتما عليه معه، فانصرفتا من عنده تبكيان و تشتمانه، فقال ارجعا، ثم قال: أشهِدتما بذلك عند أبي بكر؟ قالتا: نعم. قال: فإن شهدتما بحقّ فلا حقّ لكما، وإن كنتما شهدتما بباطل فعليكما وعلى من أجاز شهادتكما على أهل هذا البيت لَعْنَةُ الله والمَلائكَة وَالنَّاسِ أَجْمَعين»[13].
وقال صاحب «كشف الغمّة»: «لما ولي عثمان قالت له عائشة: أعطني ما كان يعطيني أبي وعمر. فقال: لا أجد له موضعاً في الكتاب ولا في السنة ولكن كان أبوك وعمر يعطيانك عن طيبة أنفسهما وأنا لا أفعل. قالت: فأعطني ميراثي من رسول الله. فقال: أليس جئتِ فشهدتِ أنتِ ومالك بن أوس النضري أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: لا نورث، فأبطلتِ حقّ فاطمة، وجئتِ تطلبينه، لا أفعل. فكان إذا خرج إلى الصلاة نادت وترفع القميص وتقول: إنه قد خالف صاحب هذا القميص، فلما آذته صعد المنبر فقال: إن هذه الزعراء عدوة الله ضرب الله مثلها ومثل صاحبتها حفصة في الكتاب (امْرَأَةَ نُوحٍ وَ امْرَأَةَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما) إلى قوله (وقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ). فقالت له: يا نعثل يا عدو الله إنما سمّاك رسول الله (صلى الله عليه وآله) باسم نعثل اليهودي الذي باليمن، فلاعنته ولاعنها وحلفت أن لا تساكنه بمصر أبداً وخرجت إلى مكة». [14]
واجبنا تجاه قضية الزهراء (عليها السلام)
أما بعض واجبنا تجاه الزهراء (عليها السلام) فهو تركيز قضيتها في النفس والبيت والمجتمع والعالم.
فمن طرق التركيز في البيت والعائلة مثلاً تخصيص جائزة لكلّ من يحفظ الخطبة الفدكية للسيدة الزهراء (عليها السلام)، كما يمكن للمشرفين على الدورات الصيفية القيام بذلك أيضاً.
ومن طرق التركيز في المجتمع والعالم تأليف الكتب والموسوعات عن الصديقة الزهراء (عليها السلام) وقضيتها ومظلوميتها.
ومن كان يستطيع إقامة مجالس العزاء في بيته فليفعل، ولنواصل ولا نتوقف، لأن كثيرين وُفّقوا في البداية ولكن التوفيق لم يحالفهم حتى النهاية، فلنطلب من الله تعالى أن لا يسلبنا هذا التوفيق.
لك سدارتك وأعطني عمامتي
كان نظام الحكم في العراق قبل حوالي أربعين عاماً يحاول استقطاب رجال الدين ثم تذويبهم ومن هنا أعلنت الدولة عن توظيف رجال الدين كمعلمين براتب جيد، بعد إجراء امتحان لهم.
وقد نقل عن أحد رجال الدين آنذاك أنه قال: كانت أوضاعي المادية ضاغطة ففكرت أن أوفّق بين الأمرين فأذهب صباحاً للوظيفة الرسمية، ثم أعود عصراً إلى مهمّتي كرجل دين، دون أن أخبر أحداً بذلك.
قال: وبينما كنت ذاهباً لأداء الامتحان لقيني شخص من عامّة الناس في الطريق وطلب مني أن أفسّر له رؤيا رآها البارحة، وقال: لقد رأيت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يخاطبك بالقول: «لك سدارتك وأعطني عمامتي» - وكان المعلّمون آنذاك يلبسون سدارة - فما تفسير ذلك؟
يقول: فقلت له: هذه رسالة لي من أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد وصلت الرسالة، ثم رجعتُ إلى بيتي ولم أنخرط في سلك الدولة، وتركتُ الحلول التوفيقية، وواصلت سيري في طلب العلوم الدينية والخطابة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الموفَّقين لخدمة دينه وأوليائه وأن لا يسلبنا هذا التوفيق، إنه سميع مجيب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
====
· ألقيت هذه المحاضرة في 11 جمادى الأولى من عام 1425هـ ، على جمع من طلاّب العلوم الدينية في مدينة قم المقدّسة.
[1] بحار الأنوار: 37 / 58، باب 1، ح18.
[2] التوبة: 114.
[3] التوبة: 113.
[4] الممتحنة: 8.
[5] راجع تفاصيل ذلك في الكتب الفقهية.
[6] بحار الأنوار: 11/ 88، رقم 15.
[7] الأنعام: 19.
[8] هود: 35.
[9] النحل: 98.
[10] شرح نهج البلاغة: 13/ 241.
[11] صحيح البخاري: 4 / 210.
[12] صحيح البخاري: 8 / 3.
[13] بحار الأنوار: 30/ 317 باب 30.
[14] كشف الغمّة: 1/ 479.
الموقف من أعداء الله تعالى.
يمكن تقسيم المواقف المتخذة من أعداء الله تعالى إلى ثلاثة مواقف:
·الموقف الأول: هو الموقف الذي يحاول تمييع الحدود بين الحق والباطل، أصحاب هذا الموقف يرفضون فكرة أنه لا يوجد إلاّ صراط مستقيم واحد، بل يعتقدون أن هناك صرطاً مستقيمة كلّها توصل سالكيها إلى الله سبحانه بنحو من أنحاء الإيصال، ومن ثم لا يوجد فرق عندهم بين النبي موسى (على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام) وبين من عبد العجل، لأن لكل منهما صراطه المستقيم، ويقولون إن موسى (عليه السلام) عندما أخذ بلحية أخيه يجرّه إليه إنما عاتبه على نهيه قومه عن عبادة العجل! لأن الله - بزعمهم - يجب أن يعبد في أيـّة صورة كان المعبود.
وهذه العقيدة ليست فلسفة تعود للماضي، ولا نظرية جديدة تستوطن أقاصي بلاد الشرق والغرب، بل هي موجودة في قلب البلاد الإسلامية أيضاً.
في هذه النظرية لا معنى للتبري، لأنه يتساوى فيها نبي الله موسى (عليه السلام) وفرعون الطاغية؛ يقول شيخهم الأكبر في كتابه حول فرعون: «فقبضه الله طاهراً مطهّراً لم يشبْهُ دنس» ويقول: «إن قوم نوح إنما أغرقوا في بحار رحمة الله تعالى». ويقول شاعرهم:
لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورة فمرعى لغزلان وديـراً لرهبان.
إلى أن يقول:
أدين بدين الحب أنى توجهتْ ركائبـه فالحب ديـني وإيمانـي
فالدين في هذا المنطق هو الحبّ بشكل مطلق؛ حب القاتل والمقتول، حب الجلاّد والضحية، حب قابيل وهابيل، حب فرعون وموسى، حب نمرود وإبراهيم، حب أبي سفيان وخاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله)، ومن ثم لا معنى للتبري، لأنه لا يوجد شخص ينبغي أن يُتبرّأ منه ما دام الكلّ في طريق الله سبحانه وتعالى.
وقد روي أن رجلاً قدم على أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له: يا أمير المؤمنين إني أحبّك وأحبّ فلاناً فقال (عليه السلام): «أمّا الآن فأنت أعور، فإما أن تعمى وإما أن تبصر»[1].
· الموقف الثاني: هو الموقف الذي يتـبنّى التولي لأولياء الله تعالى ولكنه لا يتبنّى التبري من أعدائه.
هذا الموقف يرى فضائل ومناقب من يتوّلاه فيتوّلاه، ولكنه لا يرى مثالب عدوّه لأن له عيناً واحدة فقط.
وهذا الموقف يختلف عن الموقف الأول، لأن صاحب الموقف الأول يبرّئ الجميع، أما صاحب الموقف الثاني فيقول إني أتولى فلاناً ولا شأن لي بغيره.
· الموقف الثالث: هو الموقف الذي يرتكز على قاعدة التولّي والتبرّي معاً، وكلامنا في هذا البحث هو حول هذا الموقف، ونسعى أولاً لتقصّيه في القرآن الكريم.
التبري من أعداء الله تعالى في القرآن الكريم
يتناول القرآن الكريم قضية التبرّي بصيغتين؛ الأولى: ما يحتوي على عنوان التبري بنفسه، والثانية: ما يتناول بعض مظاهر التبري.
أما الصيغة الأولى فلعلّ أبرز موقف يمثّلها هو موقف نبيّ الله إبراهيم (عليه وعلى نبينا وآله السلام) في قوله تعالى: (فلما تبيّن له أنه عدو لله تبرأ منه).[2]
توضيح ذلك: إن من المحرمات التي ذكرها الفقهاء في كتبهم: الاستغفار للمشرك حتى لو كان أباً أو قريباً؛ قال الله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبيّن لهم أنهم أصحاب الجحيم)[3]; وهذه الشدة في الموقف تعني أنه حتى هذا المقدار من الرابطة العاطفية مع أعداء الله تعالى غير مسموح بـه شرعاً.
لا شك أن التعامل الإنساني لا إشكال فيه؛ يقول تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديارهم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحبّ المقسطين)[4].
ولقد سقى الإمام الحسين (عليه السلام) أعداءه الماء، كما سقى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أعداءه، فالقضية الإنسانية لا تعرف التأطير العقائدي (على التفصيل المقرر في الفقه)، أمّا إنشاء الرابطة العاطفية مع أعداء الله تعالى فغير مسموح حتى على مستوى الاستغفار لهم[5].
(عن أبي إسحاق الهمذاني عن رجل قال: صلّى رجل إلى جنبي فاستغفر لأبويه و كانا ماتا في الجاهلية. فقلت: تستغفر لأبويك وقد ماتا في الجاهلية؟ فقال: قد استغفر إبراهيم لأبيه. فلم أدر ما أردّ عليه، فذكرت ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله) فأنزل الله: وما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ)[6]. ولم يكن آزر أباه الحقيقي بل كان عمه، وفي اللغة العربية يطلق على العم لفظة الأب وعلى الخالة لفظة الأم.
وعلى أيّ حال، يظهر من الآية الكريمة أن آزر وعد إبراهيم (عليه وعلى نبينا وآله السلام) أن يؤمن، ولذلك استغفر له إبراهيم عليه السلام استغفاراً فعلياً أو تعليقياً، ولكنه عندما تبيّن له أنه عدو لله، تبرأ منه؛ لأن الدين لا يقيم قاعدته على أساس العلاقات العائلية بل يقيمها على أساس العلاقات العقائدية، فالعقيدة هي الملاك وليس الروابط.
وفي الآية نكتة جديرة بالالتفات تكمن في كلمة «تبرأ منه» فهي تعني التبري من الفاعل وليس التبري من الفعل فقط، فهناك منطق يقول: نتبرأ من الفعل لا من الفاعل، ولكن منطق القرآن الكريم في هذه الآية الكريمة هو التبرؤ من الفاعل، كما أن هناك آيات فيها تبرّؤ من الفعل مثل قوله تعالى: (وإنني بريء مما تشركون) [7] وقوله سبحانه: (وأنا بريء مما تجرمون)[8].
ومن الموارد التي وردت فيها البراءة بعنوانها سورة كاملة تحمل اسم البراءة وتبدأ به دون البسملة (شعار الرحمة).
أما الصيغة الأخرى من التبري في القرآن الكريم فهي الآيات التي تتناول مظاهر التبري، ومن هذه المظاهر الاستعاذة؛ قال الله تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم)[9] .
ومنها الآيات التي وردت فيها كلمة اللعن.
كثيراً ما يقال: لماذا تلعنون الظالمين؟
والجواب: إن الله تعالى هو الذي شرع لنا اللعن، والآيات القرآنية التي فيها اللعن أكثر من ثلاثين آية، ونحن نلعن من لعنه الله تعالى.
نظرة إلى مقولة التوفيق العقائدي
مع كل ما تقدّم، نسمع اليوم من يذهب إلى فكرة التوفيق العقائدي (أو العقدي).
نحن لا نتحدث عن التوفيق العملي الذي قد يفرضه بعض الظروف، بل في التوافق العقائدي والقول إن على كل طرف أن يتنازل عن بعض ثوابته من أجل الوحدة مع الآخر، إن هذا النوع من التوافق غير صحيح وغير ممكن.
قال أحد الأشخاص لصاحبه: يجب أن نلغي المذاهب فلا سنّة ولا شيعة، فقال صاحبه: إذا أذّن المؤذن كيف نصلّي؟ هل نسبل اليدين أم نتكتف؟ هل نسجد على التراب أم السجّاد...؟
ويقول أحد العلماء: جمعني مع رجل من المذاهب الأخرى لقاء فحلّ موعد الصلاة فقال: أيّنا يؤمّ الآخر؟ فقلت: في مذهبنا هنالك شروط لإمام الجماعة، وأنا لا أصلّي خلف من يفتقد هذه الشروط ولو كان شيعياً، أما أنتم في مذهبكم فتجوّزون الصلاة خلف كل برّ وفاجر، فلأكن أنا الإمام.
لماذا التبري؟
هناك شبهة يثيرها البعض فيقولون: ولماذا التبري من أشخاص وأقوام ماتوا ولم يعودوا بين ظهرانينا؟ ويقولون: أولئك قوم عصمنا الله تعالى من دمائهم فلنعصم أنفسنا من أعراضهم، فنحن لم نشترك في قتلهم، فلنجنّب أنفسنا الخوض في كرامتهم.
إن الإجابة عن هذه التساؤلات بحاجة إلى بحث مستقلّ، لكننا نكتفي هنا بالإشارة إلى نقطتين على نحو الإجمال والاختصار؛ وهما:
النقطة الأولى: إن التبري يعني صنع الحاجز النفسي والاجتماعي مع من تتبرّأ منه، وقضية الحاجز النفسي والاجتماعي قضية مهمة، فمن الناحية الفقهية يحرم على الإنسان أن يجلس على مائدة يُشرب فيها الخمر، إننا الآن نتنفر من الخمرة ويكون تصوّر شربها مقزّزاً لنا، لكن إذا جلس الإنسان على مائدة يُشرب فيها الخمر فإن هذا الحاجز النفسي يقلّ تدريجياً.
وهؤلاء الأفراد الذين نتبرّأ منهم لا يمثلون أفراداً فقط بل يمثّلون مناهج أيضاً، فالحجاج يمثّل منهجاً وهذا المنهج قابل للتكرار في كل مكان وزمان، ألم يتكرر نموذج الحجاج في العراق؟
إذن ينبغي وضع حاجز نفسي واجتماعي تجاه النماذج السيئة لئلا تتكرر، فلو اتخذ أحد أبنائنا شخصاً منحرفاً صديقاً له، ألا نسعى لخلق حاجز في نفسه للابتعاد عنه؟
ولعل هذا يفسّر كثرة النماذج المشابهة للحجّاج في الخطوط الأخرى؛ فلماذا لا يفرز المنهج المخالف أشخاصاً كالحجاج ماداموا معجبين به غير متبرّين منه؟!
إن التبري هو الذي يصنع الحاجز النفسي للابتعاد عن النموذج المتبرّى منه.
النقطة الثانية: وهي نقطة مهمة جداً وإن كان يغفل أو يتغافل عنها الداعون للوحدة العقائدية والفكرية والفقهية؛ وهي: إن موقفنا - إزاء هذه النماذج المنحرفة - دائر بين أمرين، فإما أن ندين أفراداً أو ندين الإسلام، فنحن مضطرون لأحد هذين الأمرين، إن من العوامل المهمة التي تحول دون إسلام كثير من الغربيين هي هذه النماذج السيّئة، وهي نماذج ثابتة تاريخياً ولا يمكن إنكارها أو التستر عليها! هل يستعدّ فرد عاقل اليوم لأن يخضع لحكم البعثيين مع هذا النموذج الذي قدّموه؟ ! هكذا حال هذه النماذج التاريخية، فهؤلاء الأفراد يشكّلون دعاية سلبية للإسلام، فإذا كان الإسلام هو الدين الذي يفرز أمثال الحجاج وهارون فإنه ليس ديناً جديراً بالقبول.
إن أمرنا دائر بين أن ندين هؤلاء الأفراد ونطهّر ساحة الإسلام منهم فنقول: إن هؤلاء لا يمثّلون الدين وإننا نعلن براءتنا منهم، وإما أن نسكت عن هؤلاء وجرائمهم، وهذا معناه إدانة الإسلام.
فأيهما أفضل : إدانة الإسلام أم القول إن هؤلاء يمثّلون شذوذاً عنه وعن تعاليمه؟
إننا لو فكّرنا في قضية التبرّي من الناحية العقلية لرأينا أن التبري من هذه النماذج ضرورة إسلامية يحكم بها العقل قبل الشرع.
أليس التبرّي من تجربة طالبان في أفغانستان ضرورة؟! ولو قلنا للعالم: إن الطالبان يمثّلون الإسلام حقيقة فهل يفكر عاقل في اعتناقه حينئذ؟!
وإذا كنا نتبرّأ اليوم من طالبان وأمثالهم، فمن باب أولى أن نتبرأ من أولئك الذين جلس الطالبان على موائدهم - أعني من تقدمهم وخطّ لهم هذا الخطّ، ومن أسس أساس الظلم والجور - فأولئك أولى بالإدانة والتبرّي، ولذلك نحن نتبرأ منهم.
الصديقة الزهراء عليها السلام أعظم رمز للتبري من أعداء الله تعالى
يبدو أن التخطيط الإلهي كان يقتضي أن تكون الزهراء (عليها السلام) أعظم رمز للتبري من أعداء الله تعالى، إنها الرمز الذي لا يمكن إنكاره، والمخالفون متحيّرون ماذا يفعلون وماذا يقولون تجاه هذا الرمز.
فمثلاً حتى البخاري الذي يأنف عن ذكر حتى رواية واحدة عن الإمام الصادق (عليه السلام) {مع أن المذاهب الأربعة كلّها عيال على المدرسة الفقهية للإمام الصادق عليه السلام}، إنه يروي عن الخوارج وعن عمران بن حطّان الذي يقول في ابن ملجم:
يا ضربة من تقيّ ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حيناً فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا[10]
ولا يروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) ! أجل حتى البخاري هذا لم يستطع الهروب من هذه القضية، ونقل ما يكشف أن فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت رمزاً للتبري، فهو يروي في كتابه الذي يعدّه قومه أصحّ الكتب بعد كتاب الله تعالى: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني»[11] ثم يذكر في مكان آخر من كتابه عن فلان: «فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتى ماتت»[12].
راجعوا كتاب «الإمام الصادق والمذاهب الأربعة» لتعرفوا منهج هذا الرجل في تدوين الحديث، ولكنه ذكر هذه الرواية، وهذا جزء من الهداية الإلهية التشريعية للبشر، لكي تكون معالم الحق واضحة جليّة لا تخفى على أحد.
وقد روي أنّ أحد علماء العامة أراد اللقاء بالعلامة الحلّي ليبحث معه في أمر الإمامة، فأوفد العلامة ولده فخر المحققين لاستقباله خارج البلدة، وبينما هما في الطريق التفت فخر المحققين وسأل ذلك العالم: هل حديث: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» صحيح عندكم؟ فقال: نعم، قال فخر المحققين: فهل كان لفاطمة بعد وفـاة أبيها (صلى الله عليه وآله) إمام أم لا؟ فحار العالم ماذا يجيب، فإن قال: لا، فهل يعقل أن تكون الزهراء قد ماتت - والعياذ بالله - ميتة جاهلية، وهي التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها؟! وإن قال: نعم، فمن كان إمام زمانها؟ لا شك أنه لم يكن أبا بكر لأنها كانت مقاطعة له واجدة عليه رافضة لحكمه مُدينة له، وما رضيت حتى أن يشترك في تشييعها، وإن قال إن إمامها كان علي بن أبي طالب، فقد خصم، وهكذا حار العالم وعاد من حيث أتى دون أن يلتقي بالعلامة الحلي.
فعند الزهراء (عليها السلام) ينتهي كل احتجاج، وهي الرمز الذي لا يقبل التأويل وتنقطع عنده كلّ حجة.
ومما ينقل في هذا الصدد أيضاً أنه «أتت عائشة وحفصة إلى عثمان تطلبان ميراثهما من ضياع أموال رسول اللّه (صلّى الله عليه و آله) التي في يديه، فقال: ولا كرامة، لكن أجيز شهادتكما على أنفسكما، فإنّكما شهدتما عند أبويكما أنّكما سمعتما من رسول اللّه صلّى الله عليه وآله يقول: إنّ النبيّ لا يورث، ما ترك فهو صدقة، ثم لقّنتما أعرابيّا جلفاً ... فشهد معكما، لا من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولا من الأنصار أحد شهد بذلك غير أعرابيّ، أما و الله ما أشكّ في أنّه قد كذب على رسول الله صلّى الله عليه وآله، وكذبتما عليه معه، فانصرفتا من عنده تبكيان و تشتمانه، فقال ارجعا، ثم قال: أشهِدتما بذلك عند أبي بكر؟ قالتا: نعم. قال: فإن شهدتما بحقّ فلا حقّ لكما، وإن كنتما شهدتما بباطل فعليكما وعلى من أجاز شهادتكما على أهل هذا البيت لَعْنَةُ الله والمَلائكَة وَالنَّاسِ أَجْمَعين»[13].
وقال صاحب «كشف الغمّة»: «لما ولي عثمان قالت له عائشة: أعطني ما كان يعطيني أبي وعمر. فقال: لا أجد له موضعاً في الكتاب ولا في السنة ولكن كان أبوك وعمر يعطيانك عن طيبة أنفسهما وأنا لا أفعل. قالت: فأعطني ميراثي من رسول الله. فقال: أليس جئتِ فشهدتِ أنتِ ومالك بن أوس النضري أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: لا نورث، فأبطلتِ حقّ فاطمة، وجئتِ تطلبينه، لا أفعل. فكان إذا خرج إلى الصلاة نادت وترفع القميص وتقول: إنه قد خالف صاحب هذا القميص، فلما آذته صعد المنبر فقال: إن هذه الزعراء عدوة الله ضرب الله مثلها ومثل صاحبتها حفصة في الكتاب (امْرَأَةَ نُوحٍ وَ امْرَأَةَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما) إلى قوله (وقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ). فقالت له: يا نعثل يا عدو الله إنما سمّاك رسول الله (صلى الله عليه وآله) باسم نعثل اليهودي الذي باليمن، فلاعنته ولاعنها وحلفت أن لا تساكنه بمصر أبداً وخرجت إلى مكة». [14]
واجبنا تجاه قضية الزهراء (عليها السلام)
أما بعض واجبنا تجاه الزهراء (عليها السلام) فهو تركيز قضيتها في النفس والبيت والمجتمع والعالم.
فمن طرق التركيز في البيت والعائلة مثلاً تخصيص جائزة لكلّ من يحفظ الخطبة الفدكية للسيدة الزهراء (عليها السلام)، كما يمكن للمشرفين على الدورات الصيفية القيام بذلك أيضاً.
ومن طرق التركيز في المجتمع والعالم تأليف الكتب والموسوعات عن الصديقة الزهراء (عليها السلام) وقضيتها ومظلوميتها.
ومن كان يستطيع إقامة مجالس العزاء في بيته فليفعل، ولنواصل ولا نتوقف، لأن كثيرين وُفّقوا في البداية ولكن التوفيق لم يحالفهم حتى النهاية، فلنطلب من الله تعالى أن لا يسلبنا هذا التوفيق.
لك سدارتك وأعطني عمامتي
كان نظام الحكم في العراق قبل حوالي أربعين عاماً يحاول استقطاب رجال الدين ثم تذويبهم ومن هنا أعلنت الدولة عن توظيف رجال الدين كمعلمين براتب جيد، بعد إجراء امتحان لهم.
وقد نقل عن أحد رجال الدين آنذاك أنه قال: كانت أوضاعي المادية ضاغطة ففكرت أن أوفّق بين الأمرين فأذهب صباحاً للوظيفة الرسمية، ثم أعود عصراً إلى مهمّتي كرجل دين، دون أن أخبر أحداً بذلك.
قال: وبينما كنت ذاهباً لأداء الامتحان لقيني شخص من عامّة الناس في الطريق وطلب مني أن أفسّر له رؤيا رآها البارحة، وقال: لقد رأيت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يخاطبك بالقول: «لك سدارتك وأعطني عمامتي» - وكان المعلّمون آنذاك يلبسون سدارة - فما تفسير ذلك؟
يقول: فقلت له: هذه رسالة لي من أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد وصلت الرسالة، ثم رجعتُ إلى بيتي ولم أنخرط في سلك الدولة، وتركتُ الحلول التوفيقية، وواصلت سيري في طلب العلوم الدينية والخطابة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الموفَّقين لخدمة دينه وأوليائه وأن لا يسلبنا هذا التوفيق، إنه سميع مجيب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
====
· ألقيت هذه المحاضرة في 11 جمادى الأولى من عام 1425هـ ، على جمع من طلاّب العلوم الدينية في مدينة قم المقدّسة.
[1] بحار الأنوار: 37 / 58، باب 1، ح18.
[2] التوبة: 114.
[3] التوبة: 113.
[4] الممتحنة: 8.
[5] راجع تفاصيل ذلك في الكتب الفقهية.
[6] بحار الأنوار: 11/ 88، رقم 15.
[7] الأنعام: 19.
[8] هود: 35.
[9] النحل: 98.
[10] شرح نهج البلاغة: 13/ 241.
[11] صحيح البخاري: 4 / 210.
[12] صحيح البخاري: 8 / 3.
[13] بحار الأنوار: 30/ 317 باب 30.
[14] كشف الغمّة: 1/ 479.
ونسألكم الدعاء...~
تعليق