بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمدٍ وآله الطاهرين
جرى حوار بيني وبين أحد السلفية حول دلالة حديث الغدير، وكانت هذه هي الخلاصة:
يلاحظ الباحث أن ما كتبه أعلام الإمامية في كتب العقيدة في باب أدلة الإمامة إنعدام التكلف، وإذا رام أحدهم أن يقرر دلالة حديث الغدير -مثلاً- فلا يحتاج إلى كتابة سوى أسطر قليلة جداً... والسر في ذلك هو أن حديث الغدير لوضوح معناه يفسر نفسه بنفسه... وأما الكتب والأبحاث المطولة إنما كتبت للرد على شبهات المشككين، وإلا فإن الحديث ظاهر الدلالة للغاية، فهل ترى هناك كلاماً أبلغ من ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو كما يلي بحسب رواية الحاكم بإسناده عن زيد بن أرقم:
وإني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني تارك فيكم ما لن تضلوا بعده كتاب الله عز وجل.
ثم قام فأخذ بيد عليٍ رضي الله تعالى عنه فقال: يا أيها الناس من أولى بكم من أنفسكم؟
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: من كنت مولاه فعلي مولاه.
إذاً فوضوح دلالة الحديث الشريف المتقدم على تنصيب أمير المؤمنين علسه السلام للخلافة والإمامة المطلقة يغني عن الحاجة لزيادة البيان، وإنما ألف علمائنا الكتب للرد على شبهات المشككين الذين لا يريدون الاعتراف بالحق وإن تبين لهم، كما قال الله سبحانه وتعالى عن بعضهم: {فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}
وقد أورد الشيخ النسر جملة من الإشكالات التي ذكرها علماء مذهبه، ونستعرضها هنا مع الرد عليها بإيجاز، وإن لم يذكر النسر بعضها:
1 - التشكيك في صحة الحديث:
تجرأ بعض علماء السنة بالتشكيك في صحة حديث الغدير، وتجاوز بعضهم الحد فطعن فيه وزعم أنه كذب!!! وقد تقدم نقل نصوص بعضهم في أصل الموضوع...
ولا ريب أن سبب تكذيبهم لهذا الحديث الشريف هو إدراكهم معناه، وممن طعن في بعض أجزاء الحديث ابن تيمية، فإنه قال:
وأما قوله: "{من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه}... إلخ"
فهذا ليس في شيء من الأمهات إلا في الترمذي وليس فيه إلا: "{من كنت مولاه فعلي مولاه} وأما الزيادة فليست في الحديث. وسئل عنها الإمام أحمد فقال: زيادة كوفية.
ولا ريب أنها كذب لوجوه: (أحدها: أن الحق لا يدور مع معين إلا النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لو كان كذلك لوجب اتباعه في كل ما قال ومعلوم أن عليا ينازعه الصحابة وأتباعه في مسائل وجد فيها النص يوافق من نازعه: كالمتوفى عنها زوجها وهي حامل.
وقوله: "{اللهم انصر من نصره}.. إلخ"
خلاف الواقع؛ قاتل معه أقوام يوم "صفين" فما انتصروا وأقوام لم يقاتلوا فما خذلوا: "كسعد" الذي فتح العراق لم يقاتل معه وكذلك أصحاب معاوية وبني أمية الذين قاتلوه فتحوا كثيرا من بلاد الكفار ونصرهم الله.
وكذلك قوله:" {اللهم وال من والاه وعاد من عاداه} مخالف لأصل الإسلام؛ فإن القرآن قد بين أن المؤمنين إخوة مع قتالهم وبغي بعضهم على بعض وقوله: "{ من كنت مولاه فعلي مولاه} فمن أهل الحديث من طعن فيه كالبخاري وغيره؛ ومنهم من حسنه فإن كان قاله فلم يرد به ولاية مختصا بها؛ بل ولاية مشتركة وهي ولاية الإيمان التي للمؤمنين والموالاة ضد المعاداة ولا ريب أنه يجب موالاة المؤمنين على سواهم ففيه رد على النواصب.
مجموع الفتاوى
فانظر كيف رد ابن تيمية حديثاً صحيحاً ثابتاً بسبب تعصبه ونصبه!!!
وأقل طلبة العلم لا يرتاب في أن الجملة الإنشائية (ومنها الدعاء) لا تحتمل الصدق والكذب، خلافاً للجملة الخبرية التي تحتمل الصدق والكذب...
إن جملة: (اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه) هي جملة إنشائية محضة، والجملة الإنشائية لا توصف بصدقٍ ولا كذبٍ...
فابن تيمية يكذب الحديث النبوي بهذه الحجة الساقطة جدا!!! وليس القصد الرد عليه في هذا المقام وإنما القصد بيان أن التعصب قد يوصل المرء إلى ما وصل إليه ابن تيمية، ولعمري إن قراءة كلماتهم في هذا الشأن مما تزيد بصيرة ويقين المؤمن...
2 - جملة (من كنت مولاه فعلي مولاه) خبر أم إنشاء؟
قال العلامة السيد النقوي قدس سره: لا خلاف بين الفريقين أن قوله عليه السلام: "فمن كنت مولاه..." أمرٌ وتكليفٌ بصورة الإخبار.
عبقات الأنوار ج 9 ص 75
يضع العرب الجملة الخبرية موضع الجملة الإنشائية لعدة أغراض، منها التفاؤل كقولهم (هداكَ الله) كأن الهداية قد حصلت فعلاً، ومنها إظهار المبالغة في الأمر، قال الزمخشري في الكشّاف:
{تَزْرَعُونَ} خبر في معنى الأمر، كقوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُون} وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في إيجاب إيجاد المأمور به، فيجعل كأنه يوجد، فهو يخبر عنه. والدليل على كونه في معنى الأمر قوله: {فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ}.
انتهى
والظاهر أن الغرض من إخراج الجملة المذكورة بصورة الخبر هو لإظهار المبالغة في إيجاب إيجاد المأمور به، ويبعد أن يكون الغرض إظهار التفاؤل، بقرينة الدعاء على من لم يمتثل الذي جاء بعد الجملة مباشرة، ويؤكد هذا الخطاب الوارد في الآية الشريفة التي نزلت قبيل الغدير وهي قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}
إذا فهي جملة إنشائية في صورة الجملة الخبرية...
ومن الأوامر التي جائت بصورة الخبر في القرآن الكريم:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ} (83) سورة البقرة
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (197) سورة البقرة
{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ} (47) سورة يوسف
3 - هل مولى تعني أولى؟
يقول الشيخ النسر: ثم انتقلنا إلى بعض المسائل اللغوية ومنها ما ذكره الفخر الرازي في تفسيره، وابن عطيه في المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز والكلبي عند تفسير قوله تعالى {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
حيث أشار هؤلاء الأعلام بأن من فسر المولى هنا بأنه الأولى فإنما فسره بلازم المعنى لا أنه تفسير للفظ، وأوضح الفخر الرازي هذه المسألة في التفسير الكبير فليرجع إليه، وقد تبنينا هذا القول لأن فيه ردا على الشريف المرتضى ، كما أن صحة هذا القول بينة من خلال التمثيل.
انتهى كلامه
أ - نص جماعة من أئمة اللغة العربية والمفسرين الذين عليهم المعول في فهم مفرادت اللغة، على أن المقصود بكلمة {مَوْلَاكُمْ} في الآية الكريمة (أولى بكم) ويكفي أن أبا عبيدة قد نص على هذا المعنى...
ولو فرض أنه انفرد بهذا القول لكان حجة، قال السيوطي:
النوع الخامس معرفة الأفراد: وهو ما انْفَرَدَ بروايته واحدٌ من أهل اللغة ولم ينقله أحدٌ غيره وحكْمُه القبول إن كان المنفرّد به من أهل النَّبْط والإتقان كأبي زيد والخليل والأصمعي وأبي حاتم وأبي عبيدة وأضرابهم وشرْطُه ألاَّ يخالفه فيه مَنْ هو أكثر عدداً منه.
المزهر في علوم اللغة وأنواعها
ولا ريب أن كلام أبي عبيدة حجة يُعتمد عليها، ولا عبرة بكلام من يخالفه كالفخر الرازي وغيره ممن هم عيال عليه في فهم اللغة!!!! وهذا يغنينا عن إثبات ضعف الفخر الرازي في اللغة العربية...
ب - يقول هؤلاء كما نقل عنهم النسر: من فسر المولى هنا بأنه الأولى فإنما فسره بلازم المعنى لا أنه تفسير للفظ!!!
وأقول: عندما نرجع لكتب اللغة العربية فإننا نجد أنهم يعرفون مصطلح (الكناية) بأنه: لفظٌ أريد به لازم معناه مع جواز إرادته معه.
مختصر المعاني ص 257
وهذا يعني أن هؤلاء القوم الذين تبنى النسر رأيهم يحملون كلام اللغويين والمفسرين والمحديثن الذين فسروا مولى بأنه الأولى، على أنه كناية!!!
وهذا القول فاسد للغاية!!!
فكيف يمكن أن يُفسر اللفظ بالكناية؟؟؟
إن وظيفة المفسر (خصوصاً إذا كان من أئمة اللغة العربية) أن يفسر ألفاظ القرآن الكريم لإيضاح معانيها، لا أن يزيدها غموضاً!!!
ثم إن المُعّرِف لا بد أن يكون أجلى من المُعّرَف، ولك أن تتخيل ما سيؤول إليه حال اللغة العربية لو أننا حملنا ما ورد في قواميسها من تفسيرات للألفاظ على أنها كنايات!!!
ج - بغض النظر عن كل ما تقدم فإنه يوجد حديث مخرج في الصحيحين يدل على أن مولى تأتي بمعنى أولى:
1 - حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا محمد بن فليح حدثنا أبي عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه.
صحيح البخاري الحديث 4408
2 - حدثني محمد بن رافع حدثنا شبابة قال حدثني ورقاء عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
والذي نفس محمد بيده إن على الأرض من مؤمن إلا أنا أولى الناس به فأيكم ما ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه وأيكم ترك مالا فإلى العصبة من كان.
صحيح مسلم الحديث 3041
4 - المولى في اللغة من الألفاظ المشتركة!!!
هذا صحيح لكن المعنى يتعين من خلال القرائن الحافة باللفظ، ولو لم يكن في حديث الغدير أي قرينة لوجب حمله على أفضل المعاني... والسبب في ذلك أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله بهذا الحديث قد أثبت لأمير المؤمنين عليه السلام الولاية، وقد جائت مجردة، فلا وجه لتقييدها بشيء...
ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وآله لم يكتفِ بهذا، بل ذكر قرينة عليه إذ قال: يا أيها الناس من أولى بكم من أنفسكم؟
وهذا إستفهام للتقرير، يُعرّفه التفتازاني بأنه: حمل المُخاطَب على الإقرار بما يعرفه وإلجائه إليه.
مختصر المعاني ص 137
فبعد إقرارهم له صلى الله عليه وآله بأنه أولى بهم من أنفسهم قال: من كنت مولاه فعلي مولاه...
فهذه قرينة لفظية صريحة وواضحة جداً على المطلوب، يضاف إليها القرائن الحالية...
5 - حديث الغدير له مناسبة، وهي شكوى بعض الصحابة!!!
تعرضت في أصل الموضوع لهذه الشبهة، وتبين أنها لا أساس لها، بل إن الحديث تكرر في أكثر من موطن، وكان النبي صلى الله عليه وآله يرد على من شكى علياً عليه السلام بهذا الحديث، وقد تبين هناك أن هذا الجواب يدل على صحة المعنى الذي ذهب إليه الشيعة، فليراجعه من أراد...
**************
هذه هي خلاصة الشبهات التي تعرض لأكثرها الشيخ النسر في الحوار الذي دار بيننا، وبقي أن نذكر أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله قد استخدم الجملة الشرطية بقوله: (من كنت مولاه فعلي مولاه) فهنا شرط وجزاء...
وقد تقرر أن الجملة الشرطية تدل على وجود ملازمة بين الشرط والجزاء، فهي بمنطوقها تدل على ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط، وتدل بمفهموها على الانتفاء عند الانتفاء، وهذا واضح...
اللهم صلِ على محمدٍ وآل محمد...
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمدٍ وآله الطاهرين
جرى حوار بيني وبين أحد السلفية حول دلالة حديث الغدير، وكانت هذه هي الخلاصة:
.......................
يلاحظ الباحث أن ما كتبه أعلام الإمامية في كتب العقيدة في باب أدلة الإمامة إنعدام التكلف، وإذا رام أحدهم أن يقرر دلالة حديث الغدير -مثلاً- فلا يحتاج إلى كتابة سوى أسطر قليلة جداً... والسر في ذلك هو أن حديث الغدير لوضوح معناه يفسر نفسه بنفسه... وأما الكتب والأبحاث المطولة إنما كتبت للرد على شبهات المشككين، وإلا فإن الحديث ظاهر الدلالة للغاية، فهل ترى هناك كلاماً أبلغ من ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو كما يلي بحسب رواية الحاكم بإسناده عن زيد بن أرقم:
وإني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني تارك فيكم ما لن تضلوا بعده كتاب الله عز وجل.
ثم قام فأخذ بيد عليٍ رضي الله تعالى عنه فقال: يا أيها الناس من أولى بكم من أنفسكم؟
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: من كنت مولاه فعلي مولاه.
إذاً فوضوح دلالة الحديث الشريف المتقدم على تنصيب أمير المؤمنين علسه السلام للخلافة والإمامة المطلقة يغني عن الحاجة لزيادة البيان، وإنما ألف علمائنا الكتب للرد على شبهات المشككين الذين لا يريدون الاعتراف بالحق وإن تبين لهم، كما قال الله سبحانه وتعالى عن بعضهم: {فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}
وقد أورد الشيخ النسر جملة من الإشكالات التي ذكرها علماء مذهبه، ونستعرضها هنا مع الرد عليها بإيجاز، وإن لم يذكر النسر بعضها:
1 - التشكيك في صحة الحديث:
تجرأ بعض علماء السنة بالتشكيك في صحة حديث الغدير، وتجاوز بعضهم الحد فطعن فيه وزعم أنه كذب!!! وقد تقدم نقل نصوص بعضهم في أصل الموضوع...
ولا ريب أن سبب تكذيبهم لهذا الحديث الشريف هو إدراكهم معناه، وممن طعن في بعض أجزاء الحديث ابن تيمية، فإنه قال:
وأما قوله: "{من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه}... إلخ"
فهذا ليس في شيء من الأمهات إلا في الترمذي وليس فيه إلا: "{من كنت مولاه فعلي مولاه} وأما الزيادة فليست في الحديث. وسئل عنها الإمام أحمد فقال: زيادة كوفية.
ولا ريب أنها كذب لوجوه: (أحدها: أن الحق لا يدور مع معين إلا النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لو كان كذلك لوجب اتباعه في كل ما قال ومعلوم أن عليا ينازعه الصحابة وأتباعه في مسائل وجد فيها النص يوافق من نازعه: كالمتوفى عنها زوجها وهي حامل.
وقوله: "{اللهم انصر من نصره}.. إلخ"
خلاف الواقع؛ قاتل معه أقوام يوم "صفين" فما انتصروا وأقوام لم يقاتلوا فما خذلوا: "كسعد" الذي فتح العراق لم يقاتل معه وكذلك أصحاب معاوية وبني أمية الذين قاتلوه فتحوا كثيرا من بلاد الكفار ونصرهم الله.
وكذلك قوله:" {اللهم وال من والاه وعاد من عاداه} مخالف لأصل الإسلام؛ فإن القرآن قد بين أن المؤمنين إخوة مع قتالهم وبغي بعضهم على بعض وقوله: "{ من كنت مولاه فعلي مولاه} فمن أهل الحديث من طعن فيه كالبخاري وغيره؛ ومنهم من حسنه فإن كان قاله فلم يرد به ولاية مختصا بها؛ بل ولاية مشتركة وهي ولاية الإيمان التي للمؤمنين والموالاة ضد المعاداة ولا ريب أنه يجب موالاة المؤمنين على سواهم ففيه رد على النواصب.
مجموع الفتاوى
فانظر كيف رد ابن تيمية حديثاً صحيحاً ثابتاً بسبب تعصبه ونصبه!!!
وأقل طلبة العلم لا يرتاب في أن الجملة الإنشائية (ومنها الدعاء) لا تحتمل الصدق والكذب، خلافاً للجملة الخبرية التي تحتمل الصدق والكذب...
إن جملة: (اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه) هي جملة إنشائية محضة، والجملة الإنشائية لا توصف بصدقٍ ولا كذبٍ...
فابن تيمية يكذب الحديث النبوي بهذه الحجة الساقطة جدا!!! وليس القصد الرد عليه في هذا المقام وإنما القصد بيان أن التعصب قد يوصل المرء إلى ما وصل إليه ابن تيمية، ولعمري إن قراءة كلماتهم في هذا الشأن مما تزيد بصيرة ويقين المؤمن...
2 - جملة (من كنت مولاه فعلي مولاه) خبر أم إنشاء؟
قال العلامة السيد النقوي قدس سره: لا خلاف بين الفريقين أن قوله عليه السلام: "فمن كنت مولاه..." أمرٌ وتكليفٌ بصورة الإخبار.
عبقات الأنوار ج 9 ص 75
يضع العرب الجملة الخبرية موضع الجملة الإنشائية لعدة أغراض، منها التفاؤل كقولهم (هداكَ الله) كأن الهداية قد حصلت فعلاً، ومنها إظهار المبالغة في الأمر، قال الزمخشري في الكشّاف:
{تَزْرَعُونَ} خبر في معنى الأمر، كقوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُون} وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في إيجاب إيجاد المأمور به، فيجعل كأنه يوجد، فهو يخبر عنه. والدليل على كونه في معنى الأمر قوله: {فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ}.
انتهى
والظاهر أن الغرض من إخراج الجملة المذكورة بصورة الخبر هو لإظهار المبالغة في إيجاب إيجاد المأمور به، ويبعد أن يكون الغرض إظهار التفاؤل، بقرينة الدعاء على من لم يمتثل الذي جاء بعد الجملة مباشرة، ويؤكد هذا الخطاب الوارد في الآية الشريفة التي نزلت قبيل الغدير وهي قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}
إذا فهي جملة إنشائية في صورة الجملة الخبرية...
ومن الأوامر التي جائت بصورة الخبر في القرآن الكريم:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ} (83) سورة البقرة
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (197) سورة البقرة
{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ} (47) سورة يوسف
3 - هل مولى تعني أولى؟
يقول الشيخ النسر: ثم انتقلنا إلى بعض المسائل اللغوية ومنها ما ذكره الفخر الرازي في تفسيره، وابن عطيه في المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز والكلبي عند تفسير قوله تعالى {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
حيث أشار هؤلاء الأعلام بأن من فسر المولى هنا بأنه الأولى فإنما فسره بلازم المعنى لا أنه تفسير للفظ، وأوضح الفخر الرازي هذه المسألة في التفسير الكبير فليرجع إليه، وقد تبنينا هذا القول لأن فيه ردا على الشريف المرتضى ، كما أن صحة هذا القول بينة من خلال التمثيل.
انتهى كلامه
أ - نص جماعة من أئمة اللغة العربية والمفسرين الذين عليهم المعول في فهم مفرادت اللغة، على أن المقصود بكلمة {مَوْلَاكُمْ} في الآية الكريمة (أولى بكم) ويكفي أن أبا عبيدة قد نص على هذا المعنى...
ولو فرض أنه انفرد بهذا القول لكان حجة، قال السيوطي:
النوع الخامس معرفة الأفراد: وهو ما انْفَرَدَ بروايته واحدٌ من أهل اللغة ولم ينقله أحدٌ غيره وحكْمُه القبول إن كان المنفرّد به من أهل النَّبْط والإتقان كأبي زيد والخليل والأصمعي وأبي حاتم وأبي عبيدة وأضرابهم وشرْطُه ألاَّ يخالفه فيه مَنْ هو أكثر عدداً منه.
المزهر في علوم اللغة وأنواعها
ولا ريب أن كلام أبي عبيدة حجة يُعتمد عليها، ولا عبرة بكلام من يخالفه كالفخر الرازي وغيره ممن هم عيال عليه في فهم اللغة!!!! وهذا يغنينا عن إثبات ضعف الفخر الرازي في اللغة العربية...
ب - يقول هؤلاء كما نقل عنهم النسر: من فسر المولى هنا بأنه الأولى فإنما فسره بلازم المعنى لا أنه تفسير للفظ!!!
وأقول: عندما نرجع لكتب اللغة العربية فإننا نجد أنهم يعرفون مصطلح (الكناية) بأنه: لفظٌ أريد به لازم معناه مع جواز إرادته معه.
مختصر المعاني ص 257
وهذا يعني أن هؤلاء القوم الذين تبنى النسر رأيهم يحملون كلام اللغويين والمفسرين والمحديثن الذين فسروا مولى بأنه الأولى، على أنه كناية!!!
وهذا القول فاسد للغاية!!!
فكيف يمكن أن يُفسر اللفظ بالكناية؟؟؟
إن وظيفة المفسر (خصوصاً إذا كان من أئمة اللغة العربية) أن يفسر ألفاظ القرآن الكريم لإيضاح معانيها، لا أن يزيدها غموضاً!!!
ثم إن المُعّرِف لا بد أن يكون أجلى من المُعّرَف، ولك أن تتخيل ما سيؤول إليه حال اللغة العربية لو أننا حملنا ما ورد في قواميسها من تفسيرات للألفاظ على أنها كنايات!!!
ج - بغض النظر عن كل ما تقدم فإنه يوجد حديث مخرج في الصحيحين يدل على أن مولى تأتي بمعنى أولى:
1 - حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا محمد بن فليح حدثنا أبي عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه.
صحيح البخاري الحديث 4408
2 - حدثني محمد بن رافع حدثنا شبابة قال حدثني ورقاء عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
والذي نفس محمد بيده إن على الأرض من مؤمن إلا أنا أولى الناس به فأيكم ما ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه وأيكم ترك مالا فإلى العصبة من كان.
صحيح مسلم الحديث 3041
4 - المولى في اللغة من الألفاظ المشتركة!!!
هذا صحيح لكن المعنى يتعين من خلال القرائن الحافة باللفظ، ولو لم يكن في حديث الغدير أي قرينة لوجب حمله على أفضل المعاني... والسبب في ذلك أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله بهذا الحديث قد أثبت لأمير المؤمنين عليه السلام الولاية، وقد جائت مجردة، فلا وجه لتقييدها بشيء...
ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وآله لم يكتفِ بهذا، بل ذكر قرينة عليه إذ قال: يا أيها الناس من أولى بكم من أنفسكم؟
وهذا إستفهام للتقرير، يُعرّفه التفتازاني بأنه: حمل المُخاطَب على الإقرار بما يعرفه وإلجائه إليه.
مختصر المعاني ص 137
فبعد إقرارهم له صلى الله عليه وآله بأنه أولى بهم من أنفسهم قال: من كنت مولاه فعلي مولاه...
فهذه قرينة لفظية صريحة وواضحة جداً على المطلوب، يضاف إليها القرائن الحالية...
5 - حديث الغدير له مناسبة، وهي شكوى بعض الصحابة!!!
تعرضت في أصل الموضوع لهذه الشبهة، وتبين أنها لا أساس لها، بل إن الحديث تكرر في أكثر من موطن، وكان النبي صلى الله عليه وآله يرد على من شكى علياً عليه السلام بهذا الحديث، وقد تبين هناك أن هذا الجواب يدل على صحة المعنى الذي ذهب إليه الشيعة، فليراجعه من أراد...
**************
هذه هي خلاصة الشبهات التي تعرض لأكثرها الشيخ النسر في الحوار الذي دار بيننا، وبقي أن نذكر أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله قد استخدم الجملة الشرطية بقوله: (من كنت مولاه فعلي مولاه) فهنا شرط وجزاء...
وقد تقرر أن الجملة الشرطية تدل على وجود ملازمة بين الشرط والجزاء، فهي بمنطوقها تدل على ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط، وتدل بمفهموها على الانتفاء عند الانتفاء، وهذا واضح...
اللهم صلِ على محمدٍ وآل محمد...