أنا سُكَينة
أنا سُكَينة. اليوم عاشوراء، وهنا كربلاء.
ربّما انقَضَت ساعةٌ بعد الظُّهر، لا أدري. مَرَّ الوقتُ علَينا مُنذُ الصباحِ وكأنّه عُمرٌ طويل. وبالأخصِّ هذهِ اللحظات التي ذَهبَ فيها أبي إلى ميدانِ الحرب. إنشَدّت عُيونُنا إلى غُبارِ المَيدانِ وآذانُنا إلى صَيحات العَدوّ لمّا ذهبَ أبي إلى الميدان. صَعْبٌ علَينا.. صَعبٌ جدّاً.
أصواتُ الطُّبولِ والصنّاجات، وصَيحاتُ العدوِّ المُتَوحِّشَة.. تُفزِعُ قُلوبَنا.
الغُبارُ والعَجاجُ والدَّم.. في كلِّ مكانٍ مِن حَولِنا.
الشمسُ لاهِبةٌ فوقَ الرؤوس، والأرضُ مِن تحتِ أقدامِنا لَهَبُها أشدّ.
والعَطَش.. أكبادُنا تَحترقُ مِن العَطَش. شِفاهُنا تَفَطَّرَت مِثلَ صَحراء لَم تَعرِف الماء. اللسانُ لا يَقدِرُ أن يَدورَ في الفم مِن شِدَّة الجَفاف. شَحَبَت وجوهُنا واصفَرَّت من العطش. منذُ أمسِ والعدوُّ يُحاصرنا. جَيشُ أبي اثنانِ وسَبعونَ فقط، وجيشُ يزيدَ عَشَراتُ الآلاف.
أنصارُ أبي ذَهبوا منذ الصباح.. واحداً بعد واحد، إلى الميدان. ثَبَتوا بكلّ شجاعةٍ في مُقابِلِ الجيش الكبير. قاتَلوا ببطولة. كلُّ واحدٍ منهم قَتلَ العَشَرات من أفرادِ جيشِ العدوّ.. ثمّ وَقَعَ شهيداً.
والآن.. أبي وحدَهُ يَقفُ في مقابلِ هذا الجيشِ كلِّه.
لَيتَ المسافةَ بين خيامنا والميدان غير بعيدة. لَيتَني أقدر أن أرى أبي وهو يُقاتِل.
ليت أبي قد سَمَح لي أن أذهب معه إلى الحرب.
أبي يقاتل بمفرده جيشاً كبيراً. وابنته القَلِقة المضطربة لا تعرف عنه الآن أيَّ شيء! لا يُرى مِن هنا غيرُ الغُبار والعَجاج، ولا يُسمَعُ غيرُ الضَّوضاء!*
* * *
أمسِ.. رأيتُ آثارَ التَّعَب واضحةً على وجه أبي. آلافُ الناس من أهل الكوفة والمدن الأخرى كانوا قد كتبوا رسائل إلى أبي قالوا فيها: إنّهم سيَنصُرونَه إذا ثارَ على حُكم يزيدَ الفاسدِ الظالم. لكنْ.. ما جاء منهم لنُصرتهِ غيرُ اثنينِ وسبعينَ رجُلاً!
هؤلاءِ الاثنانِ والسَّبعونَ كانوا أعزّاءَ أبي وأحبّاءه. قالَ لهم:*
ـ خيرُ الناسِ أنتم. لا أعرِفُ أصحاباً خيراً منكم ولا أكثرَ وفاءً. ليس لأحدٍ أبداً أصحابٌ أفضل من أصحابي.
بكيِنا لاستشهاد هؤلاءِ الأعزّاءِ اليوم.. لكنّنا ما رأينا على وجهِ أبي أيَّ ضَعفٍ وانكِسار.
لمّا وَقَع أخي الكبير ( عليّ الأكبر ) من فَرَسِه على الأرض.. قلوبُنا وقَعَت معه، لكنّ أبي لَم يَهتَزّ.
وحينما اخترقَ سَهمُ العَدوِّ حنجرةَ أخي الرَّضيع عبدِالله وهو على يَدِ أبي.. وصَلَ صوتُ بُكائنا إلى السماء، لكنّ أبي كان ثابتاً قَويَّ القلب.
عَمّي العباس حامِلُ الراية وحامي الخيام وسَقّاء عُطاشى كربلاء.. حين وقَعَ من فَرَسِه على الأرض مُقَطَّعَ البدَن.. ظَلّ أبي صابراً، لكنّي رأيتُ قامَتَهُ قد انحَنَت. وَضَع يدَهُ على ظَهره.. وقال:*( الآن انكَسَرَ ظَهري ).*
* * *
وعندما استُشِهدَ أنصارُ أبي واحِداً بعدَ واحِدٍ، أمامَ عَينَيه.. استعدَّ أبي ليدخُلَ بنفسِه إلى مَيدانِ القِتال. لكنّه قبلَ أن يَذهبَ، جَمَع النساءَ والأطفال في إحدى الخِيام. قالَ أبي بصوتٍ هادئٍ مطمئنّ:
ـ إستَعِدُّوا للبَلاء، واعلَموا أنّ اللهَ حافظُكم، وسيُنجيكُم من الأعداء، وسيكون أمرُكُم إلى خَير، وسوف يُعَذِّبُ اللهُ عدوَّكُم بأنواعِ العذاب. وسيُعطيكم اللهُ ـ بصبركم ـ ألوانَ النِّعَم والإكرام، فعليكم أنْ لا تَشْكُوا، ولا تقولوا كلاماً يُقَلِّلُ مِن أجرِكم.
عندَها.. فَهِمنا أنّ استِشهادَ أبي لابُدّ منه.
قلتُ: بابا.. هل استَسلَمتَ للموت ؟!
وانفجَرتُ باكية، وأخَذَت الدموع تَصُبُّ من عَيني كالمطر.
ما كنتُ أريدُ أن أجزَع، لكنّه ما كان في يدي. كلُّنا اضطَرَبنا. حتّى عمّتي زينب.. كان تُسَلِّينا من ناحية، ومن ناحيةٍ أُخرى كانت تَمسَحُ دُموعَ عَينَيها.
ضَمَّني أبي إلى صدره.. وقال:
ـ ابنَتي .. يا نورَ عَيني، كيفَ لا يَستَسلِمُ للموتِ مَن لَم يَبْقَ له ناصرٌ ولا مُعين ؟!
ارتفعَ صوتي بالبكاء، وقلتُ:*
ـ إلى مَن تَكِلُنا إذَن ؟!
مَسَحَ أبي دموعي بيديه، وطَبَع قُبلةً على أهدابي المُبَلَّلة، وقال:
ـ أكِلُكُم إلى الله، أكِلُكُم إلى رحمة الله.. فإنّه معكم في الدنيا والآخرة. فاصبِري على ما يُريده الله، ولا تَشْكِ يا بُنَيَّتي، فإنّ الدنيا ذاهبة والآخرة باقية.
ما شَكَوتُ، ولا جَزتُ.. لكنّ البكاءَ كان غالباً.
كيف يمكن أنْ لا أبكي.. وأبي ـ وهو أفضل أبٍ في العالَم ـ يريد أن يذهب إلى الميدان، ليقاتل بمفرده عشراتِ الآلاف ؟!
ودَّعَنا أبي جميعاً، ومَسحَ على رؤوس الأطفال ووجوههم بحنان، وتكلّم مع عمّتي زينب كلاماً لم نفهمه، ثمّ قال لعمّتي أن تأتيه بقميصٍ عتيق.
تَعجّبْنا كلُّنا.. وسألْنا:
ـ قميص عتيق! لماذا ؟
قال أبي:
ـ العدوّ عدوّ لئيم، سيجرّدني بعد قتلي من ثيابي ويأخذها غنيمة. أُريد أن ألبس تحت ثيابي قميصاً لا يرغَبُ فيه أحد، لكي لا أظلّ بعد قتلي بدون ثوب.
تَهيّأ أبي للخروج.. كمَن يُريدُ أن يَذهبَ إلى مكانٍ ذي عَظَمة قد دُعِيَ إليه. ارتدى ثيابَه. لَبِسَ دِرعَه، وعَدَّلَ مِن وَضعِ سيفِه. نَشَّف عَرَقَ جَبينِه بطرَفِ عِمامَتِه. سَرَّحَ لحيتَه التي خالَطَها البَياضُ بيدِه، وأخَذ يُرَتِّبها.. ومضى لِيذهَب. تَقدَّمَ نحوَ فَرَسِه مُسرِعاً إليه بثباتٍ بَيِّن، ليصل بعد لحظةٍ إلى جيش العدوّ الذي كان يَموجُ كالبحر الصاخب. لقد كان الجيش بصيحاته المتوحِّشة ينتظرُ قُدومَ أبي.
لم يكن في وُسعِ أحدٍ أن يَصِدَّهُ عن عزمه الراسخ القويّ على الذهاب. حتّى لو لم يذهب هو بنفسه.. لجاء العدوّ مُتَقدِّماً نحوَ الخِيام، فما أكرمَ أن يذهب هو بنفسه فيضرب قلبَ العدوّ ويُقاتل بعِزّةٍ وثبات!
لم يكن أحد قادراً على أن يَصِدَّهُ عن الذهاب؛ لأنّه كان يعرف مِن قبلُ أنّه سوف يُستَشهَد، وكان قد قال، إنّ الدين لن يبقى ولن يستقيم إلاّ باستشهاده.
لم يقدر أحدٌ أن يقول له:
ـ لا تَذهَبْ يا أبتاه !
ـ لا تَذهَبْ يا عمّاه !
ـ لا تَذهَبْ يا أخي !
ذلك أنّه « إمامٌ » للجميع، والجميع يعرفون أنّ الإمام لا يفعلُ شيئاً إلاّ بأمر الله. لكنّ الجميع يَودُّون أن يَتَزوّدوا من النظر إليه، ولو لحظّةً واحدة.. يتكلّمون معه، ويسمعون كلامه.
صاحَت عمّتي زينب التي كانت تنظر إليه من وراء السِّتار.. وهي تبكي:
ـ تَمَهَّلْ يا أخي.. تَمهَّلْ قليلاً !
رَجعَ أبي.. ونَظَر مرّةً أُخرى إلى النساء والأطفال القلقين المضطربين الباكين. لو أنّ أحداً غير أبي هو الذي يريد أن يذهب هذا الذَّهاب.. لَكانَ عليه أن يُعيد النظر في ذَهابه، وأن يتردَّد في خطواته، أمامَ بكاء النساء والأطفال الذي يُذيب القلب. لكنْ.. ما كان في إيمان أبي، ولا في إرادته، ولا في خُطُواته أيُّ أثرٍ للتردُّد وإعادة النَّظَر. هَزَّ يَدَه يُوَدِّعُنا بلطفٍ ومحبّة، واستَودَعَنا اللهَ.. ومَضى نحو فَرَسِه.
كان هذا الذي فعله أبي ـ أنا التي سأفقد بعد لحظة أباً له كلُّ هذه الطِّيبة وهذا الحنان ـ قليلاً جدّاً علَيّ. وبدون اختيار.. اندفَعتُ من مكاني. وقبل أن يَلحظَني أبي.. أسرعتُ باتّجاه فَرَسِه. كان أبي قد ركب الفرس بشجاعةٍ وعزّة، وأراد أن يتحرّك. لكنّ الفرس لم يتحرّك.. ذلك أنّي قد شَبَكتُ يديَّ على قَوائمِه.
نظرات الفرس انشدَّت إلى عَينيّ.. وأخذ يبكي لبكائي.
عَجِب أبي من تَوقّف الفرس وتَسمُّره في هذا الوقت غير المناسب. وازداد عَجَبُه لمّا وقعَ نظرهُ علَيّ ورآني ملتصقة بقوائم الفرس ولا أدَعُه يتحرّك.
نَزَل مِن الفرس، وضَمَّني إلى صدره.. ثمّ أخذ ينشِّف دموعي، وقال:
ـ بُنيَّتي! نورَ عَيني!
قلت:
ـ بابا.. عندما استُشهِد ( مُسلِم ) احتَضَنتَ ابنتَه اليتيمة، وأخذتَ تَعطِفُ عليها بحنان. فإذا رُحتَ أنت، إذا أصبحتُ يتيمة.. فمَن الذي يمسح بحنانه على رأسي مِن بَعدِك ؟!
تَرقرقَت عينُ أبي بالدموع. لاحَ الانكسار في قلب أبي.. وقال وهو مختنق بعَبَرتِه:
ـ سُكَينة.. يا بُنَيّتي، لا تبكِ. سيطول بعدي بكاؤكِ. أمَا وأنا ما أزال على قيد الحياة، وما تزال روحي في بدني.. فلا تُحرِقي قلبي بدمعك. فإذا ذهبتُ ـ يا خيرةَ البنات ـ فأنتِ أحقُّ مِن غيركِ بالبكاء.
كنتُ أدري أنه غير ممكن.. لكن لا أعرف لماذا قلت له:
ـ عُدْ بنا يا أبَتاهُ إلى المدينة.. في جوار حَرَم جدِّنا النبيّ.
نَظَر أبي إلى العدوّ نَظرةَ المظلوم، وقال:
ـ أنتِ تَرَين يا ابنَتي أنّ هذا غيرُ ممكن.
ارتفعَت صَيحاتُ العدوّ.. فكانَ على أبي أن يمضي إلى الميدان.
كنتُ ما أزالُ أُحسُّ على خَدّي بدِفءِ شِفاه أبي المتفطِّرة.. لمّا شاهدت أبي رَكِبَ الفرسَ، وبَدأ هُجومَه على العدوّ من الميدان.. تَصل إلى أُذني أصواتُ السيوف وصَهلاتُ الخيول وزَعقات الأعداء المتوحِّشين.
كُنّا واقِفِينَ إلى جانب الخِيام، وأنفاسُنا محبوسة في صدورنا، ونحن نرتعش مثلَ شجرة يهزّها الهواء.
... واوَيلاه! كأنّ هذا الفَرَس الذي خَلا من فارسِه هو فَرَسُ أبي. إنّه يَتَّجِه إلينا وهو يَضرِبُ نفسَه بالأرض، والدمُ يَصبَغ رأسَه وشعرَ رَقَبتِه. أهذا صَوتُ بُكائي أم بكاء فاطمة ورُقَيّة ؟!