صحابي جليل .....
نشأته:
لم ترفدنا المصادر التاريخية بالكثير عن حياة الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري، لا سيما في الفترة التي عاشها بين بني قومه، خاصة قبل إسلامه، ما يجعل مهمة الكشف عن شخصيته في هذه المرحلة عملية صعبة وشاقة، ولكن من المتسالم عليه أنّ أبا ذر كان ممن اتّسم بمعاني البطولة والشجاعة في الجاهلية، واستمر كذلك بعد إسلامه.
ففي الجاهلية كان شجاعاً بطبعه، وقد روى ابن سعد في طبقاته، "أنّ أبا ذر كان رجلاً يصيب الطريق، وكان شجاعاً يتفرد وحده بقطع الطريق، ويغير على الصرم ـ وهي الفرقة من الناس بأعداد قليلة ـ في عماية الصبح على ظهر فرسه، أو على قدميه، كأنه السبع، فيطرق الحي ويأخذ ما يأخذ، ثم إن الله قذف في قلبه الإسلام".
وكان هذا هو نمط الحياة السائد في البادية، التي كانت تقوم على النهب والسلب، ولا يرى فيها الأعرابي ما يخلّ بالشرف أو المكانة الاجتماعية، بل كانت على العكس مدعاة فخر واعتزاز تمنح لمن يقوم بها رفعةً ومكانةً بين قومه، ودليلاً على شدة بأسه وقوة شكيمته، ولكن الإسلام نهى عن هذه الممارسات التي تجعل المجتمع مستباحاً، فاستجاب أبو ذر والمسلمون لهذه الدعوة.
البحث عن الحقيقة
وحين أسلم أبو ذر، زاده الإسلام قوةً وصلابة وشجاعة، ومنحه زخماً إيمانياً، جعله من فرسان الإسلام وأبطاله الأوائل، وهذا ما تجلّى بقوله للنبي(ص): "يا رسول الله، إني منصرف إلى أهلي، وناظر حتى يؤمر بالقتال، فألحق بك، فإني أرى قومك عليك جميعاً"، فقال رسول الله(ص):" أصبت".
كان أبو ذر في الجاهلية يرفض عبادة الأصنام، وحين تناهى إلى سمعه نبأ ظهور النبي(ص) في مكة ودعوته الناس إلى الإسلام، عقد العزم على اللقاء به، والاستماع إليه، فأرسل أخاه أنيساً ليحمل إليه بعض أخباره، وانطلق أنيس حتى قدم مكة، وسمع من قوله(ص)، ثم رجع إلى أبي ذر، وقال له، رأيته يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويأمر بمكارم الأخلاق، وسمعت منه كلاماً ما هو بالشعر! ما أثار حفيظة أبي ذر، فقدم إلى مكة، وأتى المسجد، فالتمس النبي(ص) وهو لا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، فالتقاه علي(ع)، فمكث عنده ثلاثة أيام، اصطحبه بعدها إلى النبي(ص).
داعية متفان في سبيل الإسلام
عرض النبي(ص) الإسلام عليه فأسلم، وشهد بأنه لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله، وطلب الرسول منه أن يرجع إلى قومه ويدعوهم إلى الإسلام، ويكتم أمره عن قريش، ولكنه ما إن وصل إلى المسجد، حتى صاح بأعلى صوته بالشهادتين، فثار إليه القوم وضربوه، فأنقذه العباس، مبيناً لهم مخاطر ما أقدموا عليه على تجارتهم التي تمر بالقرب من غفار.
تركت هذه الحادثة أثراً سلبياً على نفسية أبي ذر، وعاهد نفسه أن يثأر من قريش، فخرج وأقام بـ"عسفان"، وكلما أقبلت عير لقريش يحملون الطعام، يعترضهم ويجبرهم على إلقاء أحمالهم، فيقول أبو ذر لهم: لا يمس أحد حبة حتى تقولوا لا إله إلا الله، فيقولون لا إله إلاّ الله، ويأخذون ما لهم.
وحين رجع أبو ذر إلى قومه، نفّذ وصيّة رسول الله(ص)، فدعاهم إلى الله عز وجل، ونبذ عبادة الأصنام والإيمان برسالة محمد(ص)، فكان أول من أسلم منهم أخوه أنيس، ثم أسلمت أمهما، ثم أسلم بعد ذلك نصف قبيلة غفار، وقال نصفهم الباقي، إذا قدم رسول الله إلى المدينة، أسلمنا، وهذا ما تم ، وجاءت أسلم فقالوا يا رسول الله: إخوتنا، نسلم على الذي أسلموا عليه، فأسلموا. وفي ذلك قال رسول الله(ص): "غفّار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله".
ومما يلفت له، أن أبا ذر كان من المبادرين الأول لاعتناق الإسلام، حتى قيل إنه رابع من أسلم، وقيل خامسهم.
وبقي أبو ذر بين قومه فترة طويلة، لم يحضر في خلالها غزوة بدر ولا أحد ولا الخندق، كما تقول الروايات، وبقي بينهم في الخندق الآخر، حيث كان يفقههم في دينهم، ويعلمهم أحكام الإسلام.
عناية خاصة من قبل الرسول(ص):
حظي أبو ذر بالاهتمام الكبير والعناية الخاصة من قبل الرسول(ص)، فعن أبي الدرداء قال: "كان النبي(ص) يبتدئ أبا ذر إذا حضر ويتفقده إذا غاب"، حاول المشاركة في غزوة تبوك، ولكن جمله أبطأ عليه، فتركه وحمل رحله على ظهره وتبع النبي ماشياً.
كان ممن تخلفوا عن بيعة أبي بكر ، ومال إلى علي بن أبي طالب، وتشيع لعلي(ع) وآل بيته، فكان ينادي بأحقية علي(ع) في الخلافة بعد رسول الله(ص) بلا فصل، ودعا المسلمين إلى ذلك بكل جرأة وصراحة حتى آخر لحظة في حياته.
يكتنف الغموض والتعتيم مسار شخصية أبي ذر في الفترة ما بين خلافة عمر إلى خلافة عثمان، فلا حديث ولا رواية عنه في تلك الفترة، مع كونه من الشخصيات البارزة في الإسلام، ممن نوّه رسول الله(ص) بفضلهم، وممن حازوا قصب السبق في مجالي الدين والعلم، ويكفي قول رسول الله(ص) فيه: "ما تقل الغبراء، ولا تظل الخضراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر".
أقام في الشام قبل نفيه، وقد جاء في تاريخ ابن الأثير في حوادث سنة 23هـ: "وفيها غزا معاوية الصائفة الروم ومعه عبادة بن الصامت، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو ذر".
وفي حوادث سنة 28هـ، قال: "كان فتح قبرس على يد معاوية... إلى أن قال: ولما غزا معاوية هذه السنة، غزا معه جماعة من الصحابة، منهم أبو ذر...". ولم يلبث أن شكاه معاوية إلى عثمان، فأخرجه إلى المدينة، ثم نفاه إلى الربذة.
كان التشيع في جبل عامل على صلة وثيقة بأبي ذر(رض)، وفي هذا الصدد يقول السيد الأمين في كتابه أعيان الشيعة: "ومن المشهور أن تشيّع جبل عامل كان على يد أبي ذر، وأنه لما نفي إلى الشام، وكان يقول في دمشق ما يقول، أخرجه معاوية إلى قرى الشام، فجعل ينشر فيها فضائل أهل البيت(ع)، فتشيع أهل تلك الجبال على يده، فلما علم معاوية، أعاده إلى دمشق ثم نفي إلى المدينة.
تصديه للممارسات السلطوية:
تصدى أبو ذر لسياسة السلطة، سواء في الشام أو في المدينة، حيث تحوّل الخليفة طرفاً في الخصومة أو منحازاً إلى فئة معينة، متجاوزاً مرحلة الكلام إلى مرحلة استخدام القوة واللجوء إلى القتل والفتك.
وفي السنة الثانية من خلافته، نحت الخلافة منحى خطيراً، تجلّى في الهبات والقطائع الضخمة التي كان عينها الخليفة للمقربين، وبما قام به الولاة من بني أمية من استغلال لمنصب الولاية لتكريس مقدرات الأمة لمصالحهم الشخصية، فكان بعضهم يرى أن الفيء الذي أفاءه الله على المسلمين إنما هو لشبان قريش ليس لأحد دونها حق فيه، كما قال سعيد بن العاص والي الكوفة مخاطباً بعض جلسائه.
لقد اختار عثمان الولاة والعمال الإداريين وفق منطق القرابة والرحم والعشيرة، بدلاً من الاعتماد على عنصر الكفاءة والإخلاص للإسلام، ومن هؤلاء عبد الله بن سعد بن أبي سرح في مصر، ومعاوية بن أبي سفيان في الشام، والوليد بن عقبة في الكوفة، وسعيد بن العاص الذي خلف الوليد في حكم الكوفة وعبد الله بن عامر بن كريز.
أما سياسته المالية، فقد أغدق الأموال العامة على أقاربه، ولم تقتصر هباته على آله وذوي رحمه، بل شملت المبرزين من قريش من ذوي النفوذ، وخصوصاً بعض أعضاء الشورى الذين كانوا يطمحون إلى الخلافة.
ولم يكتف بذلك، بل فتح لهم باب تنمية هذه الثروات، حيث اقترح أن ينقل الناس فيأهم من الأرض إلى حيث أقاموا، فمن كان له أرض في الحجاز، أو في غيرها من بلاد العرب، فله أن يبيعها، وقد سارع الأثرياء إلى الاستفادة من هذا الإجراء، فاشتروا بأموالهم المكدَّسة أرضاً في البلاد المفتوحة في العراق أو الشام أو مصر، وجلبوا لها الرقيق والأحرار، يعملون فيها ويستثمرونها، وبذلك نمت هذه الثروات نمواً عظيماً.
لقد كان أبو ذر من جملة أولئك المخلصين الذين لا يتوانون عن إبداء النصيحة لعثمان، بل كان يجهد في ذلك، فيصارحه، ويصارح غيره من ولاته بما أحدثوه من تحولات في مسرى الخلافة الإسلامية، وحرفهم إياها عن الطريق الذي رسمه الرسول(ص)، ويظهر ذلك من قول أبي ذر له: "نصحتك فاستغششتني، ونصحت صاحبك ـ يعني معاوية ـ فاستغشني".
لكن الطرف الثاني لم يعر لهذه النصائح آذانه، بل كان يتمادى في سياسته، غير آبهٍ ولا مكترث لما يجري من حوله، وإذا أراد أن يجيب في بعض الأحيان، فإنه يرمي من ينصحه بالكذب والافتراء تارةً، وبتدبير المكائد وشق عصا الأمة تارة أخرى.
وأمام الإصرار على عدم سماع النصائح والمضي في ما رسموه من سياستهم، كان أبو ذر يجهر بقول الحق، وفي كل مناسبة وكل مكان، بوحي من ضرورة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من ركائز الإسلام ومقوماته.
وهذا ما حصل فعلاً مع عثمان حين أمعن بالاستمرار في سياسته، وفي ذلك يقول ابن أبي الحديد: "إن عثمان لما أعطى مروان وغيره بيوت الأموال، واختص زيد بن ثابت بشيء منها، جعل أبو ذر يقول بين الناس، وفي الطرقات والشوارع: بشِّر الكانزين بعذاب أليم، ويرفع بذلك صوته، ويتلو قوله تعالى: {والذين يكنـزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم}.
وهذه الآية إنما تنذر وتتوعّد فئةً من أصحاب الثروة الذين يجمعونها من طرق غير مشروعة.
لقد سببت هذه السياسة متاعب لأبي ذرّ، وسخط عليه الخليفة والمقرّبون من حوله، وهذا ما تجلّى بقوله: "إن بني أمية تهددني بالفقر أو القتل"، وهو الذي كان بوسعه أن يحظى بكل ما يتمناه من التكريم والعطاء والقرب لدى عثمان إذا ما هادنه، ولكن واجبه الشرعي والإسلامي كان يفرض عليه مثل هذا الموقف.
ولذلك لم يعد الخليفة يطيق وجود أبي ذر وأمثاله في المدينة، فأمره باللحوق بالشام، ظناً منه أن غضبه هذا سيضع حداً لنشاط أبي ذر، لكن الذي حصل كان على العكس، حيث كان يتمتع في بلاد الشام بحرية أوسع في الحركة، كما كانت نظرته إلى معاوية تختلف عن نظرته إلى عثمان، "كان يقوم في كل يوم، فيعظ الناس، ويأمرهم بالتمسك بطاعة الله، ويحذرهم من ارتكاب معاصيه، ويروي عن رسول الله(ص) ما سمعه منه في فضائل أهل بيته(ع)، ويحضهم على التمسك بعترته".
حاول معاوية إغراء أبي ذر لإسكاته، فبعث إليه يوماً ثلاثمائة دينار، فكان ردُّ أبي ذر: "إذا كانت هذه الأموال من العطاء الذي حرمت منه في ذلك العام فلا بأس، أما إذا كانت لكسب المودة فلا حاجة لي فيها"، وردّها عليه.
كان معاوية يرى في وجود أبي ذر على مقربة منه حاجزاً فعلياً يقف في وجه طموحاته في تكريس نفسه أميراً على الشام، كتمهيد للسيطرة على مقاليد الأمور كلها، ما يمكّنه من أن يصل إلى سدة الخلافة، فكان أحرص على إبعاده عنه من إبعاد عثمان إياه عن المدينة، فكتب إلى عثمان:"إنك قد أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر".
والواقع أنه أفسدها على معاوية وعلى عثمان معاً، لأنه كان يندد بأعمال الولاة، وانحرافهم واستئثارهم بالفيء، بحجة أنه "مال الله"، كي يبيح لمعاوية صرفه في سبيل غاياته الشخصية، وكي يعطيه لمروان بن الحكم، وللحكم بن أبي العاص (طريد رسول الله)، ولأبي سفيان، ولعبد الله بن سعد، وغيرهم ممن جروا الويلات على هذه الأمة بتحكمهم برقاب الناس، ومقدّراتهم.
ويظهر أن عثمان ـ بعد ورود كتاب معاوية عليه ـ وجد مبرراً للانتقام من أبي ذر، وتأديبه كما يشتهي، فكتب إلى معاوية: "أما بعد ، فاحمل جندباً إليّ على أغلظ مركب وأوعره"..
النفي إلى الربذة
ولما وصل إلى عثمان، نفاه إلى الربذة، وجاء في شرح النهج عن ابن عباس، قال: "لما أخرج أبو ذر إلى الربذة، أمر عثمان، فنودي في الناس، ألاّ يكلم أحد أبا ذر، ولا يشيّعه، وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به، فخرج به وتحاماه الناس، إلاّ علي بن أبي طالب(ع) وعقيلاًَ أخاه ، وحسناً وحسيناً عليهما السلام، وعمّاراً فإنهم خرجوا يشيّعونه".
وهذا ما أسخط عثمان على علي(ع) وأهل بيته، وودع علي(ع) أبا ذر قائلاً له: "إنك غضبت لله، فارج من غضبت له، إن القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وأغناك عمّا منعوك، وستعلم من الرابح غداً، والأكثر حُسّداً، ولو أن السموات والأرضين كانت على عبدٍ رتقاً ثم اتقى الله، لجعل الله له منهما مخرجاً.
لا يؤنسنّك إلاّ الحق، ولا يوحشنّك إلاّ الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبّوك، ولو قرضت منها لأمّنوك".
ثم تكلم عقيل، والحسن(ع)، والحسين(ع)، وعّمار بن ياسر، بكلمات تعبر عن صوابية موقف أبي ذر، وتدعوه إلى الصبر على الشدائد، فبكى أبو ذر، وكان شيخاً كبيراً، وقال: "رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة، إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله(ص)، ما لي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم، إني ثقلت على عثمان بالحجاز، كما ثقلت على معاوية بالشام، وكره أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين، فأفسد الناس عليهما، سيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلاّ الله، والله ما أريد إلاّ الله صاحباً، وما أخشى مع الله وحشة".
وسير أبو ذر إلى الربذة، وانطبق عليه قول رسول الله(ص) عندما قال: "يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، ويشهده عصابته من المؤمنين".
وهو الذي قال فيه رسول الله(ص) أيضاً: "ما أظلّت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر".
وهكذا كان أبو ذر شخصية تتّسم بالحزم والجرأة والإقدام، حيث كان صلباً في مواقفه، ثابتاً في إيمانه، لا تزلزله الشبهات والانحرافات، ولذلك نال جزاء مواقفه ونصرته الحق، العزلة والعيش وحيداً.
لم ترفدنا المصادر التاريخية بالكثير عن حياة الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري، لا سيما في الفترة التي عاشها بين بني قومه، خاصة قبل إسلامه، ما يجعل مهمة الكشف عن شخصيته في هذه المرحلة عملية صعبة وشاقة، ولكن من المتسالم عليه أنّ أبا ذر كان ممن اتّسم بمعاني البطولة والشجاعة في الجاهلية، واستمر كذلك بعد إسلامه.
ففي الجاهلية كان شجاعاً بطبعه، وقد روى ابن سعد في طبقاته، "أنّ أبا ذر كان رجلاً يصيب الطريق، وكان شجاعاً يتفرد وحده بقطع الطريق، ويغير على الصرم ـ وهي الفرقة من الناس بأعداد قليلة ـ في عماية الصبح على ظهر فرسه، أو على قدميه، كأنه السبع، فيطرق الحي ويأخذ ما يأخذ، ثم إن الله قذف في قلبه الإسلام".
وكان هذا هو نمط الحياة السائد في البادية، التي كانت تقوم على النهب والسلب، ولا يرى فيها الأعرابي ما يخلّ بالشرف أو المكانة الاجتماعية، بل كانت على العكس مدعاة فخر واعتزاز تمنح لمن يقوم بها رفعةً ومكانةً بين قومه، ودليلاً على شدة بأسه وقوة شكيمته، ولكن الإسلام نهى عن هذه الممارسات التي تجعل المجتمع مستباحاً، فاستجاب أبو ذر والمسلمون لهذه الدعوة.
البحث عن الحقيقة
وحين أسلم أبو ذر، زاده الإسلام قوةً وصلابة وشجاعة، ومنحه زخماً إيمانياً، جعله من فرسان الإسلام وأبطاله الأوائل، وهذا ما تجلّى بقوله للنبي(ص): "يا رسول الله، إني منصرف إلى أهلي، وناظر حتى يؤمر بالقتال، فألحق بك، فإني أرى قومك عليك جميعاً"، فقال رسول الله(ص):" أصبت".
كان أبو ذر في الجاهلية يرفض عبادة الأصنام، وحين تناهى إلى سمعه نبأ ظهور النبي(ص) في مكة ودعوته الناس إلى الإسلام، عقد العزم على اللقاء به، والاستماع إليه، فأرسل أخاه أنيساً ليحمل إليه بعض أخباره، وانطلق أنيس حتى قدم مكة، وسمع من قوله(ص)، ثم رجع إلى أبي ذر، وقال له، رأيته يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويأمر بمكارم الأخلاق، وسمعت منه كلاماً ما هو بالشعر! ما أثار حفيظة أبي ذر، فقدم إلى مكة، وأتى المسجد، فالتمس النبي(ص) وهو لا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، فالتقاه علي(ع)، فمكث عنده ثلاثة أيام، اصطحبه بعدها إلى النبي(ص).
داعية متفان في سبيل الإسلام
عرض النبي(ص) الإسلام عليه فأسلم، وشهد بأنه لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله، وطلب الرسول منه أن يرجع إلى قومه ويدعوهم إلى الإسلام، ويكتم أمره عن قريش، ولكنه ما إن وصل إلى المسجد، حتى صاح بأعلى صوته بالشهادتين، فثار إليه القوم وضربوه، فأنقذه العباس، مبيناً لهم مخاطر ما أقدموا عليه على تجارتهم التي تمر بالقرب من غفار.
تركت هذه الحادثة أثراً سلبياً على نفسية أبي ذر، وعاهد نفسه أن يثأر من قريش، فخرج وأقام بـ"عسفان"، وكلما أقبلت عير لقريش يحملون الطعام، يعترضهم ويجبرهم على إلقاء أحمالهم، فيقول أبو ذر لهم: لا يمس أحد حبة حتى تقولوا لا إله إلا الله، فيقولون لا إله إلاّ الله، ويأخذون ما لهم.
وحين رجع أبو ذر إلى قومه، نفّذ وصيّة رسول الله(ص)، فدعاهم إلى الله عز وجل، ونبذ عبادة الأصنام والإيمان برسالة محمد(ص)، فكان أول من أسلم منهم أخوه أنيس، ثم أسلمت أمهما، ثم أسلم بعد ذلك نصف قبيلة غفار، وقال نصفهم الباقي، إذا قدم رسول الله إلى المدينة، أسلمنا، وهذا ما تم ، وجاءت أسلم فقالوا يا رسول الله: إخوتنا، نسلم على الذي أسلموا عليه، فأسلموا. وفي ذلك قال رسول الله(ص): "غفّار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله".
ومما يلفت له، أن أبا ذر كان من المبادرين الأول لاعتناق الإسلام، حتى قيل إنه رابع من أسلم، وقيل خامسهم.
وبقي أبو ذر بين قومه فترة طويلة، لم يحضر في خلالها غزوة بدر ولا أحد ولا الخندق، كما تقول الروايات، وبقي بينهم في الخندق الآخر، حيث كان يفقههم في دينهم، ويعلمهم أحكام الإسلام.
عناية خاصة من قبل الرسول(ص):
حظي أبو ذر بالاهتمام الكبير والعناية الخاصة من قبل الرسول(ص)، فعن أبي الدرداء قال: "كان النبي(ص) يبتدئ أبا ذر إذا حضر ويتفقده إذا غاب"، حاول المشاركة في غزوة تبوك، ولكن جمله أبطأ عليه، فتركه وحمل رحله على ظهره وتبع النبي ماشياً.
كان ممن تخلفوا عن بيعة أبي بكر ، ومال إلى علي بن أبي طالب، وتشيع لعلي(ع) وآل بيته، فكان ينادي بأحقية علي(ع) في الخلافة بعد رسول الله(ص) بلا فصل، ودعا المسلمين إلى ذلك بكل جرأة وصراحة حتى آخر لحظة في حياته.
يكتنف الغموض والتعتيم مسار شخصية أبي ذر في الفترة ما بين خلافة عمر إلى خلافة عثمان، فلا حديث ولا رواية عنه في تلك الفترة، مع كونه من الشخصيات البارزة في الإسلام، ممن نوّه رسول الله(ص) بفضلهم، وممن حازوا قصب السبق في مجالي الدين والعلم، ويكفي قول رسول الله(ص) فيه: "ما تقل الغبراء، ولا تظل الخضراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر".
أقام في الشام قبل نفيه، وقد جاء في تاريخ ابن الأثير في حوادث سنة 23هـ: "وفيها غزا معاوية الصائفة الروم ومعه عبادة بن الصامت، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو ذر".
وفي حوادث سنة 28هـ، قال: "كان فتح قبرس على يد معاوية... إلى أن قال: ولما غزا معاوية هذه السنة، غزا معه جماعة من الصحابة، منهم أبو ذر...". ولم يلبث أن شكاه معاوية إلى عثمان، فأخرجه إلى المدينة، ثم نفاه إلى الربذة.
كان التشيع في جبل عامل على صلة وثيقة بأبي ذر(رض)، وفي هذا الصدد يقول السيد الأمين في كتابه أعيان الشيعة: "ومن المشهور أن تشيّع جبل عامل كان على يد أبي ذر، وأنه لما نفي إلى الشام، وكان يقول في دمشق ما يقول، أخرجه معاوية إلى قرى الشام، فجعل ينشر فيها فضائل أهل البيت(ع)، فتشيع أهل تلك الجبال على يده، فلما علم معاوية، أعاده إلى دمشق ثم نفي إلى المدينة.
تصديه للممارسات السلطوية:
تصدى أبو ذر لسياسة السلطة، سواء في الشام أو في المدينة، حيث تحوّل الخليفة طرفاً في الخصومة أو منحازاً إلى فئة معينة، متجاوزاً مرحلة الكلام إلى مرحلة استخدام القوة واللجوء إلى القتل والفتك.
وفي السنة الثانية من خلافته، نحت الخلافة منحى خطيراً، تجلّى في الهبات والقطائع الضخمة التي كان عينها الخليفة للمقربين، وبما قام به الولاة من بني أمية من استغلال لمنصب الولاية لتكريس مقدرات الأمة لمصالحهم الشخصية، فكان بعضهم يرى أن الفيء الذي أفاءه الله على المسلمين إنما هو لشبان قريش ليس لأحد دونها حق فيه، كما قال سعيد بن العاص والي الكوفة مخاطباً بعض جلسائه.
لقد اختار عثمان الولاة والعمال الإداريين وفق منطق القرابة والرحم والعشيرة، بدلاً من الاعتماد على عنصر الكفاءة والإخلاص للإسلام، ومن هؤلاء عبد الله بن سعد بن أبي سرح في مصر، ومعاوية بن أبي سفيان في الشام، والوليد بن عقبة في الكوفة، وسعيد بن العاص الذي خلف الوليد في حكم الكوفة وعبد الله بن عامر بن كريز.
أما سياسته المالية، فقد أغدق الأموال العامة على أقاربه، ولم تقتصر هباته على آله وذوي رحمه، بل شملت المبرزين من قريش من ذوي النفوذ، وخصوصاً بعض أعضاء الشورى الذين كانوا يطمحون إلى الخلافة.
ولم يكتف بذلك، بل فتح لهم باب تنمية هذه الثروات، حيث اقترح أن ينقل الناس فيأهم من الأرض إلى حيث أقاموا، فمن كان له أرض في الحجاز، أو في غيرها من بلاد العرب، فله أن يبيعها، وقد سارع الأثرياء إلى الاستفادة من هذا الإجراء، فاشتروا بأموالهم المكدَّسة أرضاً في البلاد المفتوحة في العراق أو الشام أو مصر، وجلبوا لها الرقيق والأحرار، يعملون فيها ويستثمرونها، وبذلك نمت هذه الثروات نمواً عظيماً.
لقد كان أبو ذر من جملة أولئك المخلصين الذين لا يتوانون عن إبداء النصيحة لعثمان، بل كان يجهد في ذلك، فيصارحه، ويصارح غيره من ولاته بما أحدثوه من تحولات في مسرى الخلافة الإسلامية، وحرفهم إياها عن الطريق الذي رسمه الرسول(ص)، ويظهر ذلك من قول أبي ذر له: "نصحتك فاستغششتني، ونصحت صاحبك ـ يعني معاوية ـ فاستغشني".
لكن الطرف الثاني لم يعر لهذه النصائح آذانه، بل كان يتمادى في سياسته، غير آبهٍ ولا مكترث لما يجري من حوله، وإذا أراد أن يجيب في بعض الأحيان، فإنه يرمي من ينصحه بالكذب والافتراء تارةً، وبتدبير المكائد وشق عصا الأمة تارة أخرى.
وأمام الإصرار على عدم سماع النصائح والمضي في ما رسموه من سياستهم، كان أبو ذر يجهر بقول الحق، وفي كل مناسبة وكل مكان، بوحي من ضرورة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من ركائز الإسلام ومقوماته.
وهذا ما حصل فعلاً مع عثمان حين أمعن بالاستمرار في سياسته، وفي ذلك يقول ابن أبي الحديد: "إن عثمان لما أعطى مروان وغيره بيوت الأموال، واختص زيد بن ثابت بشيء منها، جعل أبو ذر يقول بين الناس، وفي الطرقات والشوارع: بشِّر الكانزين بعذاب أليم، ويرفع بذلك صوته، ويتلو قوله تعالى: {والذين يكنـزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم}.
وهذه الآية إنما تنذر وتتوعّد فئةً من أصحاب الثروة الذين يجمعونها من طرق غير مشروعة.
لقد سببت هذه السياسة متاعب لأبي ذرّ، وسخط عليه الخليفة والمقرّبون من حوله، وهذا ما تجلّى بقوله: "إن بني أمية تهددني بالفقر أو القتل"، وهو الذي كان بوسعه أن يحظى بكل ما يتمناه من التكريم والعطاء والقرب لدى عثمان إذا ما هادنه، ولكن واجبه الشرعي والإسلامي كان يفرض عليه مثل هذا الموقف.
ولذلك لم يعد الخليفة يطيق وجود أبي ذر وأمثاله في المدينة، فأمره باللحوق بالشام، ظناً منه أن غضبه هذا سيضع حداً لنشاط أبي ذر، لكن الذي حصل كان على العكس، حيث كان يتمتع في بلاد الشام بحرية أوسع في الحركة، كما كانت نظرته إلى معاوية تختلف عن نظرته إلى عثمان، "كان يقوم في كل يوم، فيعظ الناس، ويأمرهم بالتمسك بطاعة الله، ويحذرهم من ارتكاب معاصيه، ويروي عن رسول الله(ص) ما سمعه منه في فضائل أهل بيته(ع)، ويحضهم على التمسك بعترته".
حاول معاوية إغراء أبي ذر لإسكاته، فبعث إليه يوماً ثلاثمائة دينار، فكان ردُّ أبي ذر: "إذا كانت هذه الأموال من العطاء الذي حرمت منه في ذلك العام فلا بأس، أما إذا كانت لكسب المودة فلا حاجة لي فيها"، وردّها عليه.
كان معاوية يرى في وجود أبي ذر على مقربة منه حاجزاً فعلياً يقف في وجه طموحاته في تكريس نفسه أميراً على الشام، كتمهيد للسيطرة على مقاليد الأمور كلها، ما يمكّنه من أن يصل إلى سدة الخلافة، فكان أحرص على إبعاده عنه من إبعاد عثمان إياه عن المدينة، فكتب إلى عثمان:"إنك قد أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر".
والواقع أنه أفسدها على معاوية وعلى عثمان معاً، لأنه كان يندد بأعمال الولاة، وانحرافهم واستئثارهم بالفيء، بحجة أنه "مال الله"، كي يبيح لمعاوية صرفه في سبيل غاياته الشخصية، وكي يعطيه لمروان بن الحكم، وللحكم بن أبي العاص (طريد رسول الله)، ولأبي سفيان، ولعبد الله بن سعد، وغيرهم ممن جروا الويلات على هذه الأمة بتحكمهم برقاب الناس، ومقدّراتهم.
ويظهر أن عثمان ـ بعد ورود كتاب معاوية عليه ـ وجد مبرراً للانتقام من أبي ذر، وتأديبه كما يشتهي، فكتب إلى معاوية: "أما بعد ، فاحمل جندباً إليّ على أغلظ مركب وأوعره"..
النفي إلى الربذة
ولما وصل إلى عثمان، نفاه إلى الربذة، وجاء في شرح النهج عن ابن عباس، قال: "لما أخرج أبو ذر إلى الربذة، أمر عثمان، فنودي في الناس، ألاّ يكلم أحد أبا ذر، ولا يشيّعه، وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به، فخرج به وتحاماه الناس، إلاّ علي بن أبي طالب(ع) وعقيلاًَ أخاه ، وحسناً وحسيناً عليهما السلام، وعمّاراً فإنهم خرجوا يشيّعونه".
وهذا ما أسخط عثمان على علي(ع) وأهل بيته، وودع علي(ع) أبا ذر قائلاً له: "إنك غضبت لله، فارج من غضبت له، إن القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وأغناك عمّا منعوك، وستعلم من الرابح غداً، والأكثر حُسّداً، ولو أن السموات والأرضين كانت على عبدٍ رتقاً ثم اتقى الله، لجعل الله له منهما مخرجاً.
لا يؤنسنّك إلاّ الحق، ولا يوحشنّك إلاّ الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبّوك، ولو قرضت منها لأمّنوك".
ثم تكلم عقيل، والحسن(ع)، والحسين(ع)، وعّمار بن ياسر، بكلمات تعبر عن صوابية موقف أبي ذر، وتدعوه إلى الصبر على الشدائد، فبكى أبو ذر، وكان شيخاً كبيراً، وقال: "رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة، إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله(ص)، ما لي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم، إني ثقلت على عثمان بالحجاز، كما ثقلت على معاوية بالشام، وكره أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين، فأفسد الناس عليهما، سيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلاّ الله، والله ما أريد إلاّ الله صاحباً، وما أخشى مع الله وحشة".
وسير أبو ذر إلى الربذة، وانطبق عليه قول رسول الله(ص) عندما قال: "يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، ويشهده عصابته من المؤمنين".
وهو الذي قال فيه رسول الله(ص) أيضاً: "ما أظلّت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر".
وهكذا كان أبو ذر شخصية تتّسم بالحزم والجرأة والإقدام، حيث كان صلباً في مواقفه، ثابتاً في إيمانه، لا تزلزله الشبهات والانحرافات، ولذلك نال جزاء مواقفه ونصرته الحق، العزلة والعيش وحيداً.
والسلام ختام
نختمها بالصلاة على محمد وآل محمد
اختكم
نختمها بالصلاة على محمد وآل محمد
اختكم
تعليق