الأمر الأول الذي يُلفت النظر، هو كأن القرآن يريد أن يُخاطب جماعة معينة، فما عدا الحروف المقطعة، فإن الخطاب للجميع.. لكن القرآن يريد أن يتحدث مع صنف خاص، هم الذين عُبر عنهم في الرواية المعروفة: (إنما يعرف القرآن من خوطب به)، إذن هذه الأمور أسرارٌ متروكة لأهلها.
وكأن الله -عز وجل- أراد أن يُكرم جزءاً من خلقه؛ ألا وهم النبي والمعصومون من عترته -صلوات الله وسلامه عليهم- بهذه الرموز القرآنية.. وهناك بعض التفاسيرالأخرى التي لا نقبلها، وهي أن القرآن مكوّن من هذه الحروف.. إذا كان الأمر كذلك فإنه لا يحتاج إلى التكرار، فيكفي أن تأتي آية واحدة ببعض هذه الحروف المقطعة، أما لماذا هذا التغيير {ألم} {حم} {يس} {عسق}؟.. إن هذا التنوع يراد منه معنى آخر، لا يعلمه إلا الذين خُصوا بالخطاب في هذه الحروف المقطعة.
{الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} إلى آخر الآيات المباركة.. فالملاحظ هنا أن القرآن الكريم هداية، والهداية هي عملية ذهنية وإدراكية، بمعنى نقل الإنسان من المجهول إلى المعلوم.. ولكن لماذا جعل القرآن الكريم هذه الهداية خاصة بالمتقين؟.. والتقوى: عملية فعلية، وورع، وفعل، وترك.. فإذن، ما الارتباط بين عالم المعرفة وهي الهداية، وبين عالم العمل وهي التقوى؟..
الجواب هو: إن القرآن هداية شأنية، فمن شأن القرآن أن يهدي؛ ولكن هذه الهداية الشأنية لا تتحقق فعلاً وواقعاً، إلا للذين استعدوا لقبول هذه الهداية.. فالقرآن هدى، ولكن لمن يبحث عن الهدى: في الصحراء القاحلة، وفي جوف الليل.. هناك دليل يدّعي بأنه سوف يخرجك من الظلمات إلى النور، فالذي لا يعترف بهذا الدليل، أو يعترف بأنه دليل، ولكن لا يعطيه وزناً، ولا يعطيه أهمية، هل يخرجه من الظلمات إلى النور؟.. لا، لن يخرجه أبدا، ولا يُتوقع منه أن يأخذ بيد هذا الإنسان الذي لا يعترف بوجوده، أو يعترف بوجوده؛ ولكن ليس في مقام الأخذ بدلالته.. والقرآن الكريم هدى، لا بما هو معلومات مطوية بين الدفتين، ولا بما هو نظريات يعرفها المفسرون.. كم من الذين يتلون القرآن، والقرآن يلعنهم!.. وكم هم الذين يفسرون القرآن بما لا يخطر على الافهام، وهم بعيدون كل البعد عن معاني القرآن الكريم!.. فإذن، إن القرآن الكريم يقول بأنني هدى، ودليل، ومنقذ، ومُخرج من الظلمات إلى النور؛ ولكن لمن؟.. للمتقين!..
من هم المتقون؟.. أول صفة من صفات المتقين {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}.. إنها لفتة مهمة، وهي أن أول خاصية في المتقي هي البنية الفكرية، وليس المتقي الذي يمشي ويسعى.. بل هو الذي يحدد الطريق، ثم يمشي ويسعى؛ لما علمنا بأن (السائر على غير بصيرة، كالسائر على غير الطريق؛ لا تزيده كثرة السير إلا بعدا).. فالمتقي ليس هو ذلك الصوّام القوّام، وإنما هو ذلك الإنسان الذي اكتشف الطريق، ورأى الهيكل، ورأى المخطط، ويعلم من أين يبدأ، وإلى أين ينتهي؛ فآمن بالغيب، وترقى عن عالم الحواس.. ليس هذا الإنسان المادي التجريدي، الذي لا يؤمن إلا بما يرى ويلمس ويسمع، وإنما له قدرة على أن ينتقل من عالم المادة إلى عالم المعنى، ويخترق حجب الغيب وحجب المادة، ليصل إلى عالم الغيب.
ومن الغريب أن الذين لا يؤمنون بالغيب الأخروي، يؤمنون بالغيب الدنيوي في هذه الدنيا، وكأن الله أراد أن يقيم الحجة عليهم!.. فالأمواج الكهربائية، والأمواج اللاسلكية، وقوة الجاذبية، والأضواء التي لا تُرى: ما فوق البنفسجية، وما تحت الحمراء، وأشعة الليزر، وما شابه ذلك، كله من الغيب الدنيوي.. إن هذه الأشياء في الدنيا، ولها آثار خارقة، ومدمرة.. ومع ذلك جعلها الله غيباً لا تُدرك بحواس، ولا تلمس ولا تُرى.. من منكم رأى الكهرباء على ما تُعطي من بركة في هذا الوجود؟..
إن من الغريب أن بني آدم يؤمن بالغيب في الدنيا، ولا يؤمن بالغيب في الآخرة، فلئن قال: بأني آمنت بالغيب الدنيوي لآثاره.. فلِمَ لا يؤمن بالغيب الأخروي لآثاره؟.. أليس الله عز وجل له هذه الآثار؟!.. فانظروا إلى آثار رحمة الله!.. فلماذا لا تؤمن بهذا الغيب، وتؤمن بهذا الغيب؟.. الذين يؤمنون بالغيب؛ الإيمان بالغيب بكل ما غاب عن بصرك، سواء في ذلك المبدأ، وسواء في ذلك المعاد.. ولهذا في آخر هذه الآيات يقول: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} يخص المعاد وهو غيب بالذكر أيضاً.
فإذن، إن المشكلة في بعض السالكين الذين يقفون في سيرهم، أن حركتهم وسيرهم ليست مشفوعة بحركة علمية.. ولهذا على المؤمن أن يمتلك هذا البنيان النظري، من أين يصل إلى هذه البنية العلمية في التكامل والسير؟.. إن هناك ثلاثة أبواب إسلامية: باب الاكتساب.. وباب التدبر.. وباب الإلهام والإلقاء في الروع.
أولا: باب الاكتساب: أن نقرأ ما اكتسبه الآخرون، فإنه لدينا بعض الكتب في الكلام والعقائد والعرفان والأخلاق، وهي حصيلة حياة أحدهم.. فهناك بعض الناس قد يعيش عشرين أو ثلاثين سنة في تأليف كتاب واحد منقح، فهذا الكتاب ثمرة حياته.. ككتاب جامع السعادات، الذي هو ثمرة حياة النراقي.. وكتاب المحجة البيضاء، ثمرة حياة الفيض.. وأمثالهم.. فالإنسان في ليلة، أو ليلتين، أو في أسبوع، وإذا به ينقل ثمرة حياة إنسان مؤلف مجاهد إلى فكره وإلى قلبه.. ولهذا فإن المؤمن السالك إلى الله عز وجل، لا يمكن أن يستغني عن عالم المعرفة وعالم القراءة.
ثانيا: التدبر والتأمل: إن الله عز وجل أعطاك فكراً، وأمرك بالتدبر.. والتدبر في كتاب الله، وفي الطبيعة، وفي الحياة، وفي حركة الوجود، لا يحتاج إلى تخصص، فإن القضية تتوقف على التأمل وعلى التحليل.. وهذه قضية فطرية، فالإنسان يُكوّن صورا مترتبة، ثم ينتقل من المبادئ إلى النتائج.. أنت أيضاً بإمكانك أن تخوض هذا العالم!.. ولهذا حتى في أشعار الجاهليين، الذين جاءوا قبل النبي (ص) ولم يعترفوا برسالة، يلاحظ من خلال قصائدهم أن هناك فكرا وفهماً وتدبراً، ولو على مستوى تحليل بعض مظاهر الطبيعة.. فإذن، إن التدبر أيضاً من صور امتلاك هذه البنية.
ثالثا: الإلهام، والإلقاء في الروع: إذا تدبر الإنسان، واكتسب العلم من غيره، واكتسب من عقله وفكره.. عندئذ يأتي ذلك المدد الإلهي، لُيلقي في روعه ما لا يلقي في روع الآخرين.. وهنالك المعرفة الإشراقية، فالله عز وجل يعلم كيف يُلقي في روع عباده ما يُلقي، إما مباشرة أو عبر ملائكة.. قد يُلقي في روع عبده في ليلة واحدة حصيلة تجارب الآخرين، أو على الأقل يُحوّل الإيمان النظري إلى سكون في النفس.. وهذا هو معنى الإيمان، {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} غير المعترفين بالغيب.
فالإنسان قد يعترف، وقد يعلم، وقد يتيقن بالغيب.. إلا أنه لا يتحول إلى قوة مطمئنة، فالإيمان فيه عنصر الاطمئنان والأمن.. والاطمئنان والأمن قد لا يقترنان مع العلم.. هنا يأتي دور الغيب في أمرين: الأمر الأول في إعطاءك المعرفة النظرية، وثانياً في تحويل المعلومة النظرية إلى حالة اطمئنان ويقين باطني.. (هم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون، كأن زفير جهنم في أصول آذانهم).
تعليق