بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على محمدٍ وآل محمد وعجلّ فرجهم ياكريم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام ) في إحدى خُطبه: «فما خُلقتُ ليشغلني أكلُ الطيّبات كالبهيمة المرعيّة همُّها علفُها، أو السائمة همُّها لُقَمُها تترشَّق من أعلافها وتلهو عمَّا يُراد بها»(1) وهو الذبح.
إنَّ الله تعالى لم يخلق السماوات والأرض عبثاً، وكذلك الإنسان، بمعنى أنَّ هذا الإنسان غير متروك ليحيا حياته بطريقة عبثية، بل هو مسؤول ويُسأل عن أفعاله.
يقول تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} (الصافات: 24). كل الناس مسؤولون عن أفعالهم، وطبعاً، هناك استثناءات كالصبي والصبية غير المكلَّفين، والمجنون. أما الكلام هنا فعمّن تتوفّر فيهم الصفات التي حدّدها الله للإنسان المسؤول، يقول تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الحجر: 92ـ 93)، أي عن عملهم بالتكاليف الإلهيّة، ولا يكلّف الله نفساً إلا وسعها. النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيَّته»(2). فالأمير على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رعيّته. والرجل راعٍ على أهل بيته، وهو مسؤول عنهم. والمرأة راعية بعلها وولدها، وهي مسؤولة عنهما.
وفي كلام آخر لأمير المؤمنين (عليه السلام): «اتقوا الله في بلاده وعباده، فإنَّكم مسؤولون عن البقاع والبهائم» (3). وهذا ما نسميه اليوم: الثروات الطبيعية والحيوانية.. ومسؤولية الإنسان متعدّدة الاتجاهات: فهناك مسؤوليات تجاه نفسه وبدنه وحاجاته الجسدية، وتجاه روحه وحاجاته الروحية والنفسية. وهناك مسؤولية تجاه عائلته والأقرباء، وأهل قريته ووطنه، ومسؤولية تجاه البشرية. وهناك مسؤولية تجاه الدين والقيم.. ويجب أن يتحمل الإنسان مسؤوليته بقدر ما يستطيع، لأن الله لا يُحمِّل نفساً إلا وسعها.
هذا يعني:
1ـ أن يعرف الإنسان تكليفه والمسؤوليات الملقاة على عاتقه.
2ـ أن يعرف شكل وروح المسؤولية ليبادر ويعمل ويتحمَّل ويجاهد في تحمّلها..
3ـ أن يعمل ما تقتضيه هذه المسؤولية، حتى إذا سُئل ـ يوم القيامة ـ تكون أجوبته كفيلة بأن تُدخله الجنة.
* المسؤولية تجاه العائلة
أما موضوع حديثنا فهو المسؤولية تجاه العائلة. وهذا الموضوع ينبع من باب الحاجة إلى التوجيه النبويِّ الرسالي، نتيجة ابتعاد مجتمعاتنا عن القيم الدينية والإلهية، ونتيجة تطوّر عالم الاتصالات وغزو التقاليد الغربية لمجتمعاتنا وتقاليدنا، فالوارد إلينا هو خطر ومدمّر.
تتضمّن العائلة أو الأسرة، التي يسمّيها الإسلام بالحلقة الأضيق، الأب والأم والزوجة والأولاد. وهناك شبهة عند الناس في هذا الموضوع، فهم يفترضون أن الحلقة الأضيق هي الزوجة والأولاد. وبعضهم يفترضون أنهم عندما يستقلون في حياتهم، فالوالد والوالدة أصبحا خارج الدائرة الأضيق، وهذا فهم خاطئ.
نأتي إلى النظرة الإسلامية في الموضوع الاجتماعي، إن على صعيد الفرد أو على صعيد العائلة، فرؤية الإسلام ترتكز إليهما بلحاظ:
1ـ أنّ الفرد هو أصل الإنسان، لذلك نجد كل تعاليم الإسلام وتشريعاته، وتعاليم الأنبياء(ع)، كلها تركّز على تربيته وتنشئته.
2ـ أن العائلة هي في نظر رسالات السماء أساس تكوين أي مجتمع إنساني، وفي أي مدينة أو أي وطن. أمّا في حالة أفراد مفكّكين، فيفقد المجتمع البشري طبيعته وينتج بدلاً عنه مجتمع منحرف لا يستطيع الاستمرار والبقاء.
فالعائلة، ولو في إطارها الضيّق، عندما تكون متعاونة متراحمة، فهي تشكل خلايا البيئة الاجتماعية السويّة، وهذا ينعكس على المجتمع كله. من هنا تأتي التعاليم والرسالات لتؤكِّد على الزواج، الذي هو مستحب، بل واجب في بعض الأحيان. الإسلام يتحدّث عن انتقاء الزوج والزوجة، وتسهيلات الزواج، وتقديمات الزواج، والحفاظ على الأسرة وبقائها، وتوزيع المسؤوليات داخل الأسرة، كما يذكر تعقيدات موضوع الطلاق.
* أزمة العائلة في الغرب
ابتلاءاتنا في المجتمع، هي فيما يأتينا من الغرب؛ ففي الغرب هناك مأساة على المستوى النفسي، برغم التطور العلمي الهائل والحجم العسكري المتزايد، وسنشهد، خلال السنوات المقبلة، أزمات حادة جداً في هذه الدول. إنّ ما نقرؤه من تقارير ودراسات حول مجتمعاتهم، والذي يعكسونه في الأفلام السينمائية التي يصدّرونها إلى العالم العربي والإسلامي، كله يتحدث عن تفكّك الأسرة، وارتفاع هائل في نسبة العزوبية. فلا يوجد تكوين أسرة وعائلة طالما يظن الرجل والمرأة أنهما يستطيعان تأدية حاجاتهما الجسدية خارج إطار الأسرة، نتيجة الإباحية التي تنتشر في تلك المجتمعات. وهناك ارتفاع في نسبة الطلاق، ونسبة المولودين خارج الزواج الشرعي، حتى خارج الزواج المدني المتداول عندهم. وهذا ما يؤدي إلى آثار روحية واجتماعية وأمنية سيئة جداً.
هناك، عندما يكبر الوالدان، لا يسأل الأولاد عنهما، وإن سألوا يرمونهما في دور العجزة. وعندما يموتان تتكفل البلدية بدفنهما. وهذا ما يُريدون نقله إلينا!
وإذا دخلنا إلى الدائرة الأضيق (الأسرة) عندنا، ومن خلال بعض التوجيهات النبوية والإسلامية، يمكن تجزئة هذه الدائرة الصغرى إلى ثلاثة أجزاء:
1ـ الوالدان.
2ـ الأولاد.
3ـ الزوج والزوجة.
* الوالدان والعناية الإلهية
وسيقتصر حديثنا في الآتي عن الوالدين اللذين نالا عناية إلهية خاصة. يقول الله عزّ وجلّ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَ تَعْبُدُوا إِلاَ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً*وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} (الإسراء: 24).
إن الله، مباشرةً، انتقل من الدعوة إلى عبادته وحده إلى الأمر بالإحسان للوالدين، وذلك لنرى المرتبة العظيمة لهما. فالبِرّ بالوالدين يرقى إلى مستوى توحيد الله. ويضاف إلى هذا الفهم في إدراك أهمية العلاقة بالوالدين أمور عديدة أيضاً منها:
- أوّلاً: الإرشاد والتوجيه الإلهي.
إنّ الإرشاد والتوجيه الإلهي للإحسان بالوالدين، له مساحته الإنسانية، فلا يشترط في الوالدين أن يكونا مسلمَين. حتى إن كانا مشركَيْن فالمسؤولية لا تسقط. البِرّ والإحسان يرتفعان للمؤمنين وغير المؤمنين. وإن كان هناك اختلاف مذهبي كأن ينتقل الابن إلى مذهب فيقاطع أهله، هذا لا يجوز. أو كانوا من نفس الدين والمذهب، واختلفوا في الرأي السياسي كالانتخابات البلدية والنيابية، فهذا غير جائز، بل معيب. يقول الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} (لقمان: 15). وفي أكثر من حديث: «بِرُّ الوالدين واجب، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (4).
- ثانياً: مسؤولية حتى آخر العمر
التأكيد على المسؤولية تجاه الوالدين، ليس فقط في شبابهما، وإذا عجزا نتركهما. فعندما يكبران في السنِّ تصبح المسؤولية آكد. حتى بعد وفاتهما علينا أن ندعو لهما: «اللّهمّ اغفِر لي ولوالديَّ وارحمهما كما ربياني صغيراً واجزهما بالإحسان إحساناً، وبالسيّئات عفواً وغفرانا»(5).
جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: «أوصني، يا رسول الله.
فمن جملة الوصية قال له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): ووالديك فأطعهما وبِرَّهما حيَّيْن كانا أو ميتيْن» (6).
وفي الحديث: «ما يمنع الرجل منكم أن يبرَّ والديه حيَّيْن وميتيْن، يصلي عنهما، ويتصدق ويصوم ويحجّ عنهما، فيكون الذي صنع لهما، وله مثل ذلك فيزيده الله ببرّه وصلته أجراً كثيراً» (7). فالأب والأم هما نعمة، حيَّيْن أو ميّتيْن.
- ثالثاً: حق أمك وحق أبيك
فقد أكّد الدِّين الإسلامي على مقام الوالدين، خصوصاً الأم التي أُعطيت مكانة مميّزة. فعن الإمام زين العابدين (عليه السلام)، في رسالة الحقوق: «أمّا حقُّ أبيك أن تعلم أنه أصلك، وأنك لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك، فاعلم أن أباك أصلُ النعمة عليك فيه. فاحمد الله واشكره على ذلك، ولا قوة إلا بالله. أمّا حقّ أُمّك فأن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يُعطي أحد أحداً، ووقتْك بجميع جوارحها ولم تُبالِ أن تجوع وتُطعمك وتعطش وتسقيك، وتعرى هي وتكسيك، وتضحى هي وتُظللك، وتهجر النوم لأجلك» (8). وفي حديث، ما مضمونه أن شخصاً حمل والدته على كتفيه وراح يطوف بها الكعبة، وعندما رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سأله: هل أدَّيت حقَّها، يا رسول الله؟
فيقول له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا ولا بزفرة واحدة» (9).
ومن الأحاديث المعروفة في حق الأم: «الجنة تحت أقدام الأمهات..» (10). «أُمُّك ثم أُمُّك، ثم أبوك» (11).
كما جاء عن النبي موسى بن عمران (عليه السلام): قال: «يا ربّ، أوصني. قال: أُوصيك بأُمِّك. قال: أوصني. قال: أُوصيك بأُمِّك. قال: أوصني. قال: أُوصيك بأُمِّك. قال: أوصني. قال: أُوصيك بأبيك» (12).
وسأل أحدهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حق الوالدين على ولدهما فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «هما جنَّتُك ونارُك» (13).
كيفيّة برّ الوالدين
تأسيساً على هذا الفهم على مستوى الآيات والروايات، نخلص إلى أنَّ ما هو مطلوب من الأبناء تجاه الوالدين أمور عديدة أهمها:
1ـ الحدّ الأدنى عدم إيذائهما وهذا أضعف الإيمان. {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}. ولو أنَّ الله وجد في الوقائع واللغة، أخفّ من كلمة «أفّ» لاستخدمها في الآية. {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا}: لا ترفع صوتك فوق صوتهما. لا تنظر إليهما إلا برحمة، لا تتقدَّم، في مشيتك، عليهما، ولا تدخل المنزل قبلهما.
2ـ إطاعتهما وعدم معصيتهما في شيء إلا إذا كان تركاً لواجب أو فعلاً لحرام. فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولو كان هذا المخلوق أماً أو أباً. أما موضوع الجهاد ـ وهذا موضوع كبير وخطير ـ فالجهاد الواجب لا يحتاج إلى إذن الوالدين، ومع ذلك فللوالدين مكانة عظيمة عند الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد ورد أنه قد جاء أحدهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال له: إني أحب الجهاد وصحتي وعافيتي جيدة، وما زلت شاباً. ولكنّ والدتي لا ترتاح لذهابي إلى الجبهة. فماذا أفعل، يا رسول الله؟
فأجابه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «ارجع وكن مع والدتك، فوالذي بعثني بالحقِّ، لأنسُها بك ليلةً خير من جهادك سنة» (14).
طبعاً هذا بالنسبة للجهاد المستحب، ولا يتعلق بالجهاد الواجب.
3ـ الشكر والدعاء والاستغفار لهما. وبعض الآيات تحضُّ على ذلك.
4ـ احترامهما والإحسان إليهما: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (البقرة: 83). ومن العادات الطيبة في القرى، كان تقبيل يد الوالدين. يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «إياك وعقوق الوالدين، فإن ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام»(15). لكن العاق لوالديه لا يشم هذه الريح الطيبة، فهو بعيد عن الجنة مسيرة ألف عام.
يقول الحديث الشريف: «برُّوا آباءكم يبرُّكم أبناؤكم» (16).
نسأل الله سبحانه وتعالى ببركة الحسين (عليه السلام)، وبهذه التعاليم والقيم التي حفظها لنا الحسين (عليه السلام)، أن يعرِّفنا تكليفنا ومسؤوليتنا، وأن يجعلنا حقاً ممّن يؤدّون هذا الواجب العظيم، تجاه الوالدين في حياتهما ومماتهما.
ـــــــــــــــــ
الهوامش:
(*) كلمة ألقاها سماحة السيد حسن نصر الله في الليلة السابعة من محرم 1432هـ.
(1) نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج 3، كتاب رقم 45،ص 72.
(2) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 72، ص 38.
(3) نهج البلاغة، م. س، ج 2، خطبة رقم 167، ص 80.
(4) المبسوط، الشيخ الطوسي، ج 7، ص 41.
(5) المقنعة، الشيخ المفيد، ص 131.
(6) الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 158.
(7) م. ن، ص 159.
(8) الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 453.
(9) شرح رسالة الحقوق، حسن القبانجي، ص 547.
(10) جامع أحاديث الشيعة، السيد البروجردي، ج 21، ص 428.
(11) بحار الأنوار، م. س، ج 71، ص 49.
(12) الأمالي، م. س، ص 601.
(13) ميزان الحكمة، الريشهري، ج 4، ص 3674.
(14) الكافي، م. س، ج 2، ص 163.
(15) م، ن. ص 349.
(16) الأمالي، م. س، ص 364.
سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله)
اللهم صلِّ على محمدٍ وآل محمد وعجلّ فرجهم ياكريم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام ) في إحدى خُطبه: «فما خُلقتُ ليشغلني أكلُ الطيّبات كالبهيمة المرعيّة همُّها علفُها، أو السائمة همُّها لُقَمُها تترشَّق من أعلافها وتلهو عمَّا يُراد بها»(1) وهو الذبح.
إنَّ الله تعالى لم يخلق السماوات والأرض عبثاً، وكذلك الإنسان، بمعنى أنَّ هذا الإنسان غير متروك ليحيا حياته بطريقة عبثية، بل هو مسؤول ويُسأل عن أفعاله.
يقول تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} (الصافات: 24). كل الناس مسؤولون عن أفعالهم، وطبعاً، هناك استثناءات كالصبي والصبية غير المكلَّفين، والمجنون. أما الكلام هنا فعمّن تتوفّر فيهم الصفات التي حدّدها الله للإنسان المسؤول، يقول تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الحجر: 92ـ 93)، أي عن عملهم بالتكاليف الإلهيّة، ولا يكلّف الله نفساً إلا وسعها. النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيَّته»(2). فالأمير على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رعيّته. والرجل راعٍ على أهل بيته، وهو مسؤول عنهم. والمرأة راعية بعلها وولدها، وهي مسؤولة عنهما.
وفي كلام آخر لأمير المؤمنين (عليه السلام): «اتقوا الله في بلاده وعباده، فإنَّكم مسؤولون عن البقاع والبهائم» (3). وهذا ما نسميه اليوم: الثروات الطبيعية والحيوانية.. ومسؤولية الإنسان متعدّدة الاتجاهات: فهناك مسؤوليات تجاه نفسه وبدنه وحاجاته الجسدية، وتجاه روحه وحاجاته الروحية والنفسية. وهناك مسؤولية تجاه عائلته والأقرباء، وأهل قريته ووطنه، ومسؤولية تجاه البشرية. وهناك مسؤولية تجاه الدين والقيم.. ويجب أن يتحمل الإنسان مسؤوليته بقدر ما يستطيع، لأن الله لا يُحمِّل نفساً إلا وسعها.
هذا يعني:
1ـ أن يعرف الإنسان تكليفه والمسؤوليات الملقاة على عاتقه.
2ـ أن يعرف شكل وروح المسؤولية ليبادر ويعمل ويتحمَّل ويجاهد في تحمّلها..
3ـ أن يعمل ما تقتضيه هذه المسؤولية، حتى إذا سُئل ـ يوم القيامة ـ تكون أجوبته كفيلة بأن تُدخله الجنة.
* المسؤولية تجاه العائلة
أما موضوع حديثنا فهو المسؤولية تجاه العائلة. وهذا الموضوع ينبع من باب الحاجة إلى التوجيه النبويِّ الرسالي، نتيجة ابتعاد مجتمعاتنا عن القيم الدينية والإلهية، ونتيجة تطوّر عالم الاتصالات وغزو التقاليد الغربية لمجتمعاتنا وتقاليدنا، فالوارد إلينا هو خطر ومدمّر.
تتضمّن العائلة أو الأسرة، التي يسمّيها الإسلام بالحلقة الأضيق، الأب والأم والزوجة والأولاد. وهناك شبهة عند الناس في هذا الموضوع، فهم يفترضون أن الحلقة الأضيق هي الزوجة والأولاد. وبعضهم يفترضون أنهم عندما يستقلون في حياتهم، فالوالد والوالدة أصبحا خارج الدائرة الأضيق، وهذا فهم خاطئ.
نأتي إلى النظرة الإسلامية في الموضوع الاجتماعي، إن على صعيد الفرد أو على صعيد العائلة، فرؤية الإسلام ترتكز إليهما بلحاظ:
1ـ أنّ الفرد هو أصل الإنسان، لذلك نجد كل تعاليم الإسلام وتشريعاته، وتعاليم الأنبياء(ع)، كلها تركّز على تربيته وتنشئته.
2ـ أن العائلة هي في نظر رسالات السماء أساس تكوين أي مجتمع إنساني، وفي أي مدينة أو أي وطن. أمّا في حالة أفراد مفكّكين، فيفقد المجتمع البشري طبيعته وينتج بدلاً عنه مجتمع منحرف لا يستطيع الاستمرار والبقاء.
فالعائلة، ولو في إطارها الضيّق، عندما تكون متعاونة متراحمة، فهي تشكل خلايا البيئة الاجتماعية السويّة، وهذا ينعكس على المجتمع كله. من هنا تأتي التعاليم والرسالات لتؤكِّد على الزواج، الذي هو مستحب، بل واجب في بعض الأحيان. الإسلام يتحدّث عن انتقاء الزوج والزوجة، وتسهيلات الزواج، وتقديمات الزواج، والحفاظ على الأسرة وبقائها، وتوزيع المسؤوليات داخل الأسرة، كما يذكر تعقيدات موضوع الطلاق.
* أزمة العائلة في الغرب
ابتلاءاتنا في المجتمع، هي فيما يأتينا من الغرب؛ ففي الغرب هناك مأساة على المستوى النفسي، برغم التطور العلمي الهائل والحجم العسكري المتزايد، وسنشهد، خلال السنوات المقبلة، أزمات حادة جداً في هذه الدول. إنّ ما نقرؤه من تقارير ودراسات حول مجتمعاتهم، والذي يعكسونه في الأفلام السينمائية التي يصدّرونها إلى العالم العربي والإسلامي، كله يتحدث عن تفكّك الأسرة، وارتفاع هائل في نسبة العزوبية. فلا يوجد تكوين أسرة وعائلة طالما يظن الرجل والمرأة أنهما يستطيعان تأدية حاجاتهما الجسدية خارج إطار الأسرة، نتيجة الإباحية التي تنتشر في تلك المجتمعات. وهناك ارتفاع في نسبة الطلاق، ونسبة المولودين خارج الزواج الشرعي، حتى خارج الزواج المدني المتداول عندهم. وهذا ما يؤدي إلى آثار روحية واجتماعية وأمنية سيئة جداً.
هناك، عندما يكبر الوالدان، لا يسأل الأولاد عنهما، وإن سألوا يرمونهما في دور العجزة. وعندما يموتان تتكفل البلدية بدفنهما. وهذا ما يُريدون نقله إلينا!
وإذا دخلنا إلى الدائرة الأضيق (الأسرة) عندنا، ومن خلال بعض التوجيهات النبوية والإسلامية، يمكن تجزئة هذه الدائرة الصغرى إلى ثلاثة أجزاء:
1ـ الوالدان.
2ـ الأولاد.
3ـ الزوج والزوجة.
* الوالدان والعناية الإلهية
وسيقتصر حديثنا في الآتي عن الوالدين اللذين نالا عناية إلهية خاصة. يقول الله عزّ وجلّ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَ تَعْبُدُوا إِلاَ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً*وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} (الإسراء: 24).
إن الله، مباشرةً، انتقل من الدعوة إلى عبادته وحده إلى الأمر بالإحسان للوالدين، وذلك لنرى المرتبة العظيمة لهما. فالبِرّ بالوالدين يرقى إلى مستوى توحيد الله. ويضاف إلى هذا الفهم في إدراك أهمية العلاقة بالوالدين أمور عديدة أيضاً منها:
- أوّلاً: الإرشاد والتوجيه الإلهي.
إنّ الإرشاد والتوجيه الإلهي للإحسان بالوالدين، له مساحته الإنسانية، فلا يشترط في الوالدين أن يكونا مسلمَين. حتى إن كانا مشركَيْن فالمسؤولية لا تسقط. البِرّ والإحسان يرتفعان للمؤمنين وغير المؤمنين. وإن كان هناك اختلاف مذهبي كأن ينتقل الابن إلى مذهب فيقاطع أهله، هذا لا يجوز. أو كانوا من نفس الدين والمذهب، واختلفوا في الرأي السياسي كالانتخابات البلدية والنيابية، فهذا غير جائز، بل معيب. يقول الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} (لقمان: 15). وفي أكثر من حديث: «بِرُّ الوالدين واجب، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (4).
- ثانياً: مسؤولية حتى آخر العمر
التأكيد على المسؤولية تجاه الوالدين، ليس فقط في شبابهما، وإذا عجزا نتركهما. فعندما يكبران في السنِّ تصبح المسؤولية آكد. حتى بعد وفاتهما علينا أن ندعو لهما: «اللّهمّ اغفِر لي ولوالديَّ وارحمهما كما ربياني صغيراً واجزهما بالإحسان إحساناً، وبالسيّئات عفواً وغفرانا»(5).
جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: «أوصني، يا رسول الله.
فمن جملة الوصية قال له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): ووالديك فأطعهما وبِرَّهما حيَّيْن كانا أو ميتيْن» (6).
وفي الحديث: «ما يمنع الرجل منكم أن يبرَّ والديه حيَّيْن وميتيْن، يصلي عنهما، ويتصدق ويصوم ويحجّ عنهما، فيكون الذي صنع لهما، وله مثل ذلك فيزيده الله ببرّه وصلته أجراً كثيراً» (7). فالأب والأم هما نعمة، حيَّيْن أو ميّتيْن.
- ثالثاً: حق أمك وحق أبيك
فقد أكّد الدِّين الإسلامي على مقام الوالدين، خصوصاً الأم التي أُعطيت مكانة مميّزة. فعن الإمام زين العابدين (عليه السلام)، في رسالة الحقوق: «أمّا حقُّ أبيك أن تعلم أنه أصلك، وأنك لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك، فاعلم أن أباك أصلُ النعمة عليك فيه. فاحمد الله واشكره على ذلك، ولا قوة إلا بالله. أمّا حقّ أُمّك فأن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يُعطي أحد أحداً، ووقتْك بجميع جوارحها ولم تُبالِ أن تجوع وتُطعمك وتعطش وتسقيك، وتعرى هي وتكسيك، وتضحى هي وتُظللك، وتهجر النوم لأجلك» (8). وفي حديث، ما مضمونه أن شخصاً حمل والدته على كتفيه وراح يطوف بها الكعبة، وعندما رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سأله: هل أدَّيت حقَّها، يا رسول الله؟
فيقول له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا ولا بزفرة واحدة» (9).
ومن الأحاديث المعروفة في حق الأم: «الجنة تحت أقدام الأمهات..» (10). «أُمُّك ثم أُمُّك، ثم أبوك» (11).
كما جاء عن النبي موسى بن عمران (عليه السلام): قال: «يا ربّ، أوصني. قال: أُوصيك بأُمِّك. قال: أوصني. قال: أُوصيك بأُمِّك. قال: أوصني. قال: أُوصيك بأُمِّك. قال: أوصني. قال: أُوصيك بأبيك» (12).
وسأل أحدهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حق الوالدين على ولدهما فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «هما جنَّتُك ونارُك» (13).
كيفيّة برّ الوالدين
تأسيساً على هذا الفهم على مستوى الآيات والروايات، نخلص إلى أنَّ ما هو مطلوب من الأبناء تجاه الوالدين أمور عديدة أهمها:
1ـ الحدّ الأدنى عدم إيذائهما وهذا أضعف الإيمان. {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}. ولو أنَّ الله وجد في الوقائع واللغة، أخفّ من كلمة «أفّ» لاستخدمها في الآية. {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا}: لا ترفع صوتك فوق صوتهما. لا تنظر إليهما إلا برحمة، لا تتقدَّم، في مشيتك، عليهما، ولا تدخل المنزل قبلهما.
2ـ إطاعتهما وعدم معصيتهما في شيء إلا إذا كان تركاً لواجب أو فعلاً لحرام. فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولو كان هذا المخلوق أماً أو أباً. أما موضوع الجهاد ـ وهذا موضوع كبير وخطير ـ فالجهاد الواجب لا يحتاج إلى إذن الوالدين، ومع ذلك فللوالدين مكانة عظيمة عند الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد ورد أنه قد جاء أحدهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال له: إني أحب الجهاد وصحتي وعافيتي جيدة، وما زلت شاباً. ولكنّ والدتي لا ترتاح لذهابي إلى الجبهة. فماذا أفعل، يا رسول الله؟
فأجابه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «ارجع وكن مع والدتك، فوالذي بعثني بالحقِّ، لأنسُها بك ليلةً خير من جهادك سنة» (14).
طبعاً هذا بالنسبة للجهاد المستحب، ولا يتعلق بالجهاد الواجب.
3ـ الشكر والدعاء والاستغفار لهما. وبعض الآيات تحضُّ على ذلك.
4ـ احترامهما والإحسان إليهما: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (البقرة: 83). ومن العادات الطيبة في القرى، كان تقبيل يد الوالدين. يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «إياك وعقوق الوالدين، فإن ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام»(15). لكن العاق لوالديه لا يشم هذه الريح الطيبة، فهو بعيد عن الجنة مسيرة ألف عام.
يقول الحديث الشريف: «برُّوا آباءكم يبرُّكم أبناؤكم» (16).
نسأل الله سبحانه وتعالى ببركة الحسين (عليه السلام)، وبهذه التعاليم والقيم التي حفظها لنا الحسين (عليه السلام)، أن يعرِّفنا تكليفنا ومسؤوليتنا، وأن يجعلنا حقاً ممّن يؤدّون هذا الواجب العظيم، تجاه الوالدين في حياتهما ومماتهما.
ـــــــــــــــــ
الهوامش:
(*) كلمة ألقاها سماحة السيد حسن نصر الله في الليلة السابعة من محرم 1432هـ.
(1) نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج 3، كتاب رقم 45،ص 72.
(2) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 72، ص 38.
(3) نهج البلاغة، م. س، ج 2، خطبة رقم 167، ص 80.
(4) المبسوط، الشيخ الطوسي، ج 7، ص 41.
(5) المقنعة، الشيخ المفيد، ص 131.
(6) الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 158.
(7) م. ن، ص 159.
(8) الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 453.
(9) شرح رسالة الحقوق، حسن القبانجي، ص 547.
(10) جامع أحاديث الشيعة، السيد البروجردي، ج 21، ص 428.
(11) بحار الأنوار، م. س، ج 71، ص 49.
(12) الأمالي، م. س، ص 601.
(13) ميزان الحكمة، الريشهري، ج 4، ص 3674.
(14) الكافي، م. س، ج 2، ص 163.
(15) م، ن. ص 349.
(16) الأمالي، م. س، ص 364.
سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله)
تعليق