سم الله الرحمن الرحيم
تحية طيبة لكل افراد هذا الصرح الشامخ من مشرفين واعضاء ..
اليكم جميعا واختص اخواتي المؤمنات بذلك !!
تحية طيبة لكل افراد هذا الصرح الشامخ من مشرفين واعضاء ..
اليكم جميعا واختص اخواتي المؤمنات بذلك !!
ليس غريباً إذا قلنا : إننا حينما نتمثل المرأة بشكل طبيعي . . فإنما نتمثل هذا الموجود الضعيف الطيب ، الذي يفيض رقة و حناناً . . و لربما لا يخطر لنا على بال أن نجد لها من المواقف و الأدوار إلا ما ينسجم مع تلك الرقة ، و يتلاءم مع ذلك الحنان . . و أما أن نتوقع منها المواقف الجريئة ، و الحازمة ، فربما ، و لكن لا إلى الحد الذي تجاري فيه الرجل مثلاً عموماً . .
هذا . . و أما المرأة في عالم اليوم . . بعد أن طغت عليها المادة و غرقت في حمأة الشهوات ، حتى أصبحت مثال المهانة و الابتذال ، بأجلى صوره و أدق معانيه . . ـ إذا أردنا أن نتمثلها ـ فإنما نتمثل ذلك الموجود الذي فقد كل شيء ، و لم يعد يملك ما يعتز به ، إلا عنصر الأنوثة الطاغي . .
نعم . . لم يعد لديها مما تعتز به إلا أنوثتها ، و بأنوثتها هذه تستدر العطف و الرحمة ، و بها تحصل على المال . . و بها و على أساسها تحاول التغلب على كل مشاكل الحياة ، و هي دون غيرها أصبحت تشكل أساس تعاملها مع الرجل ، و أساس كل روابطها به . . و أصبح ذلك هو عالمها الذي تعيش فيه ، و تدور في فلكه ، و تهيم في أجوائه . . و تقيّم كل الأمور على أساسه . . فترتبط بها أو تنفصل عنها من هذا المنطلق ، و على هذا الأساس . .
و لقد غاب عنها ـ مع كل أسف ـ أن هذا الشيء الذي ربطت حياتها و مستقبلها و مصيرها به لا يلبث أن يتلاشى و ينعدم ، و لتواجه من ثم مصاعب الحياة و مصائبها ، و هي لا تملك ـ بعد فقدها إياه على حسب منطقها ـ أي رصيد تستطيع أن تعتمد عليه في دفع الضرر عن نفسها ، أو على الأقل في تخفيف مشاكلها . .
لأن الرجل . . الذي زين لها و دفعها بشكل أو بآخر لأن تعتبر أنوثتها هي كل ما تملك ، و هي ما تستطيع فقط أن تعتمد عليه ، إنما أراد ـ و هو الذي لا مبدأ له إلا المال و اللذة ، و لا دين له إلا شهوته و مصلحته ـ أراد أن يتاجر بهذه الأنوثة و يستفيد عن طريقها المال . . أو يحصل على اللذة . . حتى إذا ذوت تلك الزهرة و ذبلت ذهب ليبحث عن غيرها ، مما يحقق له مآربه ، و يوصله إلى أهدافه . . بأساليب أمكر ، و بتصميم أكثر و أكبر . . و ليتركها هي في منتصف الطريق ، وحيدة فريدة ، رهينة البلاء و الشقاء ، و أسيرة التعب و العناء . . لأنها قد ضحت بكل شيء في سبيل لا شيء .
و الغريب في الأمر . . أنها لم تستطع أن تدرك أيضاً : أن هذه الأنوثة ، و ذلك الجمال لم تحصل عليه باختيارها . . فاعتزازها إذن بأمر لا قدرة لها فيه و لا اختيار لها معه لا معنى له ، و لا منطق يساعده . . كما أنه لا مبرر لان تأخذ على أساسه امتيازاً حتى و لو أدبياً تحرم منه مثيلاتها ممن لم يسعفهن الحظ بجمال بارع ، أو أنوثة صارخة . .
نعم . . لقد أصبحنا نجد أن المرأة في عالم اليوم لا تهتم إلا بما يبرز معالم فتنتها ، و يزيد من أنوثتها . . فهي تعيش في عوالم الأزياء ، و المساحيق ، و الموضة . . و تخشى باستمرار أن يسبقها الزمن ، و تتجاوزها الأيام . . فتفقد أعز شيء تملكه أو يفوتها الموديل الذي سوف تعتز به ، أو فقل تستعين به على إظهار ما تعتز به ، و عرضه في سوق المتاجرة فيما لا ينفع و لا يجدي ، و لا يجر على الإنسانية أي نفع أو فائدة إن لم يكن عكس ذلك هو الصحيح . .
أما الإسلام . . هذا الدين السماوي الخالد ، فلقد ألغى كل الامتيازات القائمة على أساس الفتنة و الإغراء ، و الاعتزاز بالأنوثة .
و اعتبر أن أساس التفاضل بين بني الإنسان هو التقوى و رضا الله و الأخلاق الرفيعة و الفاضلة الرضية ، نعم لقد جعل العمل هو الميزان و المقياس و جعل الأساس للاعتزاز به لكل الناس بما فيهم المرأة هو الهدف الذي من أجله و في سبيله يكون ذلك العمل ، فكلما كان الهدف سامياً رفيعاً كلما كان ذلك مصدر اعتزاز و تقدير للإنسان . .
و حيث أن العقيدة الإسلامية هي التي تمثل أرفع المبادئ و أسماها . . و أجل الأهداف و أعلاها . . فإن من الطبيعي : أن يكون لنسبة التمسك بمبادئ الإسلام ، و حجم العمل من أجله و في سبيله . . أثر كبير في الحصول على الامتيازات ، و الاستحقاق و التقدير و الاحترام في مختلف المجالات . . و الدين و العقيدة و الإسلام إذا كان هدفاً للإنسان أي إنسان . . فإنه لا ينفك في أي من الظروف و الأحوال عن أن يكون مصدراً لعزته و شرفه و سؤدده سواء في حال شبابه أو في حال طفولته ، أو في حال هرمه و شيخوخته . . و سواء أ كان جميل المنظر جذاباً ، أو غير جميل و لا جذاب ، و سواء أ كان غنياً ، أو كان فقيراً ، و هكذا . . فهو له و معه في كل ظرف و في كل حين . . معه في هرمه كما كان معه في شبابه . . معه في قوته كما هو معه في ضعفه ، معه في غناه كما هو معه في فقره . . و على هذه فقس ما سواها . .
و إننا حينما نعتبره له و معه . . فإنما يعني ذلك : أنه معه و له بكل ما لهذه الكلمة من معنى ، يتفاعل معه ، و ينسجم معه ، و يعيش له ، و يعمل له ، و يفني فيه وجوده ، و تذوب فيه شخصيته ، و يجري فيه مجرى الدم . . و يتحكم بوجوده تحكم الروح بالجسد ، و بكلمة : أن يعود في الحقيقة إسلاماً حياً يمشي على وجه الأرض . .
و لا يمكن أن يكون الذوبان في الإسلام ، و تجسد الإسلام ، خيالاً عذباً يراود مخيلتنا من حين لآخر . كما أنه لا يجوز أن نعتبر أن الذوبان في الإسلام و التفاعل معه لا يتيسر إلا للأنبياء و أوصيائهم ( عليهم السلام ) . . فلقد ربى النبي ( صلى الله عليه و آله ) و كذلك علي من بعده ، و بعده الأئمة المعصومون من أبنائه عليهم السلام ـ قد ربوا ـ الكثير الكثير من هذه النماذج الحية للإسلام ، التي تعيش الإسلام بكل وجودها و كيانها و تفديها بكل ما تملك من غالٍ و نفيس . . لقد ربوا الكثيرين ليس رجالاً فحسب و إنما رجالاً و نساء . .
فكانت النساء كالرجال في إيمانها و تضحياتها و مواقفها . نعم كالرجال . . بل و لقد زدن عليهم . . و حينما ننظر إلى تلكم النساء اللواتي صنعهن الإسلام . . فلا نكاد نعثر ، و لا يمكن أن نعثر على واحدة منهن تعتبر المصدر لعزتها و سؤددها هو جمالها و أنوثتها أو فستانها أو مساحيقها و لا نكاد نجد فيهن شيئاً من ملامح الضعف و الوهن . . بل هن يكدن يذبن حناناً و رقة في موضع الرقة و الحنان . . و هن تزول الجبال و لا يزلن ، و لا تزعزعهن الرياح العواصف في موقع الحزم و الصبر و الشجاعة ، و هن يضحين بكل شيء مهما عز و غلا في موضع التضحية و الفداء . .
و لنا في تاريخ الإسلام الكثير من الأمثلة على ذلك . . و لا نريد أن نذكر فاطمة صلوات الله و سلامه عليها و مواقفها السياسية و العقيدية ، و لا نريد أن نذكر خديجة و صبرها و تضحياتها . .
و إنما نكتفي بالإشارة إلى موقف واحد من مواقف بنت فاطمة و علي ( عليهما السلام ) و أخت سيد الشهداء الحسين بن علي صلوات الله و سلامه عليه . .
إنها زينب عقيلة بني هاشم و بطلة كربلاء . .
زينب . . التي كانت تعتز بدينها و عقيدتها . . و تعتز بخلقها الرضي و سجاياها الرفيعة ، و أدبها الجم . . زينب . . التي كانت تعتز بسلوكها المثالي ، و مواقفها الرائدة ، و علمها النافع و رأيها الحصيف . . زينب . . التي كانت أبعد ما تكون عن حب المال و الجاه و الشهرة . . زينب التي كانت ابعد ما تكون عن الميوعة و الابتذال و المهانة . . زينب . . التي كانت لا تعرف الأزياء و لا فواتير الطعام و لا غير ذلك مما يعرفه فتيات و نساء اليوم . .
زينب هذه . . قد صنعت في مصنع الإسلام ، و ربيت تربية الإسلام و عاشت الإسلام عقيدة سلوكاً و هدفاً . .
نعم . . زينب هذه . . لها مواقف و مواقف أين منها مواقف أفذاذ الرجال ، و عظمها التاريخ . . لها مواقف و مواقف في كربلاء ، و في الكوفة و في المدينة . . و في الشام . . و في كل مكان تواجدت فيه . .
و لن نستطيع أن نستوفي الحديث عن مواقف زينب الرائعة و الرائدة ، ولا أن نلم ببطولاتها النادرة . . و لذا فنحن نكتفي بتسجيل لمحات عن موقفها في الشام مع يزيد الطاغية . . و بالأخص تسجيل مقارنة سريعة بين موقفي كل من : زينب الحق و الخير و المعرفة و الوعي . و يزيد الخمور و الفجور و الظلم و الطغيان و الجبروت .
فيزيد . . هو صاحب الجاه و السلطان . . و يرى نفسه ملكاً على أعظم إمبراطورية في العالم ، و الناس كلهم تحت طاعته ، و رهن إشارته . .
و يزيد . . يملك الرجال ، و الجيوش التي تدافع عنه و تحمي سلطانه ، و تخنق كل صوت يرتفع ضده ، و تسحق كل مخالف و مناوئ له . . و يستطيع أن يضرب بيد من حديد و يقضي على كل حركة أو إشارة من أعدائه .
و يزيد . . يملك مقدرات أعظم دولة على وجه الأرض . . و كل الأموال الهائلة تجبى إليه من أقطار الأرض ، فالمال كل المال له ، و بين يديه ، و من أجله و في سبيله .
و يزيد . . هذا الذي يرى نفسه أعظم رجل على وجه الأرض ، و يملك كل أساليب القوة و القهر و السلطان . . يرى نفسه أيضاً أنه هو المنتصر الفاتح ، و يرى أن انتصاره كان سريعاً و ساحقاً . . و هذا مما يزيد في غروره و طغيانه ، و تجبره ، و غطرسته .
و يزيد . . لم يعرف غير النعيم و الرخاء ، و الطاعة العمياء من كل من حوله . .
و يزيد . . في وطنه وفي بلده . . حيث نشأ وعاش وتربى . . ولا يحس بغربة ، ولا بوحشة . .
و يزيد . . يرى الدنيا تضحك له و يرى نفسه قادماً على مستقبل مشرق رغيد ، يجد فيه كل أحلامه و أمانيه و مشتهياته . .
و يزيد . . في أعز مكان يمكن أن يكون فيه : على تخت ملكه ، و في قصره و في مجلسه ، و على بساطه . .
ويزيد . . لم يفقد أحداً من أعزائه وأحبائه في حرب كربلاء ، ليفت فقده في عضده ويجرح كبرياءه ، ويخفف من عنجهيته .
و يزيد . . رجل و شاب . . و الرجل بطبيعته ـ و بالأخص إذا كان شاباً ـ أقوى على تحمل المصاعب ، و مواجهة المشكلات من المرأة ، و أقدر منها على مواجهة الصدمات و لاسيما العاطفية منها .
و يزيد . . الرجل الشاب الفاتك ، ذو البطش ، الذي لم يكن ليقف في وجهه شيء و لا يمنعه شيء حتى الدين من أن يرتكب أي عظيمة ، و يقترف أي جريمة و لا يخاف شيئاً ، و لا يرهب من شيء في سبيل ملكه و كبريائه . . بل هو يقتل حتى أبناء الأنبياء ، و حتى الشيوخ و الأطفال الرضع ، و حتى النساء في سبيل وصوله إلى أهدافه ، و حصوله على مراداته ، مهما كانت رخيصة ، و غير معقولة . .
يزيد هذا . . يقف في وجهه خصم قوي ، و مكافح شديد ، و يهينه و يذله ، و يبدو هو أمامه خانعاً عاجزاً مقهوراً . . و مما يزيد في مرارة الموقف ، و لوعته و ألمه أن خصمه في هذه المرة كان " امرأة " . .
نعم . . امرأة . . و المرأة أضعف من الرجل و أرق . . كما يقولون ، و أقل تحملاً في مواجهة الصدمات العاطفية كما يعتقدون . .
و امرأة . . مثكولة ، و مصابة بأولادها ، بأخوتها ، بأبنائهم ، بنجوم الأرض من بني عبد المطلب ، و بخيرة أصحابهم و شيعتهم و محبيهم . .
و امرأة . . ليس فقط مثكولة بمن ذكرنا ، و إنما هي بنفسها رأت مصارعهم و شاهدت بأم عينها حالتهم البشعة ، و التي تقرح القلوب و تدميها . . .
نعم رأت مصارعهم و رافقت كل الأحداث و المصائب التي مرت عليهم . .
و امرأة . . وحيدة ، ليس معها من حماتها حمي ، و لا من رجالها ولي . .
و ليس لها جيش يحامي عنها ، أو يدفع . و لا بيدها سلاح تملكه أو تلجأ إليه .
امرأة . . ليست تملك من المال شيئاً تسد به رمقها و رمق من هي مسؤولة عنه ، بل تحتاج إلى أعدائها ليساعدوها على حفظ رمق الحياة و مواجهة عقارب الجوع و العطش اللاسعة ، و التي لا ترحم أحداً ، و لا ترثي لأحد . .
و امرأة . . تعاني من ذل الغربة ، و وحشة الدار . . و ليس فقط الغربة عن بلدها . . بل هي في بلد عدوها و في يده و تحت سلطته و سلطانه . .
و امرأة . . مهزومة عسكرياً أيضاً .
و امرأة . . تعاني من ذل القهر و الأسر ، بالإضافة إلى ذل الهزيمة العسكرية .
امرأة . . تجد الشماتة القاتلة من أهل الشام بها . . حتى لتزين دمشق استبشاراً بالانتصار عليها و على أحبتها و بقتلهم و إبادة خضرائهم . .
امرأة . . ترافقها رؤوس أبنائها و إخوتها و غيرهم من أحبتها طول الطريق على رؤوس الرماح . بشكل يفتت الأكباد و يدمي القلوب . .
امرأة . . هي بالإضافة إلى كل ذلك تتحمل مسؤولية الحفاظ على طائفة كبيرة من الأرامل و الأيتام و الأسرى و الأطفال . . و قضاء حاجاتهم و الإشراف على كل حركاتهم . .
و امرأة . . قد عانت من مشاق السفر و متاعبه ما فيه الكفاية . .
و امرأة . . لم لكن لها سلطان أو ملك تعتز به ، أو تعتمد عليه . .
و امرأة . . تقدم على مستقبل مجهول و قاتم ، و لا تعرف مصيرها فيه و لا مصير كل أهلها و ذويها . .
و امرأة . . لم تعرف البذخ و الترف و النعيم و الرخاء ، كما كان الحال بالنسبة لبنات الملوك و أبنائهم .
امرأة . . مهما توقعنا منها . . فإننا لا نتوقع إلا أن تنهار ، و تنهزم و تبكي و تنتحب و تعجز . .
نعم . . هذه المرأة بالذات ، و بهذه الخصائص و المميزات تقف في وجه الطاغية يزيد لتذله ، و تسحق شخصيته و وجوده بقدميها ـ تقف في وجهه ، و المواجهة أصعب من الغيبة و على بساطه و في دار ملكه . و يزيد هو من قدمنا ، تقف و بقوة إيمانها ، و صادق عزيمتها لتقول له ، و للعالم أجمع : إنها هي التي انتصرت في المعركة ، و يزيد ـ يزيد فقط هو الخاسر المغبون و لا خاسر غيره . .
تقف أمام يزيد لتؤدي رسالتها ، و لتعطي الصورة الحقيقية للمرأة المسلمة الواعية ، التي لا تتصرف بوحي من عاطفة ، و لا يطغى على مواقفها العجز ، و لا الضعف و الوهن . .
نعم . . هذه المرأة تقف في وجه يزيد ، و في دار ملكه ، و على بساطه و بين جنده ، و رجال ملكه ، و هي تعاني من ذل الأسر ، و القهر ، و العدم و الثكل . . تقف في وجهه لتقول له ـ عندما سمعته يتمثل بأبيات ابن الزبعري :
ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخوارج من وقع الأسل
لأهـلـوا و استهلوا فرحاً *** ثـم قـالـوا : يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القرم من ساداتهم *** و عـدلنـاه بـبـدر فـاعتدل
ثم زاد عليها قوله :
لعبت هـاشم بـالملك فـلا *** خبر جـاء و لا وحي نـزل
لست من خندف إن لم انتقم *** من بني احمد مـا كان فعل
تقف لتقول له ـ على ما ذكره طيفور في بلاغات النساء :21 ، و الخوارزمي في مقتل الحسين : 2 / 64 :
" الحمد لله رب العالمين ، و صلى الله على رسوله و آله أجمعين صدق الله سبحانه ، حيث يقول : (( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون )) .
أ ظننت يا يزيد ، حيث أخذت علينا أقطار الأرض و آفاق السماء ، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى : أن بنا هواناً على الله ، و بك عليه كرامة ؟ و أن ذلك لعظم خطرك عنده ، فشمخت بأنفك ، و نظرت في عطفك ، جذلان مسروراً ، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة ، و الأمور متسقة . و حين صفا لك ملكنا و سلطاننا ، فمهلاً مهلاً ، أنسيت قول الله تعالى : (( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ )) .
أمن العدل يا ابن الطلقاء ، تخديرك حرائرك و إماءك ، وسوقك بنات رسول الله سبايا ؟ قد هتكت ستورهن ، و أبديت وجوههن ، تحدوا بهن الأعداء من بلد إلى بلد ، و يستشرفهن أهل المناهل و المعاقل ، و يتصفح وجوههن القريب و البعيد ، و الدني و الشريف ، ليس معهن من حماتهن حمي ، و لا من رجالهن ولي . .
وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء ، ونبت لحمه من دماء الشهداء ؟ ! .
و كيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف و الشنآن و الإحن ، و الأضغان ؟ ! .
ثم تقول غير متأثم ، و لا مستعظم :
لأهلوا و استهلوا فرحاً *** ثم قالوا : يا يزيد لا تشل
منحنياً على ثنايا أبي عبد الله ، سيد شباب أهل الجنة ، تنكتها بمخصرتك ، و كيف لا تقول ذلك ، و قد نكأت القرحة ، و استأصلت الشأفة ، بإراقتك دماء ذرية محمد صلى الله عليه و آله ، و نجوم الأرض من آل عبد المطلب ؟ ! .
و تهتف بأشياخك ، زعمت أنك تناديهم ، فلتردن وشيكاً موردهم ، و لتودن أنك شللت و بكمت ، و لم تكن قلت ما قلت ، و فعلت ما فعلت .
اللهم ، خذ لنا بحقنا ، و انتقم ممن ظلمنا ، و أحل غضبك بمن سفك دماءنا ، و قتل حماتنا . .
فوالله ، ما فريت إلا جلدك ، و لا حززت إلا لحمك ، و لتردن على رسول الله صلى الله عليه و آله بما تحملت من سفك دماء ذريته ، و انتهكت من حرمته في عترته و لحمته ، حيث يجمع الله شملهم ، و يلم شعثهم ، و يأخذ بحقهم : (( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ )) .
و حسبك بالله حاكماً ، و بمحمد صلى الله عليه و آله خصيماً ، و بجبرائيل ظهيراً ، و سيعلم من سول لك ، و مكنك من رقاب المسلمين ، بئس للظالمين بدلاً ، و أيكم شر مكاناً ، و أضعف جنداً . .
و لئن جرت علي الدواهي مخاطبتك ، إني لأستصغر قدرك ، و أستعظم تقريعك ، و استكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، و الصدور حرى . .
ألا فالعجب كل العجب ! . لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء ، فهذه الأيادي تنطف من دمائنا ، و الأفواه تتحلب من لحومنا ، و تلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل ، و تعفرها أمهات الفراعل . . و لئن اتخذتنا مغنماً لتجدنا و شيكاً مغرماً ، حيث لا تجد إلا ما قدمت يداك ، و ما ربك بظلام للعبيد ، و إلى الله المشتكى ، و عليه المعول . .
فكيد كيدك ، و اسع سعيك ، و ناصب جهدك ، فوالله ، لا تمحو ذكرنا ، و لا تميت وحينا ، و لا يرحض عنك عارها . . و هل رأيك إلا فند ، و أيامك إلا عدد ، و جمعك إلا بدد ، يوم ينادي المنادي : ألا لعنة الله على الظالمين . .
و الحمد لله رب العالمين الذي ختم لأولنا بالسعادة و المغفرة ، و لآخرنا بالشهادة و الرحمة . و نسأل الله أن يكمل لهم الثواب ، و يوجب لهم المزيد ، و يحسن علينا الخلافة ، إنه رحيم ودود ، و حسبنا الله و نعم الوكيل . . " .
فلم يجد يزيد ـ الذي صعق لهول الصدمة ، و ارتبك ، و دهش ـ لم يجد في جوابها إلا أن يقول :
يا صيحة تحمد من صوائح *** ما أهون النوح على النوائح
و من موقفها هنا و موقفها مع الطاغية ابن زياد . . و أيضاً حينما مشت بقدم ثابتة إلى مصرح أخيها الحسين حيث وضعت يديها تحت جثته و استقبلت السماء لتقول : اللهم تقبل من هذا القربان .
من كل ذلك نعرف : أن سر قول الحسين و هو يتوجه إلى كربلاء حينما سئل عن حملة النساء و الأطفال معه و هو يعلم أنه يقتل ، يقول : إن الله شاء أن يراهن سبايا .
هذه هي المرأة المسلمة : التي عاشت الإسلام عقيدة و سلوكاً و هدفاً ، و تفاعلت معه . . و ذاب وجودها فيه . . قوية حازمة في موقع الحزم و القوة ، صابرة محتسبة في موضع الصبر و الاحتساب . . و هي أيضاً تفيض رقة و حناناً ، حينما يكون ثمة حاجة إلى الحنان و الرقة . .
هذه هي المرأة المسلمة : التي تمثل المستوى الأعلى للوعي الرسالي . . سياسياً ، و اجتماعياً ، و أخلاقياً ، و تربوياً . . إنها مثال الإنسان الكامل . . الذي يسخر بكل الرجال المنحرفين و بالطغاة و المتجبرين . . و يسحق وجودهم ، و جبروتهم . . و الذي يتفاعل مع الأحداث ، و يشارك في صنع مستقبل الأمة بإخلاص و وعي و جدية . .
و نحن الآن بأمس الحاجة إلى هذه المرأة المسلمة ، التي تستهدي بهدى الإسلام ، و تتأثر خطى زينب ، و تقف مواقف فاطمة ، و تضحي تضحيات خديجة . .
و نحن في غنى عن هذه المرأة الحاقدة المعقدة التي تمثل الميوعة و السخف بأجلى مظاهرهما ، و لا تعتز إلا بأنوثتها ، و لا تهتم إلا بمظاهر فتنتها . .
نعم . . لا نريد المرأة التي لا تعرف إلا البلاجات و البارات و المسارح و دور الأزياء . . نحن في غنى عن هذه المرأة ، و لسنا بحاجة إليها . . إنها ضرر و دمار على المجتمع و الأمة . . و هي أكبر و أخطر من كل سلاح فتاك يتهدد وجود و مستقبل المجتمعات البشرية جمعاء . .
إننا نريد المرأة التي تعتز بدينها و عقيدتها ، و بوعيها ، و بأخلاقها الرضية و سجاياها الكريمة . . و تضحي بكل ما تملك حتى بوجودها في سبيل أهدافها العليا ، و قيمها النبيلة . . نريد المرأة التي تتأثر خطى زينب بنت علي
و لقد غاب عنها ـ مع كل أسف ـ أن هذا الشيء الذي ربطت حياتها و مستقبلها و مصيرها به لا يلبث أن يتلاشى و ينعدم ، و لتواجه من ثم مصاعب الحياة و مصائبها ، و هي لا تملك ـ بعد فقدها إياه على حسب منطقها ـ أي رصيد تستطيع أن تعتمد عليه في دفع الضرر عن نفسها ، أو على الأقل في تخفيف مشاكلها . .
لأن الرجل . . الذي زين لها و دفعها بشكل أو بآخر لأن تعتبر أنوثتها هي كل ما تملك ، و هي ما تستطيع فقط أن تعتمد عليه ، إنما أراد ـ و هو الذي لا مبدأ له إلا المال و اللذة ، و لا دين له إلا شهوته و مصلحته ـ أراد أن يتاجر بهذه الأنوثة و يستفيد عن طريقها المال . . أو يحصل على اللذة . . حتى إذا ذوت تلك الزهرة و ذبلت ذهب ليبحث عن غيرها ، مما يحقق له مآربه ، و يوصله إلى أهدافه . . بأساليب أمكر ، و بتصميم أكثر و أكبر . . و ليتركها هي في منتصف الطريق ، وحيدة فريدة ، رهينة البلاء و الشقاء ، و أسيرة التعب و العناء . . لأنها قد ضحت بكل شيء في سبيل لا شيء .
و الغريب في الأمر . . أنها لم تستطع أن تدرك أيضاً : أن هذه الأنوثة ، و ذلك الجمال لم تحصل عليه باختيارها . . فاعتزازها إذن بأمر لا قدرة لها فيه و لا اختيار لها معه لا معنى له ، و لا منطق يساعده . . كما أنه لا مبرر لان تأخذ على أساسه امتيازاً حتى و لو أدبياً تحرم منه مثيلاتها ممن لم يسعفهن الحظ بجمال بارع ، أو أنوثة صارخة . .
نعم . . لقد أصبحنا نجد أن المرأة في عالم اليوم لا تهتم إلا بما يبرز معالم فتنتها ، و يزيد من أنوثتها . . فهي تعيش في عوالم الأزياء ، و المساحيق ، و الموضة . . و تخشى باستمرار أن يسبقها الزمن ، و تتجاوزها الأيام . . فتفقد أعز شيء تملكه أو يفوتها الموديل الذي سوف تعتز به ، أو فقل تستعين به على إظهار ما تعتز به ، و عرضه في سوق المتاجرة فيما لا ينفع و لا يجدي ، و لا يجر على الإنسانية أي نفع أو فائدة إن لم يكن عكس ذلك هو الصحيح . .
أما الإسلام . . هذا الدين السماوي الخالد ، فلقد ألغى كل الامتيازات القائمة على أساس الفتنة و الإغراء ، و الاعتزاز بالأنوثة .
و اعتبر أن أساس التفاضل بين بني الإنسان هو التقوى و رضا الله و الأخلاق الرفيعة و الفاضلة الرضية ، نعم لقد جعل العمل هو الميزان و المقياس و جعل الأساس للاعتزاز به لكل الناس بما فيهم المرأة هو الهدف الذي من أجله و في سبيله يكون ذلك العمل ، فكلما كان الهدف سامياً رفيعاً كلما كان ذلك مصدر اعتزاز و تقدير للإنسان . .
و حيث أن العقيدة الإسلامية هي التي تمثل أرفع المبادئ و أسماها . . و أجل الأهداف و أعلاها . . فإن من الطبيعي : أن يكون لنسبة التمسك بمبادئ الإسلام ، و حجم العمل من أجله و في سبيله . . أثر كبير في الحصول على الامتيازات ، و الاستحقاق و التقدير و الاحترام في مختلف المجالات . . و الدين و العقيدة و الإسلام إذا كان هدفاً للإنسان أي إنسان . . فإنه لا ينفك في أي من الظروف و الأحوال عن أن يكون مصدراً لعزته و شرفه و سؤدده سواء في حال شبابه أو في حال طفولته ، أو في حال هرمه و شيخوخته . . و سواء أ كان جميل المنظر جذاباً ، أو غير جميل و لا جذاب ، و سواء أ كان غنياً ، أو كان فقيراً ، و هكذا . . فهو له و معه في كل ظرف و في كل حين . . معه في هرمه كما كان معه في شبابه . . معه في قوته كما هو معه في ضعفه ، معه في غناه كما هو معه في فقره . . و على هذه فقس ما سواها . .
و إننا حينما نعتبره له و معه . . فإنما يعني ذلك : أنه معه و له بكل ما لهذه الكلمة من معنى ، يتفاعل معه ، و ينسجم معه ، و يعيش له ، و يعمل له ، و يفني فيه وجوده ، و تذوب فيه شخصيته ، و يجري فيه مجرى الدم . . و يتحكم بوجوده تحكم الروح بالجسد ، و بكلمة : أن يعود في الحقيقة إسلاماً حياً يمشي على وجه الأرض . .
و لا يمكن أن يكون الذوبان في الإسلام ، و تجسد الإسلام ، خيالاً عذباً يراود مخيلتنا من حين لآخر . كما أنه لا يجوز أن نعتبر أن الذوبان في الإسلام و التفاعل معه لا يتيسر إلا للأنبياء و أوصيائهم ( عليهم السلام ) . . فلقد ربى النبي ( صلى الله عليه و آله ) و كذلك علي من بعده ، و بعده الأئمة المعصومون من أبنائه عليهم السلام ـ قد ربوا ـ الكثير الكثير من هذه النماذج الحية للإسلام ، التي تعيش الإسلام بكل وجودها و كيانها و تفديها بكل ما تملك من غالٍ و نفيس . . لقد ربوا الكثيرين ليس رجالاً فحسب و إنما رجالاً و نساء . .
فكانت النساء كالرجال في إيمانها و تضحياتها و مواقفها . نعم كالرجال . . بل و لقد زدن عليهم . . و حينما ننظر إلى تلكم النساء اللواتي صنعهن الإسلام . . فلا نكاد نعثر ، و لا يمكن أن نعثر على واحدة منهن تعتبر المصدر لعزتها و سؤددها هو جمالها و أنوثتها أو فستانها أو مساحيقها و لا نكاد نجد فيهن شيئاً من ملامح الضعف و الوهن . . بل هن يكدن يذبن حناناً و رقة في موضع الرقة و الحنان . . و هن تزول الجبال و لا يزلن ، و لا تزعزعهن الرياح العواصف في موقع الحزم و الصبر و الشجاعة ، و هن يضحين بكل شيء مهما عز و غلا في موضع التضحية و الفداء . .
و لنا في تاريخ الإسلام الكثير من الأمثلة على ذلك . . و لا نريد أن نذكر فاطمة صلوات الله و سلامه عليها و مواقفها السياسية و العقيدية ، و لا نريد أن نذكر خديجة و صبرها و تضحياتها . .
و إنما نكتفي بالإشارة إلى موقف واحد من مواقف بنت فاطمة و علي ( عليهما السلام ) و أخت سيد الشهداء الحسين بن علي صلوات الله و سلامه عليه . .
إنها زينب عقيلة بني هاشم و بطلة كربلاء . .
زينب . . التي كانت تعتز بدينها و عقيدتها . . و تعتز بخلقها الرضي و سجاياها الرفيعة ، و أدبها الجم . . زينب . . التي كانت تعتز بسلوكها المثالي ، و مواقفها الرائدة ، و علمها النافع و رأيها الحصيف . . زينب . . التي كانت أبعد ما تكون عن حب المال و الجاه و الشهرة . . زينب التي كانت ابعد ما تكون عن الميوعة و الابتذال و المهانة . . زينب . . التي كانت لا تعرف الأزياء و لا فواتير الطعام و لا غير ذلك مما يعرفه فتيات و نساء اليوم . .
زينب هذه . . قد صنعت في مصنع الإسلام ، و ربيت تربية الإسلام و عاشت الإسلام عقيدة سلوكاً و هدفاً . .
نعم . . زينب هذه . . لها مواقف و مواقف أين منها مواقف أفذاذ الرجال ، و عظمها التاريخ . . لها مواقف و مواقف في كربلاء ، و في الكوفة و في المدينة . . و في الشام . . و في كل مكان تواجدت فيه . .
و لن نستطيع أن نستوفي الحديث عن مواقف زينب الرائعة و الرائدة ، ولا أن نلم ببطولاتها النادرة . . و لذا فنحن نكتفي بتسجيل لمحات عن موقفها في الشام مع يزيد الطاغية . . و بالأخص تسجيل مقارنة سريعة بين موقفي كل من : زينب الحق و الخير و المعرفة و الوعي . و يزيد الخمور و الفجور و الظلم و الطغيان و الجبروت .
فيزيد . . هو صاحب الجاه و السلطان . . و يرى نفسه ملكاً على أعظم إمبراطورية في العالم ، و الناس كلهم تحت طاعته ، و رهن إشارته . .
و يزيد . . يملك الرجال ، و الجيوش التي تدافع عنه و تحمي سلطانه ، و تخنق كل صوت يرتفع ضده ، و تسحق كل مخالف و مناوئ له . . و يستطيع أن يضرب بيد من حديد و يقضي على كل حركة أو إشارة من أعدائه .
و يزيد . . يملك مقدرات أعظم دولة على وجه الأرض . . و كل الأموال الهائلة تجبى إليه من أقطار الأرض ، فالمال كل المال له ، و بين يديه ، و من أجله و في سبيله .
و يزيد . . هذا الذي يرى نفسه أعظم رجل على وجه الأرض ، و يملك كل أساليب القوة و القهر و السلطان . . يرى نفسه أيضاً أنه هو المنتصر الفاتح ، و يرى أن انتصاره كان سريعاً و ساحقاً . . و هذا مما يزيد في غروره و طغيانه ، و تجبره ، و غطرسته .
و يزيد . . لم يعرف غير النعيم و الرخاء ، و الطاعة العمياء من كل من حوله . .
و يزيد . . في وطنه وفي بلده . . حيث نشأ وعاش وتربى . . ولا يحس بغربة ، ولا بوحشة . .
و يزيد . . يرى الدنيا تضحك له و يرى نفسه قادماً على مستقبل مشرق رغيد ، يجد فيه كل أحلامه و أمانيه و مشتهياته . .
و يزيد . . في أعز مكان يمكن أن يكون فيه : على تخت ملكه ، و في قصره و في مجلسه ، و على بساطه . .
ويزيد . . لم يفقد أحداً من أعزائه وأحبائه في حرب كربلاء ، ليفت فقده في عضده ويجرح كبرياءه ، ويخفف من عنجهيته .
و يزيد . . رجل و شاب . . و الرجل بطبيعته ـ و بالأخص إذا كان شاباً ـ أقوى على تحمل المصاعب ، و مواجهة المشكلات من المرأة ، و أقدر منها على مواجهة الصدمات و لاسيما العاطفية منها .
و يزيد . . الرجل الشاب الفاتك ، ذو البطش ، الذي لم يكن ليقف في وجهه شيء و لا يمنعه شيء حتى الدين من أن يرتكب أي عظيمة ، و يقترف أي جريمة و لا يخاف شيئاً ، و لا يرهب من شيء في سبيل ملكه و كبريائه . . بل هو يقتل حتى أبناء الأنبياء ، و حتى الشيوخ و الأطفال الرضع ، و حتى النساء في سبيل وصوله إلى أهدافه ، و حصوله على مراداته ، مهما كانت رخيصة ، و غير معقولة . .
يزيد هذا . . يقف في وجهه خصم قوي ، و مكافح شديد ، و يهينه و يذله ، و يبدو هو أمامه خانعاً عاجزاً مقهوراً . . و مما يزيد في مرارة الموقف ، و لوعته و ألمه أن خصمه في هذه المرة كان " امرأة " . .
نعم . . امرأة . . و المرأة أضعف من الرجل و أرق . . كما يقولون ، و أقل تحملاً في مواجهة الصدمات العاطفية كما يعتقدون . .
و امرأة . . مثكولة ، و مصابة بأولادها ، بأخوتها ، بأبنائهم ، بنجوم الأرض من بني عبد المطلب ، و بخيرة أصحابهم و شيعتهم و محبيهم . .
و امرأة . . ليس فقط مثكولة بمن ذكرنا ، و إنما هي بنفسها رأت مصارعهم و شاهدت بأم عينها حالتهم البشعة ، و التي تقرح القلوب و تدميها . . .
نعم رأت مصارعهم و رافقت كل الأحداث و المصائب التي مرت عليهم . .
و امرأة . . وحيدة ، ليس معها من حماتها حمي ، و لا من رجالها ولي . .
و ليس لها جيش يحامي عنها ، أو يدفع . و لا بيدها سلاح تملكه أو تلجأ إليه .
امرأة . . ليست تملك من المال شيئاً تسد به رمقها و رمق من هي مسؤولة عنه ، بل تحتاج إلى أعدائها ليساعدوها على حفظ رمق الحياة و مواجهة عقارب الجوع و العطش اللاسعة ، و التي لا ترحم أحداً ، و لا ترثي لأحد . .
و امرأة . . تعاني من ذل الغربة ، و وحشة الدار . . و ليس فقط الغربة عن بلدها . . بل هي في بلد عدوها و في يده و تحت سلطته و سلطانه . .
و امرأة . . مهزومة عسكرياً أيضاً .
و امرأة . . تعاني من ذل القهر و الأسر ، بالإضافة إلى ذل الهزيمة العسكرية .
امرأة . . تجد الشماتة القاتلة من أهل الشام بها . . حتى لتزين دمشق استبشاراً بالانتصار عليها و على أحبتها و بقتلهم و إبادة خضرائهم . .
امرأة . . ترافقها رؤوس أبنائها و إخوتها و غيرهم من أحبتها طول الطريق على رؤوس الرماح . بشكل يفتت الأكباد و يدمي القلوب . .
امرأة . . هي بالإضافة إلى كل ذلك تتحمل مسؤولية الحفاظ على طائفة كبيرة من الأرامل و الأيتام و الأسرى و الأطفال . . و قضاء حاجاتهم و الإشراف على كل حركاتهم . .
و امرأة . . قد عانت من مشاق السفر و متاعبه ما فيه الكفاية . .
و امرأة . . لم لكن لها سلطان أو ملك تعتز به ، أو تعتمد عليه . .
و امرأة . . تقدم على مستقبل مجهول و قاتم ، و لا تعرف مصيرها فيه و لا مصير كل أهلها و ذويها . .
و امرأة . . لم تعرف البذخ و الترف و النعيم و الرخاء ، كما كان الحال بالنسبة لبنات الملوك و أبنائهم .
امرأة . . مهما توقعنا منها . . فإننا لا نتوقع إلا أن تنهار ، و تنهزم و تبكي و تنتحب و تعجز . .
نعم . . هذه المرأة بالذات ، و بهذه الخصائص و المميزات تقف في وجه الطاغية يزيد لتذله ، و تسحق شخصيته و وجوده بقدميها ـ تقف في وجهه ، و المواجهة أصعب من الغيبة و على بساطه و في دار ملكه . و يزيد هو من قدمنا ، تقف و بقوة إيمانها ، و صادق عزيمتها لتقول له ، و للعالم أجمع : إنها هي التي انتصرت في المعركة ، و يزيد ـ يزيد فقط هو الخاسر المغبون و لا خاسر غيره . .
تقف أمام يزيد لتؤدي رسالتها ، و لتعطي الصورة الحقيقية للمرأة المسلمة الواعية ، التي لا تتصرف بوحي من عاطفة ، و لا يطغى على مواقفها العجز ، و لا الضعف و الوهن . .
نعم . . هذه المرأة تقف في وجه يزيد ، و في دار ملكه ، و على بساطه و بين جنده ، و رجال ملكه ، و هي تعاني من ذل الأسر ، و القهر ، و العدم و الثكل . . تقف في وجهه لتقول له ـ عندما سمعته يتمثل بأبيات ابن الزبعري :
ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخوارج من وقع الأسل
لأهـلـوا و استهلوا فرحاً *** ثـم قـالـوا : يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القرم من ساداتهم *** و عـدلنـاه بـبـدر فـاعتدل
ثم زاد عليها قوله :
لعبت هـاشم بـالملك فـلا *** خبر جـاء و لا وحي نـزل
لست من خندف إن لم انتقم *** من بني احمد مـا كان فعل
تقف لتقول له ـ على ما ذكره طيفور في بلاغات النساء :21 ، و الخوارزمي في مقتل الحسين : 2 / 64 :
" الحمد لله رب العالمين ، و صلى الله على رسوله و آله أجمعين صدق الله سبحانه ، حيث يقول : (( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون )) .
أ ظننت يا يزيد ، حيث أخذت علينا أقطار الأرض و آفاق السماء ، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى : أن بنا هواناً على الله ، و بك عليه كرامة ؟ و أن ذلك لعظم خطرك عنده ، فشمخت بأنفك ، و نظرت في عطفك ، جذلان مسروراً ، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة ، و الأمور متسقة . و حين صفا لك ملكنا و سلطاننا ، فمهلاً مهلاً ، أنسيت قول الله تعالى : (( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ )) .
أمن العدل يا ابن الطلقاء ، تخديرك حرائرك و إماءك ، وسوقك بنات رسول الله سبايا ؟ قد هتكت ستورهن ، و أبديت وجوههن ، تحدوا بهن الأعداء من بلد إلى بلد ، و يستشرفهن أهل المناهل و المعاقل ، و يتصفح وجوههن القريب و البعيد ، و الدني و الشريف ، ليس معهن من حماتهن حمي ، و لا من رجالهن ولي . .
وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء ، ونبت لحمه من دماء الشهداء ؟ ! .
و كيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف و الشنآن و الإحن ، و الأضغان ؟ ! .
ثم تقول غير متأثم ، و لا مستعظم :
لأهلوا و استهلوا فرحاً *** ثم قالوا : يا يزيد لا تشل
منحنياً على ثنايا أبي عبد الله ، سيد شباب أهل الجنة ، تنكتها بمخصرتك ، و كيف لا تقول ذلك ، و قد نكأت القرحة ، و استأصلت الشأفة ، بإراقتك دماء ذرية محمد صلى الله عليه و آله ، و نجوم الأرض من آل عبد المطلب ؟ ! .
و تهتف بأشياخك ، زعمت أنك تناديهم ، فلتردن وشيكاً موردهم ، و لتودن أنك شللت و بكمت ، و لم تكن قلت ما قلت ، و فعلت ما فعلت .
اللهم ، خذ لنا بحقنا ، و انتقم ممن ظلمنا ، و أحل غضبك بمن سفك دماءنا ، و قتل حماتنا . .
فوالله ، ما فريت إلا جلدك ، و لا حززت إلا لحمك ، و لتردن على رسول الله صلى الله عليه و آله بما تحملت من سفك دماء ذريته ، و انتهكت من حرمته في عترته و لحمته ، حيث يجمع الله شملهم ، و يلم شعثهم ، و يأخذ بحقهم : (( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ )) .
و حسبك بالله حاكماً ، و بمحمد صلى الله عليه و آله خصيماً ، و بجبرائيل ظهيراً ، و سيعلم من سول لك ، و مكنك من رقاب المسلمين ، بئس للظالمين بدلاً ، و أيكم شر مكاناً ، و أضعف جنداً . .
و لئن جرت علي الدواهي مخاطبتك ، إني لأستصغر قدرك ، و أستعظم تقريعك ، و استكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، و الصدور حرى . .
ألا فالعجب كل العجب ! . لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء ، فهذه الأيادي تنطف من دمائنا ، و الأفواه تتحلب من لحومنا ، و تلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل ، و تعفرها أمهات الفراعل . . و لئن اتخذتنا مغنماً لتجدنا و شيكاً مغرماً ، حيث لا تجد إلا ما قدمت يداك ، و ما ربك بظلام للعبيد ، و إلى الله المشتكى ، و عليه المعول . .
فكيد كيدك ، و اسع سعيك ، و ناصب جهدك ، فوالله ، لا تمحو ذكرنا ، و لا تميت وحينا ، و لا يرحض عنك عارها . . و هل رأيك إلا فند ، و أيامك إلا عدد ، و جمعك إلا بدد ، يوم ينادي المنادي : ألا لعنة الله على الظالمين . .
و الحمد لله رب العالمين الذي ختم لأولنا بالسعادة و المغفرة ، و لآخرنا بالشهادة و الرحمة . و نسأل الله أن يكمل لهم الثواب ، و يوجب لهم المزيد ، و يحسن علينا الخلافة ، إنه رحيم ودود ، و حسبنا الله و نعم الوكيل . . " .
فلم يجد يزيد ـ الذي صعق لهول الصدمة ، و ارتبك ، و دهش ـ لم يجد في جوابها إلا أن يقول :
يا صيحة تحمد من صوائح *** ما أهون النوح على النوائح
و من موقفها هنا و موقفها مع الطاغية ابن زياد . . و أيضاً حينما مشت بقدم ثابتة إلى مصرح أخيها الحسين حيث وضعت يديها تحت جثته و استقبلت السماء لتقول : اللهم تقبل من هذا القربان .
من كل ذلك نعرف : أن سر قول الحسين و هو يتوجه إلى كربلاء حينما سئل عن حملة النساء و الأطفال معه و هو يعلم أنه يقتل ، يقول : إن الله شاء أن يراهن سبايا .
هذه هي المرأة المسلمة : التي عاشت الإسلام عقيدة و سلوكاً و هدفاً ، و تفاعلت معه . . و ذاب وجودها فيه . . قوية حازمة في موقع الحزم و القوة ، صابرة محتسبة في موضع الصبر و الاحتساب . . و هي أيضاً تفيض رقة و حناناً ، حينما يكون ثمة حاجة إلى الحنان و الرقة . .
هذه هي المرأة المسلمة : التي تمثل المستوى الأعلى للوعي الرسالي . . سياسياً ، و اجتماعياً ، و أخلاقياً ، و تربوياً . . إنها مثال الإنسان الكامل . . الذي يسخر بكل الرجال المنحرفين و بالطغاة و المتجبرين . . و يسحق وجودهم ، و جبروتهم . . و الذي يتفاعل مع الأحداث ، و يشارك في صنع مستقبل الأمة بإخلاص و وعي و جدية . .
و نحن الآن بأمس الحاجة إلى هذه المرأة المسلمة ، التي تستهدي بهدى الإسلام ، و تتأثر خطى زينب ، و تقف مواقف فاطمة ، و تضحي تضحيات خديجة . .
و نحن في غنى عن هذه المرأة الحاقدة المعقدة التي تمثل الميوعة و السخف بأجلى مظاهرهما ، و لا تعتز إلا بأنوثتها ، و لا تهتم إلا بمظاهر فتنتها . .
نعم . . لا نريد المرأة التي لا تعرف إلا البلاجات و البارات و المسارح و دور الأزياء . . نحن في غنى عن هذه المرأة ، و لسنا بحاجة إليها . . إنها ضرر و دمار على المجتمع و الأمة . . و هي أكبر و أخطر من كل سلاح فتاك يتهدد وجود و مستقبل المجتمعات البشرية جمعاء . .
إننا نريد المرأة التي تعتز بدينها و عقيدتها ، و بوعيها ، و بأخلاقها الرضية و سجاياها الكريمة . . و تضحي بكل ما تملك حتى بوجودها في سبيل أهدافها العليا ، و قيمها النبيلة . . نريد المرأة التي تتأثر خطى زينب بنت علي