بسم الله الرحمن الرحيم
(قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم ويحفظوا فروجهم، ذلك ازكى لهم، ان الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمورهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن او آبائهن او آباء بعولتهن، او ابنائهن او ابناء بعولتهن او اخوانهن او بني اخوانهن او بني اخواتهن او نسائهن او ما ملكت ايمانهن، او التابعين غير اولي الاربة من الرجال او الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن، وتوبوا الى الله جميعاً ايها المؤمنون لعلكم تفلحون)
نص قرآني صريح في وجوب الحجاب، وهو أمر الله الذي لن يتردد مؤمن ولا مؤمنه في وجوب الخضوع له ووجوب الاستمساك به، وهو ضمان الله للمؤمنين بان ذلك ازكى لنفوسهم واطهر لمجتمعهم وانقى لعلاقاتهم، ضمان الله لهم بذلك، فلا يختلف في وقت ولا يتغير في حال.
هذه بعض اوصاف المجتمع الراقي العادل الذي اراده الله سبحانه للبشرية يوم اهلها للخلافة في ارضه، واختصها بالكرامة من بين مخلوقاته، فشرع لها الدين، وميزها بالعقل، وحباها بالمعرفة، وكرمها بالعلم.
إن الاسلام يربأ بالمسلم والمسلمة ان تكون العلاقة بينهما علاقة حيوان بحيوانة، ويأنف لهما ان تهبط بهما المجموعة الجنسية الى دركها الاسفل الارذل، ويسمو فيها ان تعلق هذه الخاطرة بروعهما.
والمرأة نصف المجتمع البشري على ادنى التقادير، والويل للمجتمع اذا كانت الصلة ما بين نصفيه هذه الصلة المنحطة المخزية،
والويل للمجتمع اذا سيطرت الشهوة على آحاده وتغلغت في ابعاده، فزاغت بالناس عما يجب, وقادتهم الى ما لا يحسن،
والويل للمجتمع اذا انفلتت فيه ازمة الأخلاق، ووهنت فيه قوة الارادة واضطربت كفة التوازن.
أن النظرة الخائنة الجائعة اول انبعاث للشهوة واول موقظ للفتنة، وهي الرائد الذي يجوس الديار ويمهد السبيل، فلابد للاسلام من ان يأخذ الحيطة لها اذا كان جاداً في بلوغ غايته، لا بديل له عن ذلك لأنه الطريق الوحيد اليها، ومحال عليه ان يوصد باب الفتنة وهو لا يحسب لهذه النظرات حسابها.
وهكذا صنع … وهكذا قال:
قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم … وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن.
يأمر الرجال والنساء من المؤمنين بسد هذه الذريعة واغلاق هذه النافذة، ويبدأ بأقوى الجنسين اندفاعاً واسرعهما انفعالا واصرحهما تعبيراً.
ان خفر المرأة وفرط حيائها يصونها من ان تكون هي المبتدئة في هذا المجال، وان الرجل اذا غض بصره وملك امره وابدى اتزانه... فقد انهار اكبر الدواعي لتبرج المرأة... فانها لن تتبرج ولن تبدي زينتها ولن تعرض فتنتها واغراءها إلا لتلفت نظرة الرجل وتنتزع اعجابه.
ينذر الرجال اولا بأن يغضوا ابصارهم عن النظر المحرم، ثم يعطف على النساء كذلك بانذار مستأنف جديد، ولو انه جمع الفريقين معاً بقول واحد لأوفى على الغاية شأنه في غالب الاحكام التي تشترك فيها النساء والرجال، غير ان الامر هاهنا امر صيانة وحفاظ، وتطهير لعلاقات مهمة قوية تنعقد بين القلوب، وترتسم ظلالها على الأعمال، وتبقى آثارها في الأجيال، فهو لذلك مفتقر الى مزيد من الصراحة والى مزيد من التأكيد.
الى صراحة تبعد بالحديث عن التأويل، والى تاكيد يمنع به الامر عن التساهل، ينذر الفريقين على انفراد، وينذرهما على اجتماع، ويسوق لهما ضروب التحذير وضروب التبشير.
هذا هو الاحتياط الأول الذي اتخذه التشريع الاسلامي للأمر.
ثم لنفرض ان رجال المؤمنين ونساءهم امتثلوا جميعاً هذا الامر. فغض الرجال المؤمنون من ابصارهم. وغضت النساء المؤمنات من ابصارهن. فهل يفي هذا وحده بسد الذرائع جميعاً؟.
الذرائع التي تنتهي بالمرء وبالمرأة الى هذه المباءة؟.والنظرات الطائشة التي تلقى دون قصد فتقع على ما يثير؟ وعمل هذه النظرات غير المقصودة في التمهيد لما يعقبها من نظر، والتمكين لما يتبعها من خطر؟.
ان هذا باب لا يوصده التشريع الأول، ولأبداء الزينة وعرض المفاتن عمل كبير في اغتصاب النظرة وتنبيه الغريزة وتحريك الفتنة، وطباع ابن آدم تفتن في التردي كما تفتن في الاعتلاء، وتعني بطرائق الاغواء كما تعني بطرائق الهداية.
فماذا يجدي ازاء ذلك كله غير فرض الحجاب؟.
فرض ان لا تتبرج المرأة المسلمة ولا تبدي زينتها إلا ما ظهر منها.( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها.)
وما هذا الذي يظهر من الزينة بعد الحجاب؟.
خضاب في الكف، او خاتم في الأنامل، او ما يشبه هذين من زينة ظاهرة وغير فاتنة، اما اذا اوجب الفتنة فهو وغيره في التحريم سواء بسواء.
ثم ماذا؟.
ثم (ليضربن بخمورهن على جيوبهن). والخمار هو القناع الذي تغطي به المرأة رأسها، والجيب فتحة الثوب التي تلي صدرها، ليضربن بخمورهن على جيوبهن فلا يبين من رأس المرأة ولا من نحرها ولا من صدرها شيء للرائي ولا شبح للمتامل.
وحتى الهمسات الخفية والايماءات البعيدة لا بد من ان تقتلع جذورها ولا بد من ان تستأصل، ما دامت مظنة للاثارة او منفذاً للريب،( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن.)
انها كوة صغيرة جداً، ولكنها تتسع وتنداح وتكبر دائرتها اذا لم يتخذ لها اجراء.
نعم سيعظم امرها وتتسع دائرتها، فمن ورائها غريزة هذا الكائن العجيبة التي تغذي الوهم وتستثمر الخيال.
اعلمت أي مبلغ بلغه الاسلام وكتابه –القرآن - في هذا المجال؟.
انها ميادين فتنة, فلا مساغ فيها لهدنة.
بلى هي ميادين فتنة، ومن اجل ذلك حرص الاسلام على ان يضع الحدود فيها بدقة، ومن اجل ذلك ايضا وضع الحجاب عن المرأة حتى تؤمن هذه البوائق.
اقرأ الآية الكريمة مرة اخرى ثم انظر كيف رفعت الحجاب دون المحارم من الرجال، ودون من لا يحوم حوله ريب ممن سواهم.
وقد قال في القرآن عمن تقدم بهن الايام وينال منهن العمر حتى تزول منهن معالم الفتنة وحتى يأمن عوادي الجنس (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح ان يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة، وان يستعففن خير لهن والله سميع عليم)
ليس عليهن حرج في ان يضعن من ثيابهن المعدة للحجاب. وان رآهن الرجال الاجانب. ما دمن قد آمن الفتنة. وما دام الكبر قد صرف عنهن انظار الرجال. على ان لا يقصدن من وضع ثيابهن ان يتبرجن بزينة. اما اذا قصدن ذلك فانهن مسؤولات عن فعلهن ذلك.
مسؤولات لقصدهن ما لا يجوز لهن فعله. ومسؤولات لأن ذلك القصد منهن تحد للعفة التي فرضها عليهن الاسلام.
لقد انصرفت عنهن انظار الرجال فيما يعتقدن، ومن اجل ذلك ساغ لهن رفع الحجاب، ولكن ما يدريهن فربما كان هذا الوهم خاطئاً، فلعل فيهن بقية من هذا الاغراء، ولعل
في الرجال من تبلغ به عرامة الجنس، فيمتد الى مثلهن بالنظر، ومن اجل هذه الحالات المحتملة فليستعففن فلا يضعن من حجابهن شيئاً فان ذلك خير لهن والله سميع عليم.
ويمتد الخط مع أمن الفتنة خطوات، فيباح للرجل ان ينظر الى امرأة يريد التزوج بها، ويباح للطبيب ان ينظر مواقع الفحص والعلاج من جسد المريضة، ويباح النظر الى المرأة لانقاذها من الخطر اذا توقفت نجاتها عليه ، ويباح النظر الى المرأة اذا توقفت على النظر اليها اقامة عدل او استنقاذ حق.
واقول يمتد خط اباحة النظر الى المراة مع أمن الفتنة خطوات، لأن أمن الفتنة امر دقيق لا يقال إلا بحذر ولا يوضع إلا بقدر.
ومن خصائص دين الاسلام انه ينظر الى غرائز الكائن البشري والى ضروراته مجردة عن كل ما يكبح وعن كل ما يثير. ينظر الى الغرائز والدوافع بطبيعتها السليمة التي ركبت في الانسان وباقتضائها الصحيح السوي الذي تدعو اليه الحياة او بقاء الحياة دون ما زيادة ولا نقصان.
من خصائصه انه ينظر الى هذه البواعث معتدلة في التكوين ومعتدلة كذلك في الدعوة. فيضع لها حدودها على اساس العدل. ويشرع لها حقوقها على مبدأ التوازن.
العدل بين الغرائز والدوافع. التوازن في النشاط الحيوي للانسان. فيوجه لكل واحدة من الغرائز حصتها من النشاط دون سرف ولا تقتير.
اما الكبت والاغراق في الغريزة فان الاسلام يراهما كما يراهما العلم آفتين بالغتي الضرر، ولا بد لهما من العلاج. وهو يتحرى الاسباب الموجبة للاثارة او المقتضية للكبح فيدأب على ازاحتها واستيصال جذورها.
جذورها في نفس الفرد. وجذورها في عوائد المجتمع. ولقد رأينا كيف يتخذ الحيطة الكاملة عن الانطلاق في غريزة الجنس.
رأيناه كيف يحتاط لهذه الآفة حتى يستل آخر عرق من عروقها، كيف يحصن نفس الفرد ـ الذكر والأنثى على السواء ـ بالايمان القوي، والخلق المتزن، وبالسلوك الرضي، ثم يصونه عن كل ما يفتن وعن كل ما يثير،
وما الاغراق والانطلاق في هذه الغريزة وفي كل رغبة او غريزة سواها, لولا الفتنة ولولا الاثارة والتحريض.
ثم أن الأسلام يبتغي للفرد المصرفات النظيفة، فيحثه على الزواج الشرعي، ويفتح له ابوابه ويسهل عليه امره، ويفرضه عليه فرضاً في كثير من الاحيان، وعند خشية الوقوع في المحرم على الخصوص.
واما الكبت فيها، وهو ـ كما يقول العلماء النفسيون ـ اخماد الشعلة في النفس، واخماد ظهورها كذلك في منطقة التصور، اخمادها في كلتا المرحلتين حتى تختنق، وحتى
ترتد عقدة نفسية في منطقة [اللاشعور] وحتى تورث الانسان [عصابا] يتحكم عليه في سلوكه، ويقضي عليه بالشقاء في اكثر حالاته.
اما الكبت فقد حاربه الاسلام بكل اسبابه وبكل امتدادته، ومن اهم اسبابه الرهبانية التي عرفها المتدينون قبل مجيء الاسلام، وقد اهدرها هذا الدين منذ اول يوم من ايامه.
ومن يستقرئ احكام الزواج في هذا الدين ويطلع على نصوصه فيه وفي علله وآدابه يعلم جيداً كيف اقتلع علل الكبت واحدة واحدة، وطهر الفرد المسلم والمجتمع المسلم ومن اوضارها اثراً اثراً.
(يا ايها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك ادنى ان يعرفن فلا يؤذين، وكان الله غفوراً رحيما)
وهذا داء اجتماعي آخر يجعله القرآن سبباً للأمر بالحجاب.
ان ازواج الرسول صلى الله عليه وآله, وبناته ونساء المؤمنين اللاتي عاصرن النبوة ونزل ما بينهن القرآن قد تعالت انفسهن وارواحهن عن كل ما يخدش ويريب، فلقد محصتهن العقيدة وجلاهن الايمان وارتفعن بأدب الله وادب رسوله عن هذه السفاسف وما اليها.
غير ان لبعض الناس انفساً دنسة وضيعة صغيرة تطمع فيما ليس فيه مطمع كما يقولون في الامثال، وتقبض الاكف على الوهم وتمد الايدي لتتناول النجم، وقد كان بعض هؤلاء يتعرض للنساء المؤمنات حين يخرجن للصلاة او لغيرها من الأعمال، يتعرض لهن بلحظة خائنة او بلفظة ماجنة، والمؤمنات يؤذيهن هذه الجرأة.
تؤذيهن لا لأنهن يخشين اعتداءاً من بعض هؤلاء الآثمين، فيد الفحشاء اقصر من ان تبلغهن بسوء، بل لأن حرمة المرأة المسلمة عندهن اسمى من ان تغازل بلحظ او تعابث بلفظ، ولأن المجتمع المسلم اعظم قداسة في رأيهن من ان تطرف فيه عين خائنة او تظهر فيه حركة آثمة، والمغازلات والمعابثات تحسب اعتداءاً واجراماً في المجتمعات السليمة، وتعد مجاملة ومطايبة في المجتمعات الموبوءة.
كان بعض هؤلاء الماجنين يتعرض للنساء المؤمنات في طريقهن الى الصلاة فيؤذيهن هذا التعرض، فاذا قيل له في ذلك اعتذر عن فعله بأنه يجهل!، بأنه يجهل انهن من نساء المؤمنين!، كأن الجهل يبيح المجون، وكأن العبث بالأعراض جريمة شخصية صغيرة تسقط بالاعتذار.
وهذه سقطة خلقية واجتماعية لا بد لها من التلافي ولا بد لها من العلاج، ولا يمكن عليها القرار.
والاسلام يعالج هذه الداء بتعزير هؤلاء الماجنين العابثين بالأعراض, بما يقطع مجونهم ويحسم هراءهم، ثم بتزويج العزاب منهم المضطرين للتزويج، الغني منهم من ماله، والفقير من بيت المال.
اما العلاج السريع الدائم فهو ان تدني المؤمنات عليهن من جلابيبهن فيخسأن بها كل كلب عاو.
والجلباب ثوب كبير يشمل البدن كله، ومن اجل هذه الصفة فيه استعارته العرب لما يشمل، فقالوا: جلببه الهم مثلا اذا استولى عليه واخذ كل نواحيه.
كان هذا في بدء الاسلام، وقد وضع له الدين هذا العلاج الحاسم، فهل انقطعت هذه الانفاس اللاهثة التي تتعقب خطوات النساء المصونات، ؟!.
هل نفقت هذه الحملان البشرية التي يكاد يركب بعضها بعضاً في طريق المرأة؟!.
هذه القطعان الكبيرة التي تمثل للانسان مواريثه من الحيوان؟!.
هل بادت هذه السلالة لنفكر نحن او يفكر احد سوانا في الاستغناء عن العلاج الذي وضعه الاسلام؟.
ان الطرق والمجامع والمتنزهات لا تزال مشحونة بهذه الجراثيم التي تتلصص على الاعراض وتنخر في المجتمعات.
وكل ما وجد في ذلك ان القديم منها كان يتناول الامر ببساطته، اما الحديث فقد تطورت به الاساليب وتسلسلت به المطاليب، بيد ان التطور في هذه الشؤون انما يكون الى اسفل.
ما هذه الشبان المائعة المدخولة التي تزاحم المراة على (مكياجها) لتزاحمها كذلك في سبيلها؟!.
انها من اعراض ذلك الداء الخلقي الاجتماعي الذي استفظعه القرآن ووصف له العلاج، ولن يرتفع العلاج ابداً ولن يستغنى عنه حتى تبيد آخر جرثومة من جراثيم الداء.
وعزيز والله على الاسلام ان يرى وفرة كبيرة من شبانه وفتيانه تقتل الساعات الطويلة وتخبي الجذوات المتقدة،
عزيز على دين الاسلام ان يرى فتيانه وشبانه وعدته لمستقبل ايامه تهدر هذه الذخائر العظيمة هدراً، ثم لا تجني من ذلك، ولا يجني مجتمعها من ورائها إلا خبالا ووبالا !.
وان المرأة ليعجبها من الرجل ان يكون رجلا يملأ هذه اللفضة بمعناه ويفعم مركزه الاجتماعي بكفاءته ومواهبه، وابغض خلق الله الى قلبها الرجل المستأنث، ولو انها خيرت بين رجل تام الرجولة وهو في قبح عنترة وذكر تام الأنوثة وهو في جمال الأمين لما ترددت في الاختيار، وسل أي انثى رشيدة عن ذلك اذا شئت.
لم يقضى بعد على ذلك الداء الاجتماعي الوبيل الذي استفظعه القرآن ولم تهن اعراضه، ولم تتقلص آثاره، وليس لفتياتنا الكريمات ولا لمن يتصنع الانتصار لهن ويتكلف الغيرة عليهن من الرجال ان يطلبوا رفع العلاج ما لم ينته جميع ذلك.
وليس لهم ان يقترحوا على الاسلام ان يخرج عن حدوده، وان يعدل عن منهجه، لأنه يعلم حق العلم ان خطته التي نهج عليها هي الخطة الحكيمة المثلى، ولا محيد له ولا لأحد من الناس عنها، يعلم ذلك حق العلم، ويعلم به كذلك كل عاقل جاد في نظرته منصف في حكمه.
(قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم ويحفظوا فروجهم، ذلك ازكى لهم، ان الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمورهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن او آبائهن او آباء بعولتهن، او ابنائهن او ابناء بعولتهن او اخوانهن او بني اخوانهن او بني اخواتهن او نسائهن او ما ملكت ايمانهن، او التابعين غير اولي الاربة من الرجال او الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن، وتوبوا الى الله جميعاً ايها المؤمنون لعلكم تفلحون)
نص قرآني صريح في وجوب الحجاب، وهو أمر الله الذي لن يتردد مؤمن ولا مؤمنه في وجوب الخضوع له ووجوب الاستمساك به، وهو ضمان الله للمؤمنين بان ذلك ازكى لنفوسهم واطهر لمجتمعهم وانقى لعلاقاتهم، ضمان الله لهم بذلك، فلا يختلف في وقت ولا يتغير في حال.
هذه بعض اوصاف المجتمع الراقي العادل الذي اراده الله سبحانه للبشرية يوم اهلها للخلافة في ارضه، واختصها بالكرامة من بين مخلوقاته، فشرع لها الدين، وميزها بالعقل، وحباها بالمعرفة، وكرمها بالعلم.
إن الاسلام يربأ بالمسلم والمسلمة ان تكون العلاقة بينهما علاقة حيوان بحيوانة، ويأنف لهما ان تهبط بهما المجموعة الجنسية الى دركها الاسفل الارذل، ويسمو فيها ان تعلق هذه الخاطرة بروعهما.
والمرأة نصف المجتمع البشري على ادنى التقادير، والويل للمجتمع اذا كانت الصلة ما بين نصفيه هذه الصلة المنحطة المخزية،
والويل للمجتمع اذا سيطرت الشهوة على آحاده وتغلغت في ابعاده، فزاغت بالناس عما يجب, وقادتهم الى ما لا يحسن،
والويل للمجتمع اذا انفلتت فيه ازمة الأخلاق، ووهنت فيه قوة الارادة واضطربت كفة التوازن.
أن النظرة الخائنة الجائعة اول انبعاث للشهوة واول موقظ للفتنة، وهي الرائد الذي يجوس الديار ويمهد السبيل، فلابد للاسلام من ان يأخذ الحيطة لها اذا كان جاداً في بلوغ غايته، لا بديل له عن ذلك لأنه الطريق الوحيد اليها، ومحال عليه ان يوصد باب الفتنة وهو لا يحسب لهذه النظرات حسابها.
وهكذا صنع … وهكذا قال:
قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم … وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن.
يأمر الرجال والنساء من المؤمنين بسد هذه الذريعة واغلاق هذه النافذة، ويبدأ بأقوى الجنسين اندفاعاً واسرعهما انفعالا واصرحهما تعبيراً.
ان خفر المرأة وفرط حيائها يصونها من ان تكون هي المبتدئة في هذا المجال، وان الرجل اذا غض بصره وملك امره وابدى اتزانه... فقد انهار اكبر الدواعي لتبرج المرأة... فانها لن تتبرج ولن تبدي زينتها ولن تعرض فتنتها واغراءها إلا لتلفت نظرة الرجل وتنتزع اعجابه.
ينذر الرجال اولا بأن يغضوا ابصارهم عن النظر المحرم، ثم يعطف على النساء كذلك بانذار مستأنف جديد، ولو انه جمع الفريقين معاً بقول واحد لأوفى على الغاية شأنه في غالب الاحكام التي تشترك فيها النساء والرجال، غير ان الامر هاهنا امر صيانة وحفاظ، وتطهير لعلاقات مهمة قوية تنعقد بين القلوب، وترتسم ظلالها على الأعمال، وتبقى آثارها في الأجيال، فهو لذلك مفتقر الى مزيد من الصراحة والى مزيد من التأكيد.
الى صراحة تبعد بالحديث عن التأويل، والى تاكيد يمنع به الامر عن التساهل، ينذر الفريقين على انفراد، وينذرهما على اجتماع، ويسوق لهما ضروب التحذير وضروب التبشير.
هذا هو الاحتياط الأول الذي اتخذه التشريع الاسلامي للأمر.
ثم لنفرض ان رجال المؤمنين ونساءهم امتثلوا جميعاً هذا الامر. فغض الرجال المؤمنون من ابصارهم. وغضت النساء المؤمنات من ابصارهن. فهل يفي هذا وحده بسد الذرائع جميعاً؟.
الذرائع التي تنتهي بالمرء وبالمرأة الى هذه المباءة؟.والنظرات الطائشة التي تلقى دون قصد فتقع على ما يثير؟ وعمل هذه النظرات غير المقصودة في التمهيد لما يعقبها من نظر، والتمكين لما يتبعها من خطر؟.
ان هذا باب لا يوصده التشريع الأول، ولأبداء الزينة وعرض المفاتن عمل كبير في اغتصاب النظرة وتنبيه الغريزة وتحريك الفتنة، وطباع ابن آدم تفتن في التردي كما تفتن في الاعتلاء، وتعني بطرائق الاغواء كما تعني بطرائق الهداية.
فماذا يجدي ازاء ذلك كله غير فرض الحجاب؟.
فرض ان لا تتبرج المرأة المسلمة ولا تبدي زينتها إلا ما ظهر منها.( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها.)
وما هذا الذي يظهر من الزينة بعد الحجاب؟.
خضاب في الكف، او خاتم في الأنامل، او ما يشبه هذين من زينة ظاهرة وغير فاتنة، اما اذا اوجب الفتنة فهو وغيره في التحريم سواء بسواء.
ثم ماذا؟.
ثم (ليضربن بخمورهن على جيوبهن). والخمار هو القناع الذي تغطي به المرأة رأسها، والجيب فتحة الثوب التي تلي صدرها، ليضربن بخمورهن على جيوبهن فلا يبين من رأس المرأة ولا من نحرها ولا من صدرها شيء للرائي ولا شبح للمتامل.
وحتى الهمسات الخفية والايماءات البعيدة لا بد من ان تقتلع جذورها ولا بد من ان تستأصل، ما دامت مظنة للاثارة او منفذاً للريب،( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن.)
انها كوة صغيرة جداً، ولكنها تتسع وتنداح وتكبر دائرتها اذا لم يتخذ لها اجراء.
نعم سيعظم امرها وتتسع دائرتها، فمن ورائها غريزة هذا الكائن العجيبة التي تغذي الوهم وتستثمر الخيال.
اعلمت أي مبلغ بلغه الاسلام وكتابه –القرآن - في هذا المجال؟.
انها ميادين فتنة, فلا مساغ فيها لهدنة.
بلى هي ميادين فتنة، ومن اجل ذلك حرص الاسلام على ان يضع الحدود فيها بدقة، ومن اجل ذلك ايضا وضع الحجاب عن المرأة حتى تؤمن هذه البوائق.
اقرأ الآية الكريمة مرة اخرى ثم انظر كيف رفعت الحجاب دون المحارم من الرجال، ودون من لا يحوم حوله ريب ممن سواهم.
وقد قال في القرآن عمن تقدم بهن الايام وينال منهن العمر حتى تزول منهن معالم الفتنة وحتى يأمن عوادي الجنس (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح ان يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة، وان يستعففن خير لهن والله سميع عليم)
ليس عليهن حرج في ان يضعن من ثيابهن المعدة للحجاب. وان رآهن الرجال الاجانب. ما دمن قد آمن الفتنة. وما دام الكبر قد صرف عنهن انظار الرجال. على ان لا يقصدن من وضع ثيابهن ان يتبرجن بزينة. اما اذا قصدن ذلك فانهن مسؤولات عن فعلهن ذلك.
مسؤولات لقصدهن ما لا يجوز لهن فعله. ومسؤولات لأن ذلك القصد منهن تحد للعفة التي فرضها عليهن الاسلام.
لقد انصرفت عنهن انظار الرجال فيما يعتقدن، ومن اجل ذلك ساغ لهن رفع الحجاب، ولكن ما يدريهن فربما كان هذا الوهم خاطئاً، فلعل فيهن بقية من هذا الاغراء، ولعل
في الرجال من تبلغ به عرامة الجنس، فيمتد الى مثلهن بالنظر، ومن اجل هذه الحالات المحتملة فليستعففن فلا يضعن من حجابهن شيئاً فان ذلك خير لهن والله سميع عليم.
ويمتد الخط مع أمن الفتنة خطوات، فيباح للرجل ان ينظر الى امرأة يريد التزوج بها، ويباح للطبيب ان ينظر مواقع الفحص والعلاج من جسد المريضة، ويباح النظر الى المرأة لانقاذها من الخطر اذا توقفت نجاتها عليه ، ويباح النظر الى المرأة اذا توقفت على النظر اليها اقامة عدل او استنقاذ حق.
واقول يمتد خط اباحة النظر الى المراة مع أمن الفتنة خطوات، لأن أمن الفتنة امر دقيق لا يقال إلا بحذر ولا يوضع إلا بقدر.
ومن خصائص دين الاسلام انه ينظر الى غرائز الكائن البشري والى ضروراته مجردة عن كل ما يكبح وعن كل ما يثير. ينظر الى الغرائز والدوافع بطبيعتها السليمة التي ركبت في الانسان وباقتضائها الصحيح السوي الذي تدعو اليه الحياة او بقاء الحياة دون ما زيادة ولا نقصان.
من خصائصه انه ينظر الى هذه البواعث معتدلة في التكوين ومعتدلة كذلك في الدعوة. فيضع لها حدودها على اساس العدل. ويشرع لها حقوقها على مبدأ التوازن.
العدل بين الغرائز والدوافع. التوازن في النشاط الحيوي للانسان. فيوجه لكل واحدة من الغرائز حصتها من النشاط دون سرف ولا تقتير.
اما الكبت والاغراق في الغريزة فان الاسلام يراهما كما يراهما العلم آفتين بالغتي الضرر، ولا بد لهما من العلاج. وهو يتحرى الاسباب الموجبة للاثارة او المقتضية للكبح فيدأب على ازاحتها واستيصال جذورها.
جذورها في نفس الفرد. وجذورها في عوائد المجتمع. ولقد رأينا كيف يتخذ الحيطة الكاملة عن الانطلاق في غريزة الجنس.
رأيناه كيف يحتاط لهذه الآفة حتى يستل آخر عرق من عروقها، كيف يحصن نفس الفرد ـ الذكر والأنثى على السواء ـ بالايمان القوي، والخلق المتزن، وبالسلوك الرضي، ثم يصونه عن كل ما يفتن وعن كل ما يثير،
وما الاغراق والانطلاق في هذه الغريزة وفي كل رغبة او غريزة سواها, لولا الفتنة ولولا الاثارة والتحريض.
ثم أن الأسلام يبتغي للفرد المصرفات النظيفة، فيحثه على الزواج الشرعي، ويفتح له ابوابه ويسهل عليه امره، ويفرضه عليه فرضاً في كثير من الاحيان، وعند خشية الوقوع في المحرم على الخصوص.
واما الكبت فيها، وهو ـ كما يقول العلماء النفسيون ـ اخماد الشعلة في النفس، واخماد ظهورها كذلك في منطقة التصور، اخمادها في كلتا المرحلتين حتى تختنق، وحتى
ترتد عقدة نفسية في منطقة [اللاشعور] وحتى تورث الانسان [عصابا] يتحكم عليه في سلوكه، ويقضي عليه بالشقاء في اكثر حالاته.
اما الكبت فقد حاربه الاسلام بكل اسبابه وبكل امتدادته، ومن اهم اسبابه الرهبانية التي عرفها المتدينون قبل مجيء الاسلام، وقد اهدرها هذا الدين منذ اول يوم من ايامه.
ومن يستقرئ احكام الزواج في هذا الدين ويطلع على نصوصه فيه وفي علله وآدابه يعلم جيداً كيف اقتلع علل الكبت واحدة واحدة، وطهر الفرد المسلم والمجتمع المسلم ومن اوضارها اثراً اثراً.
(يا ايها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك ادنى ان يعرفن فلا يؤذين، وكان الله غفوراً رحيما)
وهذا داء اجتماعي آخر يجعله القرآن سبباً للأمر بالحجاب.
ان ازواج الرسول صلى الله عليه وآله, وبناته ونساء المؤمنين اللاتي عاصرن النبوة ونزل ما بينهن القرآن قد تعالت انفسهن وارواحهن عن كل ما يخدش ويريب، فلقد محصتهن العقيدة وجلاهن الايمان وارتفعن بأدب الله وادب رسوله عن هذه السفاسف وما اليها.
غير ان لبعض الناس انفساً دنسة وضيعة صغيرة تطمع فيما ليس فيه مطمع كما يقولون في الامثال، وتقبض الاكف على الوهم وتمد الايدي لتتناول النجم، وقد كان بعض هؤلاء يتعرض للنساء المؤمنات حين يخرجن للصلاة او لغيرها من الأعمال، يتعرض لهن بلحظة خائنة او بلفظة ماجنة، والمؤمنات يؤذيهن هذه الجرأة.
تؤذيهن لا لأنهن يخشين اعتداءاً من بعض هؤلاء الآثمين، فيد الفحشاء اقصر من ان تبلغهن بسوء، بل لأن حرمة المرأة المسلمة عندهن اسمى من ان تغازل بلحظ او تعابث بلفظ، ولأن المجتمع المسلم اعظم قداسة في رأيهن من ان تطرف فيه عين خائنة او تظهر فيه حركة آثمة، والمغازلات والمعابثات تحسب اعتداءاً واجراماً في المجتمعات السليمة، وتعد مجاملة ومطايبة في المجتمعات الموبوءة.
كان بعض هؤلاء الماجنين يتعرض للنساء المؤمنات في طريقهن الى الصلاة فيؤذيهن هذا التعرض، فاذا قيل له في ذلك اعتذر عن فعله بأنه يجهل!، بأنه يجهل انهن من نساء المؤمنين!، كأن الجهل يبيح المجون، وكأن العبث بالأعراض جريمة شخصية صغيرة تسقط بالاعتذار.
وهذه سقطة خلقية واجتماعية لا بد لها من التلافي ولا بد لها من العلاج، ولا يمكن عليها القرار.
والاسلام يعالج هذه الداء بتعزير هؤلاء الماجنين العابثين بالأعراض, بما يقطع مجونهم ويحسم هراءهم، ثم بتزويج العزاب منهم المضطرين للتزويج، الغني منهم من ماله، والفقير من بيت المال.
اما العلاج السريع الدائم فهو ان تدني المؤمنات عليهن من جلابيبهن فيخسأن بها كل كلب عاو.
والجلباب ثوب كبير يشمل البدن كله، ومن اجل هذه الصفة فيه استعارته العرب لما يشمل، فقالوا: جلببه الهم مثلا اذا استولى عليه واخذ كل نواحيه.
كان هذا في بدء الاسلام، وقد وضع له الدين هذا العلاج الحاسم، فهل انقطعت هذه الانفاس اللاهثة التي تتعقب خطوات النساء المصونات، ؟!.
هل نفقت هذه الحملان البشرية التي يكاد يركب بعضها بعضاً في طريق المرأة؟!.
هذه القطعان الكبيرة التي تمثل للانسان مواريثه من الحيوان؟!.
هل بادت هذه السلالة لنفكر نحن او يفكر احد سوانا في الاستغناء عن العلاج الذي وضعه الاسلام؟.
ان الطرق والمجامع والمتنزهات لا تزال مشحونة بهذه الجراثيم التي تتلصص على الاعراض وتنخر في المجتمعات.
وكل ما وجد في ذلك ان القديم منها كان يتناول الامر ببساطته، اما الحديث فقد تطورت به الاساليب وتسلسلت به المطاليب، بيد ان التطور في هذه الشؤون انما يكون الى اسفل.
ما هذه الشبان المائعة المدخولة التي تزاحم المراة على (مكياجها) لتزاحمها كذلك في سبيلها؟!.
انها من اعراض ذلك الداء الخلقي الاجتماعي الذي استفظعه القرآن ووصف له العلاج، ولن يرتفع العلاج ابداً ولن يستغنى عنه حتى تبيد آخر جرثومة من جراثيم الداء.
وعزيز والله على الاسلام ان يرى وفرة كبيرة من شبانه وفتيانه تقتل الساعات الطويلة وتخبي الجذوات المتقدة،
عزيز على دين الاسلام ان يرى فتيانه وشبانه وعدته لمستقبل ايامه تهدر هذه الذخائر العظيمة هدراً، ثم لا تجني من ذلك، ولا يجني مجتمعها من ورائها إلا خبالا ووبالا !.
وان المرأة ليعجبها من الرجل ان يكون رجلا يملأ هذه اللفضة بمعناه ويفعم مركزه الاجتماعي بكفاءته ومواهبه، وابغض خلق الله الى قلبها الرجل المستأنث، ولو انها خيرت بين رجل تام الرجولة وهو في قبح عنترة وذكر تام الأنوثة وهو في جمال الأمين لما ترددت في الاختيار، وسل أي انثى رشيدة عن ذلك اذا شئت.
لم يقضى بعد على ذلك الداء الاجتماعي الوبيل الذي استفظعه القرآن ولم تهن اعراضه، ولم تتقلص آثاره، وليس لفتياتنا الكريمات ولا لمن يتصنع الانتصار لهن ويتكلف الغيرة عليهن من الرجال ان يطلبوا رفع العلاج ما لم ينته جميع ذلك.
وليس لهم ان يقترحوا على الاسلام ان يخرج عن حدوده، وان يعدل عن منهجه، لأنه يعلم حق العلم ان خطته التي نهج عليها هي الخطة الحكيمة المثلى، ولا محيد له ولا لأحد من الناس عنها، يعلم ذلك حق العلم، ويعلم به كذلك كل عاقل جاد في نظرته منصف في حكمه.
تعليق