الحسين في الفكر المسيحيّ
الكتاب: الحسين في الفكر المسيحيّ.
المؤلّف: أنطون بارا.
الناشر: مكتبة فدك ـ قمّ المقدّسة.
الطبعة: الثانية ـ سنة 1426 هـ / 2005 م.
تصوّرات
تصوّر البعض أنّ آل الرسول صلّى الله عليه وآله أسرة تنحصر خصائصها بها، وليس تأثيراتها المعنويّة والروحيّة على المسلمين، وإذا كان هنالك نزاع حدث بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله فهو نزاع أُسَريّ موروث، كذلك إذا كان هنالك علاقة مودّتيّة ظهرت لهذا البيت النبويّ الشريف فهي علاقة رحميّة أو علاقة مقرَّبين مِن آل هذه العائلة المقدّسة.
وتمضي الأعوام والقرون، ويُثبت أهل البيت عليهم السلام أنّهم أعلى وأسمى ممّا تصوّر البعض أو حاول أن يصوِّر للناس، فَهُم ليسوا لشيعتهم فقط، وليسوا للمسلمين فحَسْب.. هم أكبر من ذلك كلّه، هم لهذا العالم جميعاً، تعايشوا مع الخَلْق خيراً يفيض ونوراً من الهداية يشعّ، وأخلاقاً كريمة وَسِعَت البشرية بأجمعها.
ومن هنا لم نجد مُطّلعاً على سيرتهم بإنصاف إلاّ وأحبّهم وأحبّ أن يكون من تابعيهم، ذلك لأنّهم الهداة على دين الفطرة والحنيفيّة الطاهرة، ولأنّهم المتخلّقون بأخلاق الله تعالى من: الرحمة والعطف والشفقة، وإرادة الخير والصلاح والسعادة لجميع الناس، وقد سَعَوا من أجل ذلك وهم في غاية الطاعة لله جلّ وعلا، وغاية البذل والعطاء لهذا الخَلْق الظلوم لنفسه ولغيره.
فكان من أهل البيت سلام الله عليهم جهاد وتضحية وفداء، حتّى عانَوا ما عانَوا من الظَّلَمة العُتاة، ولا قَوا ما لاقَوا من الإيذاء والتضييق والإبعاد والحبس والتشريد، ثمّ القتل بالسيوف أو السموم، لِيُخفوا شخوصهم بين الملأ، ولِيُطفئوا نور الله بكلّ ما استطاعوا، فأبى الله تعالى إلاّ أن يُتمّ نوره فيهم، فها هُم أئمّة الهدى وأعلام التُّقى، ها هم ما يزالون الدعاةَ إلى الله والأدلاّءَ على مرضاة الله، ولم يزالوا قادة القلوب، فقد أحبّهم الناس من المشرق والمغرب، وأُعجب بهم أهل النصرانيّة واليهوديّة، وأذعن الجميع لفضائلهم ومناقبهم ومعالي شؤونهم، حتّى لم يصبر جورج جرداق المسيحي إلاّ أن يجرّد يراعه ليرسله مجلّداتٍ في فضائل عليّ بن أبي طالب، كذلك لم يصبر الشاعر المسيحيّ بولس سلامة إلاّ أن يُطلق شاعريّته في ملاحم أدبيّة رائقة في خصائص أهل البيت ومظلومياتهم.. ويكثر المنصفون من المذاهب الأخرى والديانات الأخرى، حتّى يقف الزمان مرّةً أخرى عند كتاب طيّبٍ آخر تدوّنه أنامل مسيحي عشق نور سيّد الشهداء أبي عبدالله الحسين بن علي وابن فاطمة عليهم السلام، فسرّح قلبه مع قلمه ليكتب ( الحسين في الفكر المسيحيّ )، وإذا بـ « أنطون بارا » هذا المؤلّف الذي فاض محبّةً وإعجاباً بسبط النبيّ وريحانته، لم يصبر على أن يكتم مشاعره وما وصل إليه فكره من مفاهيم سامقة، فكتب ما يُريح به وجدانه وضميره؛ لأنّه فهم الحسين عليه لاسلام فهماً عميقاً من خلال مسيحيّته، وعَلِم أنّ المسيح والحسين صلوات الله عليهما هما رجلانِ إلهيّان؛ ولذا هما كانا في طريقٍ واحد، وهو طريق النور الربّانيّ وهداية البشرية، وطريق الرحيل إلى الله عزّوجلّ بالشهادة.
وإذا كان المسلم لا تتطابق عقيدته اليوم مع المسيحيّ، فإنّهما قد اتّفقا على أمورٍ كثيرة، ومهمّة، ويكفينا في ذلك شاهدان:
الأوّل ـ قرآني، ذلك قوله عزّ من قائل: وَلَتَجِدَنّ أقربَهم مَودّةً لِلَّذينَ آمَنُوا الَّذين قالُوا إنّا نصارى، ذلك بأنّ مِنَهم قِسِّيسِينَ ورُهباناً وأنّهم لا يَستكبرون [ سورة المائدة:82 ]. نعم، أولئك هم غير مَن نرى اليوم من المستكبرين واللّؤماء الذين تحزّبوا لمحاربة الإسلام، وأهانوا كتاب الله.
والشاهد الثاني ـ روائي، فالنصارى كانوا أطوَعَ للإسلام وأهدى إليه، وهم كانوا على سابق علمٍ بمبعث رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقد أُخبِروا مِن قِبل السيّد المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام بواسطة الحواريّين، وذلك بعد خطاب الله عزّوجلّ لنبيّه عيسى سلام الله عليه:
ـ ثمّ أُوصيك يا ابنَ مريم البِكْرِ البتول، بسيّد المرسَلين وحبيبي، فهو « أحمد » صاحبُ الجملِ الأحمر، والوجهِ الأقمر، المُشرقِ النور، الطاهر القلب، الشديد البأس، الحيّي المتكرّم...
قال عيسى: إلهي، فمَن هو حتّى أُرضيَه فلَك الرضى ؟ قال:
ـ هو محمّد رسول الله إلى الناس كافّة، أقربُهم منّي منزلة، وأوجبُهم عندي شفاعةً..ثمّ يكون لعيسى ابن مريم عليهما السلام موقف مع حفيد رسول الله وخاتم أوصيائه المهديّ المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وذلك بعد ظهوره عليه السلام، فينزل المسيح عيسى من السماء وينصر المهديّ:
عن حُذَيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله ( في حديث مفصّل حول الظهور ): « فَلتَفِت المهديّ وقد نزل عيسى عليه السلام كأنّما يقطر مِن شعره الماء، فيقول المهدي: تقدّم صلِّ بالناس، فيقول عيسى: إنّما أُقيمت الصلاة لك. فيصلّي عيسى خلف رجلٍ من وُلدي، فإذا صُلِّيَت قام عيسى حتّى جلس في المقام، فيبايعه ( أي يبايع المهديَّ عليه السلام )..». ( رواه الگنجي الشافعي في: ـ البيان في أخبار صاحب الزمان:497، والمَقْدسي الشافعي في: ـ عقد الدر في أخبار المنتظر:17 و 229، وابن حجر المكيّ الشافعي الهيثمي في: ـ الصواعق المحرقة:164، والسيوطي الشافعي في: الحاوي 81:2.. وغيرهم ).
وهكذا الأديان جميعاً إذا سَلِمت من التحريف، فإنّها ستلتقي على دين الإسلام ومفاهيمه وعقائده، والولاء لأهل البيت عليهم السلام. وأحد أدلّة ذلك هذا الكتاب الذي كانت له:
ثلاث مقدّمات
الأولى ـ للدكتور أسعد علي، كانت أدبيّة معرفية، حاول خلالها أن يضع لوحةً من صفحتين: الأولى ترتسم عليها أواصر الشَّبَه بين المسيحيّة الأصيلة والإسلام، والثانية ترتسم عليها الروح الحسينيّة لأنطون بارا المؤلّف والروح الحسينية عند المسلمين.. فكتب:
يقول الباحث أنطون بارا في بحثه الجديد: لم يُسجِّل التاريخ شبيهاً لاستشهاد الحسين في كربلاء )، فاستشهاد الحسين وسيرته: عنوانٌ صريحٌ لقيمة الثبات على المبدأ، ولعظمة المثاليّة في أخذ العقيدة وتمثّلها. لذلك غدا حبُّ الحسين الثائر: واجباً علينا كبشر، وغدا حبُّ الحسين الشهيد جزءاً من نفثات ضمائرنا.
فقد جاءت صيحة الحسين: نبراساً لبني الإنسان في كلّ عصرٍ ومصر، وتحت أيّة عقيدةٍ انضَوَوا، إذ إنّ أهداف الأديان هي المحبّة والتمسّك بالفضائل.. وبحث الأستاذ أنطون بار بمجمل فصوله يؤكّد حقيقةً تجلّت له وجسّدها بقوله: لقد كان الحسين عليه السلام شمعةَ الإسلام.. أضاءت مُمثِّلةً ضميرَ الأديان إلى أبد الدهور ).
إنّ هذه النتيجة مثيرةٌ للغاية، لأنّها تحكم الماضي والمستقبل، ومقياس الحكم فيها ثورةُ الحسين الواقعيّة، ثمّ مثاليّة الرمز في شخصيّته.
( وبعد أن يمضي الدكتور أسعد علي في مقدّمته (8) صفحات، يختمها بقوله: ) أليس ضمير الأديان: إيقاظاً مستمرّاً، وتذكيراً دائماً بهذه المبادئ التي فداها الحسين في يوم عاشوراء ؟! أليست الحريّةُ والإيثار ـ كما فَهِمناهما من ثورة الحسين ـ جوهرَ وصيّتَيِ الإنجيل العُظمَيَينِ ؟!
لقد أثار الأستاذ أنطون بار إثاراتٍ تدعو الإنسانيةَ المعاصرة إلى مزيدٍ من التأمّل لمعرفة الحقّ الذي يُحرِّر ـ كما قال السيد المسيح ـ، فهل يتأمّل المعاصرون ؟!
المقدّمة الثانية ـ للسيّد محمد بحر العلوم، وقد جاء فيها: أمرٌ رائع جدّاً أن يلتقيَ الفكران: الإسلاميّ والمسيحيّ، في قضيةٍ من أهم القضايا العقائديّة، ثمّ ينتهيَ بهما المطاف إلى نتيجةٍ واحة، وهي: الحقّ والعقيدة، والاستجابة لنداء الرسالة، والجهاد في سبيلهما بإيمان وشموخ.. فالمصدر لهذين الخطّين واحد، ومسارهما التاريخيّ لن يختلف، فَمِن الله تعالى تلك الرسالة السماويّة قد بُعثت لمكارم الأخلاق، تهدي الأمّة وتنقذها من الجهل والظلم. فكانت رسالة المسيح عليه السلام، ورسالة النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله، رسالتين هزّتا ضمير العالم، وأجّجتا فيه مشاعل الأمل، وأثْرتا فيه العطاء.. ( ويختم السيّد بحر العلوم كلمته المقدّمة للطبعة الثانية، قائلاً ): إذا كان الأستاذ جورج جرداق قد كتب بالأمس حول النبعة الصافية لعقيدة السماء ( الإمام عليّ عليه السلام ) لِيؤكّد على هذا الارتباط بين المسيحيّة والإسلام، جاء اليوم الكاتب الأديب أنطون بارا ليمدّ الشراع، ويسير نحو هذا المصبّ، ويكتب في ثورة الحسين من خلال مِظلّة الفكر المسيحي.. وقد حاز الكتاب على إعجابي من خلال قراءتي له، وإن كنتُ أقف منه في بعض النقاط موقف المُلاحِظ.
أمّا المقدّمة الثالثة ـ فهي للمؤلّف، امتدّت حتى كادت أن تكون فصلاً، إذ استغرقت (36) صفحة ابتدأها بعد البسملة بقوله: الثورة التي فجرّها الحسين بن علي ـ عليه وعلى أبيه أفضل السلام ـ في أعماق الصدور المؤمنة والضمائر الحرّة، هي حكاية الحريّة الموؤودة بسكّين الظلم في كلّ زمانٍ ومكان وُجِد فيهما حاكمٌ ظالمٌ غشوم، لا يقيم وزناً لحريّة الإنسان، ولا يصون عهداً لقضيّةٍ بشريّة، وهي قضيّة الأحرار تحت أيّ لواءٍ انضَوَوا، وخلف أيّة عقيدةٍ ساروا..
والفكر المسيحيّ العربيّ يقدّس آل البيت عليهم السلام كالمسلم، وفي أخذه لأيّة حادثةٍ تاريخيّةٍ تخصّ العالم الإسلاميّ الذي يعيش فيه، يهدف إلى الحِيدة، مبتغياً الواقع، باحثاً عن المنطق والرُّؤى العقلانية السليمة، وهي صعوبةٌ تتكاثف على قلمِ غير المسلم..
وفي هذا حُجّة، وللحجّة سببٌ بل أسباب، منها أنّ الفكر المسيحيّ العربيّ يستمدّ تراثه الفكريّ من تراثٍ عربيٍّ إسلاميّ، ويتعرّض لنفس التيّارات الفكريّة والروحيّة التي يتعرّض لها، ويعي كلَّ حادثةٍ تاريخيّة نتيجةَ تشرّبه لها في المدرسة، أو زيارته لأماكن تلك الحادثة، أو لاتّصاله بظواهرها،.. بينما لا يملك الفكر المسيحيُّ الغربيّ الخشيةَ والإحساس والورع بقيمة الشخصيّة القُدسيّة التي يتناولها...
فشخصيّة الحسين محيطٌ واسعٌ من المُثل الأدبية والأخلاق النبويّة، وثورته فضاءٌ واسعٌ من المعطيات الأخلاقيّة والعقائديّة. ولعلّنا نتمثّل أهمَّ سِمةٍ من سمات العظمة في هذه الشخصيّة من قول جَدّه الرسول صلّى الله عليه وآله: « حسينٌ منّي وأنا مِن حسين »، فارتَقَت إنسانيّةُ السبط إلى حيثُ نبوّة جَدّه « أنَا مِن حسين »، وهبطت نبوّةُ الجدّ إلى حيث إنسانية السبط « حسينٌ مِنّي »، وفي هذا المعنى يقول السيّد الطباطبائي ( يقصد السيّد مهدي بحر العلوم، في ديوانه: العقود الاثنا عشر:27 ): ـ
المؤلّف: أنطون بارا.
الناشر: مكتبة فدك ـ قمّ المقدّسة.
الطبعة: الثانية ـ سنة 1426 هـ / 2005 م.
تصوّرات
تصوّر البعض أنّ آل الرسول صلّى الله عليه وآله أسرة تنحصر خصائصها بها، وليس تأثيراتها المعنويّة والروحيّة على المسلمين، وإذا كان هنالك نزاع حدث بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله فهو نزاع أُسَريّ موروث، كذلك إذا كان هنالك علاقة مودّتيّة ظهرت لهذا البيت النبويّ الشريف فهي علاقة رحميّة أو علاقة مقرَّبين مِن آل هذه العائلة المقدّسة.
وتمضي الأعوام والقرون، ويُثبت أهل البيت عليهم السلام أنّهم أعلى وأسمى ممّا تصوّر البعض أو حاول أن يصوِّر للناس، فَهُم ليسوا لشيعتهم فقط، وليسوا للمسلمين فحَسْب.. هم أكبر من ذلك كلّه، هم لهذا العالم جميعاً، تعايشوا مع الخَلْق خيراً يفيض ونوراً من الهداية يشعّ، وأخلاقاً كريمة وَسِعَت البشرية بأجمعها.
ومن هنا لم نجد مُطّلعاً على سيرتهم بإنصاف إلاّ وأحبّهم وأحبّ أن يكون من تابعيهم، ذلك لأنّهم الهداة على دين الفطرة والحنيفيّة الطاهرة، ولأنّهم المتخلّقون بأخلاق الله تعالى من: الرحمة والعطف والشفقة، وإرادة الخير والصلاح والسعادة لجميع الناس، وقد سَعَوا من أجل ذلك وهم في غاية الطاعة لله جلّ وعلا، وغاية البذل والعطاء لهذا الخَلْق الظلوم لنفسه ولغيره.
فكان من أهل البيت سلام الله عليهم جهاد وتضحية وفداء، حتّى عانَوا ما عانَوا من الظَّلَمة العُتاة، ولا قَوا ما لاقَوا من الإيذاء والتضييق والإبعاد والحبس والتشريد، ثمّ القتل بالسيوف أو السموم، لِيُخفوا شخوصهم بين الملأ، ولِيُطفئوا نور الله بكلّ ما استطاعوا، فأبى الله تعالى إلاّ أن يُتمّ نوره فيهم، فها هُم أئمّة الهدى وأعلام التُّقى، ها هم ما يزالون الدعاةَ إلى الله والأدلاّءَ على مرضاة الله، ولم يزالوا قادة القلوب، فقد أحبّهم الناس من المشرق والمغرب، وأُعجب بهم أهل النصرانيّة واليهوديّة، وأذعن الجميع لفضائلهم ومناقبهم ومعالي شؤونهم، حتّى لم يصبر جورج جرداق المسيحي إلاّ أن يجرّد يراعه ليرسله مجلّداتٍ في فضائل عليّ بن أبي طالب، كذلك لم يصبر الشاعر المسيحيّ بولس سلامة إلاّ أن يُطلق شاعريّته في ملاحم أدبيّة رائقة في خصائص أهل البيت ومظلومياتهم.. ويكثر المنصفون من المذاهب الأخرى والديانات الأخرى، حتّى يقف الزمان مرّةً أخرى عند كتاب طيّبٍ آخر تدوّنه أنامل مسيحي عشق نور سيّد الشهداء أبي عبدالله الحسين بن علي وابن فاطمة عليهم السلام، فسرّح قلبه مع قلمه ليكتب ( الحسين في الفكر المسيحيّ )، وإذا بـ « أنطون بارا » هذا المؤلّف الذي فاض محبّةً وإعجاباً بسبط النبيّ وريحانته، لم يصبر على أن يكتم مشاعره وما وصل إليه فكره من مفاهيم سامقة، فكتب ما يُريح به وجدانه وضميره؛ لأنّه فهم الحسين عليه لاسلام فهماً عميقاً من خلال مسيحيّته، وعَلِم أنّ المسيح والحسين صلوات الله عليهما هما رجلانِ إلهيّان؛ ولذا هما كانا في طريقٍ واحد، وهو طريق النور الربّانيّ وهداية البشرية، وطريق الرحيل إلى الله عزّوجلّ بالشهادة.
وإذا كان المسلم لا تتطابق عقيدته اليوم مع المسيحيّ، فإنّهما قد اتّفقا على أمورٍ كثيرة، ومهمّة، ويكفينا في ذلك شاهدان:
الأوّل ـ قرآني، ذلك قوله عزّ من قائل: وَلَتَجِدَنّ أقربَهم مَودّةً لِلَّذينَ آمَنُوا الَّذين قالُوا إنّا نصارى، ذلك بأنّ مِنَهم قِسِّيسِينَ ورُهباناً وأنّهم لا يَستكبرون [ سورة المائدة:82 ]. نعم، أولئك هم غير مَن نرى اليوم من المستكبرين واللّؤماء الذين تحزّبوا لمحاربة الإسلام، وأهانوا كتاب الله.
والشاهد الثاني ـ روائي، فالنصارى كانوا أطوَعَ للإسلام وأهدى إليه، وهم كانوا على سابق علمٍ بمبعث رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقد أُخبِروا مِن قِبل السيّد المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام بواسطة الحواريّين، وذلك بعد خطاب الله عزّوجلّ لنبيّه عيسى سلام الله عليه:
ـ ثمّ أُوصيك يا ابنَ مريم البِكْرِ البتول، بسيّد المرسَلين وحبيبي، فهو « أحمد » صاحبُ الجملِ الأحمر، والوجهِ الأقمر، المُشرقِ النور، الطاهر القلب، الشديد البأس، الحيّي المتكرّم...
قال عيسى: إلهي، فمَن هو حتّى أُرضيَه فلَك الرضى ؟ قال:
ـ هو محمّد رسول الله إلى الناس كافّة، أقربُهم منّي منزلة، وأوجبُهم عندي شفاعةً..ثمّ يكون لعيسى ابن مريم عليهما السلام موقف مع حفيد رسول الله وخاتم أوصيائه المهديّ المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وذلك بعد ظهوره عليه السلام، فينزل المسيح عيسى من السماء وينصر المهديّ:
عن حُذَيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله ( في حديث مفصّل حول الظهور ): « فَلتَفِت المهديّ وقد نزل عيسى عليه السلام كأنّما يقطر مِن شعره الماء، فيقول المهدي: تقدّم صلِّ بالناس، فيقول عيسى: إنّما أُقيمت الصلاة لك. فيصلّي عيسى خلف رجلٍ من وُلدي، فإذا صُلِّيَت قام عيسى حتّى جلس في المقام، فيبايعه ( أي يبايع المهديَّ عليه السلام )..». ( رواه الگنجي الشافعي في: ـ البيان في أخبار صاحب الزمان:497، والمَقْدسي الشافعي في: ـ عقد الدر في أخبار المنتظر:17 و 229، وابن حجر المكيّ الشافعي الهيثمي في: ـ الصواعق المحرقة:164، والسيوطي الشافعي في: الحاوي 81:2.. وغيرهم ).
وهكذا الأديان جميعاً إذا سَلِمت من التحريف، فإنّها ستلتقي على دين الإسلام ومفاهيمه وعقائده، والولاء لأهل البيت عليهم السلام. وأحد أدلّة ذلك هذا الكتاب الذي كانت له:
ثلاث مقدّمات
الأولى ـ للدكتور أسعد علي، كانت أدبيّة معرفية، حاول خلالها أن يضع لوحةً من صفحتين: الأولى ترتسم عليها أواصر الشَّبَه بين المسيحيّة الأصيلة والإسلام، والثانية ترتسم عليها الروح الحسينيّة لأنطون بارا المؤلّف والروح الحسينية عند المسلمين.. فكتب:
يقول الباحث أنطون بارا في بحثه الجديد: لم يُسجِّل التاريخ شبيهاً لاستشهاد الحسين في كربلاء )، فاستشهاد الحسين وسيرته: عنوانٌ صريحٌ لقيمة الثبات على المبدأ، ولعظمة المثاليّة في أخذ العقيدة وتمثّلها. لذلك غدا حبُّ الحسين الثائر: واجباً علينا كبشر، وغدا حبُّ الحسين الشهيد جزءاً من نفثات ضمائرنا.
فقد جاءت صيحة الحسين: نبراساً لبني الإنسان في كلّ عصرٍ ومصر، وتحت أيّة عقيدةٍ انضَوَوا، إذ إنّ أهداف الأديان هي المحبّة والتمسّك بالفضائل.. وبحث الأستاذ أنطون بار بمجمل فصوله يؤكّد حقيقةً تجلّت له وجسّدها بقوله: لقد كان الحسين عليه السلام شمعةَ الإسلام.. أضاءت مُمثِّلةً ضميرَ الأديان إلى أبد الدهور ).
إنّ هذه النتيجة مثيرةٌ للغاية، لأنّها تحكم الماضي والمستقبل، ومقياس الحكم فيها ثورةُ الحسين الواقعيّة، ثمّ مثاليّة الرمز في شخصيّته.
( وبعد أن يمضي الدكتور أسعد علي في مقدّمته (8) صفحات، يختمها بقوله: ) أليس ضمير الأديان: إيقاظاً مستمرّاً، وتذكيراً دائماً بهذه المبادئ التي فداها الحسين في يوم عاشوراء ؟! أليست الحريّةُ والإيثار ـ كما فَهِمناهما من ثورة الحسين ـ جوهرَ وصيّتَيِ الإنجيل العُظمَيَينِ ؟!
لقد أثار الأستاذ أنطون بار إثاراتٍ تدعو الإنسانيةَ المعاصرة إلى مزيدٍ من التأمّل لمعرفة الحقّ الذي يُحرِّر ـ كما قال السيد المسيح ـ، فهل يتأمّل المعاصرون ؟!
المقدّمة الثانية ـ للسيّد محمد بحر العلوم، وقد جاء فيها: أمرٌ رائع جدّاً أن يلتقيَ الفكران: الإسلاميّ والمسيحيّ، في قضيةٍ من أهم القضايا العقائديّة، ثمّ ينتهيَ بهما المطاف إلى نتيجةٍ واحة، وهي: الحقّ والعقيدة، والاستجابة لنداء الرسالة، والجهاد في سبيلهما بإيمان وشموخ.. فالمصدر لهذين الخطّين واحد، ومسارهما التاريخيّ لن يختلف، فَمِن الله تعالى تلك الرسالة السماويّة قد بُعثت لمكارم الأخلاق، تهدي الأمّة وتنقذها من الجهل والظلم. فكانت رسالة المسيح عليه السلام، ورسالة النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله، رسالتين هزّتا ضمير العالم، وأجّجتا فيه مشاعل الأمل، وأثْرتا فيه العطاء.. ( ويختم السيّد بحر العلوم كلمته المقدّمة للطبعة الثانية، قائلاً ): إذا كان الأستاذ جورج جرداق قد كتب بالأمس حول النبعة الصافية لعقيدة السماء ( الإمام عليّ عليه السلام ) لِيؤكّد على هذا الارتباط بين المسيحيّة والإسلام، جاء اليوم الكاتب الأديب أنطون بارا ليمدّ الشراع، ويسير نحو هذا المصبّ، ويكتب في ثورة الحسين من خلال مِظلّة الفكر المسيحي.. وقد حاز الكتاب على إعجابي من خلال قراءتي له، وإن كنتُ أقف منه في بعض النقاط موقف المُلاحِظ.
أمّا المقدّمة الثالثة ـ فهي للمؤلّف، امتدّت حتى كادت أن تكون فصلاً، إذ استغرقت (36) صفحة ابتدأها بعد البسملة بقوله: الثورة التي فجرّها الحسين بن علي ـ عليه وعلى أبيه أفضل السلام ـ في أعماق الصدور المؤمنة والضمائر الحرّة، هي حكاية الحريّة الموؤودة بسكّين الظلم في كلّ زمانٍ ومكان وُجِد فيهما حاكمٌ ظالمٌ غشوم، لا يقيم وزناً لحريّة الإنسان، ولا يصون عهداً لقضيّةٍ بشريّة، وهي قضيّة الأحرار تحت أيّ لواءٍ انضَوَوا، وخلف أيّة عقيدةٍ ساروا..
والفكر المسيحيّ العربيّ يقدّس آل البيت عليهم السلام كالمسلم، وفي أخذه لأيّة حادثةٍ تاريخيّةٍ تخصّ العالم الإسلاميّ الذي يعيش فيه، يهدف إلى الحِيدة، مبتغياً الواقع، باحثاً عن المنطق والرُّؤى العقلانية السليمة، وهي صعوبةٌ تتكاثف على قلمِ غير المسلم..
وفي هذا حُجّة، وللحجّة سببٌ بل أسباب، منها أنّ الفكر المسيحيّ العربيّ يستمدّ تراثه الفكريّ من تراثٍ عربيٍّ إسلاميّ، ويتعرّض لنفس التيّارات الفكريّة والروحيّة التي يتعرّض لها، ويعي كلَّ حادثةٍ تاريخيّة نتيجةَ تشرّبه لها في المدرسة، أو زيارته لأماكن تلك الحادثة، أو لاتّصاله بظواهرها،.. بينما لا يملك الفكر المسيحيُّ الغربيّ الخشيةَ والإحساس والورع بقيمة الشخصيّة القُدسيّة التي يتناولها...
فشخصيّة الحسين محيطٌ واسعٌ من المُثل الأدبية والأخلاق النبويّة، وثورته فضاءٌ واسعٌ من المعطيات الأخلاقيّة والعقائديّة. ولعلّنا نتمثّل أهمَّ سِمةٍ من سمات العظمة في هذه الشخصيّة من قول جَدّه الرسول صلّى الله عليه وآله: « حسينٌ منّي وأنا مِن حسين »، فارتَقَت إنسانيّةُ السبط إلى حيثُ نبوّة جَدّه « أنَا مِن حسين »، وهبطت نبوّةُ الجدّ إلى حيث إنسانية السبط « حسينٌ مِنّي »، وفي هذا المعنى يقول السيّد الطباطبائي ( يقصد السيّد مهدي بحر العلوم، في ديوانه: العقود الاثنا عشر:27 ): ـ
غَرسٌ سَقـاه رسولُ اللهِ مِـن يَـدِهِ | وطابَ مِن بَعدِ طِيبِ الأصلِ فارعُهُ |
أمّا الكتاب
فهو سيلٌ من الأفكار، رشحاتٌ من القديم والجديد، وسيلٌ من المشاعر والعواطف المسيحيّة العيسويّة والمحمّدية المصطفويّة، لا يجد المؤلّف بارا خلال هذه وتلك تعارضاً وإن دعاه الإسلام إلى أمرٍ أسمى، فلعلّ له حنيناً إلى الجذور وإن خُرِمت وشُوّهت.
وعلى أيّة حال، هو يلتقي مع عيسى المسيح ومحمّد المصطفى صلوات الله عليهما في الإمام الحسين عليه السلام؛ إذ يجدُه حفيداً للنبيّ هو منه وهما نورٌ واحد، ويجدُه قام للحقّ والخير والهداية والنور كالمسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام فكانا في طريقٍ واحد، فلا تضادَّ أبداً أن يعشقَ عيسى والحسين معاً، ويقدّسهما ويراها رجلَينِ إلهيَّين، قاما لله، واستُشهِدا في سبيل الله، معتقداً أنّ عيسى عليه السلام كان شهيداً أيضاً لا كما نعتقد أنّ الله تعالى رفعه إليه ليعود ينصر حفيد الحسين المهديَّ الموعود عليه السلام.
وفصول الكتاب هي مهمّة في مواضيعها، وما جاء فيها من نصوص ونتائج في الكثير من مواضعها، وهذه عناوينها:
ـ ثورة الحسين.. لمَن ؟
ـ فداء الحسين في الفكر المسيحي.
ـ ثورة الوحي الإلهي.
ـ معجزات الشهادة...
ـ الأسباب البعيدة والقريبة للثورة الحسينية.
ـ في عهد يزيد، الخروج.
ـ آخر أقوال سيّد الشهداء ومواقفه.
ـ مقتل الحسين!
ـ المسيح.. هل تنبّأ بالحسين ؟!
ـ كربلاء.. الأرض المقدّسة.
ـ سموّ الشهادة في علم الجمال.
ـ ضمير الأديان.. أفضالٌ وألقاب.
ـ مقتطفات وآراء ( وقد اقتطفها من كتبٍ ومقالات، بعضها لمسيحيّين ).
ما زلنا
ننتظر منذ أن صدر هذا الكتاب في سنة 1979م، أن يرشح يراع الأستاذ أنطون بارا بشيءٍ من الفكر المسيحيّ الحرّ حول النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم، وأهل بيته وآله الكرام عليهم أفضل الصلاة والسلام، لكنّنا لم يصلنا شيء، ولعلّ المانع غيرُ ما يُظَنّ!
فهو سيلٌ من الأفكار، رشحاتٌ من القديم والجديد، وسيلٌ من المشاعر والعواطف المسيحيّة العيسويّة والمحمّدية المصطفويّة، لا يجد المؤلّف بارا خلال هذه وتلك تعارضاً وإن دعاه الإسلام إلى أمرٍ أسمى، فلعلّ له حنيناً إلى الجذور وإن خُرِمت وشُوّهت.
وعلى أيّة حال، هو يلتقي مع عيسى المسيح ومحمّد المصطفى صلوات الله عليهما في الإمام الحسين عليه السلام؛ إذ يجدُه حفيداً للنبيّ هو منه وهما نورٌ واحد، ويجدُه قام للحقّ والخير والهداية والنور كالمسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام فكانا في طريقٍ واحد، فلا تضادَّ أبداً أن يعشقَ عيسى والحسين معاً، ويقدّسهما ويراها رجلَينِ إلهيَّين، قاما لله، واستُشهِدا في سبيل الله، معتقداً أنّ عيسى عليه السلام كان شهيداً أيضاً لا كما نعتقد أنّ الله تعالى رفعه إليه ليعود ينصر حفيد الحسين المهديَّ الموعود عليه السلام.
وفصول الكتاب هي مهمّة في مواضيعها، وما جاء فيها من نصوص ونتائج في الكثير من مواضعها، وهذه عناوينها:
ـ ثورة الحسين.. لمَن ؟
ـ فداء الحسين في الفكر المسيحي.
ـ ثورة الوحي الإلهي.
ـ معجزات الشهادة...
ـ الأسباب البعيدة والقريبة للثورة الحسينية.
ـ في عهد يزيد، الخروج.
ـ آخر أقوال سيّد الشهداء ومواقفه.
ـ مقتل الحسين!
ـ المسيح.. هل تنبّأ بالحسين ؟!
ـ كربلاء.. الأرض المقدّسة.
ـ سموّ الشهادة في علم الجمال.
ـ ضمير الأديان.. أفضالٌ وألقاب.
ـ مقتطفات وآراء ( وقد اقتطفها من كتبٍ ومقالات، بعضها لمسيحيّين ).
ما زلنا
ننتظر منذ أن صدر هذا الكتاب في سنة 1979م، أن يرشح يراع الأستاذ أنطون بارا بشيءٍ من الفكر المسيحيّ الحرّ حول النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم، وأهل بيته وآله الكرام عليهم أفضل الصلاة والسلام، لكنّنا لم يصلنا شيء، ولعلّ المانع غيرُ ما يُظَنّ!
تعليق