الم.. ذلك الحسين (رواية)
الكلاب تنهش جسده بقسوة.. كلاب لم يَرَها من قبل.. متوحشة.. ملوّثة بكل القذارات.. يَنزّ من أنيابها الصديد. يحاول دفعها ولكن لا جدوى. إنها مسعورة وتزداد ضراوة وقسوة. وأشدّها كان الأبقع. إنه يطلب العُنق.. يندفع بوحشية لينقضّ على الرقبة الناصعة.. كإبريق فضة.ـ آه .. آه.. ماء .. ماء.. قلبي يتفطّر عطشاً.
انتبه من نومه... جفّف حبّاتِ عَرَقٍ كانت تتلألأ في ضوء القمر.
تقابل الوجهان.. وجه القمر، ووجهه.
تأمّل الحسين النجوم في أغوارها البعيدة.
البريق القادم من الأعماق السحيقة يشتدّ لمعاناً.. يومض.. يحاول كشف الأسرار.
نهض السبط من فراشه.. أسبغ وضوءه.. أشاعت برودة الماء السلام في روحه. لقد مضى من الليل ثلثاه، وليس هناك ما يخدش صمت الليل سوى نباح كلاب بعيدة.
حمل جراباً مليئاً بالطعام، وكيساً يغصّ بصرار الدراهم الفضية والدنانير، وراح يجوس أزقّة المدينة.
اجتاز بعض المنعطفات.. توقّف أمام بيت يكاد يتهدّم. أحكم لثامه، فبدا كشبح من أشباح الليل، أو سرّ من أسراره. وضع قدراً من السمن، وشيئاً من الدقيق، وأسقط ـ من كوّة صغيرة ـ صرّة نقود، ثم طرق الباب، وحثّ الخطى ـ قبل أن تنفتح ـ داخل زقاق غارق في الظلام..
كانت تنبعث من كوّة بيت كبير أضواء ساطعة.. وسمع ضحكة ماجنة أعقبتها ضحكات. استعاذ بالله، وهو ينعطف نحو اليمين. صار قريباً من قصر الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ـ حاكم المدينة.
منظر القصر المنيف، والبيوت الطينية التي تحيطه من كل الجهات يعبّر عن الظلم الفادح في توزع الثروات؛ الفقر الى جانب الغنى.. البؤس الى جانب الترف والبذخ..
ـ اين انت يا رسول الله؟!.. هلّم لتشاهد ما يفعل طلقاؤك.. في مدينتك.. أين أنت يا جدّاه ؟..
الليل ما يزال يغمر المدينة بظلمة حالكة يحيطها بالاسرار؛ والنجوم ما تزال مسمّرة في صفحة السماء؛ والقمر يختفي خلف الرُّبى والتلال، فيزداد الظلام رهبة. كراهبة ترفل بحلّتها السوداء بدت المدينة تلك الليلة.
توقّف الرجل الأسمر ذوالعينين المتألّقتين والانف الاشمّ. وقف الى جانب النخلة الّتي غرسها جدّه النّبي وتذكّر حديثه: أكرِموا عمتكم النخلة. لقد شاخت كثيراً، ولكنها ما تزال تهَب الرطب والتمر والضلال. أسند جذعه الى جذعها.. أضحيا جذعاً واحداً.. انبثق نبع من الصلاة، وغمر رشاش الكلمات السماوية المكان.. وصلّى الحسين ركعتين.. ثمّ انطلق نحو النبيّ.
الذاكرة ما تزال تتألق بصور الطفولة.. الحسين بسنواته السبع يركض نحو جدّه العظيم.. يرتمي في أحضان النبوّة وعبق الوحي، وابتسامات الملائكة تغمر دنياه. وتتلاحق الصور.. تشتعل وتنطفئ كبروق سماوية.
ألقى الرجل الذي ذرّف على الخمسين بنفسه على القبر. شعر بدفء الاحضان. احتضن التربة الطاهرة، وراح يستنشق.. يملأ صدره بشذى السماء. شعر بأنّه يقبّل وجه جدّه.. يمسّد شعره المتموّج تموّج الصحارى، ويداعب سوالفه الملألئة. وشعر أنه يعانق آدم وابراهيم، ويحتضن الكون كلّه.
ـ يا جدّاه، انهم يريدون مني شيئاً عظيماً.. تكاد له السماوات يتفطّرن وتنشقّ الارض. يريدون لِقمم الجبال أن تغادر اماكنها الشماء الى الهاوية، وللسحب أن تدع السماء، وللنخيل أن تنحني.. انهم يريدن للحسين أن يبايع.. يبايع يزيد..
أغمض الحسين عينيه المتعبتين، فانبثق شلاّل من نور محمّد.. وجه يتلألأ كالبدر، ترفرف حوله أجنحة الملائكة مثنى وثلاث ورباع.
ـ حبيبي يا حسين.. إن اباك وامك واخاك قدموا علَيّ.. انهم مشتاقون اليك، فهلمّ إلينا.
ـ لاحاجة بي الى الدنبا، فخذني اليك يا أبتي.
ـ والشهادة يا بني.. الدنيا كلّها تحتاج شهادتك.
وانتبه الحسين على أنفاس الصبح، فودّع جدّه وقفل عائداً الى منزله. الرؤيا تتجسّد امام عينيه، حتّى كاد يلمس غصناً من سدرة المنتهى. نور سماويّ في أعماقه.. ونداء يتردد في صدره.. يدعوه الى الرحيل. لقد أزفت الساعة.. والنوق في الصحارى رفعت رؤوسها تترقب انتظام القافلة.
* * *
ما لها المدينة خائفة هكذا، بيوتها ترتجف، وجدرانها تهتزّ رعباً ؟.. أين مجد الكوفة الضائع؟.. أين هيبتها القديمة ؟.. أم تراها نسيت أنها كانت العاصمة ؟!
تساءل الرجل الغريب ـ الذي كانت تحفّه الألوف قبل ليلة.. أمّا الآن فهو يجوس أزقّة المدينة خائفاً يترقب.. ليس معه من يدلّه على الطريق..
هل تراه أخفق في مهمته.. انه سفير الحسين الى الكوفة عاصمة المجد الغابر. أين الرجال الذين بايعوه على الثورة ؟!.. أين كل تلك السيوف والدروع، وتلك الكمات الّتي تشبه بوارق الفضاء ودويّ الرعود؟!.
كيف تحوّل جيش ناهز العشرين ألفاً الى فئران خائفة تختبئ مذعورة في جحور.. منقوبة في الأرض؟.
فكّر أن ينادي بأعلى صوته: «يا منصور أمت»؛ شعار الثورة.. ذكريات بدر.. علّهم يلتفّون حوله من جديد.. علّهم يهبّون لحصار قصر الظلم مرّة أخرى. ولكنّ من تركوه في وضح النهار، كيف يعودون اليه في قلب الظلام. الّذين فرّوا في ضوء الشمس، هل يعودون في غمرة الليل؟
كان مسلم بن عقيل يسير.. ينقل خطىً واهنة. تداعت أمامه كل الصور المثيرة، وهو يعبر الصحراء مع دليلَيه.. الرمال المتموّجة القاحلة حيث لا ماء.. ولا حياة.. ولا شيء، سوى الذرات الملتهبة.. الظمأ.. التيه..
مات الدليلان عطشاً، أمّا هو فبقي يواصل سيره وحيداً. أراد أن يعود من حيث أتى.. ولكن الحسين كان يريد له المسير حتى النهاية. انه سفيره الى الكوفة.. الكوفة.. الّتي تريد استرداد مجدها الضائع.. الكوفة الّتي تتلهف لرؤية علي بن أبي طالب مرّة أخرى.. تنشد عدله.. رحمته.. رفقه بالفقراء والمساكين.. تريد أن تطرب على بلاغته من جديد.. تريد للمنبر المهجور أن يتدفّق علماً وفصاحة.
تلك احلام الرجال الفئران تحلم في جحورها وترتجف ذغراً.
الاحلام الوردية تحتاج سواعد بقوّة الحديد أو أشدّ بأساً.
«السفير» أعياه التعب.. كقائد مخذول كان يجرجر نفسه بعناء.. يحسّ مرارة الهزيمة.. أمان جيش وهمي. حقّ له أن يندهش كيف تشتّت جيشه الكبير امام شائعة كاذبة!.. أمام جيش سوف يصل من الشام.. جيش وهمي.. صنعه الخيال المريض.. الخيال الذي يحلم بعقل فأرة مذعورة مِن القط.. مِن اسمه فقط.
جلس الغريب عند باب عتيقة، وراح يلتقط أنفاسه كأنه ما يزال يخترق الصحراء.. يجوب الأودية.
فتحت «طوعة» ـ المرأة العجوز التي كانت تنتظر عوده ابنها؛ والابن ذهب يبحث عن الرجل الجائزة.
ـ هل لي في جرعة من الماء ؟
وما أسرع أن عادت المرأة تحمل اليه الماء.. فراح يعبّ منه، ثمّ سكب الباقي على صدره. اراد ان يطفئ لهيب الصحراء في أعماقه.
قالت العجوز مستنكرة جلوسه:
ـ ألم تشرب يا عبدالله ؟!.. قم فانصرف الى أهلك.
اعتصَم بالصمت.. الصمت المجهول الذي لا يريد أن يسبر غوره أحد.
ـ قم عافاك الله.. فانه لا يجدر بك الجلوس على بابي.
ـ وماذا افعل.. لقد ضللت الطريق.. وليس هناك من يدلّني.
قالت المرأة متوجسة:
ـ من تكون يا عبدالله ؟!
ـ أنا مسلم بن عقيل.
فهتفت المرأة مأخوذة بالمفاجأة:
ـ أنت مسلم؟!.. انهض اذن انهض.
ـ الى اين يا أمة الله ؟
ـ الى بيتي..
وانفتح باب في الأفق المظلم.. كوّة تفضي الى النور.. لحظة من أمل.. قطرة ماء في لهب الصحراء.
واحتضن بيت كوفيّ « مسلمَ بن عقيل » ـ الرجل الشريد. امّا بقية البيوت فقد كانت تصغي برعب الى حوافر الخيل وهي تدكّ الارض بحثاً عن رجل غريب.
* * *
القافلة تطوي الصحراء في طريقها الى أم القرى.. قافلة عجيبة. لم تكن قافلة تجارية، ولم تبدُ ـ كذلك ـ قافلة للحجاج.. ففيها أطفال كثيرون.. أطفال يشبهون ورود الربيع.. قافلة يتقدمها رجل في عينيه بريق الشمس وفي جبينه يتلألأ القمر، وفي حنايا صدره تنطوي الصحارى. الى جانبه وجه يشبه البدر.. شاب في الثلاثين من عمره أو يزيد.. يُدعى «أبوالفضل» أو قمر بني هاشم.. دائم النظر الى أخيه يتأمله بخشوع.. يخاطبه: يا سيّدي.
ويظهر خلفه فتى عجيب يشبه النبي خلْقاً وخُلُقاً ومنطقاً.. إنه عليّ.. عليّ الأكبر. وفي القافلة هوادج كثيرة.. كثيرة جداً.. وأطفال..
القافلة تسير، والتاريخ يحبس انفاسه، وكلمات تتردد بخشوع، فتمتزج مع تمتمات النوق.
ـ ولمّا توجّه تِلقاءَ مَدْين قال عسى ربّي أن يهديَني سواءَ السبيل.
ـ الطريق محفوفة بالاخطار، فلو تنكبت الطريق.
قدر عجيب يسيّر القافلة. قافلة صغيرة تحاول تصحيح المسار الانساني.
الكلمات التي قالها الحسين ما زالت تدوّي في الآذان. الاهداف العظيمة.. الروح السامية في جلال الملكوت. كلماته تذهب مع نسائم الصحراء بذوراً تنبت في اعماق الارض.. هل يكون الموت هدفاً.. كيف تخرج الحياة من رحم الموت ؟.. واذا كان الموت هو النهاية لكل كائن، فلِم لانختار الطريقة التي سنموت بها ؟ هل يكون الموت جميلاً احيانا، لكي يقول الحسين: خُطّ الموت على وُلد آدم مَخَطّ القلادة على جِيد الفتاة، وما أولهني الى اسلافي اشتياق يعقوب الى يوسف.
ـ ولكن، اذا كان هدفك الموت، فلِم تأخذ معك الاطفال والنساء ؟ واذا كانت الآفاق مظلمة، لماذا تصطحب كل هذا الحَشْد من الضعفاء ؟!
ـ شاءالله أن يراهنّ سبايا.. شاءالله ان يراني قتيلاً.. سوف اموت عطشاً.. سأسقط قرب نهر يموج بالمياه كأنّه بطون الحيّات.
ـ ماذا يريد الحسين ؟
ـ يريد أن يموت ظامئاً.
ـ لماذا ؟
ـ إنّها مشيئة الله!
ـ مشيئة الامّة..
القافلة تقترب من مكّة.. أُمّ القرى واد غير ذي زرع.. أول بيت وُضع للناس.. مبهط جبريل فوق جبل النور.. غار حِراء، حيث التقت السماء بالارض.. طفولة محمّد.. شبابه.. آخر النبوات في التاريخ.
المساء ينشر ظلاله الخفيفة.. وانوار واهنة تحاول أن تتلألأ كالنجوم.. أضواء مدينة حائرة هزّتها أنباء قادمة من دمشق. لقد هلك هرقل وجلس مكانه هرقل آخر.
شعبان يطوي ثلاثة من ايامه.. القافلة تدخل مكّة، وتلقي عصا الترحال عند البيت العتيق. الحسين يحنّ الى زيارة قبر جدّته خديجة الكبرى.. يذكر تضحياتها من اجل محمّد.. وهو يريد أن يواصل ذات الدرب.. يريد اعادة نهج النبي العظيم.
ـ ماذا تريد يا سيّدي الحسين.. ألا تبقى هنا في حرم الله ؟.
ـ انّهم لن يدَعوني أعيش بسلام.. انهم يريدون الفتك بي، حتى لو تعلقت بأستار الكعبة.. انهم يطلبون مني شيئاً عظيماً.. هل رأيت النخيل ينحني أو الجبال ؟ هيهات.. هيهات.
ـ ولِمَ العراق ؟.. أليس هناك مكان آخر ؟ العراق الذي قتل أباك واغتال أخاك، وسلّم المنبرلمعاوية!
ـ ولِم الذهاب الآن.. ألا تمكث قليلاً ؟
ـ إن لم اذهب اليوم ذهبتُ غداً، وان لم أذهب غداً ذهبت بعد غد، وما من الموت والله بُدّ.. وإني لأعرف اليوم الذي أُقتل فيه.
تنبعث من الأرض أسئلة.. تتفجر علامات استفهام سرعان ما تتلاشى أمام كلمات سماوية كأنّها تأتي من وراء أستار الغيب.
ينظرون فلا يرون سوى بيارق أُمويّة.. سيوفاً تقطر غدراً وخناجر مسمومة.. أمّا هو فيرى ينابيع تتدفق.. انهاراً وسواقي.. انّه يرى ماوراء الآفاق.. يرى المستقبل القادم من رحم الايّام.
عجيب أمر هذا الرجل.. يحاول أن يلوي القدر.. أن يقهر كل شياطين الأرض.. أن يهزم نظاماً مدجّجاً بالسلاح.. كيف؟!
بقافلة صغيرة.. سبعين أو يزيدون.. اطفال ونساء.. وتصغي الصحارى لكلمات متمرّدة ثائرة.. كلمات تختصر النبوّات.. تبدأ ببسم الله .. مجراها ومرساها..
ـ هذا ما أوصى به الحسين بن علي الى اخيه محمّد بن الحنفية.
ان الحسين يشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لاشريك له، وأن محمّداً عبده ورسوله.. جاء بالحقّ من عنده وأنّ الجنّة حقّ، والنار حقّ، والساعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور.
وإني لم أخرج أشِراً ولابطراً ولامفسداً ولاظالماً، وانّما خرجت لطلب الاصلاح في أمّة جدّي.
أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي، وأبي علي بن أبي طالب.
فمن قبِلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين..
انطلقت الثورة وصدر بيانها الأول. أسلحتها الصبر والمقاومة والموت.
الموت سلاح.. بل حياة.. حياة.. كيف؟
ـ اجل.. إن من يموت كريماً سيحيا.. سيحيا إلى الأبد.. هكذا علّمني أبي، قال على شاطئ الفرات بصفين:
الموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين.
* * *
قصر الإمارة يجثم فوق الكوفة.. نسر هائل على فريسته .. غراب أُسطوري ينعب فتطير الرؤوس وتطيح الايدي..
ذئاب جائعة تعوي من بعيد.. وكلاب مسعورة تنبح.. وليل حالك مليء بالاسرار والغموض.. ورجل أرقط مجهول النسب اسمه ابن زياد بن ابيه.. ابن الليلة الماجنة. الرجل الارقط بدا مفزعاً تلك الليلة.. شيطاناً مريداً يفكّر ويدبّر، فقُتل كيف فكّر.. يتشبث بمخالب نسر.. يهدّد بجنود قادمين من الشام.. فتطيع القبائل، وتنحني الرقاب.. وتتساقط الرؤوس..
التفت نحو هاني بن عروة، وصرخ بعصبية:
ـ أتيتَ بابن عقيل الى دارك، وجمعت له السلاح؟
قال هاني بثبات:
ـ أفضّل لك أن تمضي الى الشام، فقد جاء من هو أحقّ بالامر منك ومن صاحبك.
وتفجّر ابن زياد غضباً:
ـ والله لاتفارقني حتّى تأتيني به.
وجاءة الجواب هادئاً ثابتاً.. ثبات الجبال:
ـ والله لو كان تحت قدميّ ما رفعتهما عنه.
ـ لأقتلنّك.
ـ اذن تكثر البارقة حولك.
هجم الارقط على زعيم « مراد » وجرّه من شعره، وسدّد له ضربة هشمت أنفه.
يا كوفة.. يا مدينة عجيبة.. ايتها المتقلّبة كلَّ يوم.. لِمَ تُضيعين ابناءك ؟ اين مسلم ايتها الغادرة ؟!..
خيول الدوريات تجوس المدينة الخائفة.. الخائنة.. يبحثون عن رجل مكّي مدني اسمه مسلم.. مسلم حقاً.
ـ لِم يبحثون عنه ؟..
ـ انه يحمل اشياء ممنوعة.. اشياء خطيرة. يحمل سيفاً علَوياً.. وقلباً حسينياً.. يريد تهريب الثورة..
ـ في هذا الليل والناس نيام ؟!
العيون الحمراء ترقب المدينة.. ومسلم في بيت طوعة.. رجل انقطعت به السبل، وضاقت عليه الارض بما رحبت، ولاملجأ له سوى مهنّد في يمينه.
وطوعة.. المرأة العجوز.. تتأمل اسداً جريحاً من ليوث محمّد.. يقبض على قائمة سيفه. لقد طلع الفجر، وآن للنهاية أن تبدأ.
ـ انّهم كثيرون.. مئة أو يزيدون.
ـ لاعليكِ يا أمَة الله. لقد حان اللقاء. رأيت عمي اميرالمؤمنين ـ في المنام ـ يقول لي: انت معي غداً.
اقتحمت الذئاب منزل طوعة، ولمع السيف العلوي كبرق سماوي.. ودوّى رعد مهيب له صوت مسلم:
اقسمـت لا أُقتـل إلاّ حُرّا | وإن رأيتُ الموت شيئاً نُكرا |
وصرخ «ابن الاشعث» مستمدّاً:
ـ الرجالَ.. الرجال.
ويستنكر قصر الامارة:
ـ ويلك انه رجل واحد!
ـ اتظن انك ارسلتني الى بقال من بقّالي الكوفة!.. انه سيف من اسياف محمّد.
وعجزت السيوف أن تكسر سيفه.. والرجل ما يزال يقاتل.. يقاتل بضراوة اسطورية.. الجراح النازفة.. الظمأ.. الإعياء.. غامت المرئيات أمام عينيه.. وتوالت الطعنات.. طعنات الغدر. الخناجر المسمومة تنغرز في جسده. وتهاوى الجبل. الإرادة الفولاذية عجز الجسد عن مواكبتها. تراخت قبضته. ولمّا انتزعوا سيفه بكى. وتعجّب الذين حوله.. لم يدركوا سرّ البكاء.
* * *
القافلة تطوي الصحراء.. والنجوم المحتشدة في السماء ترسل اضواء واهنة، فتبرق ذرّات الرمال، والقافلة التي سبقت قوافل الحجيج في مغادرة مكّة تنساب في بطون الاودية .. وخشخشة الاشواك تبوح باسرار الليل.
وصادفهم رجل في « الصفاح » يريد العمرة.
ـ من الرجل ؟
ـ الفرزدق بن غالب.
ـ هذا نسب قصير.
ـ انت اقصر نسباً مني.. انت ابن رسول الله.
ولاح سؤال عن الكوفة.. عاصمة ابيه واخيه.
ـ قلوبهم معك وسيوفهم عليك.
اية قلوب تلك لاتنقاد لها السواعد.. القلوب الخائفة قلوب ميتة.. انها قطعة لحم باردة.
وفي « ذات عرق » كان الحسين جالساً يقرأ كتاباً بين يديه.. وبين يديه ايضاً الصحراء المترامية... صحراء لانهاية لرمالها.. وبين يديه وقف التاريخ حائراً لا يدري أين مساره. ومرّ به رجل كان في الكوفة منذ أيام.. .
هزّ الرجل رأسه آسفاً:
ـ السيوف مع بني امية والقلوب معك.
ـ صدقت.
ـ ماذا تقرأ يابن رسول الله؟
ـ كتاباً من أهل الكوفة وهم قاتلي.. فاذا فعلوا ذلك لم يدَعوا لله محرّماً الاّ انتهكوه.
ـ أُنشدك الله في حرمة العرب.
ومضى الرجل الى وجهته.. ومضى التاريخ بعد أن عرف مساره.. كان يسير باتجاه يختلف قليلاً عن جهة الكوفة. هناك بمحاذاة النهر سيكون اللقاء.. سيبني التاريخ في تلك البقعة إحدى مدنه الخالدة.
وفي «الخزيمية» لوت النوق اعناقها.. توقفت هنيهة.. أصغت الى هاتف عجيب:
ألا يـا عيـن فاحتفلي بجهدِ | فمَن يبكي على الشهداء بعدي | |
علـى قوم تسـوقهـمُ المنايا | بـأقدار الى إنـجـاز وعدِ |
ـ القوم يسيرون والمنايا تسري اليهم.
ـ ألسنا على الحق يا أبي ؟
تأمل ابنَه الاكبر.. فحنّ الى جدّه.. .
ـ بلى والذي اليه مرجع العباد.
ـ يا أبتِ اذن لانبالي.
وفاضت عيناه شوقاً الى جدّه.
وفي « الثعلبية » قال الحسين لرجل تاهت به السبل.. لايدري أي الطريقين يسلك:
ـ يا أخا العرب! لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبريل في دارنا.. أفعلموا وجهلنا ؟! هذا ممّا لا يكون!
ومضى الرجل حائراً لايدري أي الطريقين يعني النجاة.. طريق الحسين أم طريق الحياة.
ومضت القافلة في طريقها الى الكوفة كانت الخطى تتجه، ولكن القلوب كانت تهفو الى مدينة أخرى.. مدينة لم تولد بعد.
كبّر صاحب للحسين:
ـ رأيت النخيل.. نخيل الكوفة.
استنكر آخر:
ـ ما بهذا الموضع نخل.. وانّما هو أسنّة الرماح وآذان الخيل.
ونظر الحسين:
ـ وأنا اراه ذلك.. أليس هنا ملجأ ؟
ـ نعم « ذو حسم » جبل عن يسارك.
وأناخت النوق.. هوَتْ بأثقالها الى الارض.. توقّفت سفُن الصحراء. توقفت لتتأكد من اتجاه البوصلة.. أو لتواجه القراصنة.. قراصنة التاريخ.
* * *
الكوفة خائفة. جلست ذليلة في حضرة ابن زياد.. وزياد يشير بسوطه.. فتتساقط الرؤوس.. وتطيح الايدي. وانحنت الرقاب « للأرقط ». لقد انتصر بجيشه الوهمي القادم من الشام. الكوفة كلّها أسيرة في قبضته.. تنقاد له طائعة. يصرخ فيها:
ـ اقتلوا آل الحسين.. إنهم اناس يتطهّرون.
وينتظم العبيد. عبيد الدنيا جيشاً عرمرماً يقوده «الحرّ».
المهمة خطيرة.. القبض على القافلة.. فارس يقود ألف فارس مدجّج السلاح يجوبون الصحراء بحثاً عن قافلة صغيرة..
قدر عجيب ساق هذا الرجل.. جعله في طليعة الذين يريدون اغتيال الحرّية.. وهو «الحرّ» كما سمّته أمّه..
والحرّ يجوب الصحراء في مهمّة كان يلعنها في اعماق نفسه.. الرمال الممتدة الى ما لانهاية تدعوه الى الرحيل.. الرحيل الى الشمس، وكانت الارض تشدّه اليها كما شدّت ألفاً يسيرون خلفه.
ويسمع الحرّ صوتاً عجيباً.. صوتاً قادماً من وراء الرمال:
ـ أبشرْ يا حرّ بالجنّة.
ـ أية جنّة وأنا سائر لقتال سبط النبي!
الخيل تلهث.. أضرّ بها الضمأ.. والصحراء تلتهب.. تتوهج.. تشتعل جحيماً لا يُطاق والحرّ يُبشَّر بالجنّة. وتبدو في الافق قافلة تتجه نحو ذي حسم (الجبل الصغير).
الشمس في كبد السماء تتشظى حمماً.. تتفجّر لهباً، والرمال تشتعل جمراً، والخيل تلهث.. تهوّم عيونها نحو سراب بعيد يحسبه الضمآن ماء. وقف الحرّ قبال الحسين في الظهيرة العظمى.. الخيول تنظر الى الحسين .. تشمّ رائحة الماء، وتحمحم.
هتف الحسين:
ـ اسقوهم وارشفوا الخيل..
ومرّت مئات الخيول الظامئة.. تعبّ من الماء.. وتطفئ لهب الصحراء.
ورأى الحسين فارساً وصل متأخراً، وقد أضرّ به العطش، فقال بلغة حجازية:
ـ أنخ الراوية.
ـ .. ؟!
ـ أنِخ الجمل.
اناخ الظامئ الجمل. ولما أراد أن يشرب، جعل الماء يسيل من السقاء، فقال الحسين بلغة حجازية:
ـ أخنِث السقاء.
فلم يدرِ الرجل ما يصنع، فعطف الحسين له السقاء حتّى ارتوى، وسقى فرسه.
وساد صمت رهيب رغم حمحمة الخيل.. وكان الجميع يتساءلون عن سرّ وجودهم في تلك البقعة الملتهبة من دنيا الله. وأذَّن «ابن مسروق» للصلاة، فقال الحسين:
ـ اتصلّي بأصحابك.
ـ لا، بل نصلّي جميعاً بصلاتك.
وصلّى الحسين بالجموع.. وصلّى خلفه ألف فارس كانوا يريدون القبض على الرجل القادم من الحجار. وقال الحسين بعد الصلاة:
ـ نحن أهل بيت محمّد أولى بالأمر من هؤلاء المدّعين.. السائرين بالجور والعدوان، فإن أبيتم إلاّ الكراهية لنا، والجهل بحقنا، وكان رأيكم على غير ما أتتني به كتبكم انصرفت عنكم.. .
تساءل الحرّ:
ـ ما أدري، ما هذه الكتب التي تذكرها ؟!
فنظر الحسين الى «ابن سمعان»، فأحضر خرجَين مملوءين كتباً.. رسائل بالآلاف.. كتبها الكوفيون؛ كلّها تقول أن أقدم علينا ليس لنا إمام غيرك.
تمتم الحرّ خجلاً:
ـ لإني لست من هؤلاء.. واني أُمرت أن أُقْدمك الكوفة على ابن زياد.
قال صاحب الأنف الاشمّ:
ـ الموت أدنى اليك من ذلك.
القافلة تريد أن تستأنف رحلتها.. سفن الصحراء ترفع مراسيها. و«الحرّ» يعترض:
ـ انا أُنفّذ أمر الخليفة.
ـ ثكلتك امّك.
ـ اما لو غيرك من العرب يقولها لي ما تركت ذكر امّه كائناً من كان.. ولكن مالي الى ذكر امّك من سبيل.. فأمّك الزهراء البتول.
وأردف الحرّ متوسّلاً:
ـ لتسلك طريقاً وسطاً.. لا يُدخلك الكوفة ولايردّك الى المدينة، حتّى اكتب الى ابن زياد، فلعلّ الله يرزقني العافية.
كانت القافلة تسير باتجاه بوصلة القدر.. باتجاه مدينة تعيش في رحم المستقبل.
كانا يسيران على مهل.. يسيران في طريق واحد.. طريق رسمته الاقدار.
همس الحرّ بحزن:
ـ اني اذكرّك الله في نفسك، فانّي اشهد لئن قاتلتَ لتُقتلَنَّ.
وادرك الحسين ماتموج به أعماق « الحرّ »:
ـ أفبالموت تخوّفني؟!
سأمضي وما بالموت عارٌ عـلى الفتى | اذا مـا نـوى حـقـاً وجاهد مـسلما | |
فـإن عـشت لم أندم وان متُّ لم أُلَم | كـفى بـك ذلاً أن تـعيـش وتُرغما |
* * *
ما بين « عين التمر » و« القريات »، لاحت من بعيد خيمة وحيدة.. في خارجها رمح مركوز وفرس تحمحم. وفي داخل الخيمة رجل وحيد.. فرّ من الكوفة.. يريد أن ينأى بنفسه بعيداً عن قدر رهيب. فجاءه رجل من أقصى الجزيرة يسعى.
ـ ماذا تريد ؟!
ـ اني جئتك بهدية وكرامة. هذا الحسين يدعوك الى نصرته.
أجاب الرجل الوحيد:
ـ والله ما خرجت من الكوفة إلاّ لكي لا أراه.. لعلّك لم تسمع الاخبار.. لقد خذلته شيعته.. قُتل « مسلم بن عقيل » و« هاني بن عروة » ورجال آخرون، ولا أقدر على نصره..
وأردف وهو يطرق برأسه الى الأرض:
ـ ولست أحب أن يراني وأراه.
ولكن الحسين أراد أن يراه فمضى اليه.. ورأي « الجعفي » لمّة من الناس تهفو اليه.
رجل ذرّف على الخمسين وحوله رجال وصبية وأطفال قادمون، فأوسع لهم في المجلس، وجلس الجعفي قبال رجل لم يره من قبل.. تموج في جبينه طيوف النبوّات. أراد أن يكسر حاجز الصمت، فقال مبتسماً وهو يشير الى لحية تشبه ليلة غاب فيها القمر:
ـ أسَواد أم خضاب ؟!
ـ عجّل عليّ الشيب يا ابن الحرّ.
ـ خضاب اذن!
ـ يا ابن الحرّ.. ألا تنصر ابن بنت نبيّك وتقاتل معه ؟
ـ إنّ نفسي لاتسمح بالموت.. ولكن فرسي «الملحقة» هذه لك.. والله ما طلبت عليها شيئاً قط الاّ لحقته.. ولاطلبني أحد الاّ سبقته..
ـ أمّا اذا رغبت بنفسك عنّا، فلاحاجة لنا في فرسك.
ونهض الحسين. كان يريد أن يرفع الرجل.. أن يسمو به، ولكنه اثّاقل الى الأرض.
وفي آخر الليل أمر الحسين فتيانه بالاستقاء والرحيل. ونهضت النوق.. يمّمت وجوهها نحو الارض التي بورك فيها للعالمين.. وكان هناك ألف ذئب تتوهج عيونها غدراً.. القافلة تسير.. تشقّ طريقها في الظلام.. تتبعها قطعان الذئاب وهي تعوي في آخر الليل.
لاح راكب من بعيد.. مدجج بالسلاح. كان رسولاً من ابن زياد الى « الحرّ » يحمل اليه كتاباً خطيراً. قرأه الحرّ بصوت يسمعه الحسين:
ـ جعجعْ بالحسين حين تقرأ كتابي، ولا تُنزله الاّ بالعراء على غير حصن ولا ماء.
قال الحسين:
ـ دعنا ننزل « نينوى » أو « الغاضريات ».
ـ لا أستطيع. فحامل الكتاب عينٌ علَيّ.
قال « زهيربن القين »، وكان رجلاً صحب الحسين على قدر:
ـ يابن رسول الله! دعنا نقاتلهم.. إن قتال هؤلاء أهْون علينا من قتال من يأتينا بعدهم. فلعمري ليأتينا ما لا قبل لنا به.
ـ ما كنت أبدهم بقتال.
ـ هاهنا قرية و« الفرات » يحدق بها من ثلاث جهات.
ـ ما اسمها ؟.
ـ « العقر ».
ـ نعوذ بالله من العقر.
والتفت الحسين الى الحر:
ـ سِر بنا قليلاً.
ومضت القافلة في طريقها.. يتبعها ألف ذئب أغبر.
اهتزّت البوصلة.. تعثرت النوق.. ووقف جواد الحسين.. تسمّر في مكانه.. رفعت النوق رؤوسها.. تلفّتت.. لعلّها شمّت رائحة وطن تبحث عنه. سأل الحسين:
ـ ما اسم هذه الأرض ؟
ـ الطّف.
ـ فهل لها اسم آخر ؟
ـ كربلاء.
تجمّعت الدموع في عينيه كغيوم ممطرة.
ـ أرض كرب وبلاء.. هاهنا محطّ ركابنا وسفْك دمائنا. بهذا أخبرني جدّي رسول الله.
وفي تلك الليلة، لاح هلال « المحرّم » حزيناً كقارب وحيد.. تائه في بحر الظلمات.
تعالت أصوات رجال يدقّون أوتاد الخيام، وضحكات بريئة لأطفال يلهون في الرمال.. ونسائم عذبة تهبّ من ناحية « الفرات »؛ وكان الحسين واقفاً يتأمّل الأفق البعيد.. يحدّق في آخر الدنيا.
* * *
مادت الكوفة بأهلها، واهتزّت الارض تحت الأقدام. كتائب جنود مذعورين تتحرك في كل اتجاه.. عيون زائغة لأشباه رجال تحمل اسلحة القتل.. تنطلق الى خارج المدينة.
« زجربن قيس » يقود خمسمئة فارس.. يتّجه صوب جسر « الصراة ».
وخرج « الشمر » في أربعة آلاف مقاتل، و« الحصين بن نمير » في أربعة آلاف، و« شبث بن ربعي » في ألف، و« حجّار بن أبجر » في ألف.. وتتابعت الكتائب تلو الكتائب.. جنود يشبهون في ذلّتهم الاسرى.. قلوبهم مع الحسين وسيوفهم تستهدف قلبه.
حيّات وأفاعٍ تتلوّى.. تزحف باتجاه « الفرات ». وبدا النهر أفعى خرافية تتمدد وسط الرمال..
وفي الكوفة، مطرت السماء ذهباً يخطف الأبصار ويسلب الألباب، واجتمع زعماء «القبائل» تحت المطر، فلم يبرحوا حتّى طمّت رؤوسهم بالذهب، والأرقط ينثر الأموال ويوفّر العطاء.. يلقي حباله وعصيّه، فاذا هي حيّات وعقارب تسعى.
وافتتنت « المومس » يابن زياد، فنسيت ذكر الحسين. قالت بخلاعة:
ـ مالي والدخول بين السلاطين..
قهقهه « الأرقط ». دوّت ضحكة شيطانية في أرجاء القصر.. جيوشه تحاصر القافلة.. تمنعها من العودة.
ـ وقعت في قبضتي يا حسين.. ها أنا أرتقي قمّة المجد.. سيدخل بوابة قصري قائلاً: حطّة. أنا ابن زياد ابن .. ابي سفيان.. صخر بن حرب.
أفتر الرجل الأبرص، فظهرت أنياب حادّة.
ـ لا تقبل من الحسين الاّ النزول على حكمك. إنّه الآن في أرضك، فضيّق عليه الخناق.
ما لهذا الأبرص؟!.. صوته كفحيح الافعى. الخنزير يريد للنخل أن يركع.. والنخل الباسق يعشق الفضاء، والاّ مات واقفاً.
الأرقط يجيد « الشطرنج ». ينقل جنده وقلاعه.. يحرّك فِيَلة وخنازير وبيادق تحلم بحكم « الري وجرجان ».
الأرقط يعرف « أصول اللعبة ». من يمينه تتدلّى مشانق وحبال، ومن شماله يسيل ذهب اصفر يأخذ بالألباب. البيادق الفئران تفرّ مذعورة.. تحمل سيوفاً خشبية.. وتمتلئ جيوبها فضة أو ذهبا..
والأرقط الذي تلبّس وجهه جلد الأفعى يتمدّد في « النخيلة »، يراقب بيادقه بحذر وترقّب. هناك رجل سيدمّر لعبته.. سيلقف سيفه كلّ حباله وعِصيّه.. وجيوشه الوهمية.
صرخ الأرقط بالرجل الأبرص:
ـ اكتب «لابن سعد»: اما بعد؛ انّي لم أبعثك الى الحسين لتكفّ عنه ولالتمنّيه السلامة. انظر، فإن نزل الحسين وأصحابه على حكمي فابعث بهم اليّ، وأن أبَوا فازحف اليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم.
كخنزير راح الشمر يجري صوب أحلامه المريضة.. تفوح منه رائحة الموت، وآلاف الضحايا ترقد في عينه المنطفئة.. ومن عطفَيه تنبعث حرائق ودخان، وروائح أجساد محترقة.
سلّم الكتاب الي « قائد الجيش »، وراح ينظر اليه خلسة بعين نصف مغمضة. أما عينه الاخرى فقد بدت هُوّةً سحيقة تعشعش فيها العناكب.
ادرك الرجل الذي ناهز السبعين أن الأبرص قد جاء يسرق منه أحلامأ قديمة.. جميلة تحكي جمال مدن « الري » و« جرجان ».
ـ قبّحك الله وقبّح ما جئت به. والله لا يستسلم الحسين. إنَّ نفس أبيه بين جنبيه.
ـ فخلّ بيني وبين العسكر.
ـ بل أنا الذي أتولّى ذلك.
عقربان يتنافسان في الصحراء.. ينعب في صدريهما بوم وغراب.. يتنافسان على الفوز في سباق من الخسران المبين.
تعليق