تحليل إعجاز القرآن الكريم
المتسالم عليه بين العلماء أنّ القرآن كتاب سماوي معجز، لا يقدر الإنسان "مهما عظمت طاقاته" على الإتيان بمثله. ولكن عندما يُتسَاءل عن سرّ إعجازه، يتوقف الكثير منهم في ذلك ولا يأتون بكلمة شافية تغني السائل.
فمنهم من ذهب إلى أنّ شأن الإعجاز عجيب، يُدْرَك ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن، تُدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة. وأضافوا: "إنّ مدرك الإعجاز هو الذوق ليس إلاّ، وطريق اكتساب الذوق، طول خدمة علمَيْ المعاني والبيان. نعم، للبلاغة وجوه متلثمة، وربما تيسرت إماطة اللثام عنها لتتجلى عليك. أمّا نفس الإعجاز، فلا"1.
ومنهم من يحيل سبب الإعجاز إلى فرط الفصاحة والبلاغة، من دون أن يشرح السبب، ويطرحَ آيات من القرآن على منضدة التشريح، ويقارنها بكلام من كلم فصحاء العرب وبلغائهم وأقصى ما عندهم هو التصديق بكونه معجزاً بحجة أنّ أساطين البلاغة وأساتذتها عجزوا عن الإتيان بمثله في عصر نزول القرآن. ولكن هذا دليل إقناعي، ورجوع إلى أهل الخبرة.
إلاّ أنّ هناك جماعة من المحققين لم يقنعوا بهذا القدر دون البحث عن حقيقة إعجازه، فبحثوا ونقبوا حتى رفعوا اللثام عن وجه إعجازه، وبيّنوا الدعائم والأركان الّتي يقوم عليها تفوقه على كلام البشر، قائلين:
هل يمكن أن يُعَرِّف سبحانه كتابَه النازلَ على نبيّه، معجزاً وخارقاً، ويباري الناس ويدعوهم إلى مقابلته والإتيان بمثله، ثم لا يوجد فيه حتى إشارات إلى ملاك إعجازه ووجه تفوّقه؟! إنّ مثل هذا لا يصدر عن الحكيم تعالى.
فعلى ضوء ذلك، لا بُدّ لنا من الإمعان في آيات القرآن الكريم حتى نلمس ونستكشف ملاك إعجازه وخرقه للعادة، وهذا هو ما نتعاطاه في هذا التحليل والّذي تَبَيَّن لنا بعد دراسة ما كتبه المحققون حول إعجاز القرآن، وبعد الإمعان في نفس آيات الذكر الحكيم، أن ملاك تفوّقه هو الأمور الأربعة الآتي ذكرها مجتمعةً.
أجل، إنّ ما نركّز البحث عليه في المقام راجع إلى الإعجاز البياني للقرآن، الّذي كان هو محور الإعجاز في عصر النزول وعند فصحاء الجزيرة، وبُلغائهم، وبه وقع التحدي. وأمّا إعجازه من جهات أُخرى، ككون حامله أمياً، وكونه مبيِّناً للعلوم الكونية الّتي وصل إليها البشر بعد أحقاب من الزمن، أو إخباره عن المُغَيَّبات، أو كونه مصدراً لتشريع مُتْقَن ومتكامل، أو غير ذلك من الجهات، فلا يمكن أن نعدّها أركاناً للإعجاز، ووجه ذلك أنّ القرآن سَحَرَ العرب من اللحظة الأولى لنزوله، سواء منهم في ذلك من شرح الله صدره للإسلام ومن جعل على بصره غشاوة. وكان القرآن هو العامل الحاسم في أوائل أيام الدعوة، يوم لم يكن للنبي حول ولا طول، ولم يكن للإسلام قوة ولا منعة.
فلا بُدّ أن نبحث عن منبع السحر في القرآن، قبل التشريع المُحكَم، وقبل النبوءة الغيبيَّة، وقبل العلوم الكونية، وقبل أن يصبح القرآن وحدة مكتملة تشتمل على هذه المزايا. فقليل القرآن الّذي كان في أيام الدعوة الأولى، كان مجرّداً عن هذه الأشياء الّتي جاءت فيما بعد، وكان مع ذلك محتوياً على هذا النبع الأصيل الّذي تذوقه العرب، فقالوا إنْ هذا إلاّ سحر يُوْثَر.
إنّنا نقرء الآيات الكثيرة في هذه السور فلا نجد فيها تشريعاً محكماً، ولا علوماً كونية، ولا نجد إخباراً بالغيب يقع بعد سنين، ومع ذلك سحر عقول العرب وتحدث عنه ابن المغيرة بعد التفكير والتقدير، بما تحدّث.
لا بدّ إذن أنّ السحر الّذي عناه، كان كامناً في مظهر آخر غير التشريع والغيبيات والعلوم الكونية، لا بدّ أنّه كامن في صميم النسق القرآني ذاته، وكان هذا يتجلى من خلال التعبير الجميل المؤثر المعتبّر المصوّر.
وعلى ذلك فالجمال الفنّي الخاص، عنصر مستقل في إثبات إعجاز القرآن2، ويتجلى ذلك في أمور أربعة تضفي على القرآن مجتمعة إعجازه وتفوّقه، وهي:
1ـ فصاحةُ ألفاظه وجمالُ عباراته.
2ـ بلاغةُ معانيه وسموُّها.
3ـ روعة نظمه3 وتأليفه.
ويراد منه: ترابط كلماته وجُمَله، وتناسق آياته، وتآخي مضامينه، حتى كأنّها بناء واحد، متلاصق الأجزاء، متناسب الأشكال، لا تجد فيه صَدْعاً ولا انشقاقاً.
4ـ بداعة أُسلوبهالّذي ليس له مثيل في كلام العرب، فإنّ لكل من الشعر والنثر بأقسامه، أسلوباً وسبكاً خاصاً، والقرآن على أُسلوب لا يماثل واحداً من الأساليب الكلامية والمناهج الشعرية.
وهذه الدعائم الأربع إذا اجتمعت، تخلق كلاماً له صنع في القلوب، وتأثير في النفوس. فإذا قرع السمع، ووصل إلى القلب، يحسّ الإنسان فيه لذّة وحلاوة في حال، وروعةً ومهابةً في أخرى، تقشعر منه الجلود، وتلين به القلوب، وتنشرح به الصدور، وتغشى النفوس خشية ورهبة ووجد وانبساط، ويحسّ البليغ بعجزه عن المباراة والمقابلة. ولاجل ذلك، كم من عدو للرسول من رجال العرب وفُتّاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله، فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم، أن تَحَوّلوا عن رأيهم الأول، وركنوا إلى مسالمته، ودخلوا في دينه، وانقلبت عداوتهم موالاةً، وكفرهم إيماناً.
يقول سبحانه: ﴿لَوْأَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَل لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾(الحشر:21).
ويقول سبحانه: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ﴾(الزمر:23).
ويقول سبحانه:﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ﴾(المائدة:83).
هذا ما يثبته التحليل الآتي لكلٍّ من هذه الدعائم. فليس المُدَّعى كون كل واحدة منها، وجهاً مستقلاً للإعجاز، وإنّما المراد أنّ كلّ واحدة منها توجِد أَرْضِيَّةً خاصةً، ليتشكل باجتماعها كلامٌ معجزٌ خارق، مُبهر للعقول، ومدهش للنفوس. فيجد الإنسان في نفسه العجز عن المباراة. والضعف عن التحدّي.
هذا، وقد نقل السيوطي عن عدّة من المحققين في مسألة إعجاز القرآن أقوالاً كثيرة4، غير أنّ بعضها خارج عن الإطار البياني، الّذي نحن بصدد تشريحه، مثل انطواء القرآن على الإخبار بالمُغَيّبات، الّذي سنذكره في عِداد الشواهد الدالة على أنّ القرآن كتاب إلهي لا بشري، ولكن لُبّ هذه الأقوال الّتي ترجع إلى الإعجاز البياني يتلخص في الدعائم الأربع الّتي اخترناها أساساً للإعجاز.
ولأجل توضيح هذه الدعائم الأربع نأتي بمقدمة نبينّ فيها معنى الفصاحة والبلاغة، حتى يتبين نسبة كل واحدة من هذه الدعائم إلى الأُخرى.
تعريف الفصاحة
الفصاحة يوصف بها المفرد كما يوصف بها الكلام.
والفصاحة في المفرد عبارة عن خلوصه من تنافر الحروف، والغرابة، ومخالفة القياس اللغوي المستنبط من استقراء اللغة العربية.
وقد ذكر القوم للتنافر وجهاً أو وجوهاً، والحق أنّه أمْر ذوقي، وليس رهن قرب المخارج، ولا بعدها دائماً.
وأمّا الفصاحة في الكلام، فهي خلوصه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد، مع فصاحتها، أي يشترط مضافاً إلى الشرائط المعتبرة في فصاحة المفرد، الأُمور الثلاثة الواردة في صدر التعريف.
ثم إنّ التعقيد تارة يحصل بسبب خلل في نظم الكلام، بمعنى تقديم ما حقّه التأخير وبالعكس، وأُخرى بسبب بُعْد المناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الكنائي المقصود.
والمتكفل لبيان الخلل في النظم هو النحو. والمتكفل لبيان الخلل في الإنتقال هو علم البيان، فبما أنّه علم يبحث فيه عن إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه وخفائه، يشرح لنا التعقيد المعنوي ومراتبه، فإنّ لكل معنى لوازم، بعضها بلا واسطة، وبعضها بواسطة، فيمكن إيراده بعبارات مختلفة في الوضوح والخفاء5.
تعريف البلاغة
البلاغة في الكلام عبارة عن مطابقته لمقتضى الحال، أي مطابقته للغرض الداعي إلى التكلم على وجه مخصوص. مثلاً: كون المخاطب منكراً للحكم، حال يقتضي تأكيده، والتأكيد مقتضى الحال. كما أنّ كون المخاطب مستعداً لقبول الحكم، يقتضي كون الكلام عارياً عن التأكيد، والإطلاق مقتضاها، وهكذا في سائر الأبواب.
هذا كلّه مع لزوم اعتبار فصاحة الكلام في تحقق البلاغة، فالبلاغة لها عمادان. أحدهما مطابقة الكلام لمقتضى الحال، والثاني فصاحة الكلام.
وها هنا نكتة وهي أنّ القوم حصروا معنى البلاغة في هذا المعنى، وحاصله كون عرض المعنى موافقاً للغرض الداعي إلى التكلم (مع فصاحة الكلام)، وجعلوا للبلاغة بهذا المعنى طرفين:
أحدهما: أعلى، وهو حدّ الإعجاز، وهو أن يرتقي الكلام في بلاغته إلى أن يخرج عن طوق البشر ويعجزهم عن معارضته.
والثاني:ما لا يبلغ إلى هذا الحدّ.
ولكل واحد درجات ومراتب.
ولا يخفى أنّ جعل البلاغة بهذا المعنى (أي العرض الصحيح المطابق للغرض) لا يكون ركن الإعجاز وإن بلغ الكلام إلى نهاية الإتقان في العرض، ما لم يضمّ إليه شيء آخر، وهو إتقان المعاني وسمو المضامين. وإلاّ فالمعاني المبتذلة، والمضامين المتوفرة بين الناس إذا عرضت بشكل مطابق للغرض الداعي إلى التكلم، لا يصير الكلام معها معجزاً خارقاً للعادة.
ولأجل ذلك كان على القوم الذين جعلوا الفصاحة والبلاغة ركنين للإعجاز، وملاكين له، إضافة قيد آخر، وهو كون المعاني والمضامين عالية وسامية، تسرح فيها النفوس، وتغوص فيها العقول.
ومن هنا نرى أنّ بعض أساتذة هذا الفن المعاصرين، عرفوا البلاغة بشكل آخر، قالوا: هي تأدية المعنى الجليل واضحاً بعبارة صحيحة فصيحة، مع ملائمة كل كلام للموطن الّذي يقال فيه، والأشخاص الذين يخاطبون6.
فترى أنّه أُضيف في التعريف وراء ملائمة كل كلام للموطن (مطابقة الكلام لمقتضى الحال)، كون المعنى جليلاً.
وسيوافيك أنّ هذا المقدار من التعريف أيضاً غير واف للرقي بالكلام إلى حدّ الإعجاز، بل يحتاج إلى دعامة أخرى وهي بداعة الأسلوب ورقيّه، كما سيوافيك.
نكتة مُهمّة
إنّ ها هنا نكتة تلقي الضوء على سبب حصر فصاحة القُرآن كما سيأتي في خلوه عن تنافر الحروف والكلمات، وتَرْكنا البحث عن كل ما ذكروه في فصاحة المفرد والكلام من الشرائط المتعددة، فهل هذا يعني إنكار دخالة غيره في الفصاحة، أو له معنى آخر؟.
والجواب: إنّ كونَ الكلمةِ متلائمةَ الحروف في فصاحة المفرد، وكونَ الكلام متلائمَ الكلمات في فصاحة الجملة، له القسط الأوفر في تحقق الفصاحة، لأنّ الفصاحة تعتمد على مقاطع الحروف والكلمات أكثر من كل شيء. وأمّا غير ذلك ممّا ذكروه في تعريفها، فكأنّها معدّات لخروج الكلام عذباً حسناً، بهيّاً نَظِراً، له وقع في القلوب. ولأجل ذلك ركزنا على حديث تلاؤم الحروف والكلمات، وخلوهما عن التنافر، هذا.
على أنّ البحث عن اشتمال القرآن على مخالفة القياس في فصاحة المفرد، وضعف التأليف في فصاحة الكلام، بحث زائد، لأنّ القواعد تُعْرَض على القرآن، ولا يعرض القرآن عليها، لأنّه إمّا هو كلام إلهي فهو فوق القواعد، وإمّا كلام بشري، فهو صَدَرَ من عربي صميم في أعرق بيت من العرب، ترحل إليه المواكب وتحطّ رحالها عنده. والمؤمن والملحد يعترفان بكون القرآن في درجة عالية من الكلام الّذي ينبغي أن يحُتذى ويُقْتدى.
*الإلهيات.آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام،ج3،ص259-266.
1- مفتاح العلوم، للسكاكي، قسم البيان، ص 176.
2- لاحظ التصوير الفنّي في القرآن الكريم للسيد قطب فصل سحر القرآن، ص 11 ـ 23.
3- ربما يطلق النظم في كلماتهم ويراد منه الأسلوب والسبك الّذي هو الأمر الرابع، ولأجل ذلك نردفه بالتأليف حتى لا يشتبه المراد.
4- لاحظ الإتقان في علوم القرآن، ج 4، ص 6 ـ 17 ط مصر، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
5- وبعبارة أخرى: إنّ إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في الوضوح، لا يتأتى بالدلالة المطابقية، لأنّ السامع إن كان عالماً بوضع الألفاظ، لم يكن كل واحد منها دالاّ عليه، وإن كان عالماً لم يكن بعضها أوضح دلالة عليه من بعض آخر، وإنمّا يتأتى في الدلالة العقلية، لجواز أن تختلف مراتب اللزوم في الوضوح. ويتضح ذلك في الدلالة، الإلتزامية مثل دلالة قولنا: "زيد كثير الرّماد" و"زيد جبان الكلب"، و"زيد مهزول الفصيل"، على لازمه، أعني كون زيد جواداً. فالكلُّ يدلُّ على ذلك اللازم، لكن يختلف في الوضوح والخفاء، لقلة الوسائط أو كثرتها. وبما أنّ الخفاء والوضوح في الإنتقال إلى المعنى اللازم يتأتى في الدلالة الإلتزامية، انحصر المقصود من علم البيان في التشبيه والمجاز، والكناية، لكون المقصود من الجميع هناك هو المعنى الخارج عن المدلول اللغوي للّفظ، فالمراد من المجاز هو المعنى غير الموضوع له بادعاء كونه من مصاديق الموضوع له، كما أنّ المراد من الكناية هو المعنى المكنّى عنه لا المكنى به. وأمّا التشبيه فهو وإن كان خالياً عن الدلالة الالتزامية، لكنه يبحث عنه مقدمة للإستعارة الّتي هي من أقسام المجاز. وبذلك يعلم أن الأولى تقديم علم البيان على علم المعاني، لكون الأول متكفلاً بتفسير التعقيد المعنوي الدخل بالفصاحة، وأمّا علم المعاني فهو يرجع إلى البلاغة، كما سيظهر.
6- البلاغة الواضحة، ص 8.
منقوول
المتسالم عليه بين العلماء أنّ القرآن كتاب سماوي معجز، لا يقدر الإنسان "مهما عظمت طاقاته" على الإتيان بمثله. ولكن عندما يُتسَاءل عن سرّ إعجازه، يتوقف الكثير منهم في ذلك ولا يأتون بكلمة شافية تغني السائل.
فمنهم من ذهب إلى أنّ شأن الإعجاز عجيب، يُدْرَك ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن، تُدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة. وأضافوا: "إنّ مدرك الإعجاز هو الذوق ليس إلاّ، وطريق اكتساب الذوق، طول خدمة علمَيْ المعاني والبيان. نعم، للبلاغة وجوه متلثمة، وربما تيسرت إماطة اللثام عنها لتتجلى عليك. أمّا نفس الإعجاز، فلا"1.
ومنهم من يحيل سبب الإعجاز إلى فرط الفصاحة والبلاغة، من دون أن يشرح السبب، ويطرحَ آيات من القرآن على منضدة التشريح، ويقارنها بكلام من كلم فصحاء العرب وبلغائهم وأقصى ما عندهم هو التصديق بكونه معجزاً بحجة أنّ أساطين البلاغة وأساتذتها عجزوا عن الإتيان بمثله في عصر نزول القرآن. ولكن هذا دليل إقناعي، ورجوع إلى أهل الخبرة.
إلاّ أنّ هناك جماعة من المحققين لم يقنعوا بهذا القدر دون البحث عن حقيقة إعجازه، فبحثوا ونقبوا حتى رفعوا اللثام عن وجه إعجازه، وبيّنوا الدعائم والأركان الّتي يقوم عليها تفوقه على كلام البشر، قائلين:
هل يمكن أن يُعَرِّف سبحانه كتابَه النازلَ على نبيّه، معجزاً وخارقاً، ويباري الناس ويدعوهم إلى مقابلته والإتيان بمثله، ثم لا يوجد فيه حتى إشارات إلى ملاك إعجازه ووجه تفوّقه؟! إنّ مثل هذا لا يصدر عن الحكيم تعالى.
فعلى ضوء ذلك، لا بُدّ لنا من الإمعان في آيات القرآن الكريم حتى نلمس ونستكشف ملاك إعجازه وخرقه للعادة، وهذا هو ما نتعاطاه في هذا التحليل والّذي تَبَيَّن لنا بعد دراسة ما كتبه المحققون حول إعجاز القرآن، وبعد الإمعان في نفس آيات الذكر الحكيم، أن ملاك تفوّقه هو الأمور الأربعة الآتي ذكرها مجتمعةً.
أجل، إنّ ما نركّز البحث عليه في المقام راجع إلى الإعجاز البياني للقرآن، الّذي كان هو محور الإعجاز في عصر النزول وعند فصحاء الجزيرة، وبُلغائهم، وبه وقع التحدي. وأمّا إعجازه من جهات أُخرى، ككون حامله أمياً، وكونه مبيِّناً للعلوم الكونية الّتي وصل إليها البشر بعد أحقاب من الزمن، أو إخباره عن المُغَيَّبات، أو كونه مصدراً لتشريع مُتْقَن ومتكامل، أو غير ذلك من الجهات، فلا يمكن أن نعدّها أركاناً للإعجاز، ووجه ذلك أنّ القرآن سَحَرَ العرب من اللحظة الأولى لنزوله، سواء منهم في ذلك من شرح الله صدره للإسلام ومن جعل على بصره غشاوة. وكان القرآن هو العامل الحاسم في أوائل أيام الدعوة، يوم لم يكن للنبي حول ولا طول، ولم يكن للإسلام قوة ولا منعة.
فلا بُدّ أن نبحث عن منبع السحر في القرآن، قبل التشريع المُحكَم، وقبل النبوءة الغيبيَّة، وقبل العلوم الكونية، وقبل أن يصبح القرآن وحدة مكتملة تشتمل على هذه المزايا. فقليل القرآن الّذي كان في أيام الدعوة الأولى، كان مجرّداً عن هذه الأشياء الّتي جاءت فيما بعد، وكان مع ذلك محتوياً على هذا النبع الأصيل الّذي تذوقه العرب، فقالوا إنْ هذا إلاّ سحر يُوْثَر.
إنّنا نقرء الآيات الكثيرة في هذه السور فلا نجد فيها تشريعاً محكماً، ولا علوماً كونية، ولا نجد إخباراً بالغيب يقع بعد سنين، ومع ذلك سحر عقول العرب وتحدث عنه ابن المغيرة بعد التفكير والتقدير، بما تحدّث.
لا بدّ إذن أنّ السحر الّذي عناه، كان كامناً في مظهر آخر غير التشريع والغيبيات والعلوم الكونية، لا بدّ أنّه كامن في صميم النسق القرآني ذاته، وكان هذا يتجلى من خلال التعبير الجميل المؤثر المعتبّر المصوّر.
وعلى ذلك فالجمال الفنّي الخاص، عنصر مستقل في إثبات إعجاز القرآن2، ويتجلى ذلك في أمور أربعة تضفي على القرآن مجتمعة إعجازه وتفوّقه، وهي:
1ـ فصاحةُ ألفاظه وجمالُ عباراته.
2ـ بلاغةُ معانيه وسموُّها.
3ـ روعة نظمه3 وتأليفه.
ويراد منه: ترابط كلماته وجُمَله، وتناسق آياته، وتآخي مضامينه، حتى كأنّها بناء واحد، متلاصق الأجزاء، متناسب الأشكال، لا تجد فيه صَدْعاً ولا انشقاقاً.
4ـ بداعة أُسلوبهالّذي ليس له مثيل في كلام العرب، فإنّ لكل من الشعر والنثر بأقسامه، أسلوباً وسبكاً خاصاً، والقرآن على أُسلوب لا يماثل واحداً من الأساليب الكلامية والمناهج الشعرية.
وهذه الدعائم الأربع إذا اجتمعت، تخلق كلاماً له صنع في القلوب، وتأثير في النفوس. فإذا قرع السمع، ووصل إلى القلب، يحسّ الإنسان فيه لذّة وحلاوة في حال، وروعةً ومهابةً في أخرى، تقشعر منه الجلود، وتلين به القلوب، وتنشرح به الصدور، وتغشى النفوس خشية ورهبة ووجد وانبساط، ويحسّ البليغ بعجزه عن المباراة والمقابلة. ولاجل ذلك، كم من عدو للرسول من رجال العرب وفُتّاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله، فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم، أن تَحَوّلوا عن رأيهم الأول، وركنوا إلى مسالمته، ودخلوا في دينه، وانقلبت عداوتهم موالاةً، وكفرهم إيماناً.
يقول سبحانه: ﴿لَوْأَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَل لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾(الحشر:21).
ويقول سبحانه: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ﴾(الزمر:23).
ويقول سبحانه:﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ﴾(المائدة:83).
هذا ما يثبته التحليل الآتي لكلٍّ من هذه الدعائم. فليس المُدَّعى كون كل واحدة منها، وجهاً مستقلاً للإعجاز، وإنّما المراد أنّ كلّ واحدة منها توجِد أَرْضِيَّةً خاصةً، ليتشكل باجتماعها كلامٌ معجزٌ خارق، مُبهر للعقول، ومدهش للنفوس. فيجد الإنسان في نفسه العجز عن المباراة. والضعف عن التحدّي.
هذا، وقد نقل السيوطي عن عدّة من المحققين في مسألة إعجاز القرآن أقوالاً كثيرة4، غير أنّ بعضها خارج عن الإطار البياني، الّذي نحن بصدد تشريحه، مثل انطواء القرآن على الإخبار بالمُغَيّبات، الّذي سنذكره في عِداد الشواهد الدالة على أنّ القرآن كتاب إلهي لا بشري، ولكن لُبّ هذه الأقوال الّتي ترجع إلى الإعجاز البياني يتلخص في الدعائم الأربع الّتي اخترناها أساساً للإعجاز.
ولأجل توضيح هذه الدعائم الأربع نأتي بمقدمة نبينّ فيها معنى الفصاحة والبلاغة، حتى يتبين نسبة كل واحدة من هذه الدعائم إلى الأُخرى.
تعريف الفصاحة
الفصاحة يوصف بها المفرد كما يوصف بها الكلام.
والفصاحة في المفرد عبارة عن خلوصه من تنافر الحروف، والغرابة، ومخالفة القياس اللغوي المستنبط من استقراء اللغة العربية.
وقد ذكر القوم للتنافر وجهاً أو وجوهاً، والحق أنّه أمْر ذوقي، وليس رهن قرب المخارج، ولا بعدها دائماً.
وأمّا الفصاحة في الكلام، فهي خلوصه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد، مع فصاحتها، أي يشترط مضافاً إلى الشرائط المعتبرة في فصاحة المفرد، الأُمور الثلاثة الواردة في صدر التعريف.
ثم إنّ التعقيد تارة يحصل بسبب خلل في نظم الكلام، بمعنى تقديم ما حقّه التأخير وبالعكس، وأُخرى بسبب بُعْد المناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الكنائي المقصود.
والمتكفل لبيان الخلل في النظم هو النحو. والمتكفل لبيان الخلل في الإنتقال هو علم البيان، فبما أنّه علم يبحث فيه عن إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه وخفائه، يشرح لنا التعقيد المعنوي ومراتبه، فإنّ لكل معنى لوازم، بعضها بلا واسطة، وبعضها بواسطة، فيمكن إيراده بعبارات مختلفة في الوضوح والخفاء5.
تعريف البلاغة
البلاغة في الكلام عبارة عن مطابقته لمقتضى الحال، أي مطابقته للغرض الداعي إلى التكلم على وجه مخصوص. مثلاً: كون المخاطب منكراً للحكم، حال يقتضي تأكيده، والتأكيد مقتضى الحال. كما أنّ كون المخاطب مستعداً لقبول الحكم، يقتضي كون الكلام عارياً عن التأكيد، والإطلاق مقتضاها، وهكذا في سائر الأبواب.
هذا كلّه مع لزوم اعتبار فصاحة الكلام في تحقق البلاغة، فالبلاغة لها عمادان. أحدهما مطابقة الكلام لمقتضى الحال، والثاني فصاحة الكلام.
وها هنا نكتة وهي أنّ القوم حصروا معنى البلاغة في هذا المعنى، وحاصله كون عرض المعنى موافقاً للغرض الداعي إلى التكلم (مع فصاحة الكلام)، وجعلوا للبلاغة بهذا المعنى طرفين:
أحدهما: أعلى، وهو حدّ الإعجاز، وهو أن يرتقي الكلام في بلاغته إلى أن يخرج عن طوق البشر ويعجزهم عن معارضته.
والثاني:ما لا يبلغ إلى هذا الحدّ.
ولكل واحد درجات ومراتب.
ولا يخفى أنّ جعل البلاغة بهذا المعنى (أي العرض الصحيح المطابق للغرض) لا يكون ركن الإعجاز وإن بلغ الكلام إلى نهاية الإتقان في العرض، ما لم يضمّ إليه شيء آخر، وهو إتقان المعاني وسمو المضامين. وإلاّ فالمعاني المبتذلة، والمضامين المتوفرة بين الناس إذا عرضت بشكل مطابق للغرض الداعي إلى التكلم، لا يصير الكلام معها معجزاً خارقاً للعادة.
ولأجل ذلك كان على القوم الذين جعلوا الفصاحة والبلاغة ركنين للإعجاز، وملاكين له، إضافة قيد آخر، وهو كون المعاني والمضامين عالية وسامية، تسرح فيها النفوس، وتغوص فيها العقول.
ومن هنا نرى أنّ بعض أساتذة هذا الفن المعاصرين، عرفوا البلاغة بشكل آخر، قالوا: هي تأدية المعنى الجليل واضحاً بعبارة صحيحة فصيحة، مع ملائمة كل كلام للموطن الّذي يقال فيه، والأشخاص الذين يخاطبون6.
فترى أنّه أُضيف في التعريف وراء ملائمة كل كلام للموطن (مطابقة الكلام لمقتضى الحال)، كون المعنى جليلاً.
وسيوافيك أنّ هذا المقدار من التعريف أيضاً غير واف للرقي بالكلام إلى حدّ الإعجاز، بل يحتاج إلى دعامة أخرى وهي بداعة الأسلوب ورقيّه، كما سيوافيك.
نكتة مُهمّة
إنّ ها هنا نكتة تلقي الضوء على سبب حصر فصاحة القُرآن كما سيأتي في خلوه عن تنافر الحروف والكلمات، وتَرْكنا البحث عن كل ما ذكروه في فصاحة المفرد والكلام من الشرائط المتعددة، فهل هذا يعني إنكار دخالة غيره في الفصاحة، أو له معنى آخر؟.
والجواب: إنّ كونَ الكلمةِ متلائمةَ الحروف في فصاحة المفرد، وكونَ الكلام متلائمَ الكلمات في فصاحة الجملة، له القسط الأوفر في تحقق الفصاحة، لأنّ الفصاحة تعتمد على مقاطع الحروف والكلمات أكثر من كل شيء. وأمّا غير ذلك ممّا ذكروه في تعريفها، فكأنّها معدّات لخروج الكلام عذباً حسناً، بهيّاً نَظِراً، له وقع في القلوب. ولأجل ذلك ركزنا على حديث تلاؤم الحروف والكلمات، وخلوهما عن التنافر، هذا.
على أنّ البحث عن اشتمال القرآن على مخالفة القياس في فصاحة المفرد، وضعف التأليف في فصاحة الكلام، بحث زائد، لأنّ القواعد تُعْرَض على القرآن، ولا يعرض القرآن عليها، لأنّه إمّا هو كلام إلهي فهو فوق القواعد، وإمّا كلام بشري، فهو صَدَرَ من عربي صميم في أعرق بيت من العرب، ترحل إليه المواكب وتحطّ رحالها عنده. والمؤمن والملحد يعترفان بكون القرآن في درجة عالية من الكلام الّذي ينبغي أن يحُتذى ويُقْتدى.
*الإلهيات.آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام،ج3،ص259-266.
1- مفتاح العلوم، للسكاكي، قسم البيان، ص 176.
2- لاحظ التصوير الفنّي في القرآن الكريم للسيد قطب فصل سحر القرآن، ص 11 ـ 23.
3- ربما يطلق النظم في كلماتهم ويراد منه الأسلوب والسبك الّذي هو الأمر الرابع، ولأجل ذلك نردفه بالتأليف حتى لا يشتبه المراد.
4- لاحظ الإتقان في علوم القرآن، ج 4، ص 6 ـ 17 ط مصر، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
5- وبعبارة أخرى: إنّ إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في الوضوح، لا يتأتى بالدلالة المطابقية، لأنّ السامع إن كان عالماً بوضع الألفاظ، لم يكن كل واحد منها دالاّ عليه، وإن كان عالماً لم يكن بعضها أوضح دلالة عليه من بعض آخر، وإنمّا يتأتى في الدلالة العقلية، لجواز أن تختلف مراتب اللزوم في الوضوح. ويتضح ذلك في الدلالة، الإلتزامية مثل دلالة قولنا: "زيد كثير الرّماد" و"زيد جبان الكلب"، و"زيد مهزول الفصيل"، على لازمه، أعني كون زيد جواداً. فالكلُّ يدلُّ على ذلك اللازم، لكن يختلف في الوضوح والخفاء، لقلة الوسائط أو كثرتها. وبما أنّ الخفاء والوضوح في الإنتقال إلى المعنى اللازم يتأتى في الدلالة الإلتزامية، انحصر المقصود من علم البيان في التشبيه والمجاز، والكناية، لكون المقصود من الجميع هناك هو المعنى الخارج عن المدلول اللغوي للّفظ، فالمراد من المجاز هو المعنى غير الموضوع له بادعاء كونه من مصاديق الموضوع له، كما أنّ المراد من الكناية هو المعنى المكنّى عنه لا المكنى به. وأمّا التشبيه فهو وإن كان خالياً عن الدلالة الالتزامية، لكنه يبحث عنه مقدمة للإستعارة الّتي هي من أقسام المجاز. وبذلك يعلم أن الأولى تقديم علم البيان على علم المعاني، لكون الأول متكفلاً بتفسير التعقيد المعنوي الدخل بالفصاحة، وأمّا علم المعاني فهو يرجع إلى البلاغة، كما سيظهر.
6- البلاغة الواضحة، ص 8.
منقوول
تعليق