الملهوف على قَتلى الطفوف
مقدمة
ألّف الناس خلال الأجيال مئاتِ الكتب حول مقتل سيّد الشهداء الإمام المظلوم الحسين بن عليّ عليهما السلام، باسم (المقتل) أو باسمٍ آخر.
و (المقتل) كتاب يحكي قصةَ اليوم العاشورئي العظيم الذي حلّق فوق الأزمنة.. وأمتدّ ليحكي للأجيال كلّها قصةَ الحق المظلوم، والطهر المذبوح، والمعنى الإلهيّ المتفرِّد الذي استباح أهلُ الأرض حرمته وهتكوا أستاره.. فكان أن تضاعَفَت أسراره وتوالدت أنواره، وبقي خالداً سامياً متألّقاً لا يَرقى اليه الطير، وينحدر عنه السيل.
ومِن كتب (المَقاتِل) المتميّزة التي تُعَدّ مرجعاً يُوثَق به: ما ألّفه السيّد الطاهر النقيّ: علىّ بن طاووس الحسني (ت 664 هـ)، وأسماه (الملهوف ـ أو اللهوف ـ على قَتلى الطفوف).
وهذا الكتاب الذي نقدّمه الأن للأصدقاء.. إنّما يقوم بدَور المذكِّر والمنِّور في الوقت نفسه، يجد فيه قارئُه خطوةً صالحة يرقى منها الى مدارج عالية أُخرى من آفاق سيّد الشهداء التي لاتتناهى.
هو ذا نحن مع قصّة (مقتل الحسين عليه صلوات الله).. كما يرويها السيّد ابن طاووس رضوان الله عليه:
بسم الله الرحمن الرحيم
أولياء الله وشوق اللقاء
الحمد لله المتجلّي لعباده من أُفق الألباب، المجلّي عن مراده بمنطق السنّة والكتاب، الّذي نزّه أولياءه عن دار الغرور، وسما بهم إلى أنوار السرور.
ولم يفعل ذلك محاباةً (1) لهم على الخلائق، ولا إلجاءً لهم إلى جميل الطرائق. بل عرف منهم قبولاً للألطاف، واستحقاقاً لمحاسن الأوصاف، فلم يرض لهم التعلّق بحبال الإهمال، بل وفّقهم للتخلّق بكمال الأعمال.
حتّى عزفت (2) نفوسهم عمّن سواه، وعرفت أرواحهم شرف رضاه، فصرفوا أعناق قلوبهم إلى ظلّه، وعطفوا آمالهم نحو كرمه وفضله.
فترى لديهم فرحة المصدّق بدار بقائه، وتنظر عليهم مِسحة المشفق من أخطار لقائه.
ولا تزال أشواقهم متضاعفة إلى ما قرّب من مراده، وأريحيّتهم (3) مترادفة نحو إصداره وإيراده، وأسماعهم مصغية إلى استماع أسراره، وقلوبهم مستبشرة بحلاوة تذكاره.
فحيّاهم منه بقدر ذلك التصديق، وحباهم من لدنه حباء البَرّ الشفيق.
فما أصغر عندهم كلّ ما شغل عن جلاله، وما أتركهم لكلّ ما باعد من وصاله، حتّى أنّهم ليتمتّعون بأُنس ذلك الكرم والكمال، ويكسوهم أبداً حلل المهابة والجلال.
فإذا عرفوا أنّ حياتهم مانعة عن متابعة مرامه، وبقاءهم حائلٌ بينهم وبين إكرامه، خلعوا أثواب البقاء، وقرعوا أبواب اللقاء، وتلذّذوا في طلب ذلك النجاح، ببذل النفوس والأرواح، وعرضوها لخطر السيوف والرماح.
وإلى ذلك التشريف الموصوف سَمَتْ نفوس أهل الطفوف، حتّى تنافسوا في التقّدم إلى الحتوف، وأصبحوا نهب الرماح والسيوف.
فما أحقّهم بوصف السيّد المرتضى علم الهدى (4) رضوان الله عليه، وقد مدح مَن أشرنا إليه فقال:
لهم جسوم على الرمضاء مهملةٌ | وأنفسٌ فـي جوار الله يُقـريها | |
كـأنّ قـاصدها بالضـرّ نافعها | وأنّ قـاتلها بالسـيف محييـها |
ولولا امتثال أمر السنّة والكتاب، في لبس شعار الجزع والمصاب، لأجل ما طُمس من أعلام الهداية، وأُسّس من أركان الغواية، وتأسفاً على ما فاتنا من تلك السعادة، وتلهّفاً على أمثال تلك الشهادة، وإلاّ كنّا قد لبسنا لتلك النعمة الكبرى أثواب المسرّة والبشرى.
وحيث أنّ في الجزع رضىً لسلطان المعاد، وغرضاً لأبرار العباد، فها نحن قد لبسنا سربال الجزوع، وأنسنا بإرسال الدموع، وقلنا للعيون: جودي بتواتر البكاء، وللقلوب: جدّي جدَّ ثواكل النساء.
فإنّ ودائع الرسول الرؤوف، أُضيعت يوم الطفوف، ورسوم وصيّته بحرمه وأبنائه، طمست بأيدي أُمّته وأعدائه.
فيالله من تلك الفوادح المقرحة للقلوب، والجوائح المصرّحة (5) بالكروب، والمصائب المصغّرة كلّ بلوى، والنوائب المفرّقة شمل التقوى، والسهام الّتي أراقت دم الرسالة، والأيدي الّتي ساقت سبيَّ الجلالة، والرزيّة الّتي نكّست رؤوس الأبدال، والبليّة الّتي سلبت نفوس خير الآل، والشماتة التي ركست (6) أُسود الرجال، والفجيعة التي بلغ رزؤها إلى جبرئيل، والفظيعة الّتي عظمت على الربّ الجليل!
وكيف لا يكون كذلك وقد أصبح لحم رسول الله مجرّداً على الرمال، ودمه الشريف مسفوكاً بسيوف الضُّلاّل، ووجوه بناته مبذول لعين السائق والشامت، وسلبهنّ بمنظر من الناطق والصامت، وتلك الأبدان المعظّمة عارية من الثياب، والأجساد المكرّمة جاثية على التراب ؟!!
مصائبٌ بدّدت شمـل النبيّ ففي | قلب الـهدى أسهـمٌ يطفن بالتلفِ | |
وناعيـاتٌ إذا مـا ملّ ذو ولـهٍ | سَرتْ عليه بنار الحزن والأسفِ |
فياليت لفاطمة وأبيها عيناً تنظر إلى بناتها وبنيها: ما بين مسلوب، وجريح، ومسحوب، وذبيح، وبنات النبوّة: مشقّقات الجيوب، ومفجوعات بفقد المحبوب، وناشرات للشعور، وبارزات من الخدور، ولاطمات للخدود، وعادمات للجدود، ومبديات للنياحة والعويل، وفاقدات للمحامي والكفيل.
فيها أهل البصائر من الأنام، ويا ذوي النواظر والأفهام، حدّثوا نفوسكم بمصائب هاتيك العترة، ونُوحوا بالله لتلك الوحدة والكثرة، وساعدوهم بموالاة الوجد والعبرة، وتأسّفوا على فوات تلك النصرة.
فإنّ نفوس أولئك الأقوام، ودائع سلطان الأنام، وثمرة فؤاد الرسول، وقرّة عين الزهراء البتول، ومَن كان يرشف بفمه الشريف ثناياهم، ويفضّل على أُمّته أُمّهم وأباهم.
إن كنتَ في شكٍّ فسل عن حالهم | سننَ الـرسول ومُحكم التنـزيلِ | |
فهناك أعدل شاهدٍ لذوي الحِجى | وبيان فضلـهمُ علـى التفصـيلِ | |
ووصـيّةٌ سبقت لأحمدَ فيـهـم | جاءت إلـيه على يدَي جبـريلِ |
وأين موضع القبول لوصاياه بعترته وآله ؟ وما الجواب عند لقائه وسؤاله ؟ وقد هدم القوم ما بناه! ونادى الإسلام واكرباه!
فيالله من قلبٍ لا يتصدّع لتذكار تلك الأُمور! ويا عجباه من غفلة أهل الدهور! وما عذر أهل الإسلام والإيمان في إضاعة أقسام الأحزان!
ألم يعلموا أنّ محمداً موتورٌ وجيع ؟ وحبيبه مقهورٌ صريعٌ ؟ والملائكة يعزّونه على جليل مصابه ؟ والأنبياء يشاركونه في أحزانه وأوصابه ؟
فيا أهل الوفاء لخاتم الأنبياء، علامَ لا تواسونه في البكاء ؟!
ثواب البكاء على الحسين عليه السلام
بالله عليك أيّها المحب لولد الزهراء، نُحْ معها على المنبوذين بالعراء، وَجُدْ ويحك بالدموع السجام، وَابْكِ على ملوك الإسلام، لعلّك تحوز ثواب المُواسي لهم في المصاب، وتفوز بالسعادة يوم الحساب.
فقد روي عن مولانا الباقر عليه السّلام أنه قال: «كان زين العابدين عليه السّلام يقول: أيّما مؤمن ذرفت (7) عيناه لقتال الحسين عليه السّلام حتّى تسيل على خده بوّأه الله بها في الجنّة غرفاً يسكنها أحقاباً (8)، وأيّما مؤمن ذرفت عيناه حتّى تسيل على خدّه فيما مسّنا من الأذى من عدوّنا في الدنيا بوّأه الله منزل صدقٍ، وأيّما مؤمن مسّه أذىً فينا صرف الله عن وجهه الأذى وآمنه من سخط النار يوم القيامة».
وروي عن مولانا الصادق عليه السّلام أنّه قال: «مَن ذُكرنا عنده ففاضت عيناه ولو مثل جناح الذبابة غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زَبَد البحر».
وروي أيضاً عن آل الرسول عليهم السّلام أنّهم قالوا: «مَن بكى وأبكى فينا مائة فله الجنّة، ومَن بكى وأبكى خمسين فله الجنّة، ومن بكى وأبكى ثلاثين فله الجنّة، ومَن بكى وأبكى عشرين فله الجنّة، ومَن بكى وأبكى عشرة فله الجنّة، ومَن بكى وأبكى واحداً فله الجنّة، ومَن تباكى فله الجنّة».
الباعث على تأليف الكتاب
قال عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن طاووس الحسيني ـ جامع هذا الكتاب ـ: إنّ من أجلّ البواعث لنا على سلوك هذا الكتاب أنّني لمّا جمعتُ كتاب: مصباح الزائر وجناح المسافر
(9)، ورأيته قد احتوى على أقطار محاسن الزيارات ومختار أعمال تلك الأوقات، فحامله مستغنٍ عن نقل مصباح لذلك الوقت الشريف، أو حمل مزارٍ كبير أو لطيفٍ.
أحببتُ أيضاً أن يكون حامله مستغنياً عن نقل مقتلٍ في زيارة عاشوراء إلى مشهد الحسين صلوات الله عليه.
فوضعتُ هذا الكتاب ليضمّ إليه، وقد جمعت هاهنا ما يصلح لضيق وقت الزوّار، وعدلتُ عن الإطناب والإكثار، وفيه غنية لفتح أبواب الأشجان، وبغية لنجح أرباب الإيمان، فإنّنا وضعنا في أجساد معناه روح ما يليق بمعناه.
وقد ترجمته بكتاب: الملهوف على قتلى الطفوف، ووضعته على ثلاثة مسالك، مستعيناً بالرؤوف المالك.
* * *
المسَلَكُ الأَوَّلُ
في الأُمُور المُتقدمة على القتال
كان مولد الحسين عليه السّلام لخمس ليالٍ خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة.
وقيل: اليوم الثالث منه.
وقيل: في أواخر شهر ربيع الأول سنة ثلاث من الهجرة.
وروي غير ذلك.
رؤيا أمّ الفضل
قالت (10) أُمّ الفضل (11) زوجة العباس (12) رضوان الله عنهما: رأيتُ في منامي قبل مولده كأنّ قطعةً من لحم رسول الله صلّى الله عليه وآله قُطعت فوُضعت في حِجري، فعبّرتُ ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقال «خيراً رأيتِ ، إن صدقَتْ رؤياك فإن فاطمة ستلد غلاماً فأدفعه إليك لترضعيه».
قالت: فجرى الأمر على ذلك.
فجئت به يوماً، فوضعته في حجره، فبال، فقطَرتْ من بوله قطرةٌ على ثوب النبيّ صلّى الله عليه وآله، فقرصته، فبكى، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: «مهلاً يا أُمّ الفضل! فهذا ثوبي يُغسل، وقد أوجعتِ ابني».
قالت: فتركته في حجره، وقمتُ لأتيه بماء، فجئت، فوجدته صلوات الله عليه وآله يبكي.
فقلت: مِمّ بكاؤك يا رسول الله ؟
فقال: «إنّ جبرئيل عليه السّلام أتاني، فأخبرني أنّ أُمّتي تقتل ولدي هذا، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة».
ملائكة السماء تعزّي النبي صلى الله عليه وآله
قال رواة الحديث: فلمّا أتت على الحسين عليه السّلام من مولده سنة كاملة، هبط على رسول الله صلّى الله عليه وآله اثنا عشر ملكاً: أحدهم على صورة الأسد، والثاني على صورة الثور، والثالث على صورة التنين (13)، والرابع على صورة ولد آدم، والثمانية الباقون على صور شتّى، محمرّة وجوههم باكية عيونهم، قد نشروا أجنحتهم، وهم يقولون: يا محمّد! سينزل بولدك الحسين بن فاطمة ما نزل بهابيل من قابيل، وسيُعطى مثل أجر هابيل، ويُحمل على قاتله مثل وزر قابيل.
ولم يبق في السموات ملَك إلاّ ونزل إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله، كلٌّ يقرأه السّلام، ويعزّيه في الحسين عليه السّلام، ويخبره بثواب ما يُعطى، ويَعرض عليه تربته، والنبيّ صلّى الله عليه وآله يقول: «اللّهمّ اخذل من خذله، واقتل من قتله، ولا تمتّعه بما طلبه».
جبرئيل يُخبر بواقعة كربلاء
قال: فلمّا أتى على الحسين عليه السّلام سنتان من مولده خرج النبيّ صلّى الله عليه وآله في سفرٍ له، فوقف في بعض الطريق، فاسترجع ودمعت عيناه.
فسُئل عن ذلك، فقال: «هذا جبرئيل يخبرني عن أرضٍ بشطّ الفرات يقال لها كربلاء (14)، يُقتل بها ولدي الحسين بن فاطمة».
فقيل له: مَن يقتله يا رسول الله ؟
فقال: «رجل اسمه يزيد، وكأنّي أنظر إلى مصرعه ومدفنه».
ثمّ رجع من سفره ذلك مغموماً، فصعد المنبر فخطب ووعظ، والحسن والحسين عليهما السّلام بين يديه.
فلمّا فرغ من خطبته وضع يده اليمنى على رأس الحسن واليسرى على رأس الحسين، ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال: «اللّهمّ إنّ محمداً عبدك ورسولك، وهذان أطائب عترتي وخيار ذرّيتي وأُرومتي(15) ومَن أُخلّفهما في أُمّتي، وقد أخبرني جبرئيل عليه السّلام أنّ ولدي هذا مقتول مخذول، اللّهمّ فبارك له في قتله واجعله من سادات الشهداء، اللّهمّ ولا تبارك في قاتله وخاذله».
قال: فضجّ الناس في المسجد بالبكاء والنحيب.
فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: «أتبكون ولا تنصرونه ؟!».
ثمّ رجع صلوات الله عليه وهو متغيّر اللون محمرّ الوجه، فخطب خطبةً أُخرى موجزة وعيناه تهملان دموعاً، قال:
«أيّها الناس، إنّي قد خلّفتُ فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي وأُرومتي ومزاج مائي وثمرتي، وانّهما لن يفترقا حتّى يردا علَيّ الحوض، ألا وانّي أنتظرهما، وانّي لا أسألكم في ذلك إلاّ ما أمرني ربّي أن أسألكم المودّة في القربى، فانظروا ألاّ تلقوني غداً على الحوض وقد أبغضتم عترتي وظلمتموهم وقتلتموهم.
الرايات الثلاث
ألا وإنّه سترد عليّ يوم القيامة ثلاث رايات من هذه الأُمّة:
راية سوداء مظلمة قد فزعت لها الملائكة، فتقف عليّ، فأقول: مَن أنتم ؟
فينسون ذكري ويقولون: نحن أهل التوحيد من العرب.
فأقول لهم: أنا أحمد نبيّ العرب والعجم.
فيقولون: نحن من أُمّتك يا أحمد.
فأقول لهم: كيف خلّفتموني من بعدي في أهلي وعترتي وكتاب ربي ؟
فيقولون: أمّا الكتاب فضيّعناه، وأمّا عترتك فحرصنا على أن نبيدهم عن جديد الأرض.
فأُولّي وجهي عنهم، فيصدرون ظماءً عطاشاً مسودّةً وجوههم.
ثمّ ترد عليّ رايةٌ أُخرى أشدّ سواداً من الأُولى، فأقول لهم: كيف خلّفتموني في الثقلين الأكبر والأصغر: كتاب ربّي، وعترتي ؟
فيقولون: أما الأكبر فخالفنا، وأمّا الأصغر فخذلناهم ومزّقناهم كلّ ممزَّق. فأقول: إليكم عنّي، فيصدرون ظماءً عطاشاً مسودّة وجوههم.
ثمّ ترد عليّ راية أُخرى تلمع نوراً، فأقول لهم: مَن أنتم ؟
فيقولون: نحن أهل كلمة التوحيد والتقوى، نحن أُمّة محمّد صلّى الله عليه وآله، ونحن بقيّة أهل الحق، حملنا كتاب ربّنا فأحللنا حلاله وحرّمنا حرامه، وأحببنا ذرّيّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وآله، فنصرناهم في كلّ ما نصرنا منه أنفسنا، وقاتلنا معهم مَن ناواهم.
فأقول لهم: أبشروا فأنا نبيّكم محمّد، ولقد كنتم في دار الدنيا كما وصفتم. ثمّ أسقيهم من حوضي، فيصدرون مرويّين مستبشرين، ثمّ يدخلون الجنّة خالدين فيها أبد الآبدين. قال: وكان الناس يتعاودون ذكر قتل الحسين عليه السّلام ويستعظمونه ويرتقبون قدومه.
يزيد يأمر بأخذ البيعة قسراً
فلمّا توفي معاوية بن أبي سفيان (16) ـ وذلك في رجب سنة ستّين من الهجرة ـ كتب يزيد بن معاوية (17) إلى الوليد بن عتبة (18) ـ وكان أميراً بالمدينة ـ (19) يأمره بأخذ البيعة له على أهلها وخاصّةً على الحسين بن عليّ عليهما السّلام، ويقول له: إن أبى عليك فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه.
فأحضر الوليد مروان بن الحكم (20) واستشاره في أمر الحسين عليه السّلام.
فقال: إنّه لا يقبل، ولو كنتُ مكانك لضربتُ عنقه.
فقال الوليد: ليتني لم أكُ شيئاً مذكوراً.
ثمّ بعث إلى الحسين عليه السّلام، فجاءه في ثلاثين رجلاً من أهل بيته ومواليه، فنعى الوليد إليه معاوية، وعرض عليه البيعة ليزيد.
فقال: «أيها الأمير، إن البيعة لا تكون سرّاً، ولكن إذا دعوتَ الناس غداً فادعنا معهم».
فقال مروان: لا تقبل أيّها الأمير عذره، ومتّى لم يبايع فاضرب عنقه.
فغضب الحسين عليه السّلام ثم قال: «ويلي عليك يابن الزرقاء، أنت تأمر بضرب عنقي! كذبتَ والله ولؤمت».
ثمّ أقبل على الوليد فقال: «أيّها الأمير! إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومختلَف الملائكة، وبنا فتح الله وبنا ختم الله، ويزيد رجلٌ فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحرّمة معلنٌ بالفسق ليس له هذه المنزلة، ومثْلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصحبون وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة».
ثمّ خرج عليه السّلام، فقال مروان للوليد: عصيتني.
فقال: ويحك يا مروان، إنك أشرت عليّ بذهاب ديني ودنياي، والله ما أُحبّ أنّ مُلك الدنيا بأسرها لي وأنّني قتلتُ حسيناً، والله ما أظنّ أحداً يلقى الله بدم الحسين إلاّ وهو خفيف الميزان، لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكّيه وله عذابٌ أليم.
قال: وأصبح الحسين عليه السّلام، فخرج من منزله يستمع الأخبار، فلقيه مروان، فقال: يا أبا عبدالله، إنّي لك ناصحٌ، فأطعني ترشد.
فقال الحسين عليه السّلام: «وما ذاك، قل حتّى أسمع».
فقال مروان: إنّي آمرك ببيعة يزيد أمير المؤمنين، فإنّه خيرٌ لك في دينك ودنياك.
فقال الحسين عليه السّلام: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السّلام، إذ قد بُليَت الأُمّة براعٍ مثل يزيد، ولقد سمعتُ جدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان».
وطال الحديث بينه وبين مروان حتّى انصرف مروان وهو غضبان (21).
حركة الإمام الحسين نحو مكّة
فلمّا كان الغداة توجّه الحسين عليه السّلام إلى مكّة (22) لثلاث مضين من شعبان سنة ستّين.
فأقام بها باقي شعبان وشهر رمضان وشوال وذي القعدة.
قال: وجال عبدالله بن العباس رضي الله عنه (23) وعبدالله بن الزبير (24)، فأشارا عليه بالإمساك.
فقال لهما: «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قد أمرني بأمرٍ، وأنا ماضٍ فيه».
قال: فخرج ابن عباس وهو يقول: واحسيناه!
ثمّ جاءه عبدالله بن عمر (25)، فأشار عليه بصلح أهل الضلال، وحذّره من القتل والقتال.
فقال له: «يا أبا عبدالرحمن، أما علمتَ أنّ من هوان الدنيا على الله تعالى أن رأس يحيى بن زكريا أُهدي إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل، أما علمت أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيّاً ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئاً، فلم يعجل الله عليهم، بل أمهلهم وأخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر، إتّق الله يا أبا عبدالرحمن ولا تَدَعنّ نصرتي».
مراسلة أهل الكوفة للحسين عليه السلام
قال: وسمع أهل الكوفة (26) بوصول الحسين عليه السّلام إلى مكّة وامتناعه من البيعة ليزيد، فاجتمعوا في منزل سليمان بن صُرَد الخزاعي (27)، فلمّا تكاملوا قام فيهم خطيباً. وقال في آخر خطبته:
يا معشر الشيعة، إنّكم قد علمتم بأنّ معاوية قد هلك وصار إلى ربّه وقدِم على عمله، وقد قعد في موضعه ابنه يزيد، وهذا الحسين بن عليّ عليهما السّلام قد خالفه وصار إلى مكّة هارباً من طواغيت آل أبي سفيان، وأنتم شيعته وشيعة أبيه من قبله، وقد احتاج إلى نصرتكم اليوم، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه. قال: فكتبوا إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم
«إلى الحسين بن عليّ أمير المؤمنين عليهما السّلام، من سليمان بن صرد الخزاعي والمسيّب بن نجبة(28) ورفاعة بن شدّاد (29) وحبيب بن مظاهر (30) وعبدالله بن وائل
(31) وسائر شيعته من المؤمنين.
سلام الله عليك. أما بعد، فالحمد لله الّذي قصم عدوّك وعدوّ أبيك من قبل، الجبّار العنيد الغشوم الظلموم الّذي ابتزّ (32) هذه الأُمّة أمرَها، وغصبها فَيأها، وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وعتاتها، فبعداً له كما بعُدت ثمود.
ثمّ أنّه ليس علينا إمامٌ غيرك، فأقبلْ لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ، والنعمان بن بشير (33) في قصر الإمارة، ولسنا نجتمع معه في جمعة ولا جماعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو بلغنا أنّك قد أقبلت أخرجناه حتّى يلحق بالشام (34). والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته يابن رسول الله وعلى أبيك من قبل، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم».
ثمّ سرّحوا الكتاب، ولبثوا يومين آخرين وأنفذوا جماعة معهم نحو مئة وخمسين صحيفة من الرجل والإثنين والثلاثة والأبعة، يسألونه القدوم عليهم.
وهو مع ذلك يتأنّى فلا يجيبهم.
فورد عليه في يوم واحدٍ ستمئة كتاب، وتواترت الكتب حتّى اجتمع عنده منها في نُوب
(35) متفرّقة إثنا عشر ألف كتاب.
ثمّ قدم عليه هاني بن هاني السبيعي (36) وسعيد بن عبدالله الحنفي (37) بهذا
الكتاب، وهو آخر ما ورد على الحسين عليه السّلام من أهل الكوفة، وفيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
«إلى الحسين بن عليّ أمير المؤمنين عليهما السّلام. من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين عليه السّلام.
أمّا بعد، فانّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجلَ العجل يابن رسول الله، فقد أخضرّ الجناب
(38)، وأينعت الثمار، وأعشبت الأرض وأورقت الأشجار، فاقدم علينا إذا شئت، فإنّما تقْدم على جُندٍ مجنّدة لك، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وعلى أبيك من قبلك».
سفير الحسين عليه السلام: مسلم بن عقيل
فقال الحسين عليه السّلام لهاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبدالله الحنفي: «خبّراني مَن اجتمع على هذا الكتاب الّذي ورد عليّ معكما ؟».
فقالا: يا بن رسول الله! شبث بن ربعي (39)، وحجّار بن أبجر (40)، ويزيد بن الحارث، ويزيد بن رويم (41) و (42)، وعروة بن قيس (43)، وعمرو بن الحجّاج (44)، ومحمد بن عُمير بن عطارد(45).
قال: فعندها قام الحسين عليه السّلام، فصلّى ركعتين بين الركن والمقام، وسأل الله الخيَرة في ذلك.
ثمّ دعا بمسلم بن عقيل (46) وأطْلعه على الحال، وكتب معه جواب كتبهم يعِدهم بالوصول إليهم ويقول لهم ما معناه: «قد نفذتُ إليكم ابنَ عمّي مسلم بن عقيل ليعرّفني ما أنتم عليه من الرأي».
فسار مسلم بالكتاب حتّى دخل إلى الكوفة، فلمّا وقفوا على كتابه كثر استبشارهم بإتيانه إليهم، ثمّ أنزلوه في دار المختار بن أبي عبيدة الثقفي (47)، وصارت الشيعة تختلف إليه.
فلمّا اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين عليه السّلام وهم يبكون، حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً.
وكتب عبدالله بن مسلم الباهلي وعمارة بن الوليد وعمر بن سعد (48) إلى يزيد يخبرونه بأمر مسلم بن عقيل، ويشيرون عليه بصرف النعمان بن بشير وولاية غيره.
فكتب يزيد إلى عبيدالله بن زياد (49) ـ وكان والياً على البصرة (50) ـ بأنّه قد ولاّه الكوفة وضمّها إليها، ويعرّفه أمر مسلم بن عقيل وأمر الحسين عليه السّلام، ويشدّد عليه في تحصيل مسلم وقتله. فتأهّب عبيدالله للمسير إلى الكوفة.
رسالة الحسين عليه السلام لأهل البصرة
وكان الحسين عليه السّلام قد كتب إلى جماعة من أشراف البصرة كتاباً مع مولى له اسمه سليمان ويكنّى أبا رزين (51) يدعوهم فيه إلى نصرته ولزوم طاعته، منهم يزيد بن مسعود النهشلي (52)والمنذر بن الجارود العبدي (53).
فجمع يزيد بن مسعود بني تميم وبني حنظلة وبني سعد، فلمّا حضروا قال: يا بني تميم، كيف ترون موضعي منكم وحسَبي فيكم ؟
فقالوا: بخٍّ بخٍّ، أنتَ والله فقرة الظهر، ورأس الفخر، حللتَ في الشرف وسطاً، وتقدّمت فيه فرطاً.
قال: فإنّي قد جمعتكم لأمرٍ أُريد أن أُشاوركم فيه وأستعين بكم عليه.
فقالوا: والله إنا نمنحك النصيحة ونجهد لك الرأي، فقل نسمع.
فقال: إنّ معاوية قد مات، فأهونْ به واللهِ هالكاً ومفقوداً! ألا وإنّه قد انكسر باب الجور والإثم، وتضعضعت أركان الظلم، وقد كان أحدث بيعةً عقد بها أمراً وظنّ أنّه قد أحكمه، وهيهات والّذي أراد! اجتهد والله ففشل، وشاور فخُذل. وقد قام ابنه يزيد ـ شارب الخمور، ورأس الفجور ـ يدّعي الخلافة على المسلمين ويتأمّر عليهم بغير رضىً منهم، مع قصر حِلم وقلّة علم، لا يعرف من الحقّ موطئ قدمه. فأُقسم بالله قسماً مبروراً لَجهاده على الدين أفضل من جهاد المشركين.
وهذا الحسين بن عليّ، ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله، ذو الشرف الأصيل، والرأي الأثيل، له فضلٌ لا يوصف وعلمٌ لا ينزف، وهو أولى بهذا الأمر، لسابقته وسنّه وقدمه وقرابته، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير، فأكرمْ به راعي رعية وإمام قوم! وجبت لله به الحجّة وبلغت به الموعظة.
فلا تعشوا عن نور الحق ولا تسكّعوا في وهدة الباطل، فقد كان صخر بن قيس (54) قد انخذل بكم يوم الجمل، فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله ونصرته، والله لا يقصّر أحدٌ عن نصرته إلاّ أورثه الله الذلَّ في ولْده والقلّة في عشيرته.
وها أنا قد لبست للحرب لامتها وأدرعتُ لها بدرعها، مَن لم يُقتل يمت، ومَن يهرب لم يفت، فأحسنُوا ـ رحمكم الله ـ ردّ الجواب.
موقف الشيعة في البصرة
فتكلّمت بنو حنظلة، فقالوا: يا أبا خالد، نحن نبلُ كنانتك، وفرسان عشيرتك، إن رميتَ بنا أصبتَ، وإن غزوتَ بنا فتحتَ، لا تخوض والله غمرةً إلاّ خضناها، ولا تلقى والله شدّةٍ إلاّ لقيناها، ننصرك بأسيافنا ونقيك بأبداننا، فانهض لما شئتَ.
وتكلّمت بنو سعد بن زيد، فقالوا: يا أبا خالد! إنّ أبغض الأشياء إلينا خلافك والخروج عن رأيك، وقد كان صخر بن قيس أمرَنا بترك القتال فحمدنا أمرنا وبقي عزّنا فينا، فأمهلْنا نراجع المشورة ونأتك برأينا.
وتكلّمت بنو عامر بن تميم فقالوا: يا أبا خالد! نحن بنو أبيك وحلفاؤك، لا نرضى إن غضبتَ، ولا نقطن إن ظعنتَ، والأمر إليك، فادعنا نُجِبْك ومُرنا نُطعْك، والأمر إليك إذا شئتَ.
فقال: والله يا بني سعد، لئن فعلتموها لا يرفع الله عنكم السيف أبداً، ولا يزال سيفكم فيكم.