نظرة القرآن عن القلب
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ...} (ق/37).
القلب في مفهومنا العام هو ذلك العضو الذي ينبض داخل جسم الانسان ليضخ الدم الى باقي أعضاء الجسم ليغذيها ولتدب الحياة فيها .
واضح أن المقصود من ذكر القلب (في الآيه الشريفه)، حقيقة سامية ممتازة، تختلف تماما عن هذا العضو الموجود في البدن، وهكذا عندما يذكر القرآن مرضى القلوب: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا} (البقرة/10).
فإن معالجة هذا المرض، خارجة عن طاقة طبيب أمراض القلب، وإذا وجد طبيب يتمكن من معالجة هذه الأمراض، فلا شك أنه طبيب متخصص في الأمراض الروحية.
إذن ما هو المقصود من القلب؟ للإجابة على هذا السؤال يجب البحث في حقيقة وجود الإنسان. فالإنسان في الوقت الذي هو موجود واحد، إلا أن له مئات بل وآلاف الأبعاد الوجودية.
"أنا" الإنسانية عبارة عن مجموعة كبيرة من الأفكار، والآمال، والخوف، والحب، و... وأنها بمثابة الأنهار والجداول، التي تتجمع في مركز واحد، وأن هذا المركز بنفسه بحر عميق، بحيث ما استطاع -إلى الآن- أي إنسان أن يدعي أنه اطلع على أعماق هذا البحر.
وحتى العقل بنفسه أحد هذه الأنهار التي تتصل بهذا البحر.
عندما يذكر القرآن الوحي، لم يقل شيئا عن العقل، بل أن علاقته ترتبط مع قلب الرسول صلى الله عليه وآله.
ومعنى هذا الكلام أن القرآن، لم يرد على الرسول بقوة العقل وبالاستدلال العقلي، بل، لأن قلب الرسول صلى الله عليه وآله، قد ارتقى إلى حالة لا يمكن لنا تصورها، وفي تلك الحالة حصل على قابلية أدراك ومشاهدة تلك الحقائق المتعالية، وها هي آيات سورة النجم وسورة التكوير توضح كيفية هذا الارتباط إلى حد ما.
نقرأ في سورة النجم: (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى، ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى ).
يقول القرآن ذلك، ليبين أن مستوى هذه المسائل فوق حيز عمل العقل , الحديث هنا عن المشاهدة والاعتلاء.
ونقرأ في سورة التكوير: (أنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين، وما صاحبكم بمجنون، ولقد رآه بالأفق المبين، وما هو على الغيب بضنين، وما هو بقول شيطان رجيم، فأين تذهبون، أن هو إلا ذكر للعالمين ).
يعتبر القلب من وجهة نظر القرآن وسيلة للمعرفة أيضا.
وأن القسم الأكبر من نداءات القرآن تخاطب قلب الإنسان.
تلك النداءات التي لا طاقة لسماعها إلا بواسطة أذن القلب.
ولذلك فإن القرآن يؤكد كثيرا بالمحافظة على هذه الوسيلة، والعمل على تكاملها.
نقرأ في القرآن آيات كثيره تخص تزكية النفس وصفاء القلب:
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}(الشمس9). و{كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(المطففين14).
وحول إنارة القلب يقول: { ... إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا.. } (الأنفال/29).
و{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(العنكبوت69).
وفي مقابل ذلك، فإن الأعمال القبيحة تسود روح الإنسان وتسلب منه الاتجاهات الطاهرة النقية، وقد تكرر هذا الحديث في القرآن. يقول عن لسان المؤمنين:
{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}(آل عمران/8).
وفي وصف المسيئين يقول: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(المطففين/14).
{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ..} (الصف/5)
ويتحدث القرآن عن قساوة القلوب وتختمها:
{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} (البقرة/7)،
و {جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ .....} (الأنعام/25).
و {....كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} (الأعراف/101).،
و{... فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد/16)
كل هذه التأكيدات تبين أن القرآن يريد جوا روحيا، ومعنوية عالية للإنسان. ويوجب على كل فرد أن يحافظ على سلامة ونقاء هذا الجو.
وبالإضافة إلى ذلك، ففي الجو الاجتماعي المريض، وحيث تصبح أكثر جهود الإنسان لنظافة البيئة عقيمة غير موفقة، يؤكد القرآن أن يستغل البشر كل طاقاته في سبيل تصفية وتزكية بيئته الاجتماعية.
يصرح القرآن بأن ذلك الإيمان والعشق والمعرفة، والتوجهات السامية، وتأثيرات القرآن، وقبول نصائحه، كل ذلك يرتبط بابتعاد الإنسان والمجتمع الإنساني عن الدنايا، والرذائل والأهواء النفسية والشهوات.
وفي زماننا قد وضع اعداء الاسلام كل المغريات التي تفسد القلب بأيدي الشباب المسلم وأغروهم بالتشبث بها – تحت مسميات براقه وعناوين جذابه كالثقافة والتحرر- و أيضا أينما وضع الاستعمار رجله، يستند على ذلك الموضوع الذي حذر منه القرآن، أي أنه يسعى ليفسد القلوب، فإذا فسد القلب لا يستطيع العقل أن يعمل شيئا، بل، يصبح نفسه قيدا أكبر في أيدي وأرجل الإنسان.
ولذلك نرى أن المستعمرين والمستثمرين لا يخشون من افتتاح المدارس والجامعات، بل، ويقدمون بأنفسهم على تأسيسها، ولكنهم يسعون من طرف آخر لإفساد قلوب ونفوس الطلاب والتلاميذ بكل طاقاتهم.
أنهم يدركون تماما هذه الحقيقة، وهي أن المريض في قلبه وروحه، لا يستطيع أن يعمل شيئا، ويتقبل كل ذلة ومهانه.
يهتم القرآن كثيرا بنقاء وعلو روح المجتمع، حيث يقول في الآية الشريفة: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ...} (المائدة/2).وهذا يعني,
أولا: أبحثوا عن كل عمل خير، وابتعدوا عن كل سوء ورذالة،
وثانيا: اعملوا معا وبصورة اجتماعية ولا تعملوا منفردين.
وبالنسبة إلى القلب، اذكر بعض الروايات على لسان الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار عليهم السلام، ليكون ختاما حسنا لهذا الموضوع.
مكتوب في كتب السيرة أن شخصا حضر عند رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: أن لي أسئلة أريد أن أعرضها عليكم، فسأله الرسول، هل تريد أن تسمع أجوبة أم ترغب في طرح الأسئلة فقط. فأجاب أنه يريد الجواب.
فقال النبي صلى الله عليه وآله (ما معناه): جئت تسأل عن البر والإحسان والإثم والعدوان؟ أجاب: نعم، فجمع النبي صلى الله عليه وآله ثلاثة من أصابعه ووضعها على صدر الرجل براحة قائلا:"استفت قلبك وإن أفتاك المفتون".
ثم أضاف (ما معناه): لقد خلق القلب بحيث يرتبط مع الحسنات ويرتاح معها، ولكنه يضطرب وينزجر من السيئات والقبائح، تماما مثل بدن الإنسان، فإذا ورده شيء لا يتجانس معه، يختل نظامه وهكذا روح الإنسان تتعرض للاختلال والاضطراب بواسطة الأعمال السيئة.
إن ما يسمى عندنا بعذاب الضمير، ناشئ عن عدم تجانس الروح مع المفاسد والسيئات والأثام.
يشير الرسول صلى الله عليه وآله إلى هذه النقطة، وهي أن الإنسان الذي يبحث عن الحقيقة، ويخلص نفسه لمعرفة الحقيقة، لا يمكن لقلبه -في هذه الحالة- أن يخونه وسوف يهديه إلى صراط الهداية المستقيم.
يرد الرسول صلى الله عليه وآله على من سأله عن البر: "استفت قلبك"، أي انك لو كنت تريد البر حقيقة، فإن ما يطمئن قلبك به ويسكن ضميرك له هو البر، ولكن إذا كنت ترغب بشيئا، غير أن قلبك لم يطمئن له، فتيقن أنه هو الإثم.
وفي مكان آخر يسأل الرسول صلى الله عليه وآله عن معنى الإيمان؟ فيجيب (ما معناه): المؤمن هو الذي إذا ارتكب عملا سيئا تعرض للندم وعدم الراحة، وإذا ارتكب عملا صالحا سر وفرح.
عن عبد الله بن القاسم عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "إذا تخلى المؤمن من الدنيا، سما ووجد حلاوة حب الله، وكان عند أهل الدنيا كأنه قد خولط، وإنما خالط القوم. حلاوة حب الله، فلم يشتغلوا بغيره " أي أن المؤمن إذا زهد في الدنيا، يسمو ويرتفع ويحس حلاوة محبة الله، ويتصور أهل الدنيا أنه قد جن، في حين أن حلاوة حب الله جعلته في غنى عنهم، وشغله حب الله عن غيره.
قال (الرواي) وسمعته ( الإمام الصادق ) يقول:
"إن القلب إذا صفا ضاقت به الأرض حتى يسمو"( أصول الكافي: 2/130)
عن اسحاق بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول " أن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى بالناس الصبح، فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه مصفرا لونه، قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: كيف أصبحت يا فلان؟
قال: أصبحت يا رسول الله موقنا.
فتعجب رسول الله من قوله وقال صلى الله عليه وآله: " إن لكل يقين حقيقة، فما حقيقة يقينك ".
فقال: إن يقيني يا رسول الله، هو الذي أحزنني وأسهر ليلي، وأظمأ هواجري، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب ، وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون، على الأرائك متكئون، وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون، وكأني الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي.
فقال رسول ا لله صلى الله عليه وآله لأصحابه:"هذا عبد نور الله قلبه بالإيمان"، ثم قال له:"إلزم ما أنت عليه". فقال الشاب: ادع الله لي يا رسول الله أن أزرق الشهادة معك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي، فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر(أصول الكافي (كتاب الإيمان والكفر ): 2/53)
يقول القرآن بأن صفاء القلب يوصل الإنسان إلى مقام يقول عنه أمير المؤمنين عليه السلام:"لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا".
إن القرآن بتعاليمه يريد أن يربي أناسا، مسلحين بسلاح العلم والعقل، ويستفيدون من سلاح القلب أيضا، ويستخدمون هذين السلاحين في أحسن أساليبه وأسمى كيفياته في طريق الحق. وإن أئمتنا وتلامذتهم الصالحين المؤمنين نماذج حية واضحة لهؤلاء الأناس.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ...} (ق/37).
القلب في مفهومنا العام هو ذلك العضو الذي ينبض داخل جسم الانسان ليضخ الدم الى باقي أعضاء الجسم ليغذيها ولتدب الحياة فيها .
واضح أن المقصود من ذكر القلب (في الآيه الشريفه)، حقيقة سامية ممتازة، تختلف تماما عن هذا العضو الموجود في البدن، وهكذا عندما يذكر القرآن مرضى القلوب: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا} (البقرة/10).
فإن معالجة هذا المرض، خارجة عن طاقة طبيب أمراض القلب، وإذا وجد طبيب يتمكن من معالجة هذه الأمراض، فلا شك أنه طبيب متخصص في الأمراض الروحية.
إذن ما هو المقصود من القلب؟ للإجابة على هذا السؤال يجب البحث في حقيقة وجود الإنسان. فالإنسان في الوقت الذي هو موجود واحد، إلا أن له مئات بل وآلاف الأبعاد الوجودية.
"أنا" الإنسانية عبارة عن مجموعة كبيرة من الأفكار، والآمال، والخوف، والحب، و... وأنها بمثابة الأنهار والجداول، التي تتجمع في مركز واحد، وأن هذا المركز بنفسه بحر عميق، بحيث ما استطاع -إلى الآن- أي إنسان أن يدعي أنه اطلع على أعماق هذا البحر.
وحتى العقل بنفسه أحد هذه الأنهار التي تتصل بهذا البحر.
عندما يذكر القرآن الوحي، لم يقل شيئا عن العقل، بل أن علاقته ترتبط مع قلب الرسول صلى الله عليه وآله.
ومعنى هذا الكلام أن القرآن، لم يرد على الرسول بقوة العقل وبالاستدلال العقلي، بل، لأن قلب الرسول صلى الله عليه وآله، قد ارتقى إلى حالة لا يمكن لنا تصورها، وفي تلك الحالة حصل على قابلية أدراك ومشاهدة تلك الحقائق المتعالية، وها هي آيات سورة النجم وسورة التكوير توضح كيفية هذا الارتباط إلى حد ما.
نقرأ في سورة النجم: (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى، ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى ).
يقول القرآن ذلك، ليبين أن مستوى هذه المسائل فوق حيز عمل العقل , الحديث هنا عن المشاهدة والاعتلاء.
ونقرأ في سورة التكوير: (أنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين، وما صاحبكم بمجنون، ولقد رآه بالأفق المبين، وما هو على الغيب بضنين، وما هو بقول شيطان رجيم، فأين تذهبون، أن هو إلا ذكر للعالمين ).
يعتبر القلب من وجهة نظر القرآن وسيلة للمعرفة أيضا.
وأن القسم الأكبر من نداءات القرآن تخاطب قلب الإنسان.
تلك النداءات التي لا طاقة لسماعها إلا بواسطة أذن القلب.
ولذلك فإن القرآن يؤكد كثيرا بالمحافظة على هذه الوسيلة، والعمل على تكاملها.
نقرأ في القرآن آيات كثيره تخص تزكية النفس وصفاء القلب:
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}(الشمس9). و{كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(المطففين14).
وحول إنارة القلب يقول: { ... إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا.. } (الأنفال/29).
و{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(العنكبوت69).
وفي مقابل ذلك، فإن الأعمال القبيحة تسود روح الإنسان وتسلب منه الاتجاهات الطاهرة النقية، وقد تكرر هذا الحديث في القرآن. يقول عن لسان المؤمنين:
{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}(آل عمران/8).
وفي وصف المسيئين يقول: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(المطففين/14).
{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ..} (الصف/5)
ويتحدث القرآن عن قساوة القلوب وتختمها:
{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} (البقرة/7)،
و {جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ .....} (الأنعام/25).
و {....كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} (الأعراف/101).،
و{... فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد/16)
كل هذه التأكيدات تبين أن القرآن يريد جوا روحيا، ومعنوية عالية للإنسان. ويوجب على كل فرد أن يحافظ على سلامة ونقاء هذا الجو.
وبالإضافة إلى ذلك، ففي الجو الاجتماعي المريض، وحيث تصبح أكثر جهود الإنسان لنظافة البيئة عقيمة غير موفقة، يؤكد القرآن أن يستغل البشر كل طاقاته في سبيل تصفية وتزكية بيئته الاجتماعية.
يصرح القرآن بأن ذلك الإيمان والعشق والمعرفة، والتوجهات السامية، وتأثيرات القرآن، وقبول نصائحه، كل ذلك يرتبط بابتعاد الإنسان والمجتمع الإنساني عن الدنايا، والرذائل والأهواء النفسية والشهوات.
وفي زماننا قد وضع اعداء الاسلام كل المغريات التي تفسد القلب بأيدي الشباب المسلم وأغروهم بالتشبث بها – تحت مسميات براقه وعناوين جذابه كالثقافة والتحرر- و أيضا أينما وضع الاستعمار رجله، يستند على ذلك الموضوع الذي حذر منه القرآن، أي أنه يسعى ليفسد القلوب، فإذا فسد القلب لا يستطيع العقل أن يعمل شيئا، بل، يصبح نفسه قيدا أكبر في أيدي وأرجل الإنسان.
ولذلك نرى أن المستعمرين والمستثمرين لا يخشون من افتتاح المدارس والجامعات، بل، ويقدمون بأنفسهم على تأسيسها، ولكنهم يسعون من طرف آخر لإفساد قلوب ونفوس الطلاب والتلاميذ بكل طاقاتهم.
أنهم يدركون تماما هذه الحقيقة، وهي أن المريض في قلبه وروحه، لا يستطيع أن يعمل شيئا، ويتقبل كل ذلة ومهانه.
يهتم القرآن كثيرا بنقاء وعلو روح المجتمع، حيث يقول في الآية الشريفة: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ...} (المائدة/2).وهذا يعني,
أولا: أبحثوا عن كل عمل خير، وابتعدوا عن كل سوء ورذالة،
وثانيا: اعملوا معا وبصورة اجتماعية ولا تعملوا منفردين.
وبالنسبة إلى القلب، اذكر بعض الروايات على لسان الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار عليهم السلام، ليكون ختاما حسنا لهذا الموضوع.
مكتوب في كتب السيرة أن شخصا حضر عند رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: أن لي أسئلة أريد أن أعرضها عليكم، فسأله الرسول، هل تريد أن تسمع أجوبة أم ترغب في طرح الأسئلة فقط. فأجاب أنه يريد الجواب.
فقال النبي صلى الله عليه وآله (ما معناه): جئت تسأل عن البر والإحسان والإثم والعدوان؟ أجاب: نعم، فجمع النبي صلى الله عليه وآله ثلاثة من أصابعه ووضعها على صدر الرجل براحة قائلا:"استفت قلبك وإن أفتاك المفتون".
ثم أضاف (ما معناه): لقد خلق القلب بحيث يرتبط مع الحسنات ويرتاح معها، ولكنه يضطرب وينزجر من السيئات والقبائح، تماما مثل بدن الإنسان، فإذا ورده شيء لا يتجانس معه، يختل نظامه وهكذا روح الإنسان تتعرض للاختلال والاضطراب بواسطة الأعمال السيئة.
إن ما يسمى عندنا بعذاب الضمير، ناشئ عن عدم تجانس الروح مع المفاسد والسيئات والأثام.
يشير الرسول صلى الله عليه وآله إلى هذه النقطة، وهي أن الإنسان الذي يبحث عن الحقيقة، ويخلص نفسه لمعرفة الحقيقة، لا يمكن لقلبه -في هذه الحالة- أن يخونه وسوف يهديه إلى صراط الهداية المستقيم.
يرد الرسول صلى الله عليه وآله على من سأله عن البر: "استفت قلبك"، أي انك لو كنت تريد البر حقيقة، فإن ما يطمئن قلبك به ويسكن ضميرك له هو البر، ولكن إذا كنت ترغب بشيئا، غير أن قلبك لم يطمئن له، فتيقن أنه هو الإثم.
وفي مكان آخر يسأل الرسول صلى الله عليه وآله عن معنى الإيمان؟ فيجيب (ما معناه): المؤمن هو الذي إذا ارتكب عملا سيئا تعرض للندم وعدم الراحة، وإذا ارتكب عملا صالحا سر وفرح.
عن عبد الله بن القاسم عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "إذا تخلى المؤمن من الدنيا، سما ووجد حلاوة حب الله، وكان عند أهل الدنيا كأنه قد خولط، وإنما خالط القوم. حلاوة حب الله، فلم يشتغلوا بغيره " أي أن المؤمن إذا زهد في الدنيا، يسمو ويرتفع ويحس حلاوة محبة الله، ويتصور أهل الدنيا أنه قد جن، في حين أن حلاوة حب الله جعلته في غنى عنهم، وشغله حب الله عن غيره.
قال (الرواي) وسمعته ( الإمام الصادق ) يقول:
"إن القلب إذا صفا ضاقت به الأرض حتى يسمو"( أصول الكافي: 2/130)
عن اسحاق بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول " أن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى بالناس الصبح، فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه مصفرا لونه، قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: كيف أصبحت يا فلان؟
قال: أصبحت يا رسول الله موقنا.
فتعجب رسول الله من قوله وقال صلى الله عليه وآله: " إن لكل يقين حقيقة، فما حقيقة يقينك ".
فقال: إن يقيني يا رسول الله، هو الذي أحزنني وأسهر ليلي، وأظمأ هواجري، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب ، وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون، على الأرائك متكئون، وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون، وكأني الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي.
فقال رسول ا لله صلى الله عليه وآله لأصحابه:"هذا عبد نور الله قلبه بالإيمان"، ثم قال له:"إلزم ما أنت عليه". فقال الشاب: ادع الله لي يا رسول الله أن أزرق الشهادة معك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي، فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر(أصول الكافي (كتاب الإيمان والكفر ): 2/53)
يقول القرآن بأن صفاء القلب يوصل الإنسان إلى مقام يقول عنه أمير المؤمنين عليه السلام:"لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا".
إن القرآن بتعاليمه يريد أن يربي أناسا، مسلحين بسلاح العلم والعقل، ويستفيدون من سلاح القلب أيضا، ويستخدمون هذين السلاحين في أحسن أساليبه وأسمى كيفياته في طريق الحق. وإن أئمتنا وتلامذتهم الصالحين المؤمنين نماذج حية واضحة لهؤلاء الأناس.
تعليق