علم النبي والأئمّة بالغيب
لا ريب أنّ النبي صلّى الله عليه وآله ـ وهكذا الإمام عليه السلام ـ يعلم الغيب بدرجة من الدرجات، وإلاّ فإنّ النبي صلّى الله عليه وآله عندما يُخبر عن الجنّة والنار، وعن الصراط والبرزخ، وما ينتظر الإنسان في الحياة
الأخرى، فهذه كلها ...داخلة في عالم الغيب لا الشهادة، وحتى عند أولئك الذين ينفون الغيب عن النبي صلّى الله عليه وآله والإمام عليه السلام فإنّهم يقبلون هذا الكلام.
وإنّما كلامهم وإشكالهم يقع في الدائرة الأوسع من قبيل بيان الأئمّة عليهم السلام للكثير من معارف الدين المرتبطة بالأخلاق والعقائد والفروع، إذ إنّ هذه ليست كلّها من الأمور المحسوسة، ولا من الشهادة بل هي من الغيب.
فالبحث والكلام إذاً في الدائرة الأوسع من تكليفهم، وما أُوكل إليهم من مسؤولية النبوّة والإمامة، وإلاّ ففي دائرة مسؤولية النبوّة والإمامة كيف يستطيع أن يخبرنا بمعارف الدين (العقائد والفروع)؟ فهذا المقام لا يستطيع أحد إنكاره بهذا المقدار، إلاّ إذ أنكر الإنسان مقام النبوّة وأنّه مقام الارتباط بالله والوحي وأخذ المعارف من الوحي، والآيات التي تبيّن هذا الأمر كثيرة.
فليس المنفيّ هو مطلق الغيب، إذ إنّ هناك مقداراً من العلم بالغيب متّفق عليه، وغير صحيح ما يقوله البعض من نفي العلم بالغيب مطلقاً عن غير الله تعالى.
النسبية في الغيب والشهادة
الغيب والشهادة تعبيران قرآنيان، وهما أمران نسبيان، فقد يكون شيء بالنسبة إلى موجود شهادة، وبالنسبة إلى موجودٍ آخر غيباً.
فالغيب المطلق هو غيب الغيوب، والغيب المكنون, وهو الله سبحانه وتعالى الذي لا تدركه الأبصار، ولا تدركه الحواسّ المادّية ولا غير المادّية. وهذا المعنى الغيبي لله تعالى، هو ما جاء على لسان أهل بيت العصمة فيما
روي عنهم من أحاديث في صفات الله تعالى. وأمّا الغيب النسبي فهو الغيب المتفاوت بحسب الظروف والأشخاص، فربّ غيب لأناس يكون حضوراً لآخرين.
فأنا الجالس في هذه الدار، أرى هذا الكتاب ونسبة علمي بهذا الكتاب من الشهادة، أمّا من هو خارج الدار ولا يعلم ما يجري في داخله فإنّ علمه بما يجري فيه علم بالغيب، لأنّه لا يعلم ما يجري، وإذا علم فإنّه يحتاج إلى واسطة ومخبر، وإلا فهو ليس مشهوداً بالنسبة إليه، أو بالعكس، فإنّ ما يجري في الشارع بالنسبة لمن هو موجود في الدار غيب.
وهناك مثال أوضح: ما يجري في ذهني هو بالنسبة إليّ شهادة، أمّا بالنسبة إليك فإنّ ما يجري في نفسي وذهني هو غيب.
ومثال آخر: نحن في عالم الدنيا لا نعلم ما في عالم البرزخ، ولكن الذين ماتوا يعلمون ما في عالم البرزخ (فكلّ بحسبه يعلم).
إذاً: الغيب والشهادة أمران نسبيان، بمعنى أنّ شيئاً واحداً قد يكون بالنسبة إلى موجود شهادة وبالنسبة إلى موجود آخر غيباً، وكذلك العكس.
وعالم الملائكة هو عالم خاصّ وله أحكامه وقوانينه، فهو بالنسبة إلينا عالم الغيب، أمّا بالنسبة للملائكة فهو عالم الشهادة.
وأكثر من ذلك، فإنّ الله يعلم بذاته، أمّا أنا وأنت فهل يمكن أن نعلم أو نصل إلى ذاته تعالى؟ فبالنسبة إلينا ذاته تعالى غيب، أمّا بالنسبة إليه تعالى فهي شهادة.
والحاصل: «الغيب هو خلاف الحضور والشهود، فكلّ ما لم يكن حاضراً في المدارك الجسمانية ومشهوداتها يكون من الغيب، ولكنه ثابت في الواقع بتمام معنى الثبوت والتحقّق، والإيمان بالغيب هو الاعتقاد بما غاب
عن الناس من الموجودات والعوالم، كعالم الملائكة، وعالم البرزخ، وعالم الآخرة، وجميع ما أنزله الله تبارك وتعالى في الأحكام، بل نفس القرآن، لأنّه وإن كان مشهوداً للناس لكنه من الغيب، من حيث معارفه وعلومه، ويمكن أن يكون مشهوداً من جهة ومن الغيب من جهة أخرى، كالصلاة فإنّها عمل حاضر ولكنّها من حيث إنّها ـ الصلاة وصلة الرحم ـ حافتا الصراط من الغيب ...»مواهب الرحمن في تفسير القرآن، عبد الأعلى السبزواري، مؤسسة المنار، الطبعة الثالثة 1414هـ : ج1 ص76).
وبهذا البيان يتّضح ما يراد عند القول (الله عالم الغيب والشهادة). أفيعني هذا أن بعض الأشياء بالنسبة إلى الله تعالى شهادة وبعضها الآخر غيب، والله يعلم بهما معاً، أم لا يوجد بالنسبة إلى الله شيء من هذا القبيل؟ فهنا ينبغي الالتفات إلى هذه النكتة وهي: أنا وأنت وأيّ موجود فرضته حتى لو كان أعلى موجود في عالم الإمكان، بالنسبة إليه يوجد غيب ويوجد شهادة، ولكن لماذا؟ فلنفترض أنّ كلّ عالم الإمكان معلوم له، أمّا ذات الواجب فإنّها غير معلومة له، فكلّ عالم الإمكان شهادة بالنسبة إليه، أمّا بالنسبة إلى ذات الله فهي غيب.
وعلى هذا فإنّ ما عدا الواجب تعالى، كلّ شيء في عالم الإمكان تنقسم الأشياء بالنسبة إليه إلى قسمين، قسم يُعَدُّ من الشهادة وقسم يُعَدُّ من الغيب. نعم درجات الشهادة والغيب تختلف، فقد تكون درجة الشهادة تسعين بالمئة، ودرجة الغيب عشرة بالمئة، وقد تنعكس.
ولكن ما من موجود في عالم الإمكان إلاّ وتنقسم الأشياء بالنسبة إليه إلى شهادة وإلى غيب، إلاّ الله تعالى، فإنّه لا يوجد عنده إلاّ ما كلّه شهادة،
لأنّه لا يوجد من الغيب إلاّ ذاته، وذاته حاضرة معلومة عنده، ومن هنا قالت الآيات: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (الحجّ: 17)، (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (فصّلت: 54) وهذه الأوصاف لا تصدق في غيره تعالى.
ومعنى أنّ علم الغيب مختصّ بالله لا يعني أنّه يوجد غيب بالنسبة إلى الله ومع ذلك فإنّ الله يعلم به ، بل معناه أنّه ما هو غيب بالنسبة إليك فهو معلوم له تعالى، وبعبارة أخرى: سالبة بانتفاء الموضوع، يعنى لا يوجد بالنسبة إليه غيب، نعم الغيب إنما هو بالنسبة إلى البشر، فيصدق بحقّ البشر مثلاً أن نقول أنّه قد يكون غيب وقد يكون شهادة.
وها هنا يأتي السؤال: لماذا لا يوجد غيب بالنسبة إلى الله تعالى؟
عندما نقول بأنّ الله على كلّ شيء شهيد، أو أنّه تعالى لا يُتصوّر في حقّه غيب، فما هو السبب في ذلك وما هو الدليل عليه؟
الجواب: إنّ هذه المسألة مرتبطة بما ذكر في الأبحاث الفلسفية والعقائدية، وهو أنّ كلّ موجود إذا كان محدوداً، فكلّ ما هو في دائرة وجوده بالنسبة إليه شهادة، أمّا ما هو خارج عن وجوده فهو غيب، ومن هنا أنت تعلم ما يجري في داخل نفسك ولا تعلم ما يجري في الخارج ما لم ترتبط به بإحدى الحواسّ أو إحدى القوى الأخرى.
وهذا دليل على انقسام الأشياء بالنسبة إلى غير الله تعالى إلى شهادة وغيب، لأنّ كلّ موجودٍ ممكنٍ محدودٌ بحدّ، فما هو داخل في حدّه فهو شهادة بالنسب إليه، وما هو خارج عن حدّه فهو غيب بالنسبة إليه.
أمّا بالنسبة إلى الله تعالى فإنّ وجوده ليس محدوداً بحدّ، فإذن كلّ عالم الوجود هو مشمول بالنسبة إليه تعالى، والله محيط به، فحينئذٍ لا يوجد شيء خارج وجوده حتى يكون غيباً، بل كلّ شيء هو شهادة له.
فإذاً الدليل على أنّ الله على كلّ شيء شهيد، هو أنّه بكلّ شيء محيط، فهو معكم أينما كنتم، ويحول بين المرء وقلبه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد.
الدليل العقلي على إثبات علم ا لغيب لغيره تعالى
بناءً على هذا: يثبت أوّلاً وبالذات أنّ كلّ ما يُعدّ غيباً فإنّه معلوم له تعالى، ومن مصاديق ذلك الغيب ذاته المقدّسة.
وبنحو الموجبة الكلّية: لا يوجد هذا العلم ـ أي العلم بكلّ ما هو غيب ـ عند غيره «وكلّ ما صدق عليه غيب، فالعلم به مختصّ بالله».
ولهذا ورد في القرآن: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً) ، وهو إثبات للموجبة الكلّية، وبيان أنّها غير موجودة في غيره، وهذا مما لا يشك فيه أيّ عاقل. ولكن إثبات الموجبة الكلّية لله تعالى وسلبها عن غيره، لا ينافي إثبات الموجبة الجزئية، وهنا محلّ الكلام.
فإذا قلنا إنّ النبي صلّى الله عليه وآله والصادر الأوّل هو مظهر العليم بكلّ شيء، فلا يتبادر إلى الذهن أنّ علم الممكن مساوٍ أو في عرض علم الواجب.
نعم مع الفارق أنّ علم الواجب بالذات، وعلم الممكن بالغير. وهنا نقول: يستحيل التساوي بين علم الواجب وعلم الممكن.
ومن هنا يتّضح معنى الأدعية التي مضمونها «لا فرق بينك وبينهم...» وأنّه لا يجوز لأحد أن يفسّرها بأنّ علمهم مساوٍ لعلمه تعالى، إذ يستحيل أن تكون القدرة متساوية وكذلك العلم. ولهذا جاء التقييد في الدعاء بـ «إنهم عبادك» وكون الموجود عبداً فهذا يعنى أنّه لا يكون مساوياً للمولى وللغني وللواجب بالذات.
خلاصة الكلام: إنّ الآيات التي تكلّمت عن انحصار العلم بالغيب بالله تبقى على إطلاقها، ولا مخصّص لها، لأنّها تريد القول أنّ العلم بالغيب
بنحو الموجبة الكلّية مختصّ بالله وحده ولا يوجد في غيره.
وإنّما الكلام في أنّ إعطاء الموجبة الجزئية وليس الكلّية وإثباتها لغيره، هل هو أمر ممكن وليس بممتنع؟
وهنا ننتقل إلى الموجبة الجزئية.
وكمّية الموجبة الجزئية (كمية علوم النبي صلّى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السلام) بحثناها سابقاً، ولكن هذا الأمر أممكن أم ممتنع؟
إنّ على مدّعي الامتناع أن يقيم البرهان، ويمكن القول بأنّه لم يستطع أحد أن يقيم الدليل على الامتناع، ولا يُستدلّ على الامتناع بما ورد في القرآن من قبيل قوله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ) (الأنعام: 59) وقوله (غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) (هود: 123، النحل: 77) و (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ) (النمل: 65)
لأنّنا أيضاً نقول بهذا المعنى الذي هو مفاد الموجبة الكلّية بأنّه من المحال أن يكون ذلك لغير الله تعالى، بل يمتنع.
فيبقى الكلام ـ كما ذكرنا ـ في الموجبة الجزئية، وكلّ الكلام في دائرة الإمكان وأنّ العلم بالكتاب المبين وبالملكوت وبالتأويل والعرش والكرسي والملائكة وغيرها من الأمور المرتبطة بدائرة العلم بالغيب من قبيل ما يجري في نفسي ونفسك وإيماني ونفاقي وكفري، هل العلم قد وقع فيها لغير الله تعالى؟ وهل أُعطي لغير الله؟
ادّعاؤنا أنّه قد أُعطي للأنبياء والأولياء والأئمّة عليهم السلام على اختلاف درجاتهم، ودليلنا على ذلك الآيات الصريحة في هذا المضمون:
منها: ما يُخبر النبي في دائرة الوحي، فهو من العلم بالغيب.
ومنها: ما يُخبر الإمام في دائرة وظيفته.
لذلك يقول العلامة المجلسي: «تحقيق: قد عرفت مراراً أنّ نفي علم الغيب عنهم معناه أنّهم لا يعلمون ذلك من أنفسهم بغير تعليمه تعالى بوحي أو إلهام، وإلاّ فظاهر أنّ عمدة معجزات الأنبياء والأوصياء عليهم السلام من هذا القبيل، وأحد وجوه إعجاز القرآن أيضاً اشتماله على الأخبار بالمغيبات، ونحن أيضاً نعلم كثيراً من المغيبات بإخبار الله تعالى ورسوله والأئمّة عليهم السلام كالقيامة وأحوالها والجنة والنار والرجعة وقيام القائم عليهم السلام ونزول عيسى عليه السلام وغير ذلك من أشراط الساعة، والعرش والكرسي والملائكة» (بحار الأنوار، مصدر سابق: ج26 ص103).
وهذا قول منه صريح بأنّنا أيضاً نعلم الغيب، ولكن بإخبار القرآن والنبي والإمام، فبالنسبة إلينا المُخبر هو الإمام، وبالنسبة إلى الإمام هو النبي، وبالنسبة إلى النبي هو أمين الوحي. والآيات تثبت ذلك، ومنها:
- قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ) (آل عمران: 175).
وهذا الاستثناء يعني أنّه يطلعه على الغيب، ولكن ليس على نحو الموجبة الكلّية؛ لأنّ ذلك محال.
- وقوله تعالى: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ) (الأنعام: 51). وقوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (الجن: 26-27).
والحاصل: إنّ عملية التوفيق بين القول بأنّ الأئمّة عليهم السلام يعلمون الغيب من جهة، وبين تلك الآيات التي حصرت علم الغيب بالله تعالى من
جهةٍ أخرى، هو أنّ هذه الآيات بصدد إثبات الموجبة الكلّية ـ كما قلنا ـ بمعنى أنّ العالم المطلق بالغيب هو الله تعالى، وما من شيء يصدق عليه غيب إلاّ والحقّ بالنسبة إليه يعدّ شهادة وهو معلوم له، والآيات التي نفت العلم بالغيب عن غير الله تعالى هي بصدد نفي هذا المعنى، وهذا يعني أنّ الموجبة الكلّية غير موجودة لغيره تعالى.
والسبب أو الداعي والقرينة على حمل النفي على نفي الموجبة الكلّية هو أنّ هناك آيات أخرى إضافة إلى الأخبار المتظافرة أثبتت علم الغيب لغير الله تعالى، كما في قوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) (الجنّ: 26-27)، وغيرها من الآيات المتقدّمة. فبهذه القرينة نكتشف بأنّ ما هو ثابت لله تعالى هو الموجبة الكلّية وهي غير موجودة لغيره، بل نقول: يستحيل أن توجد لغيره.
ولكن نفي الموجبة الكلّية لا يلزم منه نفي الموجبة الجزئية، ومن هنا نحن نعتقد بأنّ غير الله أيضاً يعلم الغيب، ولكن بنحو الموجبة الجزئية
لا ريب أنّ النبي صلّى الله عليه وآله ـ وهكذا الإمام عليه السلام ـ يعلم الغيب بدرجة من الدرجات، وإلاّ فإنّ النبي صلّى الله عليه وآله عندما يُخبر عن الجنّة والنار، وعن الصراط والبرزخ، وما ينتظر الإنسان في الحياة
الأخرى، فهذه كلها ...داخلة في عالم الغيب لا الشهادة، وحتى عند أولئك الذين ينفون الغيب عن النبي صلّى الله عليه وآله والإمام عليه السلام فإنّهم يقبلون هذا الكلام.
وإنّما كلامهم وإشكالهم يقع في الدائرة الأوسع من قبيل بيان الأئمّة عليهم السلام للكثير من معارف الدين المرتبطة بالأخلاق والعقائد والفروع، إذ إنّ هذه ليست كلّها من الأمور المحسوسة، ولا من الشهادة بل هي من الغيب.
فالبحث والكلام إذاً في الدائرة الأوسع من تكليفهم، وما أُوكل إليهم من مسؤولية النبوّة والإمامة، وإلاّ ففي دائرة مسؤولية النبوّة والإمامة كيف يستطيع أن يخبرنا بمعارف الدين (العقائد والفروع)؟ فهذا المقام لا يستطيع أحد إنكاره بهذا المقدار، إلاّ إذ أنكر الإنسان مقام النبوّة وأنّه مقام الارتباط بالله والوحي وأخذ المعارف من الوحي، والآيات التي تبيّن هذا الأمر كثيرة.
فليس المنفيّ هو مطلق الغيب، إذ إنّ هناك مقداراً من العلم بالغيب متّفق عليه، وغير صحيح ما يقوله البعض من نفي العلم بالغيب مطلقاً عن غير الله تعالى.
النسبية في الغيب والشهادة
الغيب والشهادة تعبيران قرآنيان، وهما أمران نسبيان، فقد يكون شيء بالنسبة إلى موجود شهادة، وبالنسبة إلى موجودٍ آخر غيباً.
فالغيب المطلق هو غيب الغيوب، والغيب المكنون, وهو الله سبحانه وتعالى الذي لا تدركه الأبصار، ولا تدركه الحواسّ المادّية ولا غير المادّية. وهذا المعنى الغيبي لله تعالى، هو ما جاء على لسان أهل بيت العصمة فيما
روي عنهم من أحاديث في صفات الله تعالى. وأمّا الغيب النسبي فهو الغيب المتفاوت بحسب الظروف والأشخاص، فربّ غيب لأناس يكون حضوراً لآخرين.
فأنا الجالس في هذه الدار، أرى هذا الكتاب ونسبة علمي بهذا الكتاب من الشهادة، أمّا من هو خارج الدار ولا يعلم ما يجري في داخله فإنّ علمه بما يجري فيه علم بالغيب، لأنّه لا يعلم ما يجري، وإذا علم فإنّه يحتاج إلى واسطة ومخبر، وإلا فهو ليس مشهوداً بالنسبة إليه، أو بالعكس، فإنّ ما يجري في الشارع بالنسبة لمن هو موجود في الدار غيب.
وهناك مثال أوضح: ما يجري في ذهني هو بالنسبة إليّ شهادة، أمّا بالنسبة إليك فإنّ ما يجري في نفسي وذهني هو غيب.
ومثال آخر: نحن في عالم الدنيا لا نعلم ما في عالم البرزخ، ولكن الذين ماتوا يعلمون ما في عالم البرزخ (فكلّ بحسبه يعلم).
إذاً: الغيب والشهادة أمران نسبيان، بمعنى أنّ شيئاً واحداً قد يكون بالنسبة إلى موجود شهادة وبالنسبة إلى موجود آخر غيباً، وكذلك العكس.
وعالم الملائكة هو عالم خاصّ وله أحكامه وقوانينه، فهو بالنسبة إلينا عالم الغيب، أمّا بالنسبة للملائكة فهو عالم الشهادة.
وأكثر من ذلك، فإنّ الله يعلم بذاته، أمّا أنا وأنت فهل يمكن أن نعلم أو نصل إلى ذاته تعالى؟ فبالنسبة إلينا ذاته تعالى غيب، أمّا بالنسبة إليه تعالى فهي شهادة.
والحاصل: «الغيب هو خلاف الحضور والشهود، فكلّ ما لم يكن حاضراً في المدارك الجسمانية ومشهوداتها يكون من الغيب، ولكنه ثابت في الواقع بتمام معنى الثبوت والتحقّق، والإيمان بالغيب هو الاعتقاد بما غاب
عن الناس من الموجودات والعوالم، كعالم الملائكة، وعالم البرزخ، وعالم الآخرة، وجميع ما أنزله الله تبارك وتعالى في الأحكام، بل نفس القرآن، لأنّه وإن كان مشهوداً للناس لكنه من الغيب، من حيث معارفه وعلومه، ويمكن أن يكون مشهوداً من جهة ومن الغيب من جهة أخرى، كالصلاة فإنّها عمل حاضر ولكنّها من حيث إنّها ـ الصلاة وصلة الرحم ـ حافتا الصراط من الغيب ...»مواهب الرحمن في تفسير القرآن، عبد الأعلى السبزواري، مؤسسة المنار، الطبعة الثالثة 1414هـ : ج1 ص76).
وبهذا البيان يتّضح ما يراد عند القول (الله عالم الغيب والشهادة). أفيعني هذا أن بعض الأشياء بالنسبة إلى الله تعالى شهادة وبعضها الآخر غيب، والله يعلم بهما معاً، أم لا يوجد بالنسبة إلى الله شيء من هذا القبيل؟ فهنا ينبغي الالتفات إلى هذه النكتة وهي: أنا وأنت وأيّ موجود فرضته حتى لو كان أعلى موجود في عالم الإمكان، بالنسبة إليه يوجد غيب ويوجد شهادة، ولكن لماذا؟ فلنفترض أنّ كلّ عالم الإمكان معلوم له، أمّا ذات الواجب فإنّها غير معلومة له، فكلّ عالم الإمكان شهادة بالنسبة إليه، أمّا بالنسبة إلى ذات الله فهي غيب.
وعلى هذا فإنّ ما عدا الواجب تعالى، كلّ شيء في عالم الإمكان تنقسم الأشياء بالنسبة إليه إلى قسمين، قسم يُعَدُّ من الشهادة وقسم يُعَدُّ من الغيب. نعم درجات الشهادة والغيب تختلف، فقد تكون درجة الشهادة تسعين بالمئة، ودرجة الغيب عشرة بالمئة، وقد تنعكس.
ولكن ما من موجود في عالم الإمكان إلاّ وتنقسم الأشياء بالنسبة إليه إلى شهادة وإلى غيب، إلاّ الله تعالى، فإنّه لا يوجد عنده إلاّ ما كلّه شهادة،
لأنّه لا يوجد من الغيب إلاّ ذاته، وذاته حاضرة معلومة عنده، ومن هنا قالت الآيات: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (الحجّ: 17)، (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (فصّلت: 54) وهذه الأوصاف لا تصدق في غيره تعالى.
ومعنى أنّ علم الغيب مختصّ بالله لا يعني أنّه يوجد غيب بالنسبة إلى الله ومع ذلك فإنّ الله يعلم به ، بل معناه أنّه ما هو غيب بالنسبة إليك فهو معلوم له تعالى، وبعبارة أخرى: سالبة بانتفاء الموضوع، يعنى لا يوجد بالنسبة إليه غيب، نعم الغيب إنما هو بالنسبة إلى البشر، فيصدق بحقّ البشر مثلاً أن نقول أنّه قد يكون غيب وقد يكون شهادة.
وها هنا يأتي السؤال: لماذا لا يوجد غيب بالنسبة إلى الله تعالى؟
عندما نقول بأنّ الله على كلّ شيء شهيد، أو أنّه تعالى لا يُتصوّر في حقّه غيب، فما هو السبب في ذلك وما هو الدليل عليه؟
الجواب: إنّ هذه المسألة مرتبطة بما ذكر في الأبحاث الفلسفية والعقائدية، وهو أنّ كلّ موجود إذا كان محدوداً، فكلّ ما هو في دائرة وجوده بالنسبة إليه شهادة، أمّا ما هو خارج عن وجوده فهو غيب، ومن هنا أنت تعلم ما يجري في داخل نفسك ولا تعلم ما يجري في الخارج ما لم ترتبط به بإحدى الحواسّ أو إحدى القوى الأخرى.
وهذا دليل على انقسام الأشياء بالنسبة إلى غير الله تعالى إلى شهادة وغيب، لأنّ كلّ موجودٍ ممكنٍ محدودٌ بحدّ، فما هو داخل في حدّه فهو شهادة بالنسب إليه، وما هو خارج عن حدّه فهو غيب بالنسبة إليه.
أمّا بالنسبة إلى الله تعالى فإنّ وجوده ليس محدوداً بحدّ، فإذن كلّ عالم الوجود هو مشمول بالنسبة إليه تعالى، والله محيط به، فحينئذٍ لا يوجد شيء خارج وجوده حتى يكون غيباً، بل كلّ شيء هو شهادة له.
فإذاً الدليل على أنّ الله على كلّ شيء شهيد، هو أنّه بكلّ شيء محيط، فهو معكم أينما كنتم، ويحول بين المرء وقلبه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد.
الدليل العقلي على إثبات علم ا لغيب لغيره تعالى
بناءً على هذا: يثبت أوّلاً وبالذات أنّ كلّ ما يُعدّ غيباً فإنّه معلوم له تعالى، ومن مصاديق ذلك الغيب ذاته المقدّسة.
وبنحو الموجبة الكلّية: لا يوجد هذا العلم ـ أي العلم بكلّ ما هو غيب ـ عند غيره «وكلّ ما صدق عليه غيب، فالعلم به مختصّ بالله».
ولهذا ورد في القرآن: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً) ، وهو إثبات للموجبة الكلّية، وبيان أنّها غير موجودة في غيره، وهذا مما لا يشك فيه أيّ عاقل. ولكن إثبات الموجبة الكلّية لله تعالى وسلبها عن غيره، لا ينافي إثبات الموجبة الجزئية، وهنا محلّ الكلام.
فإذا قلنا إنّ النبي صلّى الله عليه وآله والصادر الأوّل هو مظهر العليم بكلّ شيء، فلا يتبادر إلى الذهن أنّ علم الممكن مساوٍ أو في عرض علم الواجب.
نعم مع الفارق أنّ علم الواجب بالذات، وعلم الممكن بالغير. وهنا نقول: يستحيل التساوي بين علم الواجب وعلم الممكن.
ومن هنا يتّضح معنى الأدعية التي مضمونها «لا فرق بينك وبينهم...» وأنّه لا يجوز لأحد أن يفسّرها بأنّ علمهم مساوٍ لعلمه تعالى، إذ يستحيل أن تكون القدرة متساوية وكذلك العلم. ولهذا جاء التقييد في الدعاء بـ «إنهم عبادك» وكون الموجود عبداً فهذا يعنى أنّه لا يكون مساوياً للمولى وللغني وللواجب بالذات.
خلاصة الكلام: إنّ الآيات التي تكلّمت عن انحصار العلم بالغيب بالله تبقى على إطلاقها، ولا مخصّص لها، لأنّها تريد القول أنّ العلم بالغيب
بنحو الموجبة الكلّية مختصّ بالله وحده ولا يوجد في غيره.
وإنّما الكلام في أنّ إعطاء الموجبة الجزئية وليس الكلّية وإثباتها لغيره، هل هو أمر ممكن وليس بممتنع؟
وهنا ننتقل إلى الموجبة الجزئية.
وكمّية الموجبة الجزئية (كمية علوم النبي صلّى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السلام) بحثناها سابقاً، ولكن هذا الأمر أممكن أم ممتنع؟
إنّ على مدّعي الامتناع أن يقيم البرهان، ويمكن القول بأنّه لم يستطع أحد أن يقيم الدليل على الامتناع، ولا يُستدلّ على الامتناع بما ورد في القرآن من قبيل قوله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ) (الأنعام: 59) وقوله (غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) (هود: 123، النحل: 77) و (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ) (النمل: 65)
لأنّنا أيضاً نقول بهذا المعنى الذي هو مفاد الموجبة الكلّية بأنّه من المحال أن يكون ذلك لغير الله تعالى، بل يمتنع.
فيبقى الكلام ـ كما ذكرنا ـ في الموجبة الجزئية، وكلّ الكلام في دائرة الإمكان وأنّ العلم بالكتاب المبين وبالملكوت وبالتأويل والعرش والكرسي والملائكة وغيرها من الأمور المرتبطة بدائرة العلم بالغيب من قبيل ما يجري في نفسي ونفسك وإيماني ونفاقي وكفري، هل العلم قد وقع فيها لغير الله تعالى؟ وهل أُعطي لغير الله؟
ادّعاؤنا أنّه قد أُعطي للأنبياء والأولياء والأئمّة عليهم السلام على اختلاف درجاتهم، ودليلنا على ذلك الآيات الصريحة في هذا المضمون:
منها: ما يُخبر النبي في دائرة الوحي، فهو من العلم بالغيب.
ومنها: ما يُخبر الإمام في دائرة وظيفته.
لذلك يقول العلامة المجلسي: «تحقيق: قد عرفت مراراً أنّ نفي علم الغيب عنهم معناه أنّهم لا يعلمون ذلك من أنفسهم بغير تعليمه تعالى بوحي أو إلهام، وإلاّ فظاهر أنّ عمدة معجزات الأنبياء والأوصياء عليهم السلام من هذا القبيل، وأحد وجوه إعجاز القرآن أيضاً اشتماله على الأخبار بالمغيبات، ونحن أيضاً نعلم كثيراً من المغيبات بإخبار الله تعالى ورسوله والأئمّة عليهم السلام كالقيامة وأحوالها والجنة والنار والرجعة وقيام القائم عليهم السلام ونزول عيسى عليه السلام وغير ذلك من أشراط الساعة، والعرش والكرسي والملائكة» (بحار الأنوار، مصدر سابق: ج26 ص103).
وهذا قول منه صريح بأنّنا أيضاً نعلم الغيب، ولكن بإخبار القرآن والنبي والإمام، فبالنسبة إلينا المُخبر هو الإمام، وبالنسبة إلى الإمام هو النبي، وبالنسبة إلى النبي هو أمين الوحي. والآيات تثبت ذلك، ومنها:
- قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ) (آل عمران: 175).
وهذا الاستثناء يعني أنّه يطلعه على الغيب، ولكن ليس على نحو الموجبة الكلّية؛ لأنّ ذلك محال.
- وقوله تعالى: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ) (الأنعام: 51). وقوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (الجن: 26-27).
والحاصل: إنّ عملية التوفيق بين القول بأنّ الأئمّة عليهم السلام يعلمون الغيب من جهة، وبين تلك الآيات التي حصرت علم الغيب بالله تعالى من
جهةٍ أخرى، هو أنّ هذه الآيات بصدد إثبات الموجبة الكلّية ـ كما قلنا ـ بمعنى أنّ العالم المطلق بالغيب هو الله تعالى، وما من شيء يصدق عليه غيب إلاّ والحقّ بالنسبة إليه يعدّ شهادة وهو معلوم له، والآيات التي نفت العلم بالغيب عن غير الله تعالى هي بصدد نفي هذا المعنى، وهذا يعني أنّ الموجبة الكلّية غير موجودة لغيره تعالى.
والسبب أو الداعي والقرينة على حمل النفي على نفي الموجبة الكلّية هو أنّ هناك آيات أخرى إضافة إلى الأخبار المتظافرة أثبتت علم الغيب لغير الله تعالى، كما في قوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) (الجنّ: 26-27)، وغيرها من الآيات المتقدّمة. فبهذه القرينة نكتشف بأنّ ما هو ثابت لله تعالى هو الموجبة الكلّية وهي غير موجودة لغيره، بل نقول: يستحيل أن توجد لغيره.
ولكن نفي الموجبة الكلّية لا يلزم منه نفي الموجبة الجزئية، ومن هنا نحن نعتقد بأنّ غير الله أيضاً يعلم الغيب، ولكن بنحو الموجبة الجزئية
تعليق