لماذا لم ينهض الإمام الحسين بالثورة في حكم معاوية ؟
إن الأحداث السياسية التي عصفت بالاُمّة الإسلامية بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) كانت ثقيلة الوطأة عليها، وبلغت غاية الشدّة أيام تسلّط معاوية على الشام ومحاربة الإمام علىّ(عليه السلام) وبالتالي اضطرار الإمام الحسن(عليه السلام) لإبرام صلح معه; لأسباب موضوعية كانت تكتنف الاُمّة. ولكننا نلحظ أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) لم يغيّر من موقفه المتطابق مع موقف الإمام الحسن(عليه السلام) تجاه معاوية حتى بعد استشهاد الإمام الحسن(عليه السلام)، فلم يعلن ثورته، وما كان ذلك إلاّ لبقاء نفس الأسباب التي دفعت بالإمام الحسن(عليه السلام) الى قبول الصلح فمن ذلك :
1 ـ حالة الاُمّة الإسلامية :
كان الوضع النفسي والاجتماعي للاُمّة الإسلامية متأزّماً، إذ كانت تتطلع الى حالة السلم بعد أن أرهقها معاوية والمنافقون بحروب دامت طوال حكم الإمام علىّ(عليه السلام)، فكان رأي الإمام الحسن(عليه السلام) هو أن يربّي جيلا جديداً وينهض بعد حين، فقد قال(عليه السلام) :
«إنّي رأيت هوى عظم الناس في الصلح وكرهوا الحرب، فلم اُحبّ أن أحملهم على ما يكرهون، فصالحت بقياً على شيعتنا خاصة من القتل، ورأيت دفع هذه الحرب إلى يوم ما، فإنّ الله كلّ يوم هو في شأن»[1].
وهو نفسه موقف الإمام الحسين(عليه السلام) بسبب ما كان يعيه ويدركه من واقع الاُمّة، فكان قوله لمن فاوضه في الثورة إذ قعد الإمام الحسن(عليه السلام) عنها :
«صدق أبو محمد، فليكن كلّ رجل منكم حلساً من أحلاس بيته ما دام هذا الإنسان حيّاً».
وبقي هذا موقفه نفسه بعد استشهاد الإمام الحسن(عليه السلام) لبقاء نفس الأسباب، فقد كتب (عليه السلام) يردّ على أهل العراق حين دعوه للثورة :
«أمّا أخي فأرجو أن يكون الله قد وفّقه وسدّده فيما يأتي، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذلك، فالصقوا رحمكم الله بالأرض، واكمنوا في البيوت، واحترسوا من الظنّة ما دام معاوية حيّاً»[2].
2 ـ شخصيّة معاوية وسلوكه المتلوّن :
لقد كانت زعامة الاُمّة الإسلامية بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) بأيدي
مسؤولين غير كفوئين لفترة طويلة. ومراجعة بسيطة لأحداث ووقائع تلك الفترة توضّح ذلك. ولكنّ معاوية كان أشدّ مكراً ومراوغةً ودهاءً ، إذ كان يتلاعب ببراعة سياسية، ويتوسّل بكلّ وسيلة من أجل أن يبقى زمام السلطة بيده متّخذاً من التظاهر بالدين ستراً يغطّي جرائمه الأخلاقية واللا إنسانية والتي منها فتكه بخيار المسلمين، ومخادعة عوام الناس في مجاراته لعواطفهم ومعتقداتهم، وهو يحمل حقداً لا ينقطع على الإسلام والرسول(صلى الله عليه وآله)[3].
وقد تمكّن معاوية من القضاء على المعارضين له من دون اللجوء إلى القتال والحرب، فهو الذي اغتال الإمام الحسن(عليه السلام) وسعد بن أبي وقّاص[4]وقضى على عبدالرحمن بن خالد[5] ومن قبله على مالك الأشتر، وقد أوجز اُسلوبه هذا في كلمته المشهورة: «إنّ لله جنوداً منها العسل»[6].
كما أنّ معاوية كان يضع كلّ من يلمس منه أيّة معارضة أو تحرّك تحت مجهر المراقبة والإرصاد، فترفع إليه التقارير عن كلّ ما يحدث فيستعجل في القضاء عليه.
في مثل هذا الاُسلوب ـ أي التصرّف تحت ستار الإسلام ـ لو قام الإمام الحسين(عليه السلام) بحركة واسعة ونشاط سياسي بعد وفاة الإمام الحسن(عليه السلام) مباشرةً; لما كان قادراً على فضح معاوية وإقناع كلّ الجماهير بشرعيّة ثورته ، ولكان معاوية متمكّناً من القضاء عليه من دون ضجيج، وعندها كانت الثورة تموت في مهدها وتضيع جهود كبيرة، كان من شأنها أن تبني في الاُمّة تيّاراً واعياً، ويختنق الصوت الذي كان في مقدوره أن يبقى مدوّياً في تأريخ الإنسانيّة كما حصل في واقعة الطفّ. وما كان الإمام الحسين(عليه السلام) ليتمكّن من توضيح كلّ أهدافه وغاياته من الثورة[7] المتمثّلة في إنقاذ الاُمّة من الظلم وصيانة الرسالة الإسلامية من التحريف لو كان يسرع بثورته في أيام معاوية.
وأمّا حينما اعتلى يزيد عرش الخلافة وهو من قد عرفه الناس باللهو والفسق والشغف بالقرود وشرب الخمور، وعدم صلاحيته للخلافة لتجاوزه وعدوانه على كل المقاييس الشرعيّة والعرفيّة لدى المسلمين. فالثورة عليه تعدّ ثورة مشروعة عند عامّة المسلمين، كما أثبت التأريخ ذلك بكلّ وضوح .
3 ـ احترام صلح الإمام الحسن (عليه السلام) :
لقد كان العهد والميثاق الذي تم بين معاوية وبين الإمام الحسن(عليه السلام) ورقة رابحة يلوّحها معاوية لكلّ تحرّك فعّال مضاد تجاه تربّعه على مسند السلطة، صحيح أنّه عهد غير حقيقي وما كان برضا الإمامين(عليهما السلام) وتم في ظروف كان لابد من تغييرها، لكنّ المجتمع لم يكن يتقبّل نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) مع وجود هذا العهد، وحتى لو كان هذا العهد صحيحاً فإنّ معاوية نقضه بممارسته العدائية بملاحقة رجال الشيعة، ولم يرعَ أيَّ حقّ في سياسته الاقتصادية .
وقد سارع معاوية لاستغلال هذا العهد في التشهير بالإمام الحسين(عليه السلام) وإظهاره بموقف الناقض للعهد، فقد كتب إلى الإمام(عليه السلام) :
أمّا بعد، فقد انتهت إلىّ اُمور عنك، إن كانت حقاً فإنّي أرغب بك عنها. ولعمر الله إنّ من أعطى عهد الله وميثاقه لجدير بالوفاء، وإنّ أحقّ الناس بالوفاء من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها، ونفسك فاذكر، وبعهد الله أوفِ، فإنّك متى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتّق شقّ عصا هذه الاُمّة[8].
من هنا لجأ الإمام الحسن(عليه السلام) ومن بعده الحسين(عليه السلام) إلى اُسلوب آخر لنشر الدعوة والتهيّؤ للثورة التي غذّاها معاوية بظلمه وجوره وبُعده عن تمثيل الحكم الإسلامي الصحيح، حتى إذا مات معاوية كان كثير من الناس وعامّة أهل العراق ـ بشكل خاص ـ يرون بغض بني اُميّة وحبّ أهل البيت لأنفسهم ديناً[9].
المواقف من ثورة الحسين (عليه السلام) قبل انطلاقها :
لم تكن نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) وثورته حركةً آنيةً أو ردّة فعل مفاجئة; بل كان الحسين(عليه السلام) في الاُمّة يمثّل بقية النبوّة وكان وريث الرسالة وحامل راية القيم السامية التي أوجدها الإسلام في الاُمّة وأرسى قواعدها، كما أنّ العهد قريب برحيل النبىّ(صلى الله عليه وآله) الذي كان يكثر الثناء والتوضيح لمقام الإمام الحسين (عليه السلام). وفي الوقت نفسه كانت قد ظهرت مقاصد الاُمويّين الفاسدة تجاه رسالة النبي (صلى الله عليه وآله) الإسلامية واُمّته المؤمنة برسالته .
وقد وقف أهل البيت(عليهم السلام) بصلابة يدافعون عن الحقّ والعدل وإحياء الرسالة الإسلامية، والمحافظة عليها بكلّ وسيلة ممكنة ومشروعة.
وفي عصر الإمام الحسين(عليه السلام) كان لتراخي وفتور الاُمّة عن نصرة الحقّ الى جانب تسلّط المنافقين ونفوذهم في أجهزة الدولة دور كبير لإيجاد حالة مَرَضيّة يمكن تسميتها بفقدان الإرادة وموت الضمير، ومن ثمّ تباينت المواقف تجاه اُسلوب الدفاع عن العقيدة الإسلامية وصيانتها وسيادة الحقّ والعدل.
ولكن لم يشكّ أحد في مشروعية وعدالة موقف الإمام الحسين(عليه السلام) تجاه الانحراف المستشري في كلّ مفاصل الدولة، وتجاه التغيير الحاصل في بنية الاُمّة الإسلامية، إلاّ أنّ موقف الاستعداد الكامل للنصرة باتخّاذ قرار ثوريّ يزيح عن الاُمّة الظلم والفساد لم يكن يتكامل بعد لدى الجميع.
وقد كانت هذه المواقف تتراوح بين التأييد مع إعلان الاستعداد للثورة مهما كانت النتائج ، وبين الحذر من الفشل وعدم نجاح الثورة ، وبين التثبيط وفتّ العزائم .
وتبنّى شيعة أهل البيت (عليهم السلام) الذين اكتووا بجحيم البيت الأموي المتحكّم في رقاب المسلمين موقف التأييد وإعلان الاستعداد ، وإن غلب الخوف على بعضهم فيما بعد، واُودع البعض الآخر السجن أو حوصر من قبل قوّات السلطة الاُمويّة .
كما تبنّى آخرون من أقرباء الإمام (عليه السلام) ـ مثل عبدالله بن عباس ومحمّد ابن الحنفيّة ـ موقف الحذر، ورجّحوا للإمام الحسين(عليه السلام) الهجرة إلى اليمن ; نظراً لبُعد اليمن عن العاصمة، ولتوفّر جمع من شيعته وشيعة أبيه فيها[10].
وتبنّى آخرون موقف التثبيط وفتّ العزائم والتخويف من مغبّة الثورة على الحاكم، فنصحوا الإمام (عليه السلام) بالدخول فيما دخل فيه الناس ، والصبر على الظلم ، كما تمثّل ذلك في نصيحة عبدالله بن عمر للإمام الحسين (عليه السلام)[11].
[1] الأخبار الطوال : 221 .
[2] المصدر السابق : 222 .
[3] شرح النهج لابن أبي الحديد : 2 / 357 .
[4] مقاتل الطالبيين : 29 ، ومختصر تأريخ العرب : 62 .
[5] التمدن الإسلامي، لجرجي زيدان : 4 / 71 .
[6] عيون الأخبار : 1 / 201 .
[7] للتفصيل راجع : ثورة الحسين، ظروفها الاجتماعية وآثارها النفسية : 122.
[8] الإمامة والسياسة : 1 / 188 ، والأخبار الطوال : 224 ، وأعيان الشيعة : 1 / 582 .
[9] الفتنة الكبرى ـ علي وبنوه، طـه حسين : 290 ، وللمزيد من التفصيل راجع : ثورة الحسين(عليه السلام)، ظروفها الاجتماعية وآثارها النفسية : 127 .
[10] مقتل الحسين ( الخوارزمي ) : 1 / 187 و 216 ، ومروج الذهب : 3 / 64 .
[11] مقتل الحسين ( الخوارزمي ) : 1 / 191 .
إن الأحداث السياسية التي عصفت بالاُمّة الإسلامية بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) كانت ثقيلة الوطأة عليها، وبلغت غاية الشدّة أيام تسلّط معاوية على الشام ومحاربة الإمام علىّ(عليه السلام) وبالتالي اضطرار الإمام الحسن(عليه السلام) لإبرام صلح معه; لأسباب موضوعية كانت تكتنف الاُمّة. ولكننا نلحظ أنّ الإمام الحسين(عليه السلام) لم يغيّر من موقفه المتطابق مع موقف الإمام الحسن(عليه السلام) تجاه معاوية حتى بعد استشهاد الإمام الحسن(عليه السلام)، فلم يعلن ثورته، وما كان ذلك إلاّ لبقاء نفس الأسباب التي دفعت بالإمام الحسن(عليه السلام) الى قبول الصلح فمن ذلك :
1 ـ حالة الاُمّة الإسلامية :
كان الوضع النفسي والاجتماعي للاُمّة الإسلامية متأزّماً، إذ كانت تتطلع الى حالة السلم بعد أن أرهقها معاوية والمنافقون بحروب دامت طوال حكم الإمام علىّ(عليه السلام)، فكان رأي الإمام الحسن(عليه السلام) هو أن يربّي جيلا جديداً وينهض بعد حين، فقد قال(عليه السلام) :
«إنّي رأيت هوى عظم الناس في الصلح وكرهوا الحرب، فلم اُحبّ أن أحملهم على ما يكرهون، فصالحت بقياً على شيعتنا خاصة من القتل، ورأيت دفع هذه الحرب إلى يوم ما، فإنّ الله كلّ يوم هو في شأن»[1].
وهو نفسه موقف الإمام الحسين(عليه السلام) بسبب ما كان يعيه ويدركه من واقع الاُمّة، فكان قوله لمن فاوضه في الثورة إذ قعد الإمام الحسن(عليه السلام) عنها :
«صدق أبو محمد، فليكن كلّ رجل منكم حلساً من أحلاس بيته ما دام هذا الإنسان حيّاً».
وبقي هذا موقفه نفسه بعد استشهاد الإمام الحسن(عليه السلام) لبقاء نفس الأسباب، فقد كتب (عليه السلام) يردّ على أهل العراق حين دعوه للثورة :
«أمّا أخي فأرجو أن يكون الله قد وفّقه وسدّده فيما يأتي، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذلك، فالصقوا رحمكم الله بالأرض، واكمنوا في البيوت، واحترسوا من الظنّة ما دام معاوية حيّاً»[2].
2 ـ شخصيّة معاوية وسلوكه المتلوّن :
لقد كانت زعامة الاُمّة الإسلامية بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) بأيدي
مسؤولين غير كفوئين لفترة طويلة. ومراجعة بسيطة لأحداث ووقائع تلك الفترة توضّح ذلك. ولكنّ معاوية كان أشدّ مكراً ومراوغةً ودهاءً ، إذ كان يتلاعب ببراعة سياسية، ويتوسّل بكلّ وسيلة من أجل أن يبقى زمام السلطة بيده متّخذاً من التظاهر بالدين ستراً يغطّي جرائمه الأخلاقية واللا إنسانية والتي منها فتكه بخيار المسلمين، ومخادعة عوام الناس في مجاراته لعواطفهم ومعتقداتهم، وهو يحمل حقداً لا ينقطع على الإسلام والرسول(صلى الله عليه وآله)[3].
وقد تمكّن معاوية من القضاء على المعارضين له من دون اللجوء إلى القتال والحرب، فهو الذي اغتال الإمام الحسن(عليه السلام) وسعد بن أبي وقّاص[4]وقضى على عبدالرحمن بن خالد[5] ومن قبله على مالك الأشتر، وقد أوجز اُسلوبه هذا في كلمته المشهورة: «إنّ لله جنوداً منها العسل»[6].
كما أنّ معاوية كان يضع كلّ من يلمس منه أيّة معارضة أو تحرّك تحت مجهر المراقبة والإرصاد، فترفع إليه التقارير عن كلّ ما يحدث فيستعجل في القضاء عليه.
في مثل هذا الاُسلوب ـ أي التصرّف تحت ستار الإسلام ـ لو قام الإمام الحسين(عليه السلام) بحركة واسعة ونشاط سياسي بعد وفاة الإمام الحسن(عليه السلام) مباشرةً; لما كان قادراً على فضح معاوية وإقناع كلّ الجماهير بشرعيّة ثورته ، ولكان معاوية متمكّناً من القضاء عليه من دون ضجيج، وعندها كانت الثورة تموت في مهدها وتضيع جهود كبيرة، كان من شأنها أن تبني في الاُمّة تيّاراً واعياً، ويختنق الصوت الذي كان في مقدوره أن يبقى مدوّياً في تأريخ الإنسانيّة كما حصل في واقعة الطفّ. وما كان الإمام الحسين(عليه السلام) ليتمكّن من توضيح كلّ أهدافه وغاياته من الثورة[7] المتمثّلة في إنقاذ الاُمّة من الظلم وصيانة الرسالة الإسلامية من التحريف لو كان يسرع بثورته في أيام معاوية.
وأمّا حينما اعتلى يزيد عرش الخلافة وهو من قد عرفه الناس باللهو والفسق والشغف بالقرود وشرب الخمور، وعدم صلاحيته للخلافة لتجاوزه وعدوانه على كل المقاييس الشرعيّة والعرفيّة لدى المسلمين. فالثورة عليه تعدّ ثورة مشروعة عند عامّة المسلمين، كما أثبت التأريخ ذلك بكلّ وضوح .
3 ـ احترام صلح الإمام الحسن (عليه السلام) :
لقد كان العهد والميثاق الذي تم بين معاوية وبين الإمام الحسن(عليه السلام) ورقة رابحة يلوّحها معاوية لكلّ تحرّك فعّال مضاد تجاه تربّعه على مسند السلطة، صحيح أنّه عهد غير حقيقي وما كان برضا الإمامين(عليهما السلام) وتم في ظروف كان لابد من تغييرها، لكنّ المجتمع لم يكن يتقبّل نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) مع وجود هذا العهد، وحتى لو كان هذا العهد صحيحاً فإنّ معاوية نقضه بممارسته العدائية بملاحقة رجال الشيعة، ولم يرعَ أيَّ حقّ في سياسته الاقتصادية .
وقد سارع معاوية لاستغلال هذا العهد في التشهير بالإمام الحسين(عليه السلام) وإظهاره بموقف الناقض للعهد، فقد كتب إلى الإمام(عليه السلام) :
أمّا بعد، فقد انتهت إلىّ اُمور عنك، إن كانت حقاً فإنّي أرغب بك عنها. ولعمر الله إنّ من أعطى عهد الله وميثاقه لجدير بالوفاء، وإنّ أحقّ الناس بالوفاء من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها، ونفسك فاذكر، وبعهد الله أوفِ، فإنّك متى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتّق شقّ عصا هذه الاُمّة[8].
من هنا لجأ الإمام الحسن(عليه السلام) ومن بعده الحسين(عليه السلام) إلى اُسلوب آخر لنشر الدعوة والتهيّؤ للثورة التي غذّاها معاوية بظلمه وجوره وبُعده عن تمثيل الحكم الإسلامي الصحيح، حتى إذا مات معاوية كان كثير من الناس وعامّة أهل العراق ـ بشكل خاص ـ يرون بغض بني اُميّة وحبّ أهل البيت لأنفسهم ديناً[9].
المواقف من ثورة الحسين (عليه السلام) قبل انطلاقها :
لم تكن نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) وثورته حركةً آنيةً أو ردّة فعل مفاجئة; بل كان الحسين(عليه السلام) في الاُمّة يمثّل بقية النبوّة وكان وريث الرسالة وحامل راية القيم السامية التي أوجدها الإسلام في الاُمّة وأرسى قواعدها، كما أنّ العهد قريب برحيل النبىّ(صلى الله عليه وآله) الذي كان يكثر الثناء والتوضيح لمقام الإمام الحسين (عليه السلام). وفي الوقت نفسه كانت قد ظهرت مقاصد الاُمويّين الفاسدة تجاه رسالة النبي (صلى الله عليه وآله) الإسلامية واُمّته المؤمنة برسالته .
وقد وقف أهل البيت(عليهم السلام) بصلابة يدافعون عن الحقّ والعدل وإحياء الرسالة الإسلامية، والمحافظة عليها بكلّ وسيلة ممكنة ومشروعة.
وفي عصر الإمام الحسين(عليه السلام) كان لتراخي وفتور الاُمّة عن نصرة الحقّ الى جانب تسلّط المنافقين ونفوذهم في أجهزة الدولة دور كبير لإيجاد حالة مَرَضيّة يمكن تسميتها بفقدان الإرادة وموت الضمير، ومن ثمّ تباينت المواقف تجاه اُسلوب الدفاع عن العقيدة الإسلامية وصيانتها وسيادة الحقّ والعدل.
ولكن لم يشكّ أحد في مشروعية وعدالة موقف الإمام الحسين(عليه السلام) تجاه الانحراف المستشري في كلّ مفاصل الدولة، وتجاه التغيير الحاصل في بنية الاُمّة الإسلامية، إلاّ أنّ موقف الاستعداد الكامل للنصرة باتخّاذ قرار ثوريّ يزيح عن الاُمّة الظلم والفساد لم يكن يتكامل بعد لدى الجميع.
وقد كانت هذه المواقف تتراوح بين التأييد مع إعلان الاستعداد للثورة مهما كانت النتائج ، وبين الحذر من الفشل وعدم نجاح الثورة ، وبين التثبيط وفتّ العزائم .
وتبنّى شيعة أهل البيت (عليهم السلام) الذين اكتووا بجحيم البيت الأموي المتحكّم في رقاب المسلمين موقف التأييد وإعلان الاستعداد ، وإن غلب الخوف على بعضهم فيما بعد، واُودع البعض الآخر السجن أو حوصر من قبل قوّات السلطة الاُمويّة .
كما تبنّى آخرون من أقرباء الإمام (عليه السلام) ـ مثل عبدالله بن عباس ومحمّد ابن الحنفيّة ـ موقف الحذر، ورجّحوا للإمام الحسين(عليه السلام) الهجرة إلى اليمن ; نظراً لبُعد اليمن عن العاصمة، ولتوفّر جمع من شيعته وشيعة أبيه فيها[10].
وتبنّى آخرون موقف التثبيط وفتّ العزائم والتخويف من مغبّة الثورة على الحاكم، فنصحوا الإمام (عليه السلام) بالدخول فيما دخل فيه الناس ، والصبر على الظلم ، كما تمثّل ذلك في نصيحة عبدالله بن عمر للإمام الحسين (عليه السلام)[11].
[1] الأخبار الطوال : 221 .
[2] المصدر السابق : 222 .
[3] شرح النهج لابن أبي الحديد : 2 / 357 .
[4] مقاتل الطالبيين : 29 ، ومختصر تأريخ العرب : 62 .
[5] التمدن الإسلامي، لجرجي زيدان : 4 / 71 .
[6] عيون الأخبار : 1 / 201 .
[7] للتفصيل راجع : ثورة الحسين، ظروفها الاجتماعية وآثارها النفسية : 122.
[8] الإمامة والسياسة : 1 / 188 ، والأخبار الطوال : 224 ، وأعيان الشيعة : 1 / 582 .
[9] الفتنة الكبرى ـ علي وبنوه، طـه حسين : 290 ، وللمزيد من التفصيل راجع : ثورة الحسين(عليه السلام)، ظروفها الاجتماعية وآثارها النفسية : 127 .
[10] مقتل الحسين ( الخوارزمي ) : 1 / 187 و 216 ، ومروج الذهب : 3 / 64 .
[11] مقتل الحسين ( الخوارزمي ) : 1 / 191 .