التنمية الإنسانية في عهد الإمام علي عليه السلام
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الطاهرين وصحبه الطيبين
حين نقرأ سيرة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أثناء توليه للخلافة والحكم، ونتأمل رسائله للولاة والموظفين، وخطابه لجمهور الناس، نجد أنه كان مهموماً بتطوير حياة أبناء الأمة، وتنميتها في مختلف المجالات، وحسب مصطلح اليوم كان مهتماً بالتنمية البشرية، ولم يكن مجرد زعيم ديني يعنيه نشر العقيدة وتطبيق الشريعة فحسب، ولا مجرد حاكم سياسي يهمه توطيد سلطته وحكمه، بل كان صاحب مشروع حضاري يستهدف إسعاد الإنسان وتفجير طاقاته وكفاءاته، ليتمتع بحياة كريمة، ويتجه إلى الفاعلية والإنتاج، وذلك هو المقصد الأساس للعقيدة والشريعة.
ففي مجال التنمية السياسية، يشجع الإمام علي (عليه السلام) الناس على الجهر بآرائهم السياسية، وأن لا يترددوا في الاعتراض على الخطأ أمام الحاكم، وأن لا يتعاملوا مع الحاكم بمنطق التملق والتزلف. يقول فَلا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، ولا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ-أي عند أهل الغضب- ولا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ -أي بالمجاملة- ولا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالاً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي ولا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ فَلا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ ولا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي)[1] .
وقد أعلن الإمام أمام الناس ضمانه لحقوق المعارضة، وعدم مضايقتهم اجتماعياً، والضغط عليهم اقتصادياً، ولا استخدام العنف ضدهم، ما دامت معارضتهم سلمية لم يشهروا فيها السلاح.
جاء في دعائم الإسلام أنه خطب بالكوفة فقام رجل من الخوارج فقال: لا حكم إلا لله، فسكت علي، ثم قام آخر وآخر، فلما أكثروا عليه قال : (كلمة حق يراد بها باطل، لكم عندنا ثلاث خصال: لا نمنعكم من مساجد الله أن تصلوا فيها، ولا نمنعكم الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بحرب حتى تبدؤونا به)[2] .
وفي مجال التنمية الاقتصادية، وتوفير حاجات المواطنين، نجد نصاً منقولاً في أكثر من مصدر تاريخي، أن علياً خاطب أهل الكوفة قائلاً: (ما أصبح في الكوفة أحد إلا ناعماً-أي مرفَّهاً-، وإن أدناهم منزلة ليأكل من البر، ويجلس في الظل -له مسكن-، ويشرب من ماء الفرات)[3] .، والكوفة في ذلك الوقت، كانت مصراً عظيماً، ذات كثافة سكانية، وتنوع في الأعراق، يقطنه أناس من مختلف الأمصار، ومن مختلف البقاع، فيها عرب من مختلف قبائلهم، وفيها موالي أي عجم، وفيها عسكريون، وفيها مدنيون، وفيها أنواع من الناس بتوجهاتهم الفكرية المختلفة، فيها من كان يحب الإمام ، وفيها من كان يناوئه.
قال السيد حسين البراقي (ت 1322هـ) في كتابه تاريخ الكوفة: كانت الكوفة واسعة كبيرة تتصل قراها وجبّاناتها إلى الفرات الأصلي وقرى العذار فهي تبلغ ستة عشر ميلا وثلثي الميل، قال ياقوت في المعجم: ذكر أن فيها من الدور خمسين ألف دار للعرب من ربيعة ومضر، وأربعة وعشرين ألف دار لسائر العرب، وستة آلاف دار لليمن[4].
مع هذا التنوع يقول : (ما أصبح بالكوفة أحدٌ إلا ناعماً)، أي يعيش النعمة، يتمتع بالنعم، أو من النعومة بمعنى: الرخاء، وهذا يعني أن كل ساكني الكوفة، سواء من أهلها أو الآتين إليها، لم يعد فيهم أحدٌ إلا وهو يتمتع بالنعم، ثم يقول : (إنّ أدناهم مرتبة) الحد الأدنى في حياة أهل الكوفة (ليأكل من البرّ) وهذا يعني أنه لا يوجد جائع في الكوفة، أقل الناس رتبة في وضعه الاجتماعي والاقتصادي يتوفر له الطعام الكافي، (ويجلس في الظل) يمتلك مسكنا يأوي إليه.
فالطعام والسكن متوفر لكل أحد، وكذا الماء (ويشرب من ماء الفرات).
ولهذا النص تأكيدات جاءت في نصوص أخرى منها أنه مرَّ شيخٌ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين ما هذا؟
فقالوا: يا أمير المؤمنين، نصراني!.
فقال أمير المؤمنين : استعملتموه، حتى إذا كبر وعجز منعتموه؟! أنفقوا عليه من بيت المال[5] .
لا يوجد فرق عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، بين أن يكون هذا الإنسان مسلماً أو نصرانياً، يجب أن تتوفر لكل أحد سبل الحياة الكريمة، وحاجاته الأساس.
وروي أنه: دخل الناس على أمير المؤمنين قبل أن يستشهد بيوم، فشهدوا جميعاً أنّه قد وفّر لهم فيئهم، وظَلَف عن دنياهم، ولم يرتش في إجراء أحكامهم، ولم يتناول من بيت مال المسلمين ما يساوي عقالاً، ولم يأكل من مال نفسه إلا قدر البُلغة، وشهدوا جميعاً أن أبعد الناس منهم بمنزلة أقربهم منه[6] .
وكان الإمام علي (عليه السلام) يحمل قلقاً وهمًّا لاحتمال وجود حالة فقر في المناطق البعيدة عن مقرّ خلافته، يقول (ولَوْ شِئْتُ لاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ، ولُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ، ونَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ، ولَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، ويَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الأطْعِمَةِ ولَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، ولا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ)[7] .
اتجاهات التنمية:
ويمكننا أن نلحظ أن توجهات الإمام في تحقيق التنمية الإنسانية في أبعادها المختلفة، كانت تعتمد ثلاثة مناهج:
الأول: استنهاض الإنسان ليمارس دوره الفاعل في الحياة، وليفجر طاقاته الكامنة، وليتسلح بالطموح وعلو الهمة.. وفي ما نقل من كلام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة وغيره من المصادر ثروة هائلة عظيمة على هذا الصعيد.
الثاني: دعوة الناس للتعاون فيما بينهم، والتطوع لخدمة بعضهم بعضاً، والاهتمام بمناطق الضعف والحاجة في المجتمع، بما نطلق عليه الآن العمل الأهلي التطوعي، كقوله في وصيته للحسنين: (أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللَّهِ، وأَلا تَبْغِيَا الدُّنْيَا وإِنْ بَغَتْكُمَا، ولا تَأْسَفَا عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا، وقُولا بِالْحَقِّ، واعْمَلا لِلأجْر،ِ وكُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً، ولِلْمَظْلُومِ عَوْناً. أُوصِيكُمَا وجَمِيعَ وَلَدِي وأَهْلِي ومَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللَّهِ، ونَظْمِ أَمْرِكُمْ، وصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا يَقُولُ (صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلاةِ والصِّيَامِ). اللَّهَ اللَّهَ فِي الأيْتَامِ، فَلا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ، ولا يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ)[8] .
الثالث: وضع سياسة الدولة في خدمة التنمية، وهذا ما تؤكده سيرة الإمام مع الشعب، وتوجيهاته للولاة والموظفين، ومن أبرزها واشملها عهده لمالك الأشتر حين ولاه مصر.
حيث يؤكد الإمام في فقرات هذا العهد على تطبيق العدل والمساواة بين المواطنين، وحفظ حقوقهم المادية والمعنوية، وإن اختلفت أديانهم وتوجهاتهم، يقول : (وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، والْمَحَبَّةَ لَهُمْ، واللُّطْفَ بِهِمْ، ولا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ).
ويلفت الإمام نظر والِيه إلى أن مهمته لا تقتصر على أخذ الضرائب من الناس، وهو ما يطلق عليه جباية الخراج، بل إنه معني باستصلاح أمور أهل البلد في مختلف جوانبها الدينية والدنيوية، وعمارة البلاد، ومواجهة أي عدوان عليها. يقول : (هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الأشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلاهُ مِصْرَ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وجِهَادَ عَدُوِّهَا واسْتِصْلاحَ أَهْلِهَا وعِمَارَةَ بِلادِهَا) ويؤكد الإمام على أولوية التنمية وزيادة الإنتاج قائلاً: (ولْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الأرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلابِ الْخَرَاجِ).
ويتحدث الإمام في هذا العهد حول دور كل طبقة من طبقات المجتمع، كالعسكريين والقضاة والموظفين والصناعيين والمزارعين والتجار، في صناعة التنمية، وتحقيق التقدم، محدداً واجبات الدولة في دعمهم والتعامل معهم.
يقول واعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلا بِبَعْضٍ ولا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ).
ويؤكد على اختيار موظفي الدولة بناءً على الكفاءة والخبرة، وليس بدافع المحسوبية والاستئثار الفئوي. ثم متابعة الإشراف والرقابة عليهم، حتى لا يقصروا في مهامهم، ولا يسيئوا استخدام مواقعهم.
يقول ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً ولا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً ... ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ وابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ والْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لِأُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الأمَانَةِ والرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ).
كما يوجّه الإمام الدولة إلى الاهتمام بالفقراء والمحتاجين وذوي الأمراض المزمنة، وأن عليها أن تبحث عن مواقع الضعف والحاجة في المجتمع، وأن تعتمد في رعايتهم على ذوي الثقة وحسن التعامل. يقول ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لا حِيلَةَ لَهُمْ مِنَ الْمَسَاكِينِ والْمُحْتَاجِينَ وأَهْلِ الْبُؤْسَى والزَّمْنَى... وتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ-أي تستصغره- وتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ فَفَرِّغْ، لِأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ والتَّوَاضُعِ فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ).
إن عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر يشكل وثيقة سياسية تربوية رائعة، ولا ينبغي أن نقرأه باعتباره برنامجاً للحاكم فقط، بل علينا أن نستلهم منه الرؤية لدور المجتمع في انجاز التنمية الشاملة.
مع تحيا ت اخوكم الشرطي
منقول
تعليق