إنّ أبرز أثر للشّريف الرّضيّ هو كتاب «نهج البلاغة» الذي جمع فيه طائفة من كلام الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام والّذي يُضطرّ معه كلّ خبير بجواهر الكلام على الاعتراف بمنزلته الرّفيعة الشّامخة، ويُطأطئ الرأس تواضعاً له وخضوعاً.
يقول حنّا الفاخوريّ مؤلّف كتاب «تاريخ الأدب العربيّ»: (... فلا عجب بعد ذلك كلّه إذا كان كتاب «نهج البلاغة» ثروة فكريّة وأدبيّة واسعة. ففيه الدعوة الملحّة إلى العمل بشعائر الدّين وإلى اتّباع تعاليم القرآن وتعزيز كلّ ما هو شريف الغاية، والحثّ على السّير في سبيل الفضائل. وهو يجمع الدّين إلى الاجتماع والسّياسة، ويجعل الدّين أساساً لهما. فهو يريد مجتمعاً يجري على سَنَن العدل، والمساواة، والحرّيّة. وللعدل محلّ واسع في الكتاب يجعله الإمام من مقتضيات الحياة الجوهريّة.... وفي الكتاب إلى جنب هذه التّعاليم آراء شتّى في الفلسفة الماورائيّة، والفقه، ومعلومات تاريخيّة جمّة، ممّا يجعل له محلاًّ رفيعاً في عالم الأدب، والدّين، والاجتماع).ويقول الشّيخ محمّد عبده مفتي مصر الأسبق وشارح «نهج البلاغة» في وصف هذا الكتاب: (... وليس في أهل هذه اللغة إلاّ قائل بأنّ كلام الإمام عليّ بن أبي طالب هو أشرف الكلام وأبلغه بعد كلام الله تعالى وكلام نبيّه صلّى الله عليه وآله، وأغزره مادّة، وأرفعه أسلوباً، وأجمعه لجلائل المعاني).
ويقول الشّارح الكبير ابن أبي الحديد المعتزلي: (انّ سطراً واحداً من «نهج البلاغة» يساوي ألف سطر من كلام ابن نُباتة وهو الخطيب الفاضل الّذي اتّفق الناس على أنّه أوحد عصره في فنّه).
* * *
جمع نهج البلاغة:قال الشّريف الرّضيّ في مقدّمته على «نهج البلاغة»: (... فإنّي كنت في عُنفوان السّنّ، وغضاضة الغُصن، ابتدأتُ بتأليف كتاب خصائص الأئمّة عليهم السّلام، يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر كلامهم... وفرغت من الخصائص الّتي تخصّ أمير المؤمنين عليّاً عليه السّلام. وعاقت عن إتمام بقيّة الكتاب مُحاجَزات الزّمان ومماطلات الأيّام.
وكنتُ قد بوّبتُ ما خرج من ذلك أبواباً، وفصّلته فصولاً؛ فجاء في آخرها فصل يتضمّن محاسن ما نُقل عنه عليه السّلام من الكلام القصير في المواعظ والحكم والأمثال والآداب دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة. فاستحسن جماعة من الأصدقاء والإخوان ما اشتمل عليه الفصل المقدّم ذكره، معجبين ببدائعه ومتعجبّين من نواصعه. وسألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في جميع فنونه، ومتشعبات عصونه، من خُطَب وكتب ومواعظ وآداب. علماً أنّ ذلك يتضمّن عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربيّة وثواقب الكلم الدّينيّة والدّنيويّة ما لا يوجد مجتمعاً في كلام ولا مجموع الأطراف في كتاب. إذ كان أمير المؤمنين عليه السّلام مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه عليه السّلام ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كلّ قائل خطيب، وبكلامه استعان كلّ واعظ بليغ. ومع ذلك فقد سَبق وقصّروا، وتقدّم وتأخّروا؛ لأنّ كلامه عليه السّلام الكلام الّذي عليه مسحة من العلم الإلهيّ، وفيه عبقة من الكلام النّبويّ. فأجبتُهم إلى الابتداء بذلك عالماً بما فيه من عظيم النفع ومنشور الذّكر، ومذخور الأجر.
واعتمدتُ به أن أبيّن من عظيم قدر أمير المؤمنين عليه السّلام في هذه الفضيلة، مضافة إلى المحاسنالدائرة والفضائل الجمّة. وأنّه عليه السّلام انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السّلف الأوّلين الّذين إنّما يُؤثَر عنهم منها القليل النادر والشاذّ الشّارد.
وأمّا كلامه فهو من البحر الّذي لا يُساجَل، والجمّ الّذي لا يُحافَل... ورأيتُ كلامه عليه السّلام يدور على أقطاب ثلاثة: أوّلها الخُطَب والأوامر، وثانيها الكُتب والرّسائل، وثالثها الحِكَم والمواعظ؛ فأجمعت بتوفيق الله تعالى على الابتداء باختيار محاسن الخطب، ثمّ محاسن الكتب، ثمّ محاسن الحكم والأدب، مُفرِداً لكلّ صنف من ذلك باباً.... وربما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظ المردّد والمعنى المكرّر. والعذر في ذلك أنّ روايات كلامه تختلف اختلافاً شديداً. فربما اتفق الكلام المختار في رواية فنُقل على وجهه، ثمّ وجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعاً غير وضعه الأوّل، إمّا بزيادة مختارة أو بلفظ أحسن عبارة، فتقتضي الحال أن يعاد استظهاراً للاختيار، وغيره على عقائل الكلام. وربما بَعُد العهد أيضاً بما اختير أوّلاً فأعيد بعضه سهواً أو نسياناً لا قصداً واعتماداً.
ولا أدّعي مع ذلك أنّي أُحيط بأقطار جميع كلامه عليه السّلام حتّى لا يشذّ عنّي منه شاذّ ولا يندّ نادّ، بل لا أبعد أن يكون القاصر عنّي فوق الواقع إليّ، والحاصل في رِبْقتي دون الخارج من يدي. وما عليّ إلاّ بذل الجهد وبلاغ الوسع، وعلى الله سبحانه نهج السّبيل، ورشاد الدليل إن شاء الله).
* * *
ترتيب نهج البلاغة ورصفه:نستشفّ من مقدّمة الشّريف الرّضيّ الّتي نقلنا شيئاً منها سلفاً أنّه رصف «نهج البلاغة» في ثلاثة أقسام:
الأوّل: الخطب
وهو أوّل قسم من أقسام النّهج وأوسعه. ويستوعب (214) خطبةً. ونجد في هذه الخطب موضوعات متنوّعة، من: فلسفة وإلهيّات ومباحث مرتبطة بالصّفات الالهيّة والجبر والاختيار، إلى مسائل فقهيّة شرعيّة، ومن عرض العِبَر التّاريخيّة، إلى مسائل اجتماعيّة، ومن علم الظواهر إلى الوصايا الأخلاقيّة العميقة الدقيقة، ومن التّوبيخ أو النقد إلى الملاحم الأدبيّة والتوجيهات العسكريّة.
علماً أنّ بعض الخطب أشهر من غيرها، ومنها: الخطبة «الشِّقْشِقيّة»، وهي ثالث خطبة في الكتاب، وخطبة «الأشباح»، وهي الخطبة الحادية والتّسعون في طبعة صبحي الصّالح، والتّسعون في طبعة فيض الإسلام. ومنها الخطبة «القاصعة»، وهي الخطبة الحادية والتّسعون والمائة عند صبحي الصّالح، والثّالثة والثلاّثون والمائة عند فيض الإسلام، ومنها الخطبة الّتي تصف المتّقين، وهي الخطبة الثّالثة والتّسعون والمائة في ترقيم الصّالح، والرّابعة والثّمانون والمائة في ترقيم فيض الإسلام.
الثّاني: الكتب
ونجد في هذا القسم (79) كتاباً، منها الطّويل، ومنها القصير الّذي قد يضمّ جملتين أو أكثر. ونلحظ في هذه الكتب وصايا متنوّعة في ميادين متعدّدة، منها: الحكومة في الإسلام، والنّظام المالي بخاصّة نظام الزّكاة، وقضايا الحرب، ومؤاخذة الولاة، ووصايا أخلاقيّة. وكتابه عليه السّلام إلى مالك الأشتر رضوان الله عليه من أشهر كتبه، وهو الكتاب الثّالث والخمسون عند صبحي الصّالح، وفيض الإسلام معاً.
الثّالث: الحِكَم أو قصار الكَلِم
ونقرأ في هذا القسم (480) عبارة أُطلق عليها الحكم أو الكلمات القصار. وتتألّق الصّيغة الأخلاقيّة فيها أكثر من أيّ شيءٍ آخر. ويشتمل هذا القسم على وصايا قصيرة في مجال الآداب الاجتماعيّة والأخلاقيّة ونظائرها.
وفي تضاعيف هذه الكلمات القصار قسم يتميّز عن غيره من الأقسام، وقد أورده الشّريف الرّضيّ تحت عنوان «فصل نذكر فيه عن اختيار غريب كلامه المحتاج إلى التّفسير». وهو بين الحكمة (260) و (261) عند صشيئاً بحي الصّالح ويشتمل على تسعة أحاديث، أمّا عند فيض الإسلام فقد جاء بين الحكمة (252) و (253) وفيه تسعة أحاديث أيضاً.
تعليق