الإمام علي(ع) ونهج البلاغة
يقول الإمام علي (عليه السّلام):
« أيُّهَا الناس: إنِّي قَدْ بَثَثْتُ لَكُمُ الْمَواعِظَ الَّتي وَعَظَ الأَنْبِيَاءُ بِهَا أُمَمَهُم، وَأَدَّيتُ إِلَيْكُمْ مَا أدَّتِ الأَوْصِياءُ إلى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَأدَّبْتُكُمْ بِسَوْطِي فَلَمْ تَسْتَقِيمُوا، وَحَدَوْتُكُم بِالزَّواجِرِ فَلَمْ تَسْتَوْسِقُوا.
للهِ أَنْتُمْ.. أَتَتَوَقَّعُونَ إمَاماً غَيْري يَطَأُ بِكُمُ الطَّريقَ وَيُرْشِدُكُمُ السَّبيلَ؟
أرى أنّه من اللاّزم علينا قبل الدُّخول في دراسة مواضيع [نهج البلاغة] أن نتوقّف قليلاً لنلقي أضواء كاشفة على حياة الإمام التي انعكست ولاشكّ على نهجه، وعلى [نهج البلاغة] وأهميّته وقضاياه.
أمّا الإمام فطالما سمعنا عن حياته التّاريخية كولادته وحروبه ومقتله، وسمعنا عن معاجزه وفضائله، ولكن الشّيء الذي لا نسمع عنه كثيراً، هو الـجـوانـب الـنّضالية والرِّسالية من حيـاة
الإمام.
فالإمام يوم كان شاباً ويوم أصبح كهلاً، وبعد أن تخطّى مرحلة الكهولة.. ما هي أبرز ملامح حياته في كلّ مرحلة من هذه المراحل حتى نقتدي به؟
الإمام شابّاً:
في مرحلة الشّباب كانت أهمّ سمات حياته:
أولاً ـ التّفتح: وأعني به الاستعداد لتقبُّل الرّأي الجديد والفكرة الحديثة، ومسارعته للعمل التغييري غير متقيّد بتقاليد المجتمع ولا مبالٍ بطريقة الآباء والعائلة، فما دام الرَّأي الجديد حقّاً، والفكرة الحديثة صحيحة، فيجب المبادرة لاعتناقها والعمل من أجلها. وهذا ملحوظ في سرعة تقبُّل الإمام للإيمان ومبادرته في العمل من أجل الإسلام في أوّل لحظة من دعوة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، لذا اعتبر العلماء أنَّ من أبرز خصائص الإمام علي(عليه السلام) سبقه للإسلام والصّلاة مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلّم) حيث تواترت الرّوايات الصّحيحة بذلك.
وقد أورد الإمام الـحافظ النّسائي (توفـي: 303هـ) عــدّة
روايات في أوّل فصل من كتابه [خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب]، ومن طرق عديدة حول هذه الخصيصة.
وعن سلمان الفارسي (رضي الله عنه) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:« أوّلكم وروداً عليَّ الحوض أوّلكم إسلاماً علي بن أبي طالب»
وعن أبي ذر الغفاري (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو آخذ بيد علي يقول: « أنت أوّل من آمن بي وأوّل من يصافحني يوم القيامة ».
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه) قال: « بُعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثّلاثاء ».
وحينما سُئل: يا علي هل استشرت أباك عندما آمنتَ بمحمَّدٍ؟! أجاب: وهل استشار الله أبي حينما خلقني؟
ثانياً ـ الطّموح: فالإمام لم يكن يفكّر حينما كان شاباً في مستقبله الشّخصي وكيف يُنهي دراسته ويتحصّل على وظيفة ويحظى بزوجة جميلة ويتوفّر له سكن مريح ـ كما يفكر أكثر شبابنا حالياً ـ! إنما كان الإمام يفكّر في مستقبل رسالته وفي أوضاع أمته، وكان لديه طموح كبير أسمى من الطموح الشّخصي، كان طموحه أن يكون الرّجل الثاني في قيادة العالم نحو السّعادة والتقدُّم رغبة في رضوان الله وثوابه. فمنذ البداية، وحينما أمر الله تعالى نبيه محمداً(صلى الله عليه وآله وسلّم) بإنذار عشيرته، بقوله تعالى:{ وَأنْذِر عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِين } دعا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بني عبد المطّلب، وهم يومئذٍ أربعون رجلاً وبعد أن قدَّم لهم الطّعام قام قائلاً: يا بني عبد المطلب إنّي أنا النّذير إليكم من الله عزّ وجل والبشير فأسلموا وأطيعوني تهتدوا. ثمّ قال: من يؤاخيني ويؤازرني ويكون وليّي ووصيّي بعدي وخليفتي في أهلي ويقضي ديني؟. فسكت القوم فأعادها ثلاثاً كلّ ذلك يسكت القوم ويقول علي: أنا. فقال في المرَّة الثالثة: أنت
ثالثاً ـ الثّقة بالنّفس: فرغم أنّ الإمام كان حدث السن وكان يعيش في مجتمع يحتلّ فيه العمر والهيكل مكانة سامية، إلاّ أنّ الإمام اخترق هذا الحاجز وتمرَّد على هذه القيمة الجاهلية ـ قيمة السّن والهيكل ـ ومارس ثقته بنفسه. فمثلاً في واقعة الخندق لما برز عمرو بن عبد ودّ الفارس المشهور من بني عامر بن لؤي وتخوَّف الناس من مبارزته، نادى الرَّسول الأعظم: مَن منكم يبرز لعمرو؟ فقام علي وقال: أنا يا رسول الله، فقال له النبي: إنّه عمرو! قال: وأنا علي
وفي مرحلة الكهولة:
وبعد وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كان من المفروض أن يتولّى الإمام علي (عليه السلام) قيادة الأمّة وإدارة شؤونها كإمام وخليفة نصَّ عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مواقف وموارد عديدة كحادثة غدير خم المشهورة؛ إلاّ أنّ ما حدث هو صرف الخلافة عن الإمام علي ومبايعة غيره في سقيفة بني ساعدة بينما كان الإمام مشغولاً بتجهيز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يعترف الإمام في البدء بما حدث وامتنع عن البيعة لكنه لمّا رأى أنّ إصراره على المطالبة بحقّه في الخلافة يهدِّد بخطر انقسام الأمّة ويتيح الفرصة للقوى المعادية للإسلام، آثر مصلحة الرِّسالة وسكت عن حقِّه وبايع من تولَّوا أُمور المسلمين، يقول (عليه السلام):
« أمّا بعدُ، فَإنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً ـ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ـ نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ وَمُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ، فَلَمَّا مَضَى(عَلَيهِ السَّلامُ) تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الأمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، فَوَاللهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوَعِي، وَلا يَخْطُرُ بِبَالِي، أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الأمْرَ مِنْ بَعْدِهِ ـ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ـ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ! فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ إِنْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلانٍ يُبَايِعُونَهُ فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإسلام، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دِينِ مُحَمَّدٍ ـ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ـ فَخَشَيْتُ إنْ لَمْ أَنْصُرِ الإسلام وَأَهْلَهُ أنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وَلاَيَتِكُمُ الَّتِي إِنمَّا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلائِلَ»
وقد حاول البعض دفع الإمام وتحريضه على التصدِّي للخلافة كحقٍ شرعي له، ولكن بصيرة الإمام النّافذة وإخلاصه للمصلحة العامة جعلته أسمى من الاستجابة لذلك التحريض.
يروي ابن الأثير في[تاريخه]: أنّ أبا سفيان أقبل وهو يقول: إنّي لأرى لجاجة لا يطفئها إلاّ دم، يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان؟ أين الأذلان علي والعباس؟ ما بال هذا الأمر في أقلّ حيّ من قريش؟.
ثمّ قال لعلي: أبسط يدك أبايعك فوالله لئن شئت لأملأنّها عليه خيلاً ورجلاً. فأبى علي وزجره وقال: والله ما أردت بهذا إلاّ الفتنة وإنّك والله طالما بغيت للإسلام شرّاً لا حاجة لنا في نصيحت.
وقد وقف الإمام إلى جانب الخلفاء الثّلاثة أبي بكر وعمر وعثمان ناصحاً ومشيراً ومسدّداً حيث كانوا يرجعون إليه في عويصات المسائل ومهمّات المشاكل فيجدون لديه العلم الغزير والرّأي الصّائب والحلّ النّاجع. حتى اشتهر عن الخليفة عمر بن الخطاب قوله: أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن علي بن أبي طالب.
فهو لم ينكفئ على نفسه ولم يـعـتـزل الـسّاحة ولم ينتقم
لحقّه بكفّ يد الدّعم والمساعدة عمّن تولّوا الخلافة.
المحطة الأخيرة:
وحينما غزت الشّيخوخة جسم الإمام:
أُتيحت له فرصة قيادة الأمة بعد أحداث وأحداث، وأعطى في فترة خلافته القصيرة النّموذج الأعلى للحاكم المثالي، حيث التزم بتطبيق أحكام الإسلام وتجسيد مبادئه العادلة مهما كلّفه ذلك من مصاعب ومشاكل، ولم يقبل بسلوك طريق الوصولية «الميكافيلية»، فقد رفض التّعامل مع المصلحيين أمثال طلحة والزبير ومعاوية، على حساب مصالح الأمة، كما مارس العدالة الاجتماعية في أروع صورها، فلم يؤثّر قريباً ولم يجامل صديقاً.
ماذا عن [نهج البلاغة]:
هذه لمحة خاطفة عن حياة الإمام، فماذا عن [نهج البلاغة]؟..
الإمام لم يكن مجرّد حـاكـم يصدر قرارات ويفرض على الشّعب تنفيذها، وإنما كان صاحب رسالة وحامل مبدأ، يهمّه أن يعي الشّعب رسالته وأن يفهم مبادئه، ولذلك كان يهتم بتوجيه الجماهير عن طريق الخطب والرَّسائل والوصايا والتّعاليم، وكان يغذّي الولاة والعاملين في جهاز حكمه بنصائحه وتوجيهاته التربوية ليقوموا بدورهم القيادي على خير وجه. ممّا وفّر للأمّة ثروة ضخمة من توجيهات الإمام علي وتعاليمه.
ورغم أنّ السّلطات التي تعاقبت على الحكم كانت تحارب تلك الثّروة وتحظر انتشارها، إلاّ أنّ كمية كبيرة تجاوزت تلك الظُّروف ووصلت إلى أجيال الأمّة بشكل مفرّق متناثر. وفي أواخر القرن الرابع من الهجرة فكّر الشّريف الرّضي (رحمه الله) في جمع هذه الثّروة وحفظ هذا التراث، ولكنه لاتجاهه الأدبي اهتمّ بجمع الكلمات التي يطغى عليها الطّابع البلاغي والأدبي، ولم يهتم كثيراً بما سواها مهما كانت قيمتها الفكرية والاجتماعية.
يقول في مقدمة [النّهج]:« وربما جاء فيما اختاره من ذلك فصول غير متّسقة، ومحاسن كلم غـيـر مـنـتـظمة، لأنّي أورد النّكت واللمع، ولا أقصد التّتالي والنّسق ».
ومن تسمية الشّريف الرّضي للنّهج نستشفّ ميوله الأدبية واتجاهه البلاغي، فكلمات الإمام علي تفيض بالحيوية، وتنبض بالرِّسالية والنّضال والكفاح وكان يمكن أن تسمّى بـ [نهج الحياة] أو بـ [نهج النّضال] أو بـ [نهج الجهاد]، ولكن ميول الشّريف فرضت عليه اسم [نهج البلاغة] رغم أنّ البلاغة ليست مقصودة ولا متعمّدة من خطب الإمام وكلماته، وإنما هي سليقة الإمام والهدف والقصد من كلمات الإمام هي المفاهيم الحيوية وقضايا الرّسالة والنّضال.
ولهذا السّبب أهمل الشّريف الرّضي مقاطع كثيرة من بعض الخطب والرّسائل فغالباً ما يقول في [النهج] « ومن خطبة له (عليه السلام) »، أو« ومن كتاب له (عليه السلام)» ومع ذلك لم يدّعِ الشّريف الرّضي بأنّه أحاط بكلّ كلمات الإمام البلاغية فقد صرَّح بأنّه ترك في نهاية كلّ باب أوراقاً فارغة لاستدراك ما يجده فيما بعد، وهذا نصّ كـلامـه:
« مفرداً لكلّ صنف من ذلك باباً ومفضلاً فيه أوراقاً لتكون مقدّمة لاستدراك ما عساه يشذّ عني عاجلاً ويقع إليّ آجلاً».
والشّريف الرّضي ينحدر من سلالة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فهو محمّد بن الحسين بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام).
وُلد سنة (359هـ) وتوفي سنة(406هـ) في بغداد.
وهو عالم فذّ غزير العلم واسع المعرفة، وكان نقيب الطّالبيين وزعيم الأشراف، ووالياً لإمارة الحج والمظالم.
ومؤلّفاته القيّمة تكشف عن مستواه الرّفيع ككتابه [حقائق التّأويل]، و[تلخيص البيان في مجازات القرآن]، و[مجازات الآثار النّبوية]، و[خصائص الأئمّة] وغيرها.
وقد جمع نصوص[نهج البلاغة] خلال ستّة عشر عاماً، بدءاً من سنة (384هـ) إلى سنة (400هـ) حيث أرّخ فراغه منه.
وفي الفترة الأخيرة قام أحد العلماء وهو العلاّمة المحقّق الشيخ محمد باقر المحمودي بجهد مشكور فجمع سائر كلام الإمام فأصدر عدّة مجلّدات باسم [نهج السّعادة في مستدرك نهج البلاغة] طبعت في بيروت ثمانية أجزاء في سبعة مجلّدات تنوف عدد صفحاتها على ثلاثة آلاف صفحة استغرق العمل على جمعها وإعدادها خمسة عشر عاماً من قِبل مؤلّفها المعاصر (جزاه الله خيراً).
وقد احتلّ [نهج البلاغة] مكانة كبيرة من اهتمام علماء الأمّة ومفكّريها فلحدِّ الآن أُلّف أكثر من(150) شرحاً على [النهج]. كما قام كبار العلماء بتحقيقه ونشره كالإمام محمد عبده مفتي الدّيار المصرية المتوفى سنة (1323هـ)، والعلامة الشيخ عبد الحميد محيى الدّين، والسيد عبد العزيز سيد الأهل، والدكتور الشيخ صبحي الصّالح، وأخيراً الأديب المسيحي جورج جرداق، والّذي طبع مختاراته من [نهج البلاغة] تحت عنوان[روائع نهج البلاغة] مقدّماً لها بدراسة أدبية واسعة.
أهميّة[نهج البلاغة]:
لأنّنا لا نسمع من[نهج البلاغة] إلاّ كلمات التّزهيد وخطب الوعظ والتّحذير من الموت والآخرة نسمعها في مجالس العزاء وفي فواتح الموتى، لذلك ينظر أكثر الشّباب إلى [نهج البلاغة] ككتاب تشاؤمي يصلح لفواتح الموتى ومواعظ القرّاء!
أمّا في الحقيقة فـ[نهج البلاغة] تراث عظيم وثروة ضخمة تبرز أهميته في النّقاط التّالية:
1 ـ إنّه مصدر هام للكشف عن مفاهيم الإسلام وآرائه في جميع حقول الحياة، فمن مبادئ الأخلاق إلى قوانين الحرب إلى تعاليم إدارية وسياسية إلى رؤى اجتماعية واقتصادية.
2 ـ إنّه مرآة صادقة تعكس لنا الكثير من أحداث التّاريخ الإسلامي، فهو بمثابة مذكّرات رجل عاش الأحداث وشارك في صناعتها.
3 ـ وهو بعد ذلك ثروة أدبية يفيض بالبلاغة والذّوق الرّفيع حتى قيل عنه أنّه:« دون كلام الـخـالـق، وفوق كــلام
المخلوق ».
حملة مغرضة:
يلاحظ في الفترة الأخيرة أنّ هناك حملة مغرضة من التّشويه تستهدف[نهج البلاغة] ففي(عدد مايو 1975م) طالعتنا مجلة[الكاتب] المصرية بمقال للأستاذ محمود محمد شاكر يتهجّم فيه على[نهج البلاغة] ويدّعي أنّه مزيّف على الإمام.
وبعدها بفترة بسيطة خرجت مجلة[الهلال] المصرية بمقال آخر في(عدد ديسمبر 1975م) للدّكتور شفيع السيّد يتناول نفس الموضوع.
وأخيراً جاء في مجلة[العربي] الكويتية مقال للدكتور محمد الدسّوقي(عدد شباط 1975م) يكرّر نفس الحديث.
ولا ندري ما هدف هذه الحملة التي جاءت في وقت بدأت فيه أمّتنا الإسلامية تشعر بالحاجة للرّجوع إلى تراثها الأصيل؟ هل يريدون حرمان الأمة من الاستفادة من ذلك التراث الثّري؟ أو يريدون إشغال الأمة بالجدل والـمـنـاقـشـة حول قضايا ثابتة ومسلّمة؟!
والذي يهمّنا الآن هو مناقشة بعض الاعتراضات على [نهج البلاغة]:
1 ـ أنّه من اختلاق الشّريف الرّضي وليس من كلام الإمام.
وهذا الاعتراض يتلاشى حينما نراجع كتب التّاريخ والأدب التي أُلّفت قبل ولادة الشّريف الرّضي فنراها تتضمّن الكثير من خطب[نهج البلاغة] ورسائله وكلماته، وعليها اعتمد الشّريف الرّضي في جمع النّهج.
فمثلاً وردت بعض خطب النّهج في كتاب[البيان والتّبيين] للجاحظ المتوفى سنة(255هـ).
وفي كتاب[صفّين] لنصر بن مزاحم المتوفّى سنة (202هجرية).
وفي كتاب[تاريخ الطّبري] المتوفى سنة(310 هجرية).
وفي كتاب[الأغاني] للأصفهاني المتوفى سنة(356 هجرية).
عِلماً بأنّ الـشّـريـف الـرّضـي توفـي سنة(406هـ) فكيف يصحّ أنّه اختلق شيئاً موجوداً في كتب من ماتوا قبل ميلاده؟ وأخيراً أصدر أحد العلماء موسوعة جيدة أثبت فيها أسانيد ومصادر كلّ خطبة ورسالة وكلمة من[نهج البلاغة]، وهو العلاّمة السيد عبد الزّهراء الحسيني الخطيب، والذي قام بتحقيق نسبة ما في[نهج البلاغة] إلى الإمام علي بالاعتماد على مصادر موثوقة من كتب التّاريخ والأدب أغلبها كان مؤلّفاً قبل[نهج البلاغة]، وبعضها تروي كلام الإمام بإسناد متّصلة لا تمرّ في طريقها على[نهج البلاغة]، ولا على جامعه الشّريف الرّضي.
وقد طُبع هذا العمل العلمي الهام في أربعة مجلّدات تحت عنوان[مصادر نهج البلاغة وأسانيده] تنوف عدد صفحاتها على(1870صفحة).
2 ـ إنّ فيه ذمّاً لبعض الصّحابة لا يمكن أن يصدر من الإمام، والجواب أنّ الإمام يعتنق رأي الإسلام الّذي يرى أنّ المبادئ هي المقياس وليس الأشخاص فأيّ شخص يلتزم بالمبادئ يقدَّس ويحترم ولو كان عبداً يعيش في القرن العشرين بعد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأي شخص خالف المبادئ وانحرف عنها يجب أن يذمّ ويخطّئ ولو كان يعيش مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في بيت واحد، فـ { أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ }(12) كما ذم القرآن الكريم زوجتي نبي الله نوح ونبي الله لوط قال تعالى:{ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِيْنَ كَفَرُواْ إِمْرَأَتَ نُوْحٍ وَإِمْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ أُدْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِين َ}
3 ـ إنّ فيه أخباراً عن أشياء غيبية مع اعتقادنا أنّه لا يعلم الغيب إلاّ الله وتذوب هذه الشُّبهة حينما نقرأ في[نهج البلاغة] أنّ رجلاً من بني كلب سمع الإمام يتحدّث عن بعض المغيبات، فقال: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب. فضحك(عليه السلام) وقال:« يَا أخَا كَلْبٍ، لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْبٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ.. عَلَّمَهُ اللهُ نَبِيَّهُ فَعَلَّمَنِيهِ وَدَعَا لِي بِأَنْ يَعِيَهُ صَدْرِي، وَتَضْطَمُّ عَلَيهِ جَوَانحِي ».
وهل هناك مانع من أن يخبر الله نبيّه بالمغيبات؟ والقرآن يقول:{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} ثمّ هل هناك مانع من أن يخبر الرّسول خليفته ووصيّه ببعض تلك المغيبات؟.
العدالة الاجتماعية في نهج البلاغة
قال الإمام علي(عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر:
« أَنْصِفِ اللهَ وَأنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِن خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوَى مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ!
وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ.
وَلَيْسَ شَيءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْييرِ نِعَمَةِ اللهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ، فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ »
العدالة الكونية:
بملاحظة علمية يلقيها الإنسان على مسيرة الكون ونظام الحياة، يكتشف أنّ مواد الكون وعناصر الحياة تعيش حالة دقيقة من التّوازن، حيث رسم الله تعالى لكلّ عنصر أو مادة حدوداً معيّنة لا تتعدّاها، فإذا ما افترض أن تعدّى جرم أو مادّة عن الحدود المرسومة، فإنّ ذلك يعني حدوث الدَّمار والخراب في مسيرة الحياة.
فمثلاً:
1ـ حجم الأرض حُدّد بميزان دقيق بحيث لا يتعارض ومصلحة الأحياء، فلو فرض أنّ حجمها توسّع وازداد فسيكون ذلك على حساب الحياة على الأرض حيث تزداد قوّتها الجاذبة فيصعب التحرّك والنّشاط على سطحها. ولو فرضنا الأمر بالعكس بحيث ينكمش حجم الأرض ويقلّ فإنّ ذلك يعني خراب الحياة حيث تقلّ الجاذبية فيفلت الهواء من أجواء الأرض وتتبخّر المياه.
2ـ تبعد الأرض عن الشّمس مسافة محدودة تقدّر بـ (93 مليون ميل)، وتحديد هذه المسافة إنما هو بوحي من دقّة النّظام العادل الذي يلفّ الكون. وإلاّ فلو ابتعدت الأرض بمسافة أبعد كثيراً عن هذه المسافة، لفقدنا الحرارة والدفء اللازم للحياة، ولو انعكس الأمر فاقتربت أكثر إلى الشّمس التي تبلغ درجة الحرارة على سطحها (12 ألف درجة فهرنهايت) لاحترق الأحياء وانعدمت الحياة.
3ـ وتعلمون أنّ الكرة الأرضية يلفّها غلاف جوّي ذو كثافة معيّنة، فرضها قانون الحياة الدّقيق، فإذا تقلّصت هذه الكثافة إلى أقلّ من وضعها الحالي، فذلك يعني أن تكون الحياة تحت رحمة النّيازك والشّهب التي تتساقط في الفضاء بمعدل(150 ألف) شهاب ونيزك في اليوم الواحد، وسرعة الواحد أقوى من طلقة البندقية بـ(90 مرة)، فما بعد ذلك إلاّ دمار الحياة وهلاك الأحياء، ولو افترضنا العكس حيث تتضخّم كثافة الغلاف الجوي فإنّ ذلك يعني خسارتنا للكثير من أشعّة الشّمس الضّرورية.
هذا التّوازن الدّقيق الذي يعيشه الكون حيث يعمل كلّ جرم وتتحرّك كلّ مادّة ضمن حدودها المعيّنة ومجالها المحدّد نستطيع أن نعتبرها حالة العدالة، بينما الحالات المقابلة المفترضة والتي تطغى فيها أحد مواد الكون أو عناصره وتخرج عن حدودها يمكننا أن نسمّيها حالة الظُّلم. وما دامت حالة العدالة هي المسيطرة على الكون فسيبقى الكون في خير وسلام، أمّا إذا سادت حالة الظُّلم في الكون فذلك يعني خراب الكون ودماره.
بهذا نكون قد تعرّفنا على حالة العدالة الكونية والظلم الكوني، والآن دعنا نتعرّف على حالة العدالة الاجتماعية والظُّلم الاجتماعي.
العدالة الاجتماعية:
تماماً كما أنّ كلّ جرم أو مادّة في الكون لها حدود معيّنة والتزامها بحدودها يعني العدالة وخروجها عن حدودها يعني الظُّلم، فكذلك الحال في المجتمع البشري حيث عيّن الله لكلّ فرد من أفراد المجتمع حدوداً وحقوقاً، فإذا ما سار كلّ إنسان وفق حدوده واستلم حقوقه فذلك يعني العدالة، أمّا إذا طغى الإنسان على حدوده، أو سلبت منه حقوقه فذلك يعني الظُّلم.
وبالضّبط كما أنّ العدالة الكونية تحافظ على خير الكون واستقراره، بينما الظُّلم الكوني يسبّب دمار الكون وخرابه، فكذلك العدالة الاجتماعية تحفظ المجتمع وتسعده والظُّلم الاجتماعي يمزّق المجتمع ويشقيه.
في هذا المجال يقول الإمام علي(عليه السلام) لزياد بن أبيه ـ وقد استخلفه لعبد الله ابن العباس على فارس وأعمالها في كلام طويل كان بينهما نهاه فيه عن تقدم الخراج ـ قال(عليــه
السلام):
« إسْتَعْمِل الْعَدْلَ وَاحْذَر الْعَسْفَ ـ الاعتداء ـ وَالْحَيْفَ ـ الظلم ـ، فَإِنَّ الْعَسْفَ يَعُودُ بِالْجَلاَءِ ـ بهروب الناس وهجرتهم ـ وَالْحَيْفَ يَدْعُو إلى السَّيْفِ ـ الثورة ـ ».
وهنا يجب أن ننبّه إلى حقيقة مهمّة وهي أنّ خالق البشر هو خالق الكون، والمجتمع البشري ما هو إلاّ جزء من الكون الذي تحكمه العدالة. فهل يمكن أنّ الله تعالى يفرض العدالة على جميع ذرّات الكون ويسمح للمجتمع البشري أن يفترسه الظُّلم والطُّغيان؟.
بما أنّ خالق الكون واحد فيجب أن يكون النّظام الذي يسود الكون هو الآخر واحداً، وقد أكّد القرآن الكريم هذه الحقيقة حيث يقول:
{ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ إرْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَحَسِيرٌ}
بيد أنّ الله تعالى أراد أن يشرّف الإنسان ويكرّمه ويفضّله على سائر المخلوقات، وذلك بأن يتيح له المجال لكي يُكمل نفسه بنفسه، فلم يفرض عليه العدالة جبراً وقسراً كما فرضها على الشّمس والأرض، وإنما أوضح له طريق العدالة، ورغّبه في سلوكه، وبيّن له طريق الظُّلم وحذّره من الانزلاق فيه، ثم تركه واختياره.
صور الظّلم في المجتمع:
ولكي يتجلّى لنا مفهوم العدالة وأبعادها الاجتماعية في[نهج البلاغة]، علينا أن نستعرض صور الظُّلم الاجتماعي وموقف الإمام علي منها، فالأشياء تُعرف بأضدادها:
1ـ الحاجة والحرمان:
فإنّ الله الذي خلق الناس وتكفّل بمعيشة ورزق كلّ واحدٍ منهم بل وكلّ كائنٍ حي.. يقول تعالى:{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها }، ويقول الإمام علي (عليه السلام):« عياله الخلق، ضمن أرزاقهم، وقدّر أقواتهم »
وهذا الرزق مودع في كنوز الكون وخيراته، فعلى كلّ إنسان أن يعمل لاستخراج حصّته من هذه الكنوز والخيرات. ولكن من لا تساعده ظروفه الجسمية أو الاجتماعية على العمل وأخذ حصّته من خيرات الكون مباشرة، هل يسقط حقّه ويعيش محروماً أو يموت جوعاً؟.
كلاّ.. وإنما فرض الله على القادرين على العمل والحائزين على ثروات الكون أن يعطوا ذلك الفقير العاجز ما يسدُّ حاجته ويدفع الحرمان عنه، يقول تعالى:{ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم } فإذا امتنع الأثرياء عن إعطاء الفقراء حاجتهم ومعيشتهم، فهذا ظلم واعتداء لا يرضى به الله ولا تقبله شريعة العدالة.
فاقرأ معي ما يقوله الإمام علي(عليه السلام) في هذا المجال:
« إنّ الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلاّ بما متّع به غني، والله تعالى سائلهم عن ذلك »
ويقول في رسالة لعامله على مكّة قثم بن العباس:
« وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة، مصيباً به مواضع الفاقة والخلاّت »
وفي عهده لمالك الأشتر يقول(عليه السلام):
« اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لا حِيلَةَ لَهُم، مِنَ الْمَسَاكِينِ وَالْمُحْتَاجِينِ وَأَهْلِ الْبُؤسَى وَالزَّمْنَى، فَإنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعَتَراً، وَاحْفَظْ لِلِه مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ، وَقِسْماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِي الإسلام في كُلِّ بَلَد، فَإِنَّ لِلأقْصَى مِنْهُمْ مٍثْلَ الَّذِي لِلأَدْنَى، وَكُلٌّ قَدِ أسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ ».
وماذا سيحدث لو طغى الناس الأثرياء وانحرفوا عن قانون العدالة وتركوا الفقراء يكابدون الحاجة والحرمان؟!
إنّ الذي سيحدث حينئذٍ هو النّتائج الخطيرة التّالية:
أ ـ الطبقية: حيث تتكدّس الثّروات عند مجموعة من الناس، بينما يكتوي الآخرون بنار البؤس والحرمان. وبمرور الأيام يزداد الأثرياء ثروة وترفعاً، ويزداد الفقراء تعاسة وانـعـزالاً. يـقـول الإمــام عـلـي(عليه السلام): « إضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ فَهَلْ تُبْصِرُ إِلاَّ فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً، أوْ غَنِياً بَدَّلَ نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً، أوْ بَخِيْلاً إتَّخَذَ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللهِ وَفْراً »
وبصراحة، يندّد الإمام بالمجتمع الطّبقي، فيقول(عليه السلام) في رسالته لعثمان بن حنيف واليه على البصرة:
« أمّا بَعْدُ، يَا بْنَ حُنَيْفٍ: فَقَدْ بَلَغَني أَنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إلَى مَأدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا تُسْتَطَابُ لَكَ الألْوَانُ، وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ. وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيْبُ إلَى طَعَامِ قَوْمٍ، عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ، وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ »
ب ـ الجريمة والانحراف: فإنّ الفقر والحاجة الملحّة تدفعان إلى الجريمة والفساد كالنَّهب والسّرقة والاحتيال.
يقول الإمام(عليه السلام):
« وَإذَا بَخِلَ الغني بمعروفه باعَ الْفَقِير آخِرَتَهُ بِدُنْيَاه
ج ـ الاضطرابات الاجتماعية: فإلى كم سيصبر الفقراء على ألم الجوع ويتحمّلون الحاجة والحرمان؟.. بل لابدّ وأن يتورّم الحقد في قلوبهم فيتفجّروا في ثورة عارمة.
يقول(عليه السلام):« الْحَيْفُ يَدْعُو إلَى السَّيْفِ ».
2ـ عدم تكافؤ الفرص:
وهذا هو المشهد الثّاني من مشاهد الظُّلم الاجتماعي، حيث يُتاح المجال الاجتماعي والامتيازات الاقتصادية لفئة دون أُخرى، على أساس علاقتهم بجهاز الحكم أو قرابتهم من شخص الحاكم.
وهذا يسبّب وصول غير المؤهّلين لمراكز السّيادة، فيتلاعبون حينئذٍ بكرامة النّاس وحقوقهم، بينما ينسحب أصحاب الكفاءة لعدم إتاحة المجال لهم لممارسة كفاءتهم، فيُحرم المجتمع من خبراتهم وخدماتهم.
وقد وقف الإمام علي من هذا الأمر موقفاً صارماً شديداً، فبمجرّد أن تولّى الإمام الخلافة سحب كلّ الامتيازات السيّاسية والاقتصادية التي مُنحت بغير حق لأقرباء وأصدقاء الخليفة السّابق. يقول(عليه السلام):
« وَاللهِ لَوْ وَجَدْتُهُ –المال- قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَمُلِكَ بِهِ الإِمَاءُ، لَرَدَدْتُهُ، فَإنّ في الْعَدْلِ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ، فَالْجَوْرُ عَلِيْهِ أَضْيَقُ »
وأصرّ الإمام على(عليه السلام) عزل الولاة السّابقين ومن بينهم معاوية بن أبي سفيان والي الشّام القوي، ورفض أن يمنح طلحة والزبير ما يطمحان إليه من منصب لعدم كفاءتهما.
وطبّق سياسة المساواة في العطاء بين النّاس مهما اختلفوا في الفضل والمكانة وحينما عوتب صار يشرح سياسته العادلة بقوله:
« أَتَأْمُرُونِي أنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ! وَاللهِ لا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً! لَوْ كَانَ الْمَالَ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُم، فَكَيْفَ وَإنَّما الْمَالُ مَالُ اللهِ! ».
وحتى أخوه وشقيقه عقيل بن أبي طالب جاء يطلب زيادة في عطائه على سائر الناس فرفض الإمام، وحينما ألحَّ عقيل في طلبه صرَّح له الإمام بإصراره على العدالة بطريقة عملية، يتحدَّث عنها(عليه السلام) فيقول:
« وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلاً وَقَدْ أَمْلَقَ، حَتَّى إِسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً، وَرَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ، غُبْرَ الأَلْوانِ، مِن فَقْرِهِمْ، كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ، وَعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً، وَكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً، فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعي، فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي، وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً، ثُمَّ أَدْنَيْتُها منْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا، وَكَادَ أنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مَيْسَمِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: ثَكَلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ! أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِي إلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ! أَتَئِنُّ مِنَ الأذَى وَلا أَئِنُّ مِن لَظَىً »!.
يقول الإمام علي (عليه السّلام):
« أيُّهَا الناس: إنِّي قَدْ بَثَثْتُ لَكُمُ الْمَواعِظَ الَّتي وَعَظَ الأَنْبِيَاءُ بِهَا أُمَمَهُم، وَأَدَّيتُ إِلَيْكُمْ مَا أدَّتِ الأَوْصِياءُ إلى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَأدَّبْتُكُمْ بِسَوْطِي فَلَمْ تَسْتَقِيمُوا، وَحَدَوْتُكُم بِالزَّواجِرِ فَلَمْ تَسْتَوْسِقُوا.
للهِ أَنْتُمْ.. أَتَتَوَقَّعُونَ إمَاماً غَيْري يَطَأُ بِكُمُ الطَّريقَ وَيُرْشِدُكُمُ السَّبيلَ؟
أرى أنّه من اللاّزم علينا قبل الدُّخول في دراسة مواضيع [نهج البلاغة] أن نتوقّف قليلاً لنلقي أضواء كاشفة على حياة الإمام التي انعكست ولاشكّ على نهجه، وعلى [نهج البلاغة] وأهميّته وقضاياه.
أمّا الإمام فطالما سمعنا عن حياته التّاريخية كولادته وحروبه ومقتله، وسمعنا عن معاجزه وفضائله، ولكن الشّيء الذي لا نسمع عنه كثيراً، هو الـجـوانـب الـنّضالية والرِّسالية من حيـاة
الإمام.
فالإمام يوم كان شاباً ويوم أصبح كهلاً، وبعد أن تخطّى مرحلة الكهولة.. ما هي أبرز ملامح حياته في كلّ مرحلة من هذه المراحل حتى نقتدي به؟
الإمام شابّاً:
في مرحلة الشّباب كانت أهمّ سمات حياته:
أولاً ـ التّفتح: وأعني به الاستعداد لتقبُّل الرّأي الجديد والفكرة الحديثة، ومسارعته للعمل التغييري غير متقيّد بتقاليد المجتمع ولا مبالٍ بطريقة الآباء والعائلة، فما دام الرَّأي الجديد حقّاً، والفكرة الحديثة صحيحة، فيجب المبادرة لاعتناقها والعمل من أجلها. وهذا ملحوظ في سرعة تقبُّل الإمام للإيمان ومبادرته في العمل من أجل الإسلام في أوّل لحظة من دعوة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، لذا اعتبر العلماء أنَّ من أبرز خصائص الإمام علي(عليه السلام) سبقه للإسلام والصّلاة مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلّم) حيث تواترت الرّوايات الصّحيحة بذلك.
وقد أورد الإمام الـحافظ النّسائي (توفـي: 303هـ) عــدّة
روايات في أوّل فصل من كتابه [خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب]، ومن طرق عديدة حول هذه الخصيصة.
وعن سلمان الفارسي (رضي الله عنه) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:« أوّلكم وروداً عليَّ الحوض أوّلكم إسلاماً علي بن أبي طالب»
وعن أبي ذر الغفاري (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو آخذ بيد علي يقول: « أنت أوّل من آمن بي وأوّل من يصافحني يوم القيامة ».
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه) قال: « بُعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثّلاثاء ».
وحينما سُئل: يا علي هل استشرت أباك عندما آمنتَ بمحمَّدٍ؟! أجاب: وهل استشار الله أبي حينما خلقني؟
ثانياً ـ الطّموح: فالإمام لم يكن يفكّر حينما كان شاباً في مستقبله الشّخصي وكيف يُنهي دراسته ويتحصّل على وظيفة ويحظى بزوجة جميلة ويتوفّر له سكن مريح ـ كما يفكر أكثر شبابنا حالياً ـ! إنما كان الإمام يفكّر في مستقبل رسالته وفي أوضاع أمته، وكان لديه طموح كبير أسمى من الطموح الشّخصي، كان طموحه أن يكون الرّجل الثاني في قيادة العالم نحو السّعادة والتقدُّم رغبة في رضوان الله وثوابه. فمنذ البداية، وحينما أمر الله تعالى نبيه محمداً(صلى الله عليه وآله وسلّم) بإنذار عشيرته، بقوله تعالى:{ وَأنْذِر عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِين } دعا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بني عبد المطّلب، وهم يومئذٍ أربعون رجلاً وبعد أن قدَّم لهم الطّعام قام قائلاً: يا بني عبد المطلب إنّي أنا النّذير إليكم من الله عزّ وجل والبشير فأسلموا وأطيعوني تهتدوا. ثمّ قال: من يؤاخيني ويؤازرني ويكون وليّي ووصيّي بعدي وخليفتي في أهلي ويقضي ديني؟. فسكت القوم فأعادها ثلاثاً كلّ ذلك يسكت القوم ويقول علي: أنا. فقال في المرَّة الثالثة: أنت
ثالثاً ـ الثّقة بالنّفس: فرغم أنّ الإمام كان حدث السن وكان يعيش في مجتمع يحتلّ فيه العمر والهيكل مكانة سامية، إلاّ أنّ الإمام اخترق هذا الحاجز وتمرَّد على هذه القيمة الجاهلية ـ قيمة السّن والهيكل ـ ومارس ثقته بنفسه. فمثلاً في واقعة الخندق لما برز عمرو بن عبد ودّ الفارس المشهور من بني عامر بن لؤي وتخوَّف الناس من مبارزته، نادى الرَّسول الأعظم: مَن منكم يبرز لعمرو؟ فقام علي وقال: أنا يا رسول الله، فقال له النبي: إنّه عمرو! قال: وأنا علي
وفي مرحلة الكهولة:
وبعد وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كان من المفروض أن يتولّى الإمام علي (عليه السلام) قيادة الأمّة وإدارة شؤونها كإمام وخليفة نصَّ عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مواقف وموارد عديدة كحادثة غدير خم المشهورة؛ إلاّ أنّ ما حدث هو صرف الخلافة عن الإمام علي ومبايعة غيره في سقيفة بني ساعدة بينما كان الإمام مشغولاً بتجهيز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يعترف الإمام في البدء بما حدث وامتنع عن البيعة لكنه لمّا رأى أنّ إصراره على المطالبة بحقّه في الخلافة يهدِّد بخطر انقسام الأمّة ويتيح الفرصة للقوى المعادية للإسلام، آثر مصلحة الرِّسالة وسكت عن حقِّه وبايع من تولَّوا أُمور المسلمين، يقول (عليه السلام):
« أمّا بعدُ، فَإنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً ـ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ـ نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ وَمُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ، فَلَمَّا مَضَى(عَلَيهِ السَّلامُ) تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الأمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، فَوَاللهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوَعِي، وَلا يَخْطُرُ بِبَالِي، أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الأمْرَ مِنْ بَعْدِهِ ـ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ـ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ! فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ إِنْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلانٍ يُبَايِعُونَهُ فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإسلام، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دِينِ مُحَمَّدٍ ـ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ـ فَخَشَيْتُ إنْ لَمْ أَنْصُرِ الإسلام وَأَهْلَهُ أنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وَلاَيَتِكُمُ الَّتِي إِنمَّا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلائِلَ»
وقد حاول البعض دفع الإمام وتحريضه على التصدِّي للخلافة كحقٍ شرعي له، ولكن بصيرة الإمام النّافذة وإخلاصه للمصلحة العامة جعلته أسمى من الاستجابة لذلك التحريض.
يروي ابن الأثير في[تاريخه]: أنّ أبا سفيان أقبل وهو يقول: إنّي لأرى لجاجة لا يطفئها إلاّ دم، يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان؟ أين الأذلان علي والعباس؟ ما بال هذا الأمر في أقلّ حيّ من قريش؟.
ثمّ قال لعلي: أبسط يدك أبايعك فوالله لئن شئت لأملأنّها عليه خيلاً ورجلاً. فأبى علي وزجره وقال: والله ما أردت بهذا إلاّ الفتنة وإنّك والله طالما بغيت للإسلام شرّاً لا حاجة لنا في نصيحت.
وقد وقف الإمام إلى جانب الخلفاء الثّلاثة أبي بكر وعمر وعثمان ناصحاً ومشيراً ومسدّداً حيث كانوا يرجعون إليه في عويصات المسائل ومهمّات المشاكل فيجدون لديه العلم الغزير والرّأي الصّائب والحلّ النّاجع. حتى اشتهر عن الخليفة عمر بن الخطاب قوله: أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن علي بن أبي طالب.
فهو لم ينكفئ على نفسه ولم يـعـتـزل الـسّاحة ولم ينتقم
لحقّه بكفّ يد الدّعم والمساعدة عمّن تولّوا الخلافة.
المحطة الأخيرة:
وحينما غزت الشّيخوخة جسم الإمام:
أُتيحت له فرصة قيادة الأمة بعد أحداث وأحداث، وأعطى في فترة خلافته القصيرة النّموذج الأعلى للحاكم المثالي، حيث التزم بتطبيق أحكام الإسلام وتجسيد مبادئه العادلة مهما كلّفه ذلك من مصاعب ومشاكل، ولم يقبل بسلوك طريق الوصولية «الميكافيلية»، فقد رفض التّعامل مع المصلحيين أمثال طلحة والزبير ومعاوية، على حساب مصالح الأمة، كما مارس العدالة الاجتماعية في أروع صورها، فلم يؤثّر قريباً ولم يجامل صديقاً.
ماذا عن [نهج البلاغة]:
هذه لمحة خاطفة عن حياة الإمام، فماذا عن [نهج البلاغة]؟..
الإمام لم يكن مجرّد حـاكـم يصدر قرارات ويفرض على الشّعب تنفيذها، وإنما كان صاحب رسالة وحامل مبدأ، يهمّه أن يعي الشّعب رسالته وأن يفهم مبادئه، ولذلك كان يهتم بتوجيه الجماهير عن طريق الخطب والرَّسائل والوصايا والتّعاليم، وكان يغذّي الولاة والعاملين في جهاز حكمه بنصائحه وتوجيهاته التربوية ليقوموا بدورهم القيادي على خير وجه. ممّا وفّر للأمّة ثروة ضخمة من توجيهات الإمام علي وتعاليمه.
ورغم أنّ السّلطات التي تعاقبت على الحكم كانت تحارب تلك الثّروة وتحظر انتشارها، إلاّ أنّ كمية كبيرة تجاوزت تلك الظُّروف ووصلت إلى أجيال الأمّة بشكل مفرّق متناثر. وفي أواخر القرن الرابع من الهجرة فكّر الشّريف الرّضي (رحمه الله) في جمع هذه الثّروة وحفظ هذا التراث، ولكنه لاتجاهه الأدبي اهتمّ بجمع الكلمات التي يطغى عليها الطّابع البلاغي والأدبي، ولم يهتم كثيراً بما سواها مهما كانت قيمتها الفكرية والاجتماعية.
يقول في مقدمة [النّهج]:« وربما جاء فيما اختاره من ذلك فصول غير متّسقة، ومحاسن كلم غـيـر مـنـتـظمة، لأنّي أورد النّكت واللمع، ولا أقصد التّتالي والنّسق ».
ومن تسمية الشّريف الرّضي للنّهج نستشفّ ميوله الأدبية واتجاهه البلاغي، فكلمات الإمام علي تفيض بالحيوية، وتنبض بالرِّسالية والنّضال والكفاح وكان يمكن أن تسمّى بـ [نهج الحياة] أو بـ [نهج النّضال] أو بـ [نهج الجهاد]، ولكن ميول الشّريف فرضت عليه اسم [نهج البلاغة] رغم أنّ البلاغة ليست مقصودة ولا متعمّدة من خطب الإمام وكلماته، وإنما هي سليقة الإمام والهدف والقصد من كلمات الإمام هي المفاهيم الحيوية وقضايا الرّسالة والنّضال.
ولهذا السّبب أهمل الشّريف الرّضي مقاطع كثيرة من بعض الخطب والرّسائل فغالباً ما يقول في [النهج] « ومن خطبة له (عليه السلام) »، أو« ومن كتاب له (عليه السلام)» ومع ذلك لم يدّعِ الشّريف الرّضي بأنّه أحاط بكلّ كلمات الإمام البلاغية فقد صرَّح بأنّه ترك في نهاية كلّ باب أوراقاً فارغة لاستدراك ما يجده فيما بعد، وهذا نصّ كـلامـه:
« مفرداً لكلّ صنف من ذلك باباً ومفضلاً فيه أوراقاً لتكون مقدّمة لاستدراك ما عساه يشذّ عني عاجلاً ويقع إليّ آجلاً».
والشّريف الرّضي ينحدر من سلالة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فهو محمّد بن الحسين بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام).
وُلد سنة (359هـ) وتوفي سنة(406هـ) في بغداد.
وهو عالم فذّ غزير العلم واسع المعرفة، وكان نقيب الطّالبيين وزعيم الأشراف، ووالياً لإمارة الحج والمظالم.
ومؤلّفاته القيّمة تكشف عن مستواه الرّفيع ككتابه [حقائق التّأويل]، و[تلخيص البيان في مجازات القرآن]، و[مجازات الآثار النّبوية]، و[خصائص الأئمّة] وغيرها.
وقد جمع نصوص[نهج البلاغة] خلال ستّة عشر عاماً، بدءاً من سنة (384هـ) إلى سنة (400هـ) حيث أرّخ فراغه منه.
وفي الفترة الأخيرة قام أحد العلماء وهو العلاّمة المحقّق الشيخ محمد باقر المحمودي بجهد مشكور فجمع سائر كلام الإمام فأصدر عدّة مجلّدات باسم [نهج السّعادة في مستدرك نهج البلاغة] طبعت في بيروت ثمانية أجزاء في سبعة مجلّدات تنوف عدد صفحاتها على ثلاثة آلاف صفحة استغرق العمل على جمعها وإعدادها خمسة عشر عاماً من قِبل مؤلّفها المعاصر (جزاه الله خيراً).
وقد احتلّ [نهج البلاغة] مكانة كبيرة من اهتمام علماء الأمّة ومفكّريها فلحدِّ الآن أُلّف أكثر من(150) شرحاً على [النهج]. كما قام كبار العلماء بتحقيقه ونشره كالإمام محمد عبده مفتي الدّيار المصرية المتوفى سنة (1323هـ)، والعلامة الشيخ عبد الحميد محيى الدّين، والسيد عبد العزيز سيد الأهل، والدكتور الشيخ صبحي الصّالح، وأخيراً الأديب المسيحي جورج جرداق، والّذي طبع مختاراته من [نهج البلاغة] تحت عنوان[روائع نهج البلاغة] مقدّماً لها بدراسة أدبية واسعة.
أهميّة[نهج البلاغة]:
لأنّنا لا نسمع من[نهج البلاغة] إلاّ كلمات التّزهيد وخطب الوعظ والتّحذير من الموت والآخرة نسمعها في مجالس العزاء وفي فواتح الموتى، لذلك ينظر أكثر الشّباب إلى [نهج البلاغة] ككتاب تشاؤمي يصلح لفواتح الموتى ومواعظ القرّاء!
أمّا في الحقيقة فـ[نهج البلاغة] تراث عظيم وثروة ضخمة تبرز أهميته في النّقاط التّالية:
1 ـ إنّه مصدر هام للكشف عن مفاهيم الإسلام وآرائه في جميع حقول الحياة، فمن مبادئ الأخلاق إلى قوانين الحرب إلى تعاليم إدارية وسياسية إلى رؤى اجتماعية واقتصادية.
2 ـ إنّه مرآة صادقة تعكس لنا الكثير من أحداث التّاريخ الإسلامي، فهو بمثابة مذكّرات رجل عاش الأحداث وشارك في صناعتها.
3 ـ وهو بعد ذلك ثروة أدبية يفيض بالبلاغة والذّوق الرّفيع حتى قيل عنه أنّه:« دون كلام الـخـالـق، وفوق كــلام
المخلوق ».
حملة مغرضة:
يلاحظ في الفترة الأخيرة أنّ هناك حملة مغرضة من التّشويه تستهدف[نهج البلاغة] ففي(عدد مايو 1975م) طالعتنا مجلة[الكاتب] المصرية بمقال للأستاذ محمود محمد شاكر يتهجّم فيه على[نهج البلاغة] ويدّعي أنّه مزيّف على الإمام.
وبعدها بفترة بسيطة خرجت مجلة[الهلال] المصرية بمقال آخر في(عدد ديسمبر 1975م) للدّكتور شفيع السيّد يتناول نفس الموضوع.
وأخيراً جاء في مجلة[العربي] الكويتية مقال للدكتور محمد الدسّوقي(عدد شباط 1975م) يكرّر نفس الحديث.
ولا ندري ما هدف هذه الحملة التي جاءت في وقت بدأت فيه أمّتنا الإسلامية تشعر بالحاجة للرّجوع إلى تراثها الأصيل؟ هل يريدون حرمان الأمة من الاستفادة من ذلك التراث الثّري؟ أو يريدون إشغال الأمة بالجدل والـمـنـاقـشـة حول قضايا ثابتة ومسلّمة؟!
والذي يهمّنا الآن هو مناقشة بعض الاعتراضات على [نهج البلاغة]:
1 ـ أنّه من اختلاق الشّريف الرّضي وليس من كلام الإمام.
وهذا الاعتراض يتلاشى حينما نراجع كتب التّاريخ والأدب التي أُلّفت قبل ولادة الشّريف الرّضي فنراها تتضمّن الكثير من خطب[نهج البلاغة] ورسائله وكلماته، وعليها اعتمد الشّريف الرّضي في جمع النّهج.
فمثلاً وردت بعض خطب النّهج في كتاب[البيان والتّبيين] للجاحظ المتوفى سنة(255هـ).
وفي كتاب[صفّين] لنصر بن مزاحم المتوفّى سنة (202هجرية).
وفي كتاب[تاريخ الطّبري] المتوفى سنة(310 هجرية).
وفي كتاب[الأغاني] للأصفهاني المتوفى سنة(356 هجرية).
عِلماً بأنّ الـشّـريـف الـرّضـي توفـي سنة(406هـ) فكيف يصحّ أنّه اختلق شيئاً موجوداً في كتب من ماتوا قبل ميلاده؟ وأخيراً أصدر أحد العلماء موسوعة جيدة أثبت فيها أسانيد ومصادر كلّ خطبة ورسالة وكلمة من[نهج البلاغة]، وهو العلاّمة السيد عبد الزّهراء الحسيني الخطيب، والذي قام بتحقيق نسبة ما في[نهج البلاغة] إلى الإمام علي بالاعتماد على مصادر موثوقة من كتب التّاريخ والأدب أغلبها كان مؤلّفاً قبل[نهج البلاغة]، وبعضها تروي كلام الإمام بإسناد متّصلة لا تمرّ في طريقها على[نهج البلاغة]، ولا على جامعه الشّريف الرّضي.
وقد طُبع هذا العمل العلمي الهام في أربعة مجلّدات تحت عنوان[مصادر نهج البلاغة وأسانيده] تنوف عدد صفحاتها على(1870صفحة).
2 ـ إنّ فيه ذمّاً لبعض الصّحابة لا يمكن أن يصدر من الإمام، والجواب أنّ الإمام يعتنق رأي الإسلام الّذي يرى أنّ المبادئ هي المقياس وليس الأشخاص فأيّ شخص يلتزم بالمبادئ يقدَّس ويحترم ولو كان عبداً يعيش في القرن العشرين بعد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأي شخص خالف المبادئ وانحرف عنها يجب أن يذمّ ويخطّئ ولو كان يعيش مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في بيت واحد، فـ { أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ }(12) كما ذم القرآن الكريم زوجتي نبي الله نوح ونبي الله لوط قال تعالى:{ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِيْنَ كَفَرُواْ إِمْرَأَتَ نُوْحٍ وَإِمْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ أُدْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِين َ}
3 ـ إنّ فيه أخباراً عن أشياء غيبية مع اعتقادنا أنّه لا يعلم الغيب إلاّ الله وتذوب هذه الشُّبهة حينما نقرأ في[نهج البلاغة] أنّ رجلاً من بني كلب سمع الإمام يتحدّث عن بعض المغيبات، فقال: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب. فضحك(عليه السلام) وقال:« يَا أخَا كَلْبٍ، لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْبٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ.. عَلَّمَهُ اللهُ نَبِيَّهُ فَعَلَّمَنِيهِ وَدَعَا لِي بِأَنْ يَعِيَهُ صَدْرِي، وَتَضْطَمُّ عَلَيهِ جَوَانحِي ».
وهل هناك مانع من أن يخبر الله نبيّه بالمغيبات؟ والقرآن يقول:{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} ثمّ هل هناك مانع من أن يخبر الرّسول خليفته ووصيّه ببعض تلك المغيبات؟.
العدالة الاجتماعية في نهج البلاغة
قال الإمام علي(عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر:
« أَنْصِفِ اللهَ وَأنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِن خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوَى مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ!
وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ.
وَلَيْسَ شَيءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْييرِ نِعَمَةِ اللهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ، فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ »
العدالة الكونية:
بملاحظة علمية يلقيها الإنسان على مسيرة الكون ونظام الحياة، يكتشف أنّ مواد الكون وعناصر الحياة تعيش حالة دقيقة من التّوازن، حيث رسم الله تعالى لكلّ عنصر أو مادة حدوداً معيّنة لا تتعدّاها، فإذا ما افترض أن تعدّى جرم أو مادّة عن الحدود المرسومة، فإنّ ذلك يعني حدوث الدَّمار والخراب في مسيرة الحياة.
فمثلاً:
1ـ حجم الأرض حُدّد بميزان دقيق بحيث لا يتعارض ومصلحة الأحياء، فلو فرض أنّ حجمها توسّع وازداد فسيكون ذلك على حساب الحياة على الأرض حيث تزداد قوّتها الجاذبة فيصعب التحرّك والنّشاط على سطحها. ولو فرضنا الأمر بالعكس بحيث ينكمش حجم الأرض ويقلّ فإنّ ذلك يعني خراب الحياة حيث تقلّ الجاذبية فيفلت الهواء من أجواء الأرض وتتبخّر المياه.
2ـ تبعد الأرض عن الشّمس مسافة محدودة تقدّر بـ (93 مليون ميل)، وتحديد هذه المسافة إنما هو بوحي من دقّة النّظام العادل الذي يلفّ الكون. وإلاّ فلو ابتعدت الأرض بمسافة أبعد كثيراً عن هذه المسافة، لفقدنا الحرارة والدفء اللازم للحياة، ولو انعكس الأمر فاقتربت أكثر إلى الشّمس التي تبلغ درجة الحرارة على سطحها (12 ألف درجة فهرنهايت) لاحترق الأحياء وانعدمت الحياة.
3ـ وتعلمون أنّ الكرة الأرضية يلفّها غلاف جوّي ذو كثافة معيّنة، فرضها قانون الحياة الدّقيق، فإذا تقلّصت هذه الكثافة إلى أقلّ من وضعها الحالي، فذلك يعني أن تكون الحياة تحت رحمة النّيازك والشّهب التي تتساقط في الفضاء بمعدل(150 ألف) شهاب ونيزك في اليوم الواحد، وسرعة الواحد أقوى من طلقة البندقية بـ(90 مرة)، فما بعد ذلك إلاّ دمار الحياة وهلاك الأحياء، ولو افترضنا العكس حيث تتضخّم كثافة الغلاف الجوي فإنّ ذلك يعني خسارتنا للكثير من أشعّة الشّمس الضّرورية.
هذا التّوازن الدّقيق الذي يعيشه الكون حيث يعمل كلّ جرم وتتحرّك كلّ مادّة ضمن حدودها المعيّنة ومجالها المحدّد نستطيع أن نعتبرها حالة العدالة، بينما الحالات المقابلة المفترضة والتي تطغى فيها أحد مواد الكون أو عناصره وتخرج عن حدودها يمكننا أن نسمّيها حالة الظُّلم. وما دامت حالة العدالة هي المسيطرة على الكون فسيبقى الكون في خير وسلام، أمّا إذا سادت حالة الظُّلم في الكون فذلك يعني خراب الكون ودماره.
بهذا نكون قد تعرّفنا على حالة العدالة الكونية والظلم الكوني، والآن دعنا نتعرّف على حالة العدالة الاجتماعية والظُّلم الاجتماعي.
العدالة الاجتماعية:
تماماً كما أنّ كلّ جرم أو مادّة في الكون لها حدود معيّنة والتزامها بحدودها يعني العدالة وخروجها عن حدودها يعني الظُّلم، فكذلك الحال في المجتمع البشري حيث عيّن الله لكلّ فرد من أفراد المجتمع حدوداً وحقوقاً، فإذا ما سار كلّ إنسان وفق حدوده واستلم حقوقه فذلك يعني العدالة، أمّا إذا طغى الإنسان على حدوده، أو سلبت منه حقوقه فذلك يعني الظُّلم.
وبالضّبط كما أنّ العدالة الكونية تحافظ على خير الكون واستقراره، بينما الظُّلم الكوني يسبّب دمار الكون وخرابه، فكذلك العدالة الاجتماعية تحفظ المجتمع وتسعده والظُّلم الاجتماعي يمزّق المجتمع ويشقيه.
في هذا المجال يقول الإمام علي(عليه السلام) لزياد بن أبيه ـ وقد استخلفه لعبد الله ابن العباس على فارس وأعمالها في كلام طويل كان بينهما نهاه فيه عن تقدم الخراج ـ قال(عليــه
السلام):
« إسْتَعْمِل الْعَدْلَ وَاحْذَر الْعَسْفَ ـ الاعتداء ـ وَالْحَيْفَ ـ الظلم ـ، فَإِنَّ الْعَسْفَ يَعُودُ بِالْجَلاَءِ ـ بهروب الناس وهجرتهم ـ وَالْحَيْفَ يَدْعُو إلى السَّيْفِ ـ الثورة ـ ».
وهنا يجب أن ننبّه إلى حقيقة مهمّة وهي أنّ خالق البشر هو خالق الكون، والمجتمع البشري ما هو إلاّ جزء من الكون الذي تحكمه العدالة. فهل يمكن أنّ الله تعالى يفرض العدالة على جميع ذرّات الكون ويسمح للمجتمع البشري أن يفترسه الظُّلم والطُّغيان؟.
بما أنّ خالق الكون واحد فيجب أن يكون النّظام الذي يسود الكون هو الآخر واحداً، وقد أكّد القرآن الكريم هذه الحقيقة حيث يقول:
{ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ إرْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَحَسِيرٌ}
بيد أنّ الله تعالى أراد أن يشرّف الإنسان ويكرّمه ويفضّله على سائر المخلوقات، وذلك بأن يتيح له المجال لكي يُكمل نفسه بنفسه، فلم يفرض عليه العدالة جبراً وقسراً كما فرضها على الشّمس والأرض، وإنما أوضح له طريق العدالة، ورغّبه في سلوكه، وبيّن له طريق الظُّلم وحذّره من الانزلاق فيه، ثم تركه واختياره.
صور الظّلم في المجتمع:
ولكي يتجلّى لنا مفهوم العدالة وأبعادها الاجتماعية في[نهج البلاغة]، علينا أن نستعرض صور الظُّلم الاجتماعي وموقف الإمام علي منها، فالأشياء تُعرف بأضدادها:
1ـ الحاجة والحرمان:
فإنّ الله الذي خلق الناس وتكفّل بمعيشة ورزق كلّ واحدٍ منهم بل وكلّ كائنٍ حي.. يقول تعالى:{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها }، ويقول الإمام علي (عليه السلام):« عياله الخلق، ضمن أرزاقهم، وقدّر أقواتهم »
وهذا الرزق مودع في كنوز الكون وخيراته، فعلى كلّ إنسان أن يعمل لاستخراج حصّته من هذه الكنوز والخيرات. ولكن من لا تساعده ظروفه الجسمية أو الاجتماعية على العمل وأخذ حصّته من خيرات الكون مباشرة، هل يسقط حقّه ويعيش محروماً أو يموت جوعاً؟.
كلاّ.. وإنما فرض الله على القادرين على العمل والحائزين على ثروات الكون أن يعطوا ذلك الفقير العاجز ما يسدُّ حاجته ويدفع الحرمان عنه، يقول تعالى:{ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم } فإذا امتنع الأثرياء عن إعطاء الفقراء حاجتهم ومعيشتهم، فهذا ظلم واعتداء لا يرضى به الله ولا تقبله شريعة العدالة.
فاقرأ معي ما يقوله الإمام علي(عليه السلام) في هذا المجال:
« إنّ الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلاّ بما متّع به غني، والله تعالى سائلهم عن ذلك »
ويقول في رسالة لعامله على مكّة قثم بن العباس:
« وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة، مصيباً به مواضع الفاقة والخلاّت »
وفي عهده لمالك الأشتر يقول(عليه السلام):
« اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لا حِيلَةَ لَهُم، مِنَ الْمَسَاكِينِ وَالْمُحْتَاجِينِ وَأَهْلِ الْبُؤسَى وَالزَّمْنَى، فَإنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعَتَراً، وَاحْفَظْ لِلِه مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ، وَقِسْماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِي الإسلام في كُلِّ بَلَد، فَإِنَّ لِلأقْصَى مِنْهُمْ مٍثْلَ الَّذِي لِلأَدْنَى، وَكُلٌّ قَدِ أسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ ».
وماذا سيحدث لو طغى الناس الأثرياء وانحرفوا عن قانون العدالة وتركوا الفقراء يكابدون الحاجة والحرمان؟!
إنّ الذي سيحدث حينئذٍ هو النّتائج الخطيرة التّالية:
أ ـ الطبقية: حيث تتكدّس الثّروات عند مجموعة من الناس، بينما يكتوي الآخرون بنار البؤس والحرمان. وبمرور الأيام يزداد الأثرياء ثروة وترفعاً، ويزداد الفقراء تعاسة وانـعـزالاً. يـقـول الإمــام عـلـي(عليه السلام): « إضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ فَهَلْ تُبْصِرُ إِلاَّ فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً، أوْ غَنِياً بَدَّلَ نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً، أوْ بَخِيْلاً إتَّخَذَ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللهِ وَفْراً »
وبصراحة، يندّد الإمام بالمجتمع الطّبقي، فيقول(عليه السلام) في رسالته لعثمان بن حنيف واليه على البصرة:
« أمّا بَعْدُ، يَا بْنَ حُنَيْفٍ: فَقَدْ بَلَغَني أَنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إلَى مَأدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا تُسْتَطَابُ لَكَ الألْوَانُ، وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ. وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيْبُ إلَى طَعَامِ قَوْمٍ، عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ، وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ »
ب ـ الجريمة والانحراف: فإنّ الفقر والحاجة الملحّة تدفعان إلى الجريمة والفساد كالنَّهب والسّرقة والاحتيال.
يقول الإمام(عليه السلام):
« وَإذَا بَخِلَ الغني بمعروفه باعَ الْفَقِير آخِرَتَهُ بِدُنْيَاه
ج ـ الاضطرابات الاجتماعية: فإلى كم سيصبر الفقراء على ألم الجوع ويتحمّلون الحاجة والحرمان؟.. بل لابدّ وأن يتورّم الحقد في قلوبهم فيتفجّروا في ثورة عارمة.
يقول(عليه السلام):« الْحَيْفُ يَدْعُو إلَى السَّيْفِ ».
2ـ عدم تكافؤ الفرص:
وهذا هو المشهد الثّاني من مشاهد الظُّلم الاجتماعي، حيث يُتاح المجال الاجتماعي والامتيازات الاقتصادية لفئة دون أُخرى، على أساس علاقتهم بجهاز الحكم أو قرابتهم من شخص الحاكم.
وهذا يسبّب وصول غير المؤهّلين لمراكز السّيادة، فيتلاعبون حينئذٍ بكرامة النّاس وحقوقهم، بينما ينسحب أصحاب الكفاءة لعدم إتاحة المجال لهم لممارسة كفاءتهم، فيُحرم المجتمع من خبراتهم وخدماتهم.
وقد وقف الإمام علي من هذا الأمر موقفاً صارماً شديداً، فبمجرّد أن تولّى الإمام الخلافة سحب كلّ الامتيازات السيّاسية والاقتصادية التي مُنحت بغير حق لأقرباء وأصدقاء الخليفة السّابق. يقول(عليه السلام):
« وَاللهِ لَوْ وَجَدْتُهُ –المال- قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَمُلِكَ بِهِ الإِمَاءُ، لَرَدَدْتُهُ، فَإنّ في الْعَدْلِ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ، فَالْجَوْرُ عَلِيْهِ أَضْيَقُ »
وأصرّ الإمام على(عليه السلام) عزل الولاة السّابقين ومن بينهم معاوية بن أبي سفيان والي الشّام القوي، ورفض أن يمنح طلحة والزبير ما يطمحان إليه من منصب لعدم كفاءتهما.
وطبّق سياسة المساواة في العطاء بين النّاس مهما اختلفوا في الفضل والمكانة وحينما عوتب صار يشرح سياسته العادلة بقوله:
« أَتَأْمُرُونِي أنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ! وَاللهِ لا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً! لَوْ كَانَ الْمَالَ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُم، فَكَيْفَ وَإنَّما الْمَالُ مَالُ اللهِ! ».
وحتى أخوه وشقيقه عقيل بن أبي طالب جاء يطلب زيادة في عطائه على سائر الناس فرفض الإمام، وحينما ألحَّ عقيل في طلبه صرَّح له الإمام بإصراره على العدالة بطريقة عملية، يتحدَّث عنها(عليه السلام) فيقول:
« وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلاً وَقَدْ أَمْلَقَ، حَتَّى إِسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً، وَرَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ، غُبْرَ الأَلْوانِ، مِن فَقْرِهِمْ، كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ، وَعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً، وَكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً، فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعي، فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي، وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً، ثُمَّ أَدْنَيْتُها منْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا، وَكَادَ أنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مَيْسَمِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: ثَكَلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ! أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِي إلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ! أَتَئِنُّ مِنَ الأذَى وَلا أَئِنُّ مِن لَظَىً »!.
تعليق