بسم الله الرحمن الرحيم
تكملة لما سبق من المراحل الأثنى عشر من المنهج القرآني في اثبات الامامه والخلافه,نتوكل على الله ونبدأ بالمرحله الثالثة عشر منه وهي البحث في آية الأجتباء وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم* يا أيها الذين آمنوا أركعوا وأسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون *وجهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة ابيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وءأتوا الزكاة وأعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير *.
هذه الآيه المباركه هي من الآيات ذات العلاقه بقضية الامامه ,
وهي تشترك مع آية الشهاده –المرحله الثانيه عشر من هذا المنهج- وتتشابه معها الى حد ما, ذلك ان آية الشهاده جعلت الوسطيه اساسا لأنتخاب الأمه السلاميه شاهدة على من سواها من الامم, وفي آية الاجتباء عد اجتباء هذه الامه للرساله سببا وأساسا لاعطائها صفة الشهاده على سائر الناس, وتكرار الشهاده في آيتين منفصلتين يفيد تأكيدها وثبوتها ,كما ان اختلاف الآيتين في تعيين ماهو السبب والاساس للشهاده يدل على تعدد ذلك وان الاساس هو مجموع السببين الوسطيه والاجتباء معا.
واذا اردنا ان نعرف حقيقة الاجتباء وما هو المراد به لابد لنا اولا من ملاحظة أن هذه الآيه جاءت بعد امر سابق للمؤمنين عموما بالركوع والسجود ومطلق العباده وفعل الخيرات والجهاد في الله حق جهاده , ثم بينت الآيه في سياق الامتنان أجتباء المسلمين للرساله الاسلاميه ورفع الحرج عنهم وتسمية شيخ الانبياء عليه السلام لهم بأسم المسلمين قبل ظهور الاسلام بما يقرب من ألفي سنه ,وكأنها تريد ان تبين لهم ضرورة الالتزام بتلك الاحكام ,فهي من جهه أحكام سهله لاحرج فيها ,ومن جهه ثانيه أن الملاك في الاجتباء للرساله الأسلاميه هو الالتزام المفترض بهذه الاحكام ,ومن جهه ثالثه أن هناك عنايه سماويه بالمسلمين حيث تم اجتباؤهم للاسلام وظهرت تسميتهم بهذا الاسلام على لسان رائد التوحيد ابراهيم الخليل عليه السلام.
ثم بينت الآيه في خاتمتها أن الالتزام بتلك الاحكام والخصائص المترتبه عليه من الاجتباء ورفع الحرج واطلاق تسميتهم قبل ظهورهم على لسان خليل الله ,ماهي الا مقدمات لتكريمهم بأن يكون الرسول شاهدا عليهم ويكونوا هم شهداء على الناس, فالشهاده هي الغايه من الاجتباء.
ولكي يتضح المعنى الدقيق للاجتباء لابد من ملاحظة المعنى اللغوي له أولا:
قال الراغب في "المفردات":يقال جبيت الماء في الحوض :جمعته,والحوض الجامع له جابيه,,ثم قال:الاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء,قال عز وجل(فاجتباه ربه) واجتباء الله العبد تخصيصه أياه بفيض الهي.
قال الزمخشري في "اساس البلاغه" أجتباه:اختاره ,مستعار منه لأن من جمع شيئا لنفسه فقد اختصه واصطفاء.
قال ابو البقاء في "الكليات" الاجتباء هو ان تأخذ الشيء بالكليه .
ويقرب منه ماقاله الآخرون.
وعندما نتأمل في لفظة الاجتباء نجدها متلازمه مع التسليم ,فاذا كان امام المجتبى أفراد معينون فأن اجتباءه لزيد دون عمرو لابد وأن يتم على اساس معين, والاساس لابد ان يكون هو الاقرب أو الاقربيه, وفي مقام العبوديه يكون معنى الاقربيه هو التسليم الاكثر للمعبود ,وذلك حينما يسلم العبد قياده للخالق سبحانه وتعالى ويتجه بكل وجوده نحوه ويقمع ما في النفس من طغيان يجمح بها نحو غيره, وهذا يعني ان الاجتباء صفه مترتبه على بلوغ مرتبة التسليم لله, وأن هذه المرتبه الا للخواص ,وربما امكن يأكيد ذلك بملاحظة ان جملة (هو سماكم المسلمين من قبل) لم تعطف في الآيه على جملة (هو اجتباكم ) مما يدل على كمال أتصال المعنيين :الاجتباء والاسلام: نظير قوله تعالى (أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين ).
فأن عدم وجود الفاصل بين الجملتين وعدم وجود عاطف بينهما يدل على اتحادهما في المعنى, ولو أنه وصل بينهما بعاطف مثل حرف "الواو" فان هذا العاطف سيدل على نوع مغايره بين الجملتين في المعنى رغم وجود مناسبه لوحظت فكانت سببا للربط بينهما وذلك على غرار ما ذكره اهل المعقول في الحمل.
والنتيجه : ان انفصال الجملتين السابقتين في الآيه يدل على كمال الاتصال والاتحاد بين الاجتباء ومقام التسليم .
ويؤيد ذلك ايضا أن الآيه وارده في سياق الامتنان والذي يتناسب مع هذا السياق هو مرتبه من الاسلام تستحق الامتنان بحيث تكون اساسا للأجتباء والاصطفاء.
وحيث ان الآيه نسبت الاسلام الى ابراهيم عليه السلام لذا فأننا سنحاول البحث في مراتبه واقتناص المرتبه المقصوده ذات العلاقه بالاجتباء من سيرة هذا النبي العظيم.
فعندما نتلو القرآن الكريم نجده يصف رائد التوحيد بالاسلام ,قال تعالى (ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وأنه في الآخره لمن الصالحين *اذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين*).
يتضح من هاتين الآيتين جليا أن اصطفاء الله سبحانه لابراهيم الخليل عليه السلام في الدنيا وعده في الآخرة من الصالحين ,جاء مترتبا على تسلسمه الفوري الكامل لله سبحانه ( اذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ) ومعلوم ان الاصطفاء والاجتباء بمعنى واحد , وقال تعالى ايضا (واذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل منا انك انت السميع العليم *ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا انك انت التواب الرحيم *ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم انك انت العزيز الحكيم ).
فنقرأ هنا ان امام الانبياء ابراهيم عليه السلام وابنه اسماعيل يطلبان من الله أن يلهمهما مقام التسليم له,وعندما نتدبر هذا الدعاء نجده قد صدر من ابراهيم عليه السلام وهو في أواخر عمره الشريف وبعد ان نال جميع المراتب من الرساله والنبوه والامامه,وذلك بدلالة اشتراك اسماعيل ابنه معه فيه عند رفع القواعد من البيت, ونحن نعلم من القرآن الكريم ان الله قد وهبه الذريه وهو شيخ عجوز,قال تعالى(الحمد لله الذي وهب لي على الكبر اسماعيل واسحاق ),ومعلوم انه كان نبيا قبل ذلك,-كما مر تفصيله في المرحله الثانيه من هذا النهج – البحث في آية الامامه- .
فماذا يفهم من نبي يعد من أعاظم النبياء والمرسلين وقد بلغ في التوحيد والتسليم مقاما قل نظيره في الانبياء ,ولكنه مع ذلك يسأل الله ان يرزقه وابنه مقام التسليم الارفع ؟.
اذا تدبرنا في هذا الدعاء مليا نتوصل الى ان التسليم المقصود في قوله تعالى(اذ قال له ربه اسلم قال اسلمت لرب العالمين ) انه لم يكن تسليما من المرتبه العاديه ,وانما من المرتبه التي تتناسب مع من هو شيخ الانبياء ,والدرجه التي تؤهل صاحبها للأصطفاء الرباني والاجتباء الالهي (وقد اصطفيناه في....),وهكذا نتوصل الى ان الاجتباء المذكور في آيتنا- محل البحث – مبني على تلك المرتبه الخاصه من التسليم الابراهيمي.
وربما يؤيد ذلك ان آية الاجتباء لم تربط بين الشهاده ومطلق التسليم لله,وانما ربطت بين الشهاده وبين أسلام منسوب الى ابراهيم عليه السلام (ملة ابيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ) وهذا يعني ان الاجتباء ليس لكل من نطق بالتوحيد وانما لمن بلغ المقام الابراهيمي في التسليم , وحينئذ تكون الالف واللام في ( المسلمين ) عهديه يراد بها الاشاره الى اسلام خاص معهود, فيكون المعنى :ان الدين الذي لاحرج فيه هو ملة ابي الموحدين ابراهيم وأن الله سماكم المسلمين من قبل على لسان ابراهيم وفي هذا القرآن, وبهذا يمكننا الجمع بين ما دل من الروايات على ان الضمير(هو)يرجع الى الله سبحانه ,وما دل منها على رجوعه الى ابراهيم عليه السلام.
وفي ضوء ذلك كله يتضح لنا أن الآيه تتحدث عن مقام رفيع وشرف منيع ورتبه عاليه لايمكن ان تعطى الا لأفراد مؤهلين تأهيلا خاصا ,ولهم منزله خاصه,اما نسبة ذلك الى عموم الامه وتوفر الآيه على خطاب عام فانما هو باعتبار وجود من هو متصف بالاجتباء في هذه الامه.
فكأن الآيه تريد ان تقول ان الاجتباء واقع في هذه الامه ,ومثل هذا الكلام لايفهم منه شمول الصفه لكل الامه بل يفهم منه ان هناك افرادا من هذه الامه يحظون بهذه الصفه , وهذا بنفسه خصوصيه للأمة كلها ,فهناك امة تحظى بأفراد من هذا القبيل وهناك امة اخرى لاتحظى بهم.
وهكذا نجد الآيه متطابقه في نتيجتها مع آية الشهاده والتي انتها البحث فيها الى امامة الأئمه عليهم السلام وانها داله على خصوصيه فيها ,وهذا ما يتأكد أكثر اذا جمعناها مع الآيات المذكوره آنفا من سورة البقره التي بينت أن المخاطب فيها هم ذرية ابراهيم عليه السلام خاصه, وهو عنوان ينطبق على الأئمه عليهم السلام كما ينطبق عليهم عنوان (أبيكم ) في قوله تعالى (ملة أبيكم ابراهيم) من آية الاجتباء التي نحن بصددها.
ومما يسند ذلك ايضا ما ورد في روايات المدرستين عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال (أنا دعوة ابراهيم ).
فمنها ما روي في " الدر المنثور"ج1ص255,أنه صلى الله عليه وآله قال:انا دعوة ابراهيم ,قال وهو يرفع القواعد من البيت (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ) حتى اتم الآيه.
وقد روى علماءنا هذا المضمون بطرق عديده مثل ما رواه الحويزي في " نور الثقلين" ج1ص109,
والقمي في تفسيره ج1ص62.
والشيخ الصدوق في الخصال ج1ص177.
ومنها ما رواه في الكافي عن ابي عبد الله عليه السلام في حديث طويل ذكر فيه قوله تعالى (ولتكن منكم أمه...)ثم قال عليه السلام :أخبر- اي الله تعالى –عن هذه الامه وممن هي ,وانها من ذرية ابراهيم وذرية اسماعيل من سكان الحرم ,ممن لم يعبدوا غير الله قط ,الذين وجبت لهم الدعوه –دعوة ابراهيم واسماعيل – من اهل المسجد ,الذين اخبر عنهم في كتابه أنه أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
واصرح منه خبر العياشي في تفسيره عن ابي عمرو الزبيدي عن ابي عبد الله عليه السلام قال:قلت له :اخبرني عن امة محمد صلى الله عليه وآله من هم ؟ قال:امة محمد بنو هاشم خاصه, قلت: فما الحجه في امة محمد أنهم اهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم ؟ قال: قول الله (واذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل منا انك انت السميع العليم *ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا امة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا انك انت التواب الرحيم), فلما اجاب الله ابراهيم واسماعيل وجعل من ذريتهما امة مسلمه وبعث فيهم رسولا منهم –يعني من تلك الامه – يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمه , ردف ابراهيم دعوته الاولى بدعوة أخرى , فسأل لهم تطهيرا من الشرك ومن عبادة الاصنام ليصح امره فيهم ولا يتبعوا غيرهم, فقال: ( واجنبني وبني ان نعبد الاصنام*رب انهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فأنه مني ومن عصاني فأنك غفور رحيم ),فهذه دلاله على انه لاتكون الأئمه والأمه المسلمه التي بعث فيها محمد صلى الله عليه وآله الا من ذرية ابراهيم , لقوله ( واجنبني وبني ان نعبد الاصنام ).
وبما ذكرنا في حقيقة الاجتباء وما يلازمه تبين ان قوله تعالى (وما كان ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء) ليس في مقام تخصيص الاطلاع على الغيب بالرسل, بل ذكر الرسل مما اقتضاه الحال وضرف الخطاب.
وقد وردت عن طريقنا روايات في ان المراد بالمجتبين والشهداء في هذه الآيه هم أئمة أهل البيت سلام الله عليهم.
منها ما رواه ثقة الاسلام الكليني عن علي بن ابراهيم عن ابيه عن محمد بن ابي عمير عن ابن اذينه عن بريد العجلي قال:قلت لأبي جعفر عليه السلام قول الله تبارك وتعالى (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) قال:نحن الامه الوسط ,ونحن شهداء الله تبارك وتعالى على خلقه وحججه في ارضه, قلت :قوله تعالى (يا ايها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون *وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم ) قال :ايانا عنا ,ونحن المجتبون ,ولم يجعل الله تبارك وتعالى في الدين (من حرج ) فالحرج اشد من الضيق (ملة ابيكم ابراهيم ) ايانا عنى خاصه و ( سماكم المسلمين ) الله سمانا المسلمين ( من قبل) في الكتب التي مضت (وفي هذا)القرآن (ليكون الرسول عليكم شهيدا وتكونوا شهداء على الناس) فرسول الله صلى الله عليه وآله الشهيد علينا بما بلغنا عن الله تبارك و تعالى , ونحن الشهداء على الناس , فمن صدق يوم القيامه صدقناه ,ومن كذب كذبناه. "الكافي"ج1ص247ح4.
ومنها ما رواه الصدوق في " كمال الدين " بأسناده عن سليم بن قيس الهلالي عن امير المؤمنين عليه السلام انه قال في جمع من النهاجرين والأنصار بالمسجد ايام خلافة عثمان : انشدكم الله ,أتعلمون ان الله عز وجل أنزل في سورة الحج (يا ايها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا )-الى آخر السوره- فقام سلمان فقال : يا رسول الله ,من هؤلاء الذين انت عليهم شهيد وهم شهداء على الناس الذين اجتباهم الله ولم يجعل عليهم في الدين من حرج ملة ابيكم ابراهيم ؟ فقال صلى الله عليه وآله :انا وأخي وأحد عشر من ولدي , قالوا:اللهم نعم."كمال الدين"ص278-279.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
تكملة لما سبق من المراحل الأثنى عشر من المنهج القرآني في اثبات الامامه والخلافه,نتوكل على الله ونبدأ بالمرحله الثالثة عشر منه وهي البحث في آية الأجتباء وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم* يا أيها الذين آمنوا أركعوا وأسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون *وجهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة ابيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وءأتوا الزكاة وأعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير *.
هذه الآيه المباركه هي من الآيات ذات العلاقه بقضية الامامه ,
وهي تشترك مع آية الشهاده –المرحله الثانيه عشر من هذا المنهج- وتتشابه معها الى حد ما, ذلك ان آية الشهاده جعلت الوسطيه اساسا لأنتخاب الأمه السلاميه شاهدة على من سواها من الامم, وفي آية الاجتباء عد اجتباء هذه الامه للرساله سببا وأساسا لاعطائها صفة الشهاده على سائر الناس, وتكرار الشهاده في آيتين منفصلتين يفيد تأكيدها وثبوتها ,كما ان اختلاف الآيتين في تعيين ماهو السبب والاساس للشهاده يدل على تعدد ذلك وان الاساس هو مجموع السببين الوسطيه والاجتباء معا.
واذا اردنا ان نعرف حقيقة الاجتباء وما هو المراد به لابد لنا اولا من ملاحظة أن هذه الآيه جاءت بعد امر سابق للمؤمنين عموما بالركوع والسجود ومطلق العباده وفعل الخيرات والجهاد في الله حق جهاده , ثم بينت الآيه في سياق الامتنان أجتباء المسلمين للرساله الاسلاميه ورفع الحرج عنهم وتسمية شيخ الانبياء عليه السلام لهم بأسم المسلمين قبل ظهور الاسلام بما يقرب من ألفي سنه ,وكأنها تريد ان تبين لهم ضرورة الالتزام بتلك الاحكام ,فهي من جهه أحكام سهله لاحرج فيها ,ومن جهه ثانيه أن الملاك في الاجتباء للرساله الأسلاميه هو الالتزام المفترض بهذه الاحكام ,ومن جهه ثالثه أن هناك عنايه سماويه بالمسلمين حيث تم اجتباؤهم للاسلام وظهرت تسميتهم بهذا الاسلام على لسان رائد التوحيد ابراهيم الخليل عليه السلام.
ثم بينت الآيه في خاتمتها أن الالتزام بتلك الاحكام والخصائص المترتبه عليه من الاجتباء ورفع الحرج واطلاق تسميتهم قبل ظهورهم على لسان خليل الله ,ماهي الا مقدمات لتكريمهم بأن يكون الرسول شاهدا عليهم ويكونوا هم شهداء على الناس, فالشهاده هي الغايه من الاجتباء.
ولكي يتضح المعنى الدقيق للاجتباء لابد من ملاحظة المعنى اللغوي له أولا:
قال الراغب في "المفردات":يقال جبيت الماء في الحوض :جمعته,والحوض الجامع له جابيه,,ثم قال:الاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء,قال عز وجل(فاجتباه ربه) واجتباء الله العبد تخصيصه أياه بفيض الهي.
قال الزمخشري في "اساس البلاغه" أجتباه:اختاره ,مستعار منه لأن من جمع شيئا لنفسه فقد اختصه واصطفاء.
قال ابو البقاء في "الكليات" الاجتباء هو ان تأخذ الشيء بالكليه .
ويقرب منه ماقاله الآخرون.
وعندما نتأمل في لفظة الاجتباء نجدها متلازمه مع التسليم ,فاذا كان امام المجتبى أفراد معينون فأن اجتباءه لزيد دون عمرو لابد وأن يتم على اساس معين, والاساس لابد ان يكون هو الاقرب أو الاقربيه, وفي مقام العبوديه يكون معنى الاقربيه هو التسليم الاكثر للمعبود ,وذلك حينما يسلم العبد قياده للخالق سبحانه وتعالى ويتجه بكل وجوده نحوه ويقمع ما في النفس من طغيان يجمح بها نحو غيره, وهذا يعني ان الاجتباء صفه مترتبه على بلوغ مرتبة التسليم لله, وأن هذه المرتبه الا للخواص ,وربما امكن يأكيد ذلك بملاحظة ان جملة (هو سماكم المسلمين من قبل) لم تعطف في الآيه على جملة (هو اجتباكم ) مما يدل على كمال أتصال المعنيين :الاجتباء والاسلام: نظير قوله تعالى (أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين ).
فأن عدم وجود الفاصل بين الجملتين وعدم وجود عاطف بينهما يدل على اتحادهما في المعنى, ولو أنه وصل بينهما بعاطف مثل حرف "الواو" فان هذا العاطف سيدل على نوع مغايره بين الجملتين في المعنى رغم وجود مناسبه لوحظت فكانت سببا للربط بينهما وذلك على غرار ما ذكره اهل المعقول في الحمل.
والنتيجه : ان انفصال الجملتين السابقتين في الآيه يدل على كمال الاتصال والاتحاد بين الاجتباء ومقام التسليم .
ويؤيد ذلك ايضا أن الآيه وارده في سياق الامتنان والذي يتناسب مع هذا السياق هو مرتبه من الاسلام تستحق الامتنان بحيث تكون اساسا للأجتباء والاصطفاء.
وحيث ان الآيه نسبت الاسلام الى ابراهيم عليه السلام لذا فأننا سنحاول البحث في مراتبه واقتناص المرتبه المقصوده ذات العلاقه بالاجتباء من سيرة هذا النبي العظيم.
فعندما نتلو القرآن الكريم نجده يصف رائد التوحيد بالاسلام ,قال تعالى (ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وأنه في الآخره لمن الصالحين *اذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين*).
يتضح من هاتين الآيتين جليا أن اصطفاء الله سبحانه لابراهيم الخليل عليه السلام في الدنيا وعده في الآخرة من الصالحين ,جاء مترتبا على تسلسمه الفوري الكامل لله سبحانه ( اذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ) ومعلوم ان الاصطفاء والاجتباء بمعنى واحد , وقال تعالى ايضا (واذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل منا انك انت السميع العليم *ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا انك انت التواب الرحيم *ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم انك انت العزيز الحكيم ).
فنقرأ هنا ان امام الانبياء ابراهيم عليه السلام وابنه اسماعيل يطلبان من الله أن يلهمهما مقام التسليم له,وعندما نتدبر هذا الدعاء نجده قد صدر من ابراهيم عليه السلام وهو في أواخر عمره الشريف وبعد ان نال جميع المراتب من الرساله والنبوه والامامه,وذلك بدلالة اشتراك اسماعيل ابنه معه فيه عند رفع القواعد من البيت, ونحن نعلم من القرآن الكريم ان الله قد وهبه الذريه وهو شيخ عجوز,قال تعالى(الحمد لله الذي وهب لي على الكبر اسماعيل واسحاق ),ومعلوم انه كان نبيا قبل ذلك,-كما مر تفصيله في المرحله الثانيه من هذا النهج – البحث في آية الامامه- .
فماذا يفهم من نبي يعد من أعاظم النبياء والمرسلين وقد بلغ في التوحيد والتسليم مقاما قل نظيره في الانبياء ,ولكنه مع ذلك يسأل الله ان يرزقه وابنه مقام التسليم الارفع ؟.
اذا تدبرنا في هذا الدعاء مليا نتوصل الى ان التسليم المقصود في قوله تعالى(اذ قال له ربه اسلم قال اسلمت لرب العالمين ) انه لم يكن تسليما من المرتبه العاديه ,وانما من المرتبه التي تتناسب مع من هو شيخ الانبياء ,والدرجه التي تؤهل صاحبها للأصطفاء الرباني والاجتباء الالهي (وقد اصطفيناه في....),وهكذا نتوصل الى ان الاجتباء المذكور في آيتنا- محل البحث – مبني على تلك المرتبه الخاصه من التسليم الابراهيمي.
وربما يؤيد ذلك ان آية الاجتباء لم تربط بين الشهاده ومطلق التسليم لله,وانما ربطت بين الشهاده وبين أسلام منسوب الى ابراهيم عليه السلام (ملة ابيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ) وهذا يعني ان الاجتباء ليس لكل من نطق بالتوحيد وانما لمن بلغ المقام الابراهيمي في التسليم , وحينئذ تكون الالف واللام في ( المسلمين ) عهديه يراد بها الاشاره الى اسلام خاص معهود, فيكون المعنى :ان الدين الذي لاحرج فيه هو ملة ابي الموحدين ابراهيم وأن الله سماكم المسلمين من قبل على لسان ابراهيم وفي هذا القرآن, وبهذا يمكننا الجمع بين ما دل من الروايات على ان الضمير(هو)يرجع الى الله سبحانه ,وما دل منها على رجوعه الى ابراهيم عليه السلام.
وفي ضوء ذلك كله يتضح لنا أن الآيه تتحدث عن مقام رفيع وشرف منيع ورتبه عاليه لايمكن ان تعطى الا لأفراد مؤهلين تأهيلا خاصا ,ولهم منزله خاصه,اما نسبة ذلك الى عموم الامه وتوفر الآيه على خطاب عام فانما هو باعتبار وجود من هو متصف بالاجتباء في هذه الامه.
فكأن الآيه تريد ان تقول ان الاجتباء واقع في هذه الامه ,ومثل هذا الكلام لايفهم منه شمول الصفه لكل الامه بل يفهم منه ان هناك افرادا من هذه الامه يحظون بهذه الصفه , وهذا بنفسه خصوصيه للأمة كلها ,فهناك امة تحظى بأفراد من هذا القبيل وهناك امة اخرى لاتحظى بهم.
وهكذا نجد الآيه متطابقه في نتيجتها مع آية الشهاده والتي انتها البحث فيها الى امامة الأئمه عليهم السلام وانها داله على خصوصيه فيها ,وهذا ما يتأكد أكثر اذا جمعناها مع الآيات المذكوره آنفا من سورة البقره التي بينت أن المخاطب فيها هم ذرية ابراهيم عليه السلام خاصه, وهو عنوان ينطبق على الأئمه عليهم السلام كما ينطبق عليهم عنوان (أبيكم ) في قوله تعالى (ملة أبيكم ابراهيم) من آية الاجتباء التي نحن بصددها.
ومما يسند ذلك ايضا ما ورد في روايات المدرستين عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال (أنا دعوة ابراهيم ).
فمنها ما روي في " الدر المنثور"ج1ص255,أنه صلى الله عليه وآله قال:انا دعوة ابراهيم ,قال وهو يرفع القواعد من البيت (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ) حتى اتم الآيه.
وقد روى علماءنا هذا المضمون بطرق عديده مثل ما رواه الحويزي في " نور الثقلين" ج1ص109,
والقمي في تفسيره ج1ص62.
والشيخ الصدوق في الخصال ج1ص177.
ومنها ما رواه في الكافي عن ابي عبد الله عليه السلام في حديث طويل ذكر فيه قوله تعالى (ولتكن منكم أمه...)ثم قال عليه السلام :أخبر- اي الله تعالى –عن هذه الامه وممن هي ,وانها من ذرية ابراهيم وذرية اسماعيل من سكان الحرم ,ممن لم يعبدوا غير الله قط ,الذين وجبت لهم الدعوه –دعوة ابراهيم واسماعيل – من اهل المسجد ,الذين اخبر عنهم في كتابه أنه أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
واصرح منه خبر العياشي في تفسيره عن ابي عمرو الزبيدي عن ابي عبد الله عليه السلام قال:قلت له :اخبرني عن امة محمد صلى الله عليه وآله من هم ؟ قال:امة محمد بنو هاشم خاصه, قلت: فما الحجه في امة محمد أنهم اهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم ؟ قال: قول الله (واذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل منا انك انت السميع العليم *ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا امة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا انك انت التواب الرحيم), فلما اجاب الله ابراهيم واسماعيل وجعل من ذريتهما امة مسلمه وبعث فيهم رسولا منهم –يعني من تلك الامه – يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمه , ردف ابراهيم دعوته الاولى بدعوة أخرى , فسأل لهم تطهيرا من الشرك ومن عبادة الاصنام ليصح امره فيهم ولا يتبعوا غيرهم, فقال: ( واجنبني وبني ان نعبد الاصنام*رب انهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فأنه مني ومن عصاني فأنك غفور رحيم ),فهذه دلاله على انه لاتكون الأئمه والأمه المسلمه التي بعث فيها محمد صلى الله عليه وآله الا من ذرية ابراهيم , لقوله ( واجنبني وبني ان نعبد الاصنام ).
وبما ذكرنا في حقيقة الاجتباء وما يلازمه تبين ان قوله تعالى (وما كان ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء) ليس في مقام تخصيص الاطلاع على الغيب بالرسل, بل ذكر الرسل مما اقتضاه الحال وضرف الخطاب.
وقد وردت عن طريقنا روايات في ان المراد بالمجتبين والشهداء في هذه الآيه هم أئمة أهل البيت سلام الله عليهم.
منها ما رواه ثقة الاسلام الكليني عن علي بن ابراهيم عن ابيه عن محمد بن ابي عمير عن ابن اذينه عن بريد العجلي قال:قلت لأبي جعفر عليه السلام قول الله تبارك وتعالى (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) قال:نحن الامه الوسط ,ونحن شهداء الله تبارك وتعالى على خلقه وحججه في ارضه, قلت :قوله تعالى (يا ايها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون *وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم ) قال :ايانا عنا ,ونحن المجتبون ,ولم يجعل الله تبارك وتعالى في الدين (من حرج ) فالحرج اشد من الضيق (ملة ابيكم ابراهيم ) ايانا عنى خاصه و ( سماكم المسلمين ) الله سمانا المسلمين ( من قبل) في الكتب التي مضت (وفي هذا)القرآن (ليكون الرسول عليكم شهيدا وتكونوا شهداء على الناس) فرسول الله صلى الله عليه وآله الشهيد علينا بما بلغنا عن الله تبارك و تعالى , ونحن الشهداء على الناس , فمن صدق يوم القيامه صدقناه ,ومن كذب كذبناه. "الكافي"ج1ص247ح4.
ومنها ما رواه الصدوق في " كمال الدين " بأسناده عن سليم بن قيس الهلالي عن امير المؤمنين عليه السلام انه قال في جمع من النهاجرين والأنصار بالمسجد ايام خلافة عثمان : انشدكم الله ,أتعلمون ان الله عز وجل أنزل في سورة الحج (يا ايها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا )-الى آخر السوره- فقام سلمان فقال : يا رسول الله ,من هؤلاء الذين انت عليهم شهيد وهم شهداء على الناس الذين اجتباهم الله ولم يجعل عليهم في الدين من حرج ملة ابيكم ابراهيم ؟ فقال صلى الله عليه وآله :انا وأخي وأحد عشر من ولدي , قالوا:اللهم نعم."كمال الدين"ص278-279.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
تعليق