ما هو أثر الشفاعة إسقاط العقاب أو زيادة الثواب؟
لم تكن مسألة الشفاعة فكرة جديدة ابتكرها الإسلام وانفرد بها، بل كانت فكرة رائجة بين أمم العالم من قبل، وخاصة بين الوثنيين واليهود.
نعم، هذّبها الإسلام من الخرافات، وقررها على اصول توافق أُصول العدل والعقل، وصحّحها تحت شرائط في الشافع والمشفوع له، تجر العصاة إلى الطهارة من الذنوب، ولا توجب فيهم جرأة وجسارة. وغير خفي على من وقف على آراء اليهود والوثنيين في أمر الشفاعة، وأنّ الشفاعة بينهم كانت رجاء في حط الذنوب وغفران الآثام، ولأجل ذلك كانوا يقترفون الكبائر، تعويلاً على ذلك الرجاء. وجاء القرآن يرد تلك العقيدة الباعثة إلى الجرأة، فقال إنه لا يشفع إنسان إلا بإذنه تعالى وفي حق من ارتضاه سبحانه، فليس لكم أن تقترفوا الذنوب تعويلاً على شفاعة الشفيع، لأن الأمرليس في أيديهم بل في ملكه سبحانه وقدرته.
وعلى ضوء هذا، إن الشفاعة عند الأمم، مرفوضها ومقبولها، يراد منها حط الذنوب، ورفع العقاب، وهي كذلك في الإسلام، بلا فرق، كما يوضحه قولهصلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمتي"1.
وفي المقابل ذهبت المعتزلة إلى تخصيص آيات الشفاعة بأهل الطاعة، دون العصاة، وأن اثرها ينحصر في رفع الدرجة وزيادة الثواب. وما هذا التأويل في آيات الشفاعة إلا لأجل موقف مسبق لهم في مرتكب الكبيرة، حيث حكموا بخلوده في النار إذا مات بلا توبة، فلما رأوا أن القول بالشفاعة التّي أثرها هو إسقاط العقاب، ينافي ذلك المبنى، أوّلوا آيات الله، فقالوا إنّ أثر الشفاعة إنما هو زيادة الثواب، ورفع الدرجة. وهذا المقام أحد المقامات التّي يؤخذ المعتزلة فيها بالعتاب، حيث قدّموا النهج على النقل الصريح، وخالفوا في ذلك جميع المسلمين.
قال القاضي عبد الجبار، منكراً شمول الشفاعة للعصاة: "إنّ شفاعة الفساق الذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا تتنزل منزلة الشفاعة لمن قتل ولد الغير وترصد للآخر حتى يقتله، فكما أنّ ذلك يقبح فكذلك ها هنا"2.
وما ذكره القاضي غفلة منه عن شروط الشفاعة فان بعض الذنوب الكبيرة تقطع العلائق الايمانية بالله سبحانه كما تقطع الاواصر الروحية مع النبي الأكرم فأمثال هؤلاء العصاة لا تشملهم الشفاعة وهناك نصوص دالة على حرمان طوائف منها.
والعجب ان القاضي استدل على ان الفاسق لا يخرج من النار بشفاعة النبي بقوله تعالى: "وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْس شَيْئاً"(البقره:48). وقوله تعالى: "مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيم وَلاَ شَفِيع يُطَاعُ"(غافر:18).
فيلاحظ عليه: انّ الآيتين راجعتان الى الكفار فالآية الأُولى ناظرة إلى نفي الشفاعة التّي كان اليهود يتبنونها كما هو صريح سياقها والآية الثانية ناظرة الى نفي الشفاعة الّتي كان المشركون يرجونها من معبوداتهم يقول سبحانه:"قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَل مُبِين * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيق حَمِيم"(الشعراء:96-101).
وقال سبحانه - حاكياً قول المجرمين في سقر - : "وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ"(المدثر: 46-48).
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
1- سنن أبي داود، ج 2، ص 537، وصحيح الترمذي، ج 4، ص 45، صحيح ابن ماجه، ج 2، ص 1441. مسند أحمد، ج 3، ص 213.
2- شرح الأُصول الخمسة، ص 688.
تعليق