كلكم راع
......................
وكلكم مسؤول عن رعيته
......................
وكلكم مسؤول عن رعيته
تعتمد الدول المتقدمة اليوم على فكرة مفادها المسؤولية المشتركة، والتي يتقاسمها أبناء المجتمع على حد سواء. هذا الفكر المعبأ بالمسؤولية، لم يكن وليد الصدفة، بل كان نابعاً من الشعور الذي يتم تهيأته عبر الذات الفردية أو الجمعية، من أجل الوصول إلى حالة من الإطمئنان الكبرى بين الأفراد من جهة، وبين المكون الإجتماعي ككل، من جهة أخرى. وبه يتم البناء.
وهذا نراه جليا في الحديث الشريف أعلاه: (كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته). فهذا الحديث يوضح بشكل جلي، أن ما من فرد في المجتمع يكون بمعزل عن بيئته وعن توفير الظروف المناسبة للعمل والعيش والحياة بشكل كريم داخل هذه البيئة وهذا المكون الإجتماعي، فهنا يشير الرسول الأكرم (ص) بمسألة (كلكم راع) وهي إشارة حتمية إلى أن المسؤولية تلقى على عاتق الجميع دون إستثناء، سواء كان رجلا أو امرأة، شيخا أو طفلا. من باب الحديث بـ (كلكم) وهنا يمكن لنا الإستفادة من سياق الحديث بقولنا ضرورة المشاركة في صنع القرار أيضا، من باب (كلكم راع) لذا وجب المشاركة هذه حتى تكون الموازنة، وإلا لو كان هناك العكس ونقصد به التفكير والعمل بالإنابة، لما صح مفاد الحديث أعلاه، ولما وجب علينا إلا أن نكون رعية لا رعاة، وحقيقة الأمر أوضح رسول الله (ص) بضرورة أننا رعاة قبل أن نكون رعية. حتى نشعر بقيمة المسؤولية في البناء، وأن لاننتظر المبادرة بل نصنعها.
اليوم لو توقفنا لننظر مليا، مالذي تبقى لنا من هذا الحديث، سنرى أنه باقٍ على ما هو عليه، ولكن بوجود علامة التنقيط التي وضعناها آنفا، ولها دلالات سنجيء عليها تباعا.
الدلالة الأولى لعلامة التنقيط، أن (مقطع كلكم راع) موجود فعلا. ونمارسه بكل فاعلية، فاليوم الجميع يرى في نفسه الأفضلية على الآخر، وشعوره بموقع المسؤولية التي تؤهله لأن يكون قائد القطيع، وهذا الشعور يمد ذاته بالأهمية الكبرى التي يستحقها هو بحسب ما يراه هو لنفسه، ولذا وجب على الآخر أن يخضع له، ويسلم لأوامره، وأن يطأطأ له رقبة الخنوع حتى يمر كلامه على هودج من الإحتفاء والقبول، سواء كان كلامه ملائما أم لا، فالضرورة تجيز للـ (راعي) مالا تجيز لغيره. وهي قاعدة ذهبية يتمتع بها أصحاب القرار.
وأما الشطر الثاني من الحديث والذي فصلناه عن الحديث بعلامة التنقيط، والذي يقول (وكلكم مسؤول عن رعيته) هنا نرى أن الفكر العربي، والشرقي منه بوجه العموم، كان شفافا جداً في إستخدام هذا الشطر بإتقان، دون العودة لأصل الفكرة، أو الإلتفات إلى أهمية ووجوب معرفة متطلبات الرعية، من أجل الوقوع على مشاكلها وبالتالي حلها. فالمسؤولية هي تذليل العقبات لازرعها، بحسب سياق الحديث الشريف. وهنا يتضح جليا أن العربي مهما تقدمت به المدنية، وعاش في ظلال البيوت العامرة بين غرف الطابوق والإسمنت والبنايات العالية، إلا انه يقدم ولاءً منقطع النظير للفكر القبلي البدوي، ومفاده أنك مسؤول عن هذه الرعية، هو أن تسوقها إلى مكان الحلب أو جز الصوف، أو المسلخ. ولا ادري لماذا الإصرار دائما على عدم الإلتفات إلى أن الرعية هذه لايمكن لها أن تحمل حليبا وافرا أو صوفا جيدا، أو لحما سمينا، دون متابعة جيدة من الراعي، عبر إطعامها وإيواءها وتقديم التسهيلات الضرورية لها.
المشكلة التي نواجه اليوم، هي عبر المسؤولية التي يتوخاها البعض، والتي يجعل منها أداة لقمع الآخر، وليس لمساعدته من أجل بناء المؤسسة المجتمعية، المسؤولية التي يطمح إليها البعض اليوم، تجعل منه سداً منيعا يقف بوجه تقدم المؤسسات، عبر سياج هائل من الإداريات والروتينيات، وعبر أساليب قل ولاتقل، وأفعل ولاتفعل، صيغ ناهية آمرة، يتعاطاها المسؤول وفق أمزجة خالصة، ونزوات ورغبات، سنها فأعتمدها ككتاب منزّل، وعبر وصاية فجة يمارسها على العقول، معتقدا بإنه أكثر أصابة لكبد الحقيقة من الآخرين، وأنه منزه عن السهو والخطأ والزلل. رغم أن الأحاديث الشريفة والآيات القرآنية العظيمة تزين مكتبه بأجمل حلة عبر خطوط بهية ولوحات فنية، أن قيم البداوة تحتم عليه أن يكون قاسيا، فظا، عصبيا، هائلا، يحيط نفسه بإنتفاخ الأبواب والقرارات التي من شأنها إبعاد كل ما يمكن له أن يكون عاديا في سبيل تقديم التسهيلات الطبيعية التي تسقي عجلة الحياة بالديمومة والمرونة، ليجعل من هذا العادي تجاوزا، وليجعل في اللحظة ذاتها والوقت عينه، من التجاوز المسيء أمراً عادياً، يتم التنسيق به وفق معطيات المصلحة العامة. وذات المصلحة العامة، على ما يبدو شعارا فضفاضا جدا، لاأعرفه بالضبط ولم أتبين كنهه وعمقه، واعتقد وبصورة أوضح وأكثر دقة، أن المصلحة العامة التي يحددها المسؤول هي ذات المصلحة التي يتعارض فيها المسؤول عينه مع سين ويتوافق مع باء.
لا أقدم إجابات، بقدر ما أقدم لكم تساؤلا مهما، متى نربط بين شقي الحديث، ومتى نعرف الحديث حق معرفته هو، لا بحسب معرفتنا نحن.
تعليق