العُجب رؤية قرآنية
(قُل هَل نُنَبّئُكُم بِالأخسَرينَ أعمالاً، الذينَ ضلّ سَعيُهُم في الحَيَوةِ الدنيا وَهُم يَحسبُونَ أنهم يحسنون صُنعاً، أولئِكَ الذِينَ كَفَرُوا بآيَتِ رَبّهِم وَلِقَائِهِ فَحَبطَت أعمَلُهُم فَلاَ نُقِيمُ لَهُم يَومَ القِيمةِ وَزناً) (الكهف:103ـ105).
المدخل إلى البحث
من أخطر ما يصنعه الشيطان بالإنسان من مكر، هو "العُجب"، وذلك أن الشيطان قد يحرف الإنسان من العبادة إلى الشرك، وهذا نوع من المكر ظاهر يتمكن الإنسان من مكافحته، وقد يحول الشيطان العبادة نفسها إلى الشرك، وهذا هو أخطر مكر الشيطان، وقد يقطع الشيطان السبيل على الإنسان فيحوله من الإقبال على الله إلى الإعراض عن الله وقد يحول الشيطان الإقبال على الله ـ نفسه ـ إلى الإعراض عن الله وهذا أخطر من الأول.
كيف يمكر الشيطان هذا المكر، وما هي الأداة التي يستخدمها فيحول العبادة والإقبال على الله إلى الشرك والإعراض عن الله؟
الجواب على ذلك ينطوي في كلمتي "العُجب" و"الرياء".
في العجب يحجب الشيطان الإنسان عن الله بـ"الأنا"، ويجعل الأنا حجاباً بين الإنسان وبين الله فتتحول العبادة إلى ضدها: إعراض وشرك، وفي الرياء يحجب الشيطان الإنسان عن الله بالغير، وليس بـ"الأنا" فيجعل وجهة عمله والغاية من عمله هو "الغير" وليس الله ويستدرج الإنسان من الإخلاص لله تعالى وابتغاء مرضاته إلى ابتغاء مرضاة الآخرين وإعجابهم، فيتحول عمل الإنسان من الطاعة والإقبال على الله إلى الشرك والإعراض عن الله.
إذن من أخطر مكر الشيطان في حياة الإنسان "العُجب" و"الرياء"، ونحن في هذا المقالة نحاول أن نبحث عن "العُجب" إن شاء الله ونتعرف على أسبابه وأعراضه وأنواعه وعلاجه من خلال القرآن الكريم.
علاقة الإنسان بنفسه
من طرائق الفكر الإسلامي تحديد نوع علاقة الإنسان بنفسه، وهو أفق واسع في نفس الإنسان، وقد تتعقد شبكة العلاقة التي تربط الإنسان بنفسه أكثر من تعقيد شبكة العلاقات الاجتماعية التي تربط الإنسان بالآخرين من أفراد أسرته وزملائه وأصدقائه ومنافسيه وأعدائه.
ولكل من هاتين الشبكتين "في النفس والمجتمع" أصولها وأحكامها ومنهاجها التربوي الذي يخصها، ولعل اهتمام الإسلام بالشبكة الأولى في علاقة الإنسان بنفسه لا تقل عن اهتمامه بالشبكة الثانية في علاقة الإنسان بالآخرين.
وللناس في العلاقة بأنفسهم أطوار مختلفة، فقد تكون علاقة الإنسان بنفسه قائمة على "السلام مع النفس" ـ كما قال المسيح بن مريم (عليهما السلام): (وَالسلمُ عَلَيَّ يَومَ وُلِدتُ وَيَومَ أمُوتُ وَيومَ أبعثُ حَيّاً) (مريم:33)، فهذا طور من العلاقة بالنفس قائمة على السلام مع النفس.
وقد تكون علاقة الإنسان بنفسه قائمة على أساس من "الظلم والاعتداء" يقول تعالى: (وَمَا ظَلَمنَهُم وَلكن ظَلَمُوا أَنفُسَهُم) (هود:101).
وقد تكون علاقة الإنسان بنفسه قائمة على أساس "التفكير الذاتي بالنفس". يقول تعالى: (أولَم يََتفكرُوا فِي أَنفُسِهِم…)(الروم:8).
وقد تكون العلاقة بالنفس قائمة على أساس "مراقبة النفس وإخضاعها للمراقبة والحساب". يقول تعالى: (عَلَيكُم أَنفُسَكُم لا يَضُرُّكُم مَن ضَل إذا اهتَدَيتُم) (المائدة:105).
وقد تكون هذه العلاقة بالعكس قائمة على أساس "نسيان النفس وإهمال مراقبتها". يقول تعالى: (أتأمرونَ النّاسَ بِالبِرِ وَتَنسَونَ أَنفُسَكُم) (البقرة:44).
وقد تكون علاقة الإنسان بنفسه قائمة على أساس "الصراع الداخلي بين الخير والشر": (إنّ النّفسَ لأمّارّةٌ بِالسُوءِ…) (يوسف:53).
وقد تكون هذه العلاقة قائمة على أساس "إستقرار النفس على الهدى والاستقامة على خط الفطرة". يقول تعالى: (يأيّتُهَا النّفسُ المُطمَئِنّةُ ارجعي إلى رَبّكِ رَاضيَةً مَرضِيّةً) (الفجر:27)، ويقول تعالى: (الذِينَ أمنُوا وتطمَئِنُ قُلُوبُهُم بِذِكرِ اللهِ) (الرعد:28).
وهناك نماذج أخرى كثيرة لعلاقة الإنسان بنفسه، قد أولاها القرآن الكريم إهتماماً كبيراً والذي يقرأ القرآن بإمعان يجد أن علاقة الإنسان بنفسه وتنظيم هذه العلاقة وتصحيحها يأخذ من كتاب الله إهتماماً كبيراً ومساحة واسعة.
ولا نريد نحن أن ندخل هذا الأفق من البحث في هذا المقال، وإنما نريد فقط أن نشير إلى أن من النماذج الخطرة لعلاقة الإنسان بنفسه هو "العُجب" وهو حالة انشداد الإنسان بنفسه واعجابه الشديد بها وبأعمالها، بحيث يستأثر "الأنا" بكل اهتمامه وإعجابه ويستأثر بكل رؤيته، فلا يرى غير نفسه وغير أعماله.
وعندما يبلغ الإنسان هذه الدرجة من الانشداد بالأنا يحجبه "الأنا" عن الله تعالى، فيملأ الضئيل الذي يقدمه لله تعالى من عمل وجهد وطاعة كل قلبه وإحساسه، دون أن يرى عظيم رحمة الله تعالى وفضله وجميله به.
ولو كان الإنسان ينظر إلى الأشياء نظرة سوية ويراها بحجمها الحقيقي لاستهان بجهده وعمله وطاعته لله تعالى، وأكبر فضل الله تعالى ورحمته في حقه، واستحى من الله تعالى أن يقابل عظيم رحمته وفضله بمثل هذا الجهد الضئيل. ولكن عندما يستأثر الأنا بكل رؤيته واهتمامه وإعجابه لا يرى إلا جهده وفعله، دون أن يرى رحمة الله تعالى وفضله، فيتحول إقباله على الله وطاعته لله بهذه الطريقة النفسية الملتوية إلى إعراض عن الله وشرك أو كفر به تعالى، فإن الكافر هو الذي يحجبه حاجب عن الله تعالى حجباً كاملاً. والعجب إذا دخل النفس وتمكن منها يحجب الإنسان عن الله حجباً كاملاً، وفي ذلك هلاك الإنسان وسقوطه التام.
عن الإمام الصادق (عليه السلام): "من دخله العجب هلك".
وأما في الحالات السوية، عندما يقترن عمل الإنسان وجهده في طاعة الله تعالى بإحساسحقيقي وواضح بعجزه عن شكر الله تعالى ومقابلة إحسانه وفضله، فإن عمله عند ذلك على ضآلة حجمه يكون جسراً يوصله إلى الله تعالى. وقد روي عن أبي الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام) أنه قال لبعض ولده: (يا بنيّ! عليك بالجد ولا تخرجن نفسك عن حد التقصير في عبادة الله عز وجل وطاعته، فإن الله لا يعبد حق عبادته).
وعن جابر قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): (يا جابر! لا أخرجك الله من النقص ولا التقصير).
فالعمل الواحد إذن قد يؤدي بالإنسان إلى طريق الله تعالى ويقرّبه من الله، وقد يحجبه ويقطعه عن الله تعالى والفارق الرؤية، وهو أمر عظيم يستحق من الإنسان كل اهتمام.
فقد لا يختلف عمل عن عمل من حيث الحجم والوزن، ولكن أحدهما يقرب العبد إلى الله تعالى والآخر يبعده عنه تعالى.
"العجب والإعتداد بالنفس والأنانية"
"العجب" حالة واحدة من ثلاث حالات ناتجة عن انشداد الإنسان بمحور الأنا، وهذه الحالات الثالثة هي "العجب" و"الاعتداد بالنفس" و"الأنانية".
و"العجب" هو أن يستأثر الأنا بإعجاب الإنسان ويحجبه عن رؤية فضله تعالى ورحمته به، وفي مقابل "العجب" الشعور بالتقصير والعجز عن أداء شكره ومقابلة فضله ورحمته بالطاعة والعبادة.
والاعتداد بالنفس هي حالة أخرى من حالات الانشداد للنفس تتلخص في اعتماد النفس وطرح الثقة بها في مقابل التوكل على الله ووضع الثقة المطلقة في الله تعالى، وهما حالتان من الاعتماد والثقة في مقابل العمل. وفي الحالة الأولى يضع الإنسان ثقته في نفسه، ويعتمدها وهي الحالة الانحرافية في التعامل مع النفس، وفي الحالة الثانية يضع الإنسان ثقته في الله تعالى ويعتمده في شؤونه وحياته وأعماله كلها وهي الحالة السوية في التعامل.
والحالة الثالثة من حالات الانحراف النفسي في انشداد الإنسان بنفسه هي حالة الأنانية، وهي حالة يكون فيها "الأنا" هو المحور الذي يدور حوله كل حركة الإنسان ونشاطه، ويستأثر بكل فعالية الإنسان وتحركه، وفي مقابل هذه الحالة "الإخلاص لله" الذي يجعل من مرضاة الله تعالى محوراً لكل سعي الإنسان وحركته ونشاطه.
إذن هناك ثلاث حالات من الانشداد بالذات هي "العجب، الاعتداد بالنفس، الأنانية". وهي حالات انحرافية في نفس الإنسان نابعة من إنشداد الإنسان لنفسه وحبه لها وفي مقابلها حالات ثلاثة سوية من الانشداد بالله تعالى والتعلق به وإيثار مرضاته على كل شيء وهي "الإحساس بالتقصير والعجز من أداء شكر الله تعالى والتوكل على الله، والإخلاص لله".
اقسام العُجب
قد يعجب الإنسان بنفسه وملكاته وخصاله وقد يعجب الإنسان بأعماله وقد تكون خصاله وملكاته التي تعجبه خصالاً وملكات صالحة، وقد تكون خصالاً وملكات سيئة. فقد يعجب الإنسان بما في نفسه من رأفة ورحمة، وقد يعجب الإنسان بما في نفسه من قسوة وغلظة. وقد تكون أعماله التي تعجبه أعمالاً صالحة وحسنات، وقد تكون أعمالاً فاسدة وسيئات، فقد يعجب الظالم بظلمه وإجحافه وتعسفه بالناس، ويحسب أن ذلك من متطلبات الحزم والقوة. وهو أقبح أنواع العجب، ويصف الله تعالى في كتابه أصحاب هذه الحالة بالاخسرين أعمالاً.
يقول تعالى: (قُل هَل نُنبّكُم بالأخسَرينَ أَعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحَيَوةِ الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنونَ صُنعاً، أُولئِك الذينَ كفرُوا بآيتِ ربهم ولقائهِ فحبطت أعمالُهم فلا نُقيمُ لهم يومَ القيَمةِ وَزناً) (الكهف:104).
مراحل العُجب
للعجب مراحل في نفس الإنسان. فقد يعجب الإنسان بنفسه وخصاله وأعماله وتمتلئ نفسه زهواً بما عنده من خصال وأعمال فيحجبه هذا الشعور عن رؤية فضل الله تعالى عليه ورحمته به. وإنما تحجبه خصاله ومواهبه عن الله إذا فصلها عن الله تعالى وربطها بنفسه، كأنها أشياء تخصه وهو صاحبها وليس لله تعالى فيها عليه فضل. فيحجبه هذا الشعور عن الله تعالى، ويكون الأنا حجاباً للإنسان.
أما إذا كان إحساسه بنفسه وخصاله وأعماله في امتداد إحساسه بفضل الله تعالى ورحمته، فهذا الإحساس لا يحجبه عن الله تعالى، بل يعمق ارتباطه بالله، ويكرس ذلك الله تعالى في نفسه.
والمرحلة الأخرى من العجب أن يتجاوز الإنسان مرحلة العجب بالنفس وخصالها وأعمالها إلى مرحلة الادلال على الله سبحانه، فيتصور الإنسان أن له بأعماله دالة على الله تعالى وهذه مرحلة "الادلال".
ويأتي بعد هذه المرحلة مرحلة "التوقع" من الله، فيتوقع الإنسان من الله ألا يرد له دعاء مثلاً أو أن لا يصيبه بسوء ومكروه، ولا يقوم هذا التوقع على أساس من حسن الظن بالله تعالى ورحمته ومنّه على عباده، وإنما يقوم على أساس الإحساس باستحقاق من الله تعالى بإزاء عمله وجهده. وهذه المرحلة من العجب أقبح من سابقتها.
ويأتي بعد هذه المرحلة مرحلة "العتاب" و"الاعتراض" المكتوم على الله إذا لم تتحقق توقعات الإنسان كما يريد، وكما يرى أنه يستحقها من الله تعالى، عندئذ يضمر العتاب والاعتراض في نفسه على الله تعالى، وهو على حد الكفر بالله تعالى وهو أقبح من سابقه.
ويأتي بعد هذه المرحلة مرحلة "المن" على الله. فإن الإنسان إذا تمادى في شعوره هذا يستدرجه الشيطان إلى الإحساس بالمن على الله، فيتصور أنه قد أفاد دين الله، ونفع رسالة الله، وأدى خدمة إلى الله تعالى. وهو من أقبح أنواع العجب، وهو على حد الكفر بالله تعالى كما ذكرنا، أو من الكفر بالله أعاذنا الله تعالى منه.
أسباب العجب
العجب يتكون من عنصرين: الانبهار بـ"الأنا" والغفلة عن الله تعالى وهما مرتبطان ومتداخلان. فإن الانبهار بـ"الأنا"، إذا فصله الإنسان عن الله تعالى يحجب الإنسان ويغفله عن الله، والعكس كذلك صحيح. فإن الانصراف والغفلة عن ذكر الله يعطي الفرصة للانا ليستأثر بمشاعر صاحبه، ويبهره.
إلا أن جذور حالة العجب تكمن في "الغفلة" عن ذكر الله، فإن الإنسان إذا كان ذاكراً لله تعالى، مستحضراً لعظمته وجلاله ورحمته ونعمائه لا يمكن أن يكبر عنده "الأنا"، ولا يمكن أن يستأثر الأنا باهتمامه وإعجابه وذكره، وإنما يبرز "الأنا" في حياة الإنسان بقدر ما يغيب ذكر الله عن قلب الإنسان. وعلى ذلك فإن علاج "العجب" أيضاً هو من نفس سنخ السبب، وهو استعادة ذكر الله وتمكينه من العقل والقلب، وتكريس "الذكر" من النفس.
وليس الذكر من مقولة القول واللفظ في شيء، وإنما القول واللفظ تعبير وإبراز للذكر، وحقيقة الذكر هو استحضار صفات الله وأسمائه الحسنى ونعمائه في النفس.
أعراض العجب
من أخطر الأمراض التي تصيب الإنسان "العجب" وخطورة هذا المرض تنشأ من خطورة الاعراض والنتائج المترتبة عليه ونحن نشير فيما يلي إلى بعض أعراض حالة العجب.
الاستكبار
إن حالة العجب تكرس "الأنا" في نفس الإنسان وتدفع الإنسان إلى تضخيم حجم "الأنا" في نفسه، وفي نفس الوقت تؤدي إلى ضمور ذكر الله في قلب الإنسان.
وهذا التورم في "الأنا" عندما يقترن بضمور ذكر الله في النفس يصبح أساساً لحالة انحرافية مريضة خطيرة في النفس يبتغي فيها الإنسان التمييز والكبر على الآخرين ويتصنع فيها الكبر والتمييز، وهي الحالة التي يسميها القرآن بالاستكبار والتكبر. وقد يكون التكبر على الحق وحتى على آيات الله وأحكامه، فيرفض المتكبر أن يخضع للحق، ويرفض أن يقبل بآيات الله وأن يخضع لأحكامه وأمره ونهيه. وهذا الرفض واللجاج من أبرز خصائص التكبر.
وحالة التكبر والعناد هي الأساس لأعظم مصائب الإنسان وبؤسه وشقائه وهي التي حجبت أعداء الله تعالى من أمثال فرعون ونمرود وهامان وأبي سفيان وأبي جهل وعتاة قريش عن رؤية آيات الله وعن الخضوع لأحكامه تعالى. ومن قبل منعت إبليس عن السجود لآدم:
(وَلَقَد خَلَقنَكُم ثُمّ صَوّرنَكُم ثُمَّ قلنا للملئكةِ اسجدوا لآدام فسجدوا إلا إبليسَ لَم يَكُن مِنَ السجدين، قال ما منعك ألاّ تَسجُد إذ أمَرتُكَ قَالَ أنَا خَيرٌ مِنهُ خَلَقتَنِي مَن نَارٍ وَخَلَقتَهُ مِن طِينٍ، قَالَ فاهبِط مِنهَا يَكُون لَكَ أن تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخرُج إنكَ مِنَ الصاغِرينَ) (الأعراف:10ـ13).
وما أضر بالإنسان شيء أعظم من "التكبر" وما يهلك الناس ويدفعهم إلى جهنم شيء أعظم من "التكبر".
والذي يمعن النظر في كتاب الله يرى أن التكبر هو أساس "الإعراض عن الإيمان بالله تعالى" والإعراض عن "لا إله إلا الله".
(إنَّهُم كَانُوا إذاَ قِيلَ لَهُم لا إِلَهَ إلاّ اللهُ يَستكبِرُونَ) (الصافات:35).
وأساس الإعراض عن دعوة الأنباء:
(أَفَكُلّمَا جَاءَكُم رَسُولٌ بمَا لا تَهوَى أنَفُسُكُمُ استكبَرتُم) (البقرة:87).
وأساس الكفر بالله ورسوله:
(قَالَ الذِينَ استكبَرُوا إنّا بالذي أمَنتُم بِهِ كفرُونَ) (الأعراف:76).
وأساس العناد واللجاج والصدّ عن سبيل الله:
(… لَوَّوا رُءُسَهُم وَرَأيتهُم يَصُدونَ وَهُم مُستكبِرُونَ) (المنافقون:5).
(واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً) (نوح: 7).
(قالَ الملأُ الذين استكبرُوا لنُخرِجنكَ يَشُعيبُ) (الأعراف:88).
والاستكبار يؤدي إلى الاستنكاف عن عبادة الله تعالى:
(وَمَن يَستَنكِف عَن عِبَادِتِهِ وَيِستَكبِر فَسَيَحشُرُهُم إِليهِ جميِعاً) (النساء:172).
وهؤلاء المتكبرون إذا تمادوا في الكبر يطبع الله على قلوبهم وأبصارهم:
(كذلكَ يَطبَعُ اللهُ عَلى كُلّ قَلب] مُتَكَبِرٍ جَبّارٍ) (غافر:35).
(وّإذا تُتلَى عَلَيهِ ءَايَتُنَا وَلّى مُستَكبِراً كَأَن لَم يَسمَعهَا) (لقمان:7).
وهؤلاء تغلق عليهم أبواب السماء "أبواب الرحمة".
(إنَّ الذِينَ كَذَّبُوا بِآيَتِنَا وَاستكبَرُوا عَنهَا لا تُفَتَّحُ لَهُم أَبوَبُ السَّماءٍ…) (الأعراف:40)، وتتفتح عليهم أبواب جهنم:
(قِيلَ ادخُلُوا أَبوَابَ جَهَنّّم خَلِدِينَ فِيهَا فَبئسَ مَثوَى المُتَكَبِرِينَ) (الزمر:72).
(…أليسَ فِي جَهَنَّمَ مَثوى للمُتَكَبرينَ) (الزمر:60).
الانحراف المركب
والانحراف على شكلين: بسيط ومركب. وأما البسيط فهو أن ينحرف الإنسان عن صراط الله تعالى عالماً بانحرافه، وأمر هذا الانحراف أهون من غيره، فإن فرص الاستقامة تبقى قائمة للإنسان عندما يكون انحرافه بسيطاً. أما إذا كان صاحب الانحراف يؤمن بأنه يحسن صنعاً ويسير على الصراط المستقيم فذلك من الانحراف المركب (تركيب من الانحراف والجهل)،
وهذا أخطر من الانحراف الأول. فإن الإنسان المنحرف يعتقد في هذه الحالة أنه ليس بمنحرف، وهذا التصور يفوت عليه فرص العودة والاستقامة.
و"العجب" من أهمّ مصادر هذه الحالة من الانحراف المركب، فإن الإنسان عندما يأخذه العجب بنفسه يرى القبيح الذي يصدر منه حسناً والسيئة التي يرتكبها حسنة، ولا يسمح لأحد أن يراجعه في شيء من ذلك، ولا يسمح لنفسه الشك والتردد في سلامة شيء من مواقفه وأعماله، ويرى لنفسه ما يشبه العصمة، وهذه الحالة كما ذكرنا أخطر حالات الانحراف وإلى هذه الحالة من الانحراف المركب تشير الآية الكريمة:
(قُل هَل نُنَبّئُكم بِالأخسَرِينَ أعمالاً، الذينَ ضَلَّ سَعيُهُم فِي الحَيَوةِ الدُّنيَا وَهُم يَحسبُونَ أَنَّهُم يُحسِنُونَ صُنعاً، أُولَئِكَ الذينَ كَفَرُوا بآيَتِ رَبّهِم وَلِقَائِهِ فَحَبطت أعمالُهُم فَلاَ نُقيمُ لهُم يَومَ القِيَمةِ وَزناً) (الكهف:103ـ105).
عندما يبلغ الإنسان هذه الدرجة من الانحراف تحترق عنده الرؤية بشكل كامل، فيتصور قبائح أعماله وسيئاته حسنات، "وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً".
وهذه حالة من حالات عمى العقل والقلب والبصيرة، يفقد فيها الإنسان القدرة على التمييز بين الحق والباطل، كما يفقد المصابون بعمى الألوان القدرة على تمييز بعض الألوان، بل "العمى" في حالة العجب أخطر، حث لا يفقد فيها الإنسان الرؤية فقط، وإنما تنعكس فيها الرؤية فيرى القبيح منه حسناً، ويرى الحسن من غيره قبيحاً. وتسبب هذه الحالة من العمى وفقدان القدرة على التمييز إنقلاب المقاييس عند الإنسان في حالة "العجب".
فإن الإنسان في حالة الرشد والاستواء يجعل من الحق مقياساً لنفسه وأعماله ومواقفه ويطبق نفسه وأخلاقه وسلوكه ومواقفه دائماً على هذا المقياس، فيستقيم ويصحح أعماله ومواقفه كلما تعرض لخطأ أو انحراف.
وكلما يتقدم الإنسان في "العجب" أكثر تتعمق في نفسه هذه الحالة من انقلاب المقاييس أكثر من ذي قبل، حتى ينقلب الإنسان فيكون هو مقياساً كاملاً للحق، فما يعمله هو الحق وما يتركه هو الباطل وما يريده هو الحق، وما يعارضه ويرفضه هو الباطل ويكون "الأنا" هو المقياس للحق، وليس "الحق" هو المقياس للانا.
والقرآن يصف هؤلاء بأوصاف عجيبة، تستوقف الإنسان، وتدعو إلى كثير من التأمل والتفكير.
فهو يقول لهم أولاً: (الذي ضلَّ سعيهم في الحيوة الدنيا)، وهذه حالة تخص الحياة الدنيا، فيضيع سعيهم، وضياع السعي بانتفاء الأثر والفائدة المترتبة على السعي، فإن السعي كالحرث يؤتي ثماره طيبة شهية، إذا أراد الله تعالى لها الخير وبارك فيه، ويكون مبتوراً عقيماً إذا سلب الله تعالى منه الخير والبركة، كذلك "السعي" و"الحركة" إذا سلب الله تعالى منه الخير والبركة كان جهداً ضائعاً وسعياً ضالاً.
ويعبر القرآن عنهم ثانياً بـ: (الأخسرين أعمالاً)، وهذه أيضاً حالة تخص الدنيا، والخسارة هي أن يفقد الإنسان جهده وحياته وحركته دون أن يأتي له ذلك بنتيجة أو ثمرة، وجهد الإنسان وحركته وعمره هو "رأس ماله" الذي يتاجر به ويحوله إلى "مرضاة الله" و"قرب الله" و"ثواب الآخرة". وكل جهد وحركة وساعة من عمر الإنسان لا يتحول إلى هذه النتائج فهو خسارة العمر والجهد، وكان مثل هذا الإنسان مثل التاجر الذي ينفق رأس ماله دون أن يعود عليه بأي شيء، وهذه هي الخسارة الكبيرة التي تشير إليها سورة العصر: (وَالعَصرِ، إِنَّ الإِنسانَ لَفِي خُسرٍ).
ولكن القرآن الكريم لا يقتصر هنا في تصوير مأساة الإنسان على هذا الحد، وإنما يتجاوز ذلك ويصف مأساة الإنسان في هذه الحالة بـ"الأخسرين أعمالاً" بصيغة أفعل التفضيل. وسبب تكريس حالة الخسارة هذه أن جهد الإنسان وسعيه وحركته ليس فقط يضيع، وإنما يتحول إلى ضده، فيتحول جهد الإنسان إلى عذاب الله وعقابه وغضبه عوض أن يتحول إلى رحمة الله وقربه ورضوانه وجنّته. كمن ينفق ماله في ارتكاب جريمة فيعاقب ويغرم، فإن هذا الإنسان ليس فقط يخسر رأس ماله، وإنما ينقلب رأس ماله إلى وبال عليه.
ثم يقول القرآن الكريم عنهم ثالثاً: (فحبطت أعملُهم فلا نُقيم لهم يوم القيمة وزناً)، وهذه الحالة تخص يوم القيامة وهي حالة "الحبط" الكامل في الآخرة وحالة "انعدام الوزن"، (فلا نقيم لهم يوم القيمة وزناً).
وحالة "الحبط" في مقابل أصل لله "البقاء" و"الثبات" للأعمال في يوم القيامة، والذي يشير إليه القرآن في كثير من آياته:
(فَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ، وَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة:7ـ8).
(وَوُضِعَ الكِتَبُ فَتَرَى المُجرِمِينَ مُشفِقِينَ مَمّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَوَيلَتَنا مَالِ هَذَا الكِتَاب لا يُغَادرُ صَغِيرَةً وَلاَكَبِيرَةً إلاّ أحصَياهَا وَوَجدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يَظلمُ رَبُّكَ أحَداً) ( الكهف:48).
وبموجب هذه الحالة لا ينعدم شيء من العمل من خير أو شر يصدر عن الإنسان يوم القيامة. وهذا أصل كوني من الاصول الكونية التي يشرحها القرآن في تبيان سنن الله تعالى.
إلا أن "الكفر" و"الانحراف المركب" النابع من العجب يؤدي إلى حبط الأعمال يوم القيامة: (فحبطت أعمالُهم)، وأصل "الحبط" في مقابل أصل الثبات.
كما يؤدي الكفر والانحراف المركب إلى حالة "إنعدام الوزن" يوم القيامة: (فلا نقيم لهم يوم القيمة وزناً). وبالوزن يوم القيامة يستقر الإنسان في رحمة الله ورضوانه، وإذا فقد الإنسان الوزن يوم القيامة فلا يستطيع أن يستقر في رحمة الله.
أرأيت لو أن الإنسان فقدَ "الوزن الفيزياوي" في الدنيا على وجه الأرض هل يستطيع أن يستقر فيها أو يبني لنفسه حياة فيها؟ كذلك انعدام الوزن يوم القيامة.
علاج العجب
في حياة الإنسان مصدران للابتلاء "الهوى" و"الأنا" وكل منهما سبب لسقوط الإنسان وهلاكه.
فقد يسقط الإنسان على مزلق الاستجابة للهوى فيملك الهوى أمره، ويحكمه في حياته فيجره إلى الهلاك والسقوط. وهو باب واسع من أبواب الفساد والهلاك والسقوط في حياة الإنسان، وقد حذر الإسلام منه كثيراً واعتبره من أخطر المزالق التي تواجه الإنسان.
وهذه الآية الكريمة تجمع طائفة من أمهات الأهواء في حياة الإنسان:
(زُيّنَ للنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِسَاءِ وَالبَنِينَ والقنَاطير المُقَنطرَةِ مِنَ الّذهبِ والفضةِ والخيلِ المُسومَة والأنعَمِ والحَرثِ ذلكَ مَتَعُ الحَيَوةِ الدُّنيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسنُ المَآبِ) (آل عمران:14).
والمصدر الآخر للسقوط والهلاك والفساد في حياة الإنسان هو "الأنا"، وكما كانت الاستجابة غير المحدودة للهوى سبباً في السقوط والهلاك في حياة الإنسان كذلك الاستجابة غير المحدودة للانا يعتبر المصدر الثاني للسقوط في حياة الإنسان. فإن الأنا عندما يستعلي ويستكبر ويتحول إلى محور يستقطب كل اهتمامات ومشاعر وجهد الإنسان يتحول إلى صنم يتخذه الإنسان إلهاً في حياته من دون الله. وهذا باب واسع آخر للسقوط والفساد والهلاك في حياة الإنسان.
وقد أعطى الإسلام في منهاجه التربوي اهتماماً لهذا وذاك معاً. وقد أعطى الإسلام في منهاجه التربوي اهتماماً لهذا وذاك معاً.
والطريقة الصحيحة في معالجة كل من "الهوى" و"الأنا" ليس في استئصاله أو كبته ومحاربته، وإنما في تعديله وتلطيفه والتحكم فيه.
ومن الوسائل التربوية الصحيحة في تعديل كل من "الهوى" و"الأنا" وضبطهما والتحكم فيهما هي العبادات.
ففي العبادات ما يتخذه الإسلام وسيلة لتعديل الهوى وكفه وضبطه وتحديده كالصوم.
ومن العبادات ما يتخذه الإسلام أداة لتعديل الأنا وتحجيمها كالصلاة فإن الصلاة وسيلة فعالة وقوية لإذلال الأنا وتركيعها بين يدي الله تعالى في الأذكار والأفعال معاً. فالتكبير والتهليل، والحمد، والتعبيد، والاستعانة بالله والتوحيد والدعاء في الأذكار يذلل الأنا ويخضعها لله، ويشعرها بهذا الذل والخضوع بإيحاءات متعددة.
والحج عبادة فريدة في الإسلام يجمع بين هذا وذاك، ففي الحج منهاج تربوي واسع لتدريب الإنسان على ضبط الهوى وتحديده، ويمكن الإنسان من أهوائه وشهواته.
ففي محرمات الإحرام منهج عملي لضبط مجموعة من الأهواء القوية والمؤثرة في النفس، كالغريزة الجنسية والنزوع إلى جملة من الطيبات والنزوع إلى الرفاه والراحة.
وفي محرمات الإحرام ما يضبط الأنا ويحدده ويتحكم فيه، كتحريم لبس المخيط على الحجاج الرجال، واللباس من أبرز سمات شخصية الإنسان في انتمائه الطبقي والقومي. وفي الميقات يتجرد الحجاج من كل ملابسهم وأزيائهم الشخصية والقومية ويظهرون بمظهر واحد، دون امتيازات شخصية أو طبقية أو قومية أو فئوية.
ومن محرمات الإحرام "الجدال" وهو من الميول الأنانية العميقة في نفس الإنسان بالظهور والاستعلاء على خصمه. والطواف يرمز إلى تكريس التوحيد ومحورية "الله" تعالى في حياة الإنسان في مقابل تكريس محورية الذات. ولوقوف المسلمين جميعا في عرفات في وقت واحد في واد غير ذي زرع من دون امتيازات وفوارق للبعض على بعض، للتذلل والتضرع بين يدي الله تعالى دور كبير في اذلال الأنا وتعبيدها لله تعالى وتحويلها من طور الألوهية والأنانية إلى طور العبودية لله تعالى.
والذي يمعن النظر في فريضة الحج يجد أن هذه الفريضة العبادية تتضمن منهاجاً تربوياً دقيقاً وعملياً في ضبط "الهوى" و"الأنا" وتعديلهما وتعبيدهما لله تعالى.
ونحن في هذا الحديث لا نريد أن نبحث عن الهوى وأخطاره وأعراضه وعلاجه في حياة الإنسان. فليس في هذا المقال موضع للدخول في هذا البحث، وإنما أشرنا إليه إشارة لنعرف موضع "الأنا" من الأخطار التي تهدد حياة الإنسان، وليكتمل عندنا منهج البحث وإطاره.
فإن "الأنا" هو مصدر "العجب" في حياة الإنسان. ولا محالة بكون علاج العجب بعلاج الأنا. و" الأنا" كما ذكرنا أحد مصدري الخطر والسقوط والفساد في حياة الإنسان.
فلنتأمل إذن في "الأنا" ونترك البحث عن الهوى إلى الموضع المناسب إن شاء الله.
الموضوع منقول للفائده وهذا اسم صاحب الموضوع
الشيخ محمّد مهدي الآصفي
(قُل هَل نُنَبّئُكُم بِالأخسَرينَ أعمالاً، الذينَ ضلّ سَعيُهُم في الحَيَوةِ الدنيا وَهُم يَحسبُونَ أنهم يحسنون صُنعاً، أولئِكَ الذِينَ كَفَرُوا بآيَتِ رَبّهِم وَلِقَائِهِ فَحَبطَت أعمَلُهُم فَلاَ نُقِيمُ لَهُم يَومَ القِيمةِ وَزناً) (الكهف:103ـ105).
المدخل إلى البحث
من أخطر ما يصنعه الشيطان بالإنسان من مكر، هو "العُجب"، وذلك أن الشيطان قد يحرف الإنسان من العبادة إلى الشرك، وهذا نوع من المكر ظاهر يتمكن الإنسان من مكافحته، وقد يحول الشيطان العبادة نفسها إلى الشرك، وهذا هو أخطر مكر الشيطان، وقد يقطع الشيطان السبيل على الإنسان فيحوله من الإقبال على الله إلى الإعراض عن الله وقد يحول الشيطان الإقبال على الله ـ نفسه ـ إلى الإعراض عن الله وهذا أخطر من الأول.
كيف يمكر الشيطان هذا المكر، وما هي الأداة التي يستخدمها فيحول العبادة والإقبال على الله إلى الشرك والإعراض عن الله؟
الجواب على ذلك ينطوي في كلمتي "العُجب" و"الرياء".
في العجب يحجب الشيطان الإنسان عن الله بـ"الأنا"، ويجعل الأنا حجاباً بين الإنسان وبين الله فتتحول العبادة إلى ضدها: إعراض وشرك، وفي الرياء يحجب الشيطان الإنسان عن الله بالغير، وليس بـ"الأنا" فيجعل وجهة عمله والغاية من عمله هو "الغير" وليس الله ويستدرج الإنسان من الإخلاص لله تعالى وابتغاء مرضاته إلى ابتغاء مرضاة الآخرين وإعجابهم، فيتحول عمل الإنسان من الطاعة والإقبال على الله إلى الشرك والإعراض عن الله.
إذن من أخطر مكر الشيطان في حياة الإنسان "العُجب" و"الرياء"، ونحن في هذا المقالة نحاول أن نبحث عن "العُجب" إن شاء الله ونتعرف على أسبابه وأعراضه وأنواعه وعلاجه من خلال القرآن الكريم.
علاقة الإنسان بنفسه
من طرائق الفكر الإسلامي تحديد نوع علاقة الإنسان بنفسه، وهو أفق واسع في نفس الإنسان، وقد تتعقد شبكة العلاقة التي تربط الإنسان بنفسه أكثر من تعقيد شبكة العلاقات الاجتماعية التي تربط الإنسان بالآخرين من أفراد أسرته وزملائه وأصدقائه ومنافسيه وأعدائه.
ولكل من هاتين الشبكتين "في النفس والمجتمع" أصولها وأحكامها ومنهاجها التربوي الذي يخصها، ولعل اهتمام الإسلام بالشبكة الأولى في علاقة الإنسان بنفسه لا تقل عن اهتمامه بالشبكة الثانية في علاقة الإنسان بالآخرين.
وللناس في العلاقة بأنفسهم أطوار مختلفة، فقد تكون علاقة الإنسان بنفسه قائمة على "السلام مع النفس" ـ كما قال المسيح بن مريم (عليهما السلام): (وَالسلمُ عَلَيَّ يَومَ وُلِدتُ وَيَومَ أمُوتُ وَيومَ أبعثُ حَيّاً) (مريم:33)، فهذا طور من العلاقة بالنفس قائمة على السلام مع النفس.
وقد تكون علاقة الإنسان بنفسه قائمة على أساس من "الظلم والاعتداء" يقول تعالى: (وَمَا ظَلَمنَهُم وَلكن ظَلَمُوا أَنفُسَهُم) (هود:101).
وقد تكون علاقة الإنسان بنفسه قائمة على أساس "التفكير الذاتي بالنفس". يقول تعالى: (أولَم يََتفكرُوا فِي أَنفُسِهِم…)(الروم:8).
وقد تكون العلاقة بالنفس قائمة على أساس "مراقبة النفس وإخضاعها للمراقبة والحساب". يقول تعالى: (عَلَيكُم أَنفُسَكُم لا يَضُرُّكُم مَن ضَل إذا اهتَدَيتُم) (المائدة:105).
وقد تكون هذه العلاقة بالعكس قائمة على أساس "نسيان النفس وإهمال مراقبتها". يقول تعالى: (أتأمرونَ النّاسَ بِالبِرِ وَتَنسَونَ أَنفُسَكُم) (البقرة:44).
وقد تكون علاقة الإنسان بنفسه قائمة على أساس "الصراع الداخلي بين الخير والشر": (إنّ النّفسَ لأمّارّةٌ بِالسُوءِ…) (يوسف:53).
وقد تكون هذه العلاقة قائمة على أساس "إستقرار النفس على الهدى والاستقامة على خط الفطرة". يقول تعالى: (يأيّتُهَا النّفسُ المُطمَئِنّةُ ارجعي إلى رَبّكِ رَاضيَةً مَرضِيّةً) (الفجر:27)، ويقول تعالى: (الذِينَ أمنُوا وتطمَئِنُ قُلُوبُهُم بِذِكرِ اللهِ) (الرعد:28).
وهناك نماذج أخرى كثيرة لعلاقة الإنسان بنفسه، قد أولاها القرآن الكريم إهتماماً كبيراً والذي يقرأ القرآن بإمعان يجد أن علاقة الإنسان بنفسه وتنظيم هذه العلاقة وتصحيحها يأخذ من كتاب الله إهتماماً كبيراً ومساحة واسعة.
ولا نريد نحن أن ندخل هذا الأفق من البحث في هذا المقال، وإنما نريد فقط أن نشير إلى أن من النماذج الخطرة لعلاقة الإنسان بنفسه هو "العُجب" وهو حالة انشداد الإنسان بنفسه واعجابه الشديد بها وبأعمالها، بحيث يستأثر "الأنا" بكل اهتمامه وإعجابه ويستأثر بكل رؤيته، فلا يرى غير نفسه وغير أعماله.
وعندما يبلغ الإنسان هذه الدرجة من الانشداد بالأنا يحجبه "الأنا" عن الله تعالى، فيملأ الضئيل الذي يقدمه لله تعالى من عمل وجهد وطاعة كل قلبه وإحساسه، دون أن يرى عظيم رحمة الله تعالى وفضله وجميله به.
ولو كان الإنسان ينظر إلى الأشياء نظرة سوية ويراها بحجمها الحقيقي لاستهان بجهده وعمله وطاعته لله تعالى، وأكبر فضل الله تعالى ورحمته في حقه، واستحى من الله تعالى أن يقابل عظيم رحمته وفضله بمثل هذا الجهد الضئيل. ولكن عندما يستأثر الأنا بكل رؤيته واهتمامه وإعجابه لا يرى إلا جهده وفعله، دون أن يرى رحمة الله تعالى وفضله، فيتحول إقباله على الله وطاعته لله بهذه الطريقة النفسية الملتوية إلى إعراض عن الله وشرك أو كفر به تعالى، فإن الكافر هو الذي يحجبه حاجب عن الله تعالى حجباً كاملاً. والعجب إذا دخل النفس وتمكن منها يحجب الإنسان عن الله حجباً كاملاً، وفي ذلك هلاك الإنسان وسقوطه التام.
عن الإمام الصادق (عليه السلام): "من دخله العجب هلك".
وأما في الحالات السوية، عندما يقترن عمل الإنسان وجهده في طاعة الله تعالى بإحساسحقيقي وواضح بعجزه عن شكر الله تعالى ومقابلة إحسانه وفضله، فإن عمله عند ذلك على ضآلة حجمه يكون جسراً يوصله إلى الله تعالى. وقد روي عن أبي الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام) أنه قال لبعض ولده: (يا بنيّ! عليك بالجد ولا تخرجن نفسك عن حد التقصير في عبادة الله عز وجل وطاعته، فإن الله لا يعبد حق عبادته).
وعن جابر قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): (يا جابر! لا أخرجك الله من النقص ولا التقصير).
فالعمل الواحد إذن قد يؤدي بالإنسان إلى طريق الله تعالى ويقرّبه من الله، وقد يحجبه ويقطعه عن الله تعالى والفارق الرؤية، وهو أمر عظيم يستحق من الإنسان كل اهتمام.
فقد لا يختلف عمل عن عمل من حيث الحجم والوزن، ولكن أحدهما يقرب العبد إلى الله تعالى والآخر يبعده عنه تعالى.
"العجب والإعتداد بالنفس والأنانية"
"العجب" حالة واحدة من ثلاث حالات ناتجة عن انشداد الإنسان بمحور الأنا، وهذه الحالات الثالثة هي "العجب" و"الاعتداد بالنفس" و"الأنانية".
و"العجب" هو أن يستأثر الأنا بإعجاب الإنسان ويحجبه عن رؤية فضله تعالى ورحمته به، وفي مقابل "العجب" الشعور بالتقصير والعجز عن أداء شكره ومقابلة فضله ورحمته بالطاعة والعبادة.
والاعتداد بالنفس هي حالة أخرى من حالات الانشداد للنفس تتلخص في اعتماد النفس وطرح الثقة بها في مقابل التوكل على الله ووضع الثقة المطلقة في الله تعالى، وهما حالتان من الاعتماد والثقة في مقابل العمل. وفي الحالة الأولى يضع الإنسان ثقته في نفسه، ويعتمدها وهي الحالة الانحرافية في التعامل مع النفس، وفي الحالة الثانية يضع الإنسان ثقته في الله تعالى ويعتمده في شؤونه وحياته وأعماله كلها وهي الحالة السوية في التعامل.
والحالة الثالثة من حالات الانحراف النفسي في انشداد الإنسان بنفسه هي حالة الأنانية، وهي حالة يكون فيها "الأنا" هو المحور الذي يدور حوله كل حركة الإنسان ونشاطه، ويستأثر بكل فعالية الإنسان وتحركه، وفي مقابل هذه الحالة "الإخلاص لله" الذي يجعل من مرضاة الله تعالى محوراً لكل سعي الإنسان وحركته ونشاطه.
إذن هناك ثلاث حالات من الانشداد بالذات هي "العجب، الاعتداد بالنفس، الأنانية". وهي حالات انحرافية في نفس الإنسان نابعة من إنشداد الإنسان لنفسه وحبه لها وفي مقابلها حالات ثلاثة سوية من الانشداد بالله تعالى والتعلق به وإيثار مرضاته على كل شيء وهي "الإحساس بالتقصير والعجز من أداء شكر الله تعالى والتوكل على الله، والإخلاص لله".
اقسام العُجب
قد يعجب الإنسان بنفسه وملكاته وخصاله وقد يعجب الإنسان بأعماله وقد تكون خصاله وملكاته التي تعجبه خصالاً وملكات صالحة، وقد تكون خصالاً وملكات سيئة. فقد يعجب الإنسان بما في نفسه من رأفة ورحمة، وقد يعجب الإنسان بما في نفسه من قسوة وغلظة. وقد تكون أعماله التي تعجبه أعمالاً صالحة وحسنات، وقد تكون أعمالاً فاسدة وسيئات، فقد يعجب الظالم بظلمه وإجحافه وتعسفه بالناس، ويحسب أن ذلك من متطلبات الحزم والقوة. وهو أقبح أنواع العجب، ويصف الله تعالى في كتابه أصحاب هذه الحالة بالاخسرين أعمالاً.
يقول تعالى: (قُل هَل نُنبّكُم بالأخسَرينَ أَعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحَيَوةِ الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنونَ صُنعاً، أُولئِك الذينَ كفرُوا بآيتِ ربهم ولقائهِ فحبطت أعمالُهم فلا نُقيمُ لهم يومَ القيَمةِ وَزناً) (الكهف:104).
مراحل العُجب
للعجب مراحل في نفس الإنسان. فقد يعجب الإنسان بنفسه وخصاله وأعماله وتمتلئ نفسه زهواً بما عنده من خصال وأعمال فيحجبه هذا الشعور عن رؤية فضل الله تعالى عليه ورحمته به. وإنما تحجبه خصاله ومواهبه عن الله إذا فصلها عن الله تعالى وربطها بنفسه، كأنها أشياء تخصه وهو صاحبها وليس لله تعالى فيها عليه فضل. فيحجبه هذا الشعور عن الله تعالى، ويكون الأنا حجاباً للإنسان.
أما إذا كان إحساسه بنفسه وخصاله وأعماله في امتداد إحساسه بفضل الله تعالى ورحمته، فهذا الإحساس لا يحجبه عن الله تعالى، بل يعمق ارتباطه بالله، ويكرس ذلك الله تعالى في نفسه.
والمرحلة الأخرى من العجب أن يتجاوز الإنسان مرحلة العجب بالنفس وخصالها وأعمالها إلى مرحلة الادلال على الله سبحانه، فيتصور الإنسان أن له بأعماله دالة على الله تعالى وهذه مرحلة "الادلال".
ويأتي بعد هذه المرحلة مرحلة "التوقع" من الله، فيتوقع الإنسان من الله ألا يرد له دعاء مثلاً أو أن لا يصيبه بسوء ومكروه، ولا يقوم هذا التوقع على أساس من حسن الظن بالله تعالى ورحمته ومنّه على عباده، وإنما يقوم على أساس الإحساس باستحقاق من الله تعالى بإزاء عمله وجهده. وهذه المرحلة من العجب أقبح من سابقتها.
ويأتي بعد هذه المرحلة مرحلة "العتاب" و"الاعتراض" المكتوم على الله إذا لم تتحقق توقعات الإنسان كما يريد، وكما يرى أنه يستحقها من الله تعالى، عندئذ يضمر العتاب والاعتراض في نفسه على الله تعالى، وهو على حد الكفر بالله تعالى وهو أقبح من سابقه.
ويأتي بعد هذه المرحلة مرحلة "المن" على الله. فإن الإنسان إذا تمادى في شعوره هذا يستدرجه الشيطان إلى الإحساس بالمن على الله، فيتصور أنه قد أفاد دين الله، ونفع رسالة الله، وأدى خدمة إلى الله تعالى. وهو من أقبح أنواع العجب، وهو على حد الكفر بالله تعالى كما ذكرنا، أو من الكفر بالله أعاذنا الله تعالى منه.
أسباب العجب
العجب يتكون من عنصرين: الانبهار بـ"الأنا" والغفلة عن الله تعالى وهما مرتبطان ومتداخلان. فإن الانبهار بـ"الأنا"، إذا فصله الإنسان عن الله تعالى يحجب الإنسان ويغفله عن الله، والعكس كذلك صحيح. فإن الانصراف والغفلة عن ذكر الله يعطي الفرصة للانا ليستأثر بمشاعر صاحبه، ويبهره.
إلا أن جذور حالة العجب تكمن في "الغفلة" عن ذكر الله، فإن الإنسان إذا كان ذاكراً لله تعالى، مستحضراً لعظمته وجلاله ورحمته ونعمائه لا يمكن أن يكبر عنده "الأنا"، ولا يمكن أن يستأثر الأنا باهتمامه وإعجابه وذكره، وإنما يبرز "الأنا" في حياة الإنسان بقدر ما يغيب ذكر الله عن قلب الإنسان. وعلى ذلك فإن علاج "العجب" أيضاً هو من نفس سنخ السبب، وهو استعادة ذكر الله وتمكينه من العقل والقلب، وتكريس "الذكر" من النفس.
وليس الذكر من مقولة القول واللفظ في شيء، وإنما القول واللفظ تعبير وإبراز للذكر، وحقيقة الذكر هو استحضار صفات الله وأسمائه الحسنى ونعمائه في النفس.
أعراض العجب
من أخطر الأمراض التي تصيب الإنسان "العجب" وخطورة هذا المرض تنشأ من خطورة الاعراض والنتائج المترتبة عليه ونحن نشير فيما يلي إلى بعض أعراض حالة العجب.
الاستكبار
إن حالة العجب تكرس "الأنا" في نفس الإنسان وتدفع الإنسان إلى تضخيم حجم "الأنا" في نفسه، وفي نفس الوقت تؤدي إلى ضمور ذكر الله في قلب الإنسان.
وهذا التورم في "الأنا" عندما يقترن بضمور ذكر الله في النفس يصبح أساساً لحالة انحرافية مريضة خطيرة في النفس يبتغي فيها الإنسان التمييز والكبر على الآخرين ويتصنع فيها الكبر والتمييز، وهي الحالة التي يسميها القرآن بالاستكبار والتكبر. وقد يكون التكبر على الحق وحتى على آيات الله وأحكامه، فيرفض المتكبر أن يخضع للحق، ويرفض أن يقبل بآيات الله وأن يخضع لأحكامه وأمره ونهيه. وهذا الرفض واللجاج من أبرز خصائص التكبر.
وحالة التكبر والعناد هي الأساس لأعظم مصائب الإنسان وبؤسه وشقائه وهي التي حجبت أعداء الله تعالى من أمثال فرعون ونمرود وهامان وأبي سفيان وأبي جهل وعتاة قريش عن رؤية آيات الله وعن الخضوع لأحكامه تعالى. ومن قبل منعت إبليس عن السجود لآدم:
(وَلَقَد خَلَقنَكُم ثُمّ صَوّرنَكُم ثُمَّ قلنا للملئكةِ اسجدوا لآدام فسجدوا إلا إبليسَ لَم يَكُن مِنَ السجدين، قال ما منعك ألاّ تَسجُد إذ أمَرتُكَ قَالَ أنَا خَيرٌ مِنهُ خَلَقتَنِي مَن نَارٍ وَخَلَقتَهُ مِن طِينٍ، قَالَ فاهبِط مِنهَا يَكُون لَكَ أن تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخرُج إنكَ مِنَ الصاغِرينَ) (الأعراف:10ـ13).
وما أضر بالإنسان شيء أعظم من "التكبر" وما يهلك الناس ويدفعهم إلى جهنم شيء أعظم من "التكبر".
والذي يمعن النظر في كتاب الله يرى أن التكبر هو أساس "الإعراض عن الإيمان بالله تعالى" والإعراض عن "لا إله إلا الله".
(إنَّهُم كَانُوا إذاَ قِيلَ لَهُم لا إِلَهَ إلاّ اللهُ يَستكبِرُونَ) (الصافات:35).
وأساس الإعراض عن دعوة الأنباء:
(أَفَكُلّمَا جَاءَكُم رَسُولٌ بمَا لا تَهوَى أنَفُسُكُمُ استكبَرتُم) (البقرة:87).
وأساس الكفر بالله ورسوله:
(قَالَ الذِينَ استكبَرُوا إنّا بالذي أمَنتُم بِهِ كفرُونَ) (الأعراف:76).
وأساس العناد واللجاج والصدّ عن سبيل الله:
(… لَوَّوا رُءُسَهُم وَرَأيتهُم يَصُدونَ وَهُم مُستكبِرُونَ) (المنافقون:5).
(واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً) (نوح: 7).
(قالَ الملأُ الذين استكبرُوا لنُخرِجنكَ يَشُعيبُ) (الأعراف:88).
والاستكبار يؤدي إلى الاستنكاف عن عبادة الله تعالى:
(وَمَن يَستَنكِف عَن عِبَادِتِهِ وَيِستَكبِر فَسَيَحشُرُهُم إِليهِ جميِعاً) (النساء:172).
وهؤلاء المتكبرون إذا تمادوا في الكبر يطبع الله على قلوبهم وأبصارهم:
(كذلكَ يَطبَعُ اللهُ عَلى كُلّ قَلب] مُتَكَبِرٍ جَبّارٍ) (غافر:35).
(وّإذا تُتلَى عَلَيهِ ءَايَتُنَا وَلّى مُستَكبِراً كَأَن لَم يَسمَعهَا) (لقمان:7).
وهؤلاء تغلق عليهم أبواب السماء "أبواب الرحمة".
(إنَّ الذِينَ كَذَّبُوا بِآيَتِنَا وَاستكبَرُوا عَنهَا لا تُفَتَّحُ لَهُم أَبوَبُ السَّماءٍ…) (الأعراف:40)، وتتفتح عليهم أبواب جهنم:
(قِيلَ ادخُلُوا أَبوَابَ جَهَنّّم خَلِدِينَ فِيهَا فَبئسَ مَثوَى المُتَكَبِرِينَ) (الزمر:72).
(…أليسَ فِي جَهَنَّمَ مَثوى للمُتَكَبرينَ) (الزمر:60).
الانحراف المركب
والانحراف على شكلين: بسيط ومركب. وأما البسيط فهو أن ينحرف الإنسان عن صراط الله تعالى عالماً بانحرافه، وأمر هذا الانحراف أهون من غيره، فإن فرص الاستقامة تبقى قائمة للإنسان عندما يكون انحرافه بسيطاً. أما إذا كان صاحب الانحراف يؤمن بأنه يحسن صنعاً ويسير على الصراط المستقيم فذلك من الانحراف المركب (تركيب من الانحراف والجهل)،
وهذا أخطر من الانحراف الأول. فإن الإنسان المنحرف يعتقد في هذه الحالة أنه ليس بمنحرف، وهذا التصور يفوت عليه فرص العودة والاستقامة.
و"العجب" من أهمّ مصادر هذه الحالة من الانحراف المركب، فإن الإنسان عندما يأخذه العجب بنفسه يرى القبيح الذي يصدر منه حسناً والسيئة التي يرتكبها حسنة، ولا يسمح لأحد أن يراجعه في شيء من ذلك، ولا يسمح لنفسه الشك والتردد في سلامة شيء من مواقفه وأعماله، ويرى لنفسه ما يشبه العصمة، وهذه الحالة كما ذكرنا أخطر حالات الانحراف وإلى هذه الحالة من الانحراف المركب تشير الآية الكريمة:
(قُل هَل نُنَبّئُكم بِالأخسَرِينَ أعمالاً، الذينَ ضَلَّ سَعيُهُم فِي الحَيَوةِ الدُّنيَا وَهُم يَحسبُونَ أَنَّهُم يُحسِنُونَ صُنعاً، أُولَئِكَ الذينَ كَفَرُوا بآيَتِ رَبّهِم وَلِقَائِهِ فَحَبطت أعمالُهُم فَلاَ نُقيمُ لهُم يَومَ القِيَمةِ وَزناً) (الكهف:103ـ105).
عندما يبلغ الإنسان هذه الدرجة من الانحراف تحترق عنده الرؤية بشكل كامل، فيتصور قبائح أعماله وسيئاته حسنات، "وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً".
وهذه حالة من حالات عمى العقل والقلب والبصيرة، يفقد فيها الإنسان القدرة على التمييز بين الحق والباطل، كما يفقد المصابون بعمى الألوان القدرة على تمييز بعض الألوان، بل "العمى" في حالة العجب أخطر، حث لا يفقد فيها الإنسان الرؤية فقط، وإنما تنعكس فيها الرؤية فيرى القبيح منه حسناً، ويرى الحسن من غيره قبيحاً. وتسبب هذه الحالة من العمى وفقدان القدرة على التمييز إنقلاب المقاييس عند الإنسان في حالة "العجب".
فإن الإنسان في حالة الرشد والاستواء يجعل من الحق مقياساً لنفسه وأعماله ومواقفه ويطبق نفسه وأخلاقه وسلوكه ومواقفه دائماً على هذا المقياس، فيستقيم ويصحح أعماله ومواقفه كلما تعرض لخطأ أو انحراف.
وكلما يتقدم الإنسان في "العجب" أكثر تتعمق في نفسه هذه الحالة من انقلاب المقاييس أكثر من ذي قبل، حتى ينقلب الإنسان فيكون هو مقياساً كاملاً للحق، فما يعمله هو الحق وما يتركه هو الباطل وما يريده هو الحق، وما يعارضه ويرفضه هو الباطل ويكون "الأنا" هو المقياس للحق، وليس "الحق" هو المقياس للانا.
والقرآن يصف هؤلاء بأوصاف عجيبة، تستوقف الإنسان، وتدعو إلى كثير من التأمل والتفكير.
فهو يقول لهم أولاً: (الذي ضلَّ سعيهم في الحيوة الدنيا)، وهذه حالة تخص الحياة الدنيا، فيضيع سعيهم، وضياع السعي بانتفاء الأثر والفائدة المترتبة على السعي، فإن السعي كالحرث يؤتي ثماره طيبة شهية، إذا أراد الله تعالى لها الخير وبارك فيه، ويكون مبتوراً عقيماً إذا سلب الله تعالى منه الخير والبركة، كذلك "السعي" و"الحركة" إذا سلب الله تعالى منه الخير والبركة كان جهداً ضائعاً وسعياً ضالاً.
ويعبر القرآن عنهم ثانياً بـ: (الأخسرين أعمالاً)، وهذه أيضاً حالة تخص الدنيا، والخسارة هي أن يفقد الإنسان جهده وحياته وحركته دون أن يأتي له ذلك بنتيجة أو ثمرة، وجهد الإنسان وحركته وعمره هو "رأس ماله" الذي يتاجر به ويحوله إلى "مرضاة الله" و"قرب الله" و"ثواب الآخرة". وكل جهد وحركة وساعة من عمر الإنسان لا يتحول إلى هذه النتائج فهو خسارة العمر والجهد، وكان مثل هذا الإنسان مثل التاجر الذي ينفق رأس ماله دون أن يعود عليه بأي شيء، وهذه هي الخسارة الكبيرة التي تشير إليها سورة العصر: (وَالعَصرِ، إِنَّ الإِنسانَ لَفِي خُسرٍ).
ولكن القرآن الكريم لا يقتصر هنا في تصوير مأساة الإنسان على هذا الحد، وإنما يتجاوز ذلك ويصف مأساة الإنسان في هذه الحالة بـ"الأخسرين أعمالاً" بصيغة أفعل التفضيل. وسبب تكريس حالة الخسارة هذه أن جهد الإنسان وسعيه وحركته ليس فقط يضيع، وإنما يتحول إلى ضده، فيتحول جهد الإنسان إلى عذاب الله وعقابه وغضبه عوض أن يتحول إلى رحمة الله وقربه ورضوانه وجنّته. كمن ينفق ماله في ارتكاب جريمة فيعاقب ويغرم، فإن هذا الإنسان ليس فقط يخسر رأس ماله، وإنما ينقلب رأس ماله إلى وبال عليه.
ثم يقول القرآن الكريم عنهم ثالثاً: (فحبطت أعملُهم فلا نُقيم لهم يوم القيمة وزناً)، وهذه الحالة تخص يوم القيامة وهي حالة "الحبط" الكامل في الآخرة وحالة "انعدام الوزن"، (فلا نقيم لهم يوم القيمة وزناً).
وحالة "الحبط" في مقابل أصل لله "البقاء" و"الثبات" للأعمال في يوم القيامة، والذي يشير إليه القرآن في كثير من آياته:
(فَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ، وَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة:7ـ8).
(وَوُضِعَ الكِتَبُ فَتَرَى المُجرِمِينَ مُشفِقِينَ مَمّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَوَيلَتَنا مَالِ هَذَا الكِتَاب لا يُغَادرُ صَغِيرَةً وَلاَكَبِيرَةً إلاّ أحصَياهَا وَوَجدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يَظلمُ رَبُّكَ أحَداً) ( الكهف:48).
وبموجب هذه الحالة لا ينعدم شيء من العمل من خير أو شر يصدر عن الإنسان يوم القيامة. وهذا أصل كوني من الاصول الكونية التي يشرحها القرآن في تبيان سنن الله تعالى.
إلا أن "الكفر" و"الانحراف المركب" النابع من العجب يؤدي إلى حبط الأعمال يوم القيامة: (فحبطت أعمالُهم)، وأصل "الحبط" في مقابل أصل الثبات.
كما يؤدي الكفر والانحراف المركب إلى حالة "إنعدام الوزن" يوم القيامة: (فلا نقيم لهم يوم القيمة وزناً). وبالوزن يوم القيامة يستقر الإنسان في رحمة الله ورضوانه، وإذا فقد الإنسان الوزن يوم القيامة فلا يستطيع أن يستقر في رحمة الله.
أرأيت لو أن الإنسان فقدَ "الوزن الفيزياوي" في الدنيا على وجه الأرض هل يستطيع أن يستقر فيها أو يبني لنفسه حياة فيها؟ كذلك انعدام الوزن يوم القيامة.
علاج العجب
في حياة الإنسان مصدران للابتلاء "الهوى" و"الأنا" وكل منهما سبب لسقوط الإنسان وهلاكه.
فقد يسقط الإنسان على مزلق الاستجابة للهوى فيملك الهوى أمره، ويحكمه في حياته فيجره إلى الهلاك والسقوط. وهو باب واسع من أبواب الفساد والهلاك والسقوط في حياة الإنسان، وقد حذر الإسلام منه كثيراً واعتبره من أخطر المزالق التي تواجه الإنسان.
وهذه الآية الكريمة تجمع طائفة من أمهات الأهواء في حياة الإنسان:
(زُيّنَ للنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِسَاءِ وَالبَنِينَ والقنَاطير المُقَنطرَةِ مِنَ الّذهبِ والفضةِ والخيلِ المُسومَة والأنعَمِ والحَرثِ ذلكَ مَتَعُ الحَيَوةِ الدُّنيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسنُ المَآبِ) (آل عمران:14).
والمصدر الآخر للسقوط والهلاك والفساد في حياة الإنسان هو "الأنا"، وكما كانت الاستجابة غير المحدودة للهوى سبباً في السقوط والهلاك في حياة الإنسان كذلك الاستجابة غير المحدودة للانا يعتبر المصدر الثاني للسقوط في حياة الإنسان. فإن الأنا عندما يستعلي ويستكبر ويتحول إلى محور يستقطب كل اهتمامات ومشاعر وجهد الإنسان يتحول إلى صنم يتخذه الإنسان إلهاً في حياته من دون الله. وهذا باب واسع آخر للسقوط والفساد والهلاك في حياة الإنسان.
وقد أعطى الإسلام في منهاجه التربوي اهتماماً لهذا وذاك معاً. وقد أعطى الإسلام في منهاجه التربوي اهتماماً لهذا وذاك معاً.
والطريقة الصحيحة في معالجة كل من "الهوى" و"الأنا" ليس في استئصاله أو كبته ومحاربته، وإنما في تعديله وتلطيفه والتحكم فيه.
ومن الوسائل التربوية الصحيحة في تعديل كل من "الهوى" و"الأنا" وضبطهما والتحكم فيهما هي العبادات.
ففي العبادات ما يتخذه الإسلام وسيلة لتعديل الهوى وكفه وضبطه وتحديده كالصوم.
ومن العبادات ما يتخذه الإسلام أداة لتعديل الأنا وتحجيمها كالصلاة فإن الصلاة وسيلة فعالة وقوية لإذلال الأنا وتركيعها بين يدي الله تعالى في الأذكار والأفعال معاً. فالتكبير والتهليل، والحمد، والتعبيد، والاستعانة بالله والتوحيد والدعاء في الأذكار يذلل الأنا ويخضعها لله، ويشعرها بهذا الذل والخضوع بإيحاءات متعددة.
والحج عبادة فريدة في الإسلام يجمع بين هذا وذاك، ففي الحج منهاج تربوي واسع لتدريب الإنسان على ضبط الهوى وتحديده، ويمكن الإنسان من أهوائه وشهواته.
ففي محرمات الإحرام منهج عملي لضبط مجموعة من الأهواء القوية والمؤثرة في النفس، كالغريزة الجنسية والنزوع إلى جملة من الطيبات والنزوع إلى الرفاه والراحة.
وفي محرمات الإحرام ما يضبط الأنا ويحدده ويتحكم فيه، كتحريم لبس المخيط على الحجاج الرجال، واللباس من أبرز سمات شخصية الإنسان في انتمائه الطبقي والقومي. وفي الميقات يتجرد الحجاج من كل ملابسهم وأزيائهم الشخصية والقومية ويظهرون بمظهر واحد، دون امتيازات شخصية أو طبقية أو قومية أو فئوية.
ومن محرمات الإحرام "الجدال" وهو من الميول الأنانية العميقة في نفس الإنسان بالظهور والاستعلاء على خصمه. والطواف يرمز إلى تكريس التوحيد ومحورية "الله" تعالى في حياة الإنسان في مقابل تكريس محورية الذات. ولوقوف المسلمين جميعا في عرفات في وقت واحد في واد غير ذي زرع من دون امتيازات وفوارق للبعض على بعض، للتذلل والتضرع بين يدي الله تعالى دور كبير في اذلال الأنا وتعبيدها لله تعالى وتحويلها من طور الألوهية والأنانية إلى طور العبودية لله تعالى.
والذي يمعن النظر في فريضة الحج يجد أن هذه الفريضة العبادية تتضمن منهاجاً تربوياً دقيقاً وعملياً في ضبط "الهوى" و"الأنا" وتعديلهما وتعبيدهما لله تعالى.
ونحن في هذا الحديث لا نريد أن نبحث عن الهوى وأخطاره وأعراضه وعلاجه في حياة الإنسان. فليس في هذا المقال موضع للدخول في هذا البحث، وإنما أشرنا إليه إشارة لنعرف موضع "الأنا" من الأخطار التي تهدد حياة الإنسان، وليكتمل عندنا منهج البحث وإطاره.
فإن "الأنا" هو مصدر "العجب" في حياة الإنسان. ولا محالة بكون علاج العجب بعلاج الأنا. و" الأنا" كما ذكرنا أحد مصدري الخطر والسقوط والفساد في حياة الإنسان.
فلنتأمل إذن في "الأنا" ونترك البحث عن الهوى إلى الموضع المناسب إن شاء الله.
الموضوع منقول للفائده وهذا اسم صاحب الموضوع
الشيخ محمّد مهدي الآصفي
تعليق