لعل من الجدير بالإشارة - بادئ ذي بدء - أن الناس قد اختلفوا في معصوم من هو ؟
فقال قوم : المعصوم هو الذي لا يمكنه الإتيان بالمعاصي، وهؤلاء هم الأقلون أهل النظر، واختلفوا في عدم التمكن كيف هو ؟
فقال قوم منهم : المعصوم هو المختص في نفسه أو بدنه أو فيهما ، الخاصية تقتضي امتناع إقدامه على المعاصي .
وقال قوم منهم : بل المعصوم مساو في الخواص النفسية والبدنية لغير المعصوم ، وإنما العصمة هي القدرة على الطاعة ، أو عدم القدرة على المعصية ، هذا قول الأشعري نفسه ، وإن كان كثير من أصحابه قد خالفوه فيه .
وقال الأكثرون من أهل النظر : بل المعصوم مختار ، متمكن من المعصية طاعة .
وهناك تفسيران للعصمة :
أحدهما : - أنها أمور يفعلها الله تعالى بالمكلف ، فتقضي ألا يفعل المعصية اقتضاء غير بالغ إلى حد الإيجاب ، وفسروا هذه الأمور ، فقالوا : إنها أربعة أشياء ،
أولها : أن يكون لنفس الإنسان ملكة مانعة من الفجور ، داعية إلى العفة ،
وثانيها : العلم بمثالب المعصية ، ومناقب الطاعة .
وثالثها : تأكيد ذلك العلم بالوحي والبيان من الله تعالى .
ورابعها : أنه متى صدر عنه خطأ من باب النسيان والسهو ، لم يترك مهلا " بل يعاقب وينبه ، ويضيق عليه العذر .
قالوا : فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة ، كان الشخص معصوما " عن المعاصي لا محالة ، لأن العفة إذا انضاف إليها العلم ، بما في الطاعة من سعادة ، وما في المعصية من شقاوة ، ثم أكد ذلك تتابع الوحي إليه وترادفه ، وتظاهر البيان عنده ، وتمم ذلك خوفا " من العقاب على القدر القليل ، حصل من اجتماع هذه الأمور حقيقة العصمة .
وثانيهما : - العصمة لطف يمتنع المكلف عند فعله من القبيح اختيارا " ، وقد يكون ذلك اللطف خارجا " عن الأمور الأربعة المعدودة ، مثل أن يعلم الله تعالى أنه إن أنشأ سحابا " ، أو أهب ريحا " ، أو حرك جسما " ، فإن زيدا " يمتنع عن قبيح
مخصوص اختيارا " ، فإنه تعالى يجب عليه فعل ذلك ، ويكون هذا اللطف عصمة لزيد ، وإن كان الإطلاق المشتهر في العصمة ، إنما هو لمجموع ألطاف يمتنع المكلف بها عن القبيح مدة زمان تكليفه ( شرح نهج البلاغة 7 / 7 - 8 . ) .
وترى الشيعة الإمامية أن الأنبياء لا تجوز عليهم الكبائر ولا الصغائر ، لا عمدا " ولا خطأ ، ولا سهوا " ، ولا على سبيل التأويل والتشبيه ، وكذلك قولهم في الأئمة ( شرح نهج البلاغة 7 / 12 ، وانظر آراء أخرى 7 / 7 - 21 ) .
وهكذا رأت الشيعة الإمامية أن العصمة واجبة للإمام ، قال ابن بابويه القمي في رسالته للصدوق ( ص 108 - 109 ) : اعتقدنا في الأخبار الصحيحة عن الأئمة أنها موافقة لكتاب الله ، متفقة المعاني ، غير مختلفة ، لأنها مأخوذة من طريق الوحي عن الله سبحانه وتعالى ( بحار الأنوار 25 / 350 - 351 ) .
وقال المجلسي : أصحابنا الإمامية أجمعوا على عصمة الأنبياء والأئمة من الذنوب الصغيرة والكبيرة ، وعمدا " وخطأ ونسيانا " - قبل النبوة والإمامة وبعدهما ، بل من وقت ولادتهم ، إلى أن يلقوا الله تعالى ، ولم يخالف في ذلك إلا الصدوق محمد بن بابويه وشيخه ابن الوليد ، فإنهما جوزا الإسهاء ، من الله تعالى ، لأن السهو الذي يكون من الشيطان في غير ما يتعلق بالتبليغ وبيان الأحكام ( التبيان 4 / 165 - 166 ) .
وقال الطوسي : لا يجوز عليهم - أي على الأئمة - السهو والنسيان فيما يؤدونه عن الله تعالى ، أما غير ذلك ، فإنه يجوز أن ينسوه أو يسهون عنه ، مما لم يؤد ذلك إلى الإخلال بكمال العقل ، وكيف لا يجوز عليهم ذلك ، وهم ينامون ويمرضون ، ويغشى عليهم ، والنوم سهو ، وينسون كثيرا " من متصرفاتهم أيضا " ، وما يجري لهم فيما مضى من الزمان .
ومن المعروف أن سيدنا ومولانا وجدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما قد أوصى أمته بأهل بيته ، وساواهم بالقرآن - كما في حديث الثقلين الذي أشرنا إليه آنفا " - وذلك لأن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، سلالة الحسن والحسين ، أبناء الزهراء والإمام علي ، إنما هم بضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سيد الأنبياء ، الذي اصطفاه الله
من أطهر المناقب ، وأعرق الأصول ، وتعهدهم نوره في الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الطاهرة ، من لدن آدم ، حتى حملته أمه ، ما تشعبت شعبتان إلا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في خيرهما شعبة ، ولا افترقت فرقتان ، إلا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في أكرمهما فرقة ، ومن ثم كان أهل بيت النبوة ، سلالة النبي صلى الله عليه وسلم ، أهل الحسب والنسب ، والطهر والشرف ،
لا يلوثهم رجس ، ولا ينالهم دنس ، فلقد طهرهم الله - فضلا " منه وكرما " - ثم دعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، فقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس ، وطهرهم وتطهيرا " .
ويقول العارف بالله محيي الدين بن عربي ( 560 - 638 ه ) في كتابه الفتوحات الملكية : ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عبدا " محضا " ، قد طهره الله تعالى ، وأهل بيته ، تطهيرا " ، وأذهب عنهم الرجس قال الله تعالى : * ( إنما يريد
الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " ) * ( سورة الأحزاب : آية 33 ) ، فلا يضاف إليه إلا مطهر ، ولا بد ، فإن المضاف إليهم هو الذي يشبههم ، فما يضيفون لأنفسهم ، إلا من له حكم الطهارة والتقديس ، وأهل البيت هم المطهرون ، بل هم عين
الطهارة ، فهذه الآية إنما تدل على أن الله تعالى قد شرك أهل البيت ، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في قول الله تعالى : * ( ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) * ( سورة الفتح : آية 2 ) . وهكذا طهر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالمغفرة ، مما
هو ذنب بالنسبة إلينا ، لو وقع منه صلى الله عليه وسلم ، لكان ذنبا " في الصورة - لا في المعنى - لأن الذنب لا يلحق به على ذلك ، من الله تعالى ، ولا منا شرعا " ، فلو كان حكمه حكم الذنب لصحبه ما يصحب الذنب من المذمة ، ولم يكن يصدق قول الله تعالى : * ( ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " ) * .
ومن ثم فقد دخل الأشراف أولاد سيدة نساء العالمين - السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام - كلهم إلى يوم القيامة في حكم هذه الآية من الغفران ، فهم المطهرون باختصاص من الله تعالى ، وعناية بهم ، لشرف محمد صلى الله عليه وسلم ،
وعناية الله سبحان وتعالى به ، وبالتالي فينبغي لكل مسلم مؤمن بالله ، وبما أنزله ، أن يصدق الله تعالى في قوله : * ( ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " ) * ، فيعتقد في جميع ما يصدر من أهل البيت - رضوان الله عليهم - أن الله
تعالى قد عفا عنهم ، ولا ينبغي لمسلم أن يلحق المذمة ، ولا ما يشنأ أعراض من قد شهد الله تعالى بتطهيرهم ، وإذهاب الرجس عنهم ، ليس ذلك بعمل عملوه ، ولا بخير قدموه ، بل هو سابق عناية واختصاص إلهي ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (سورة الحديد : آية 21) .
على أن هذا الشرف لأهل بيت النبوة ، لا يظهر إلا في الدار الآخرة ، فإنهم يحشرون مغفورا " لهم ، وأما في الدنيا فمن أتى منهم حدا " ، أقيم عليه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : لو أن فاطمة بنت محمد سرقت ، لقطعت يدها وقد أعاذها الله من ذلك ، وطهرها تطهيرا " (ابن عربي : الفتوحات المكية 1 / 196 - 198) .
وقصة الحديث الشريف - كما رواه ابن سعد في طبقاته ، وابن الأثير في أسد الغابة ، وابن عبد البر في الإستيعاب ، وابن حجر العسقلاني في الإصابة - واللفظ لابن الأثير : روى عمار الدهني عن شقيق قال : سرقت فاطمة بنت أبي الأسد ، فأشفقت قريش أن يقطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلموا أسامة بن زيد ، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : كل شئ ، ولا ترك حد من حدود الله عز وجل ، ولو كانت فاطمة بنت محمد لقطعتها ، فقطعها ( أنظر : أسد الغابة 7 / 218 ، الإستيعاب 4 / 386 الإصابة في تمييز الصحابة 4 / 380) .
ويذكر المقريزي ( 766 - 845 ه ) في كتابه معرفة ما يجب لآل البيت النبوي من الحق على من عداهم ما رواه الحاكم في المستدرك من حديث معاوية بن هشام عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن فاطمة أحصنت فرجها ، فحرم الله ذريتها على النار ( المستدرك للحاكم 3 / 152 ، حلية الأولياء 4 / 188 ، ميزان الاعتدال 9 / 202 ) ،
وما رواه الحافظ محب الدين الطبري في ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى ، وأخرجه الملا في سيرته من حديث حصين بن عمران قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سألت ربي أن لا يدخل النار أحدا " من أهل بيتي ، فأعطاني ذلك . وفي رواية - في مجمع الزوائد - عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها : إن الله غير معذبك ولا ولدك - قال أخرجه الطبراني عن ابن عباس (مجمع الزوائد 9 / 202 ، كنز العمال 6 / 219) .
وفي كنز العمال : إن فاطمة حصنت فرجها ، وإن الله أدخلها بإحصان فرجها وذريتها الجنة . قال : أخرجه الطبري عن ابن مسعود (كنز العمال 6 / 219) .
وروى الخطيب البغدادي ( 392 - 463 ه ) بسنده عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابنتي فاطمة حوراء آدمية ، لم تحض ولم تطمث ، وإنما سماها فاطمة لأن الله فطمها ومحبيها عن النار (تاريخ بغداد 12 / 331) .
وذكره ابن حجر الهيثمي ( 909 ه / 1504 - 974 ه / 1567 م ) في صواعقه ، وقال : أخرجه النسائي (الصواعق المحرقة ص 96) .
ويقول المقريزي - نقلا " عن العلامة نجم الدين سليمان بن عبد القوي ، المعروف بابن عباس الطوفي ( 657 - 716 ه ) (أنظر : ابن حجر العسقلاني : الدرر الكامنة من أعيان المائة الثامنة 2 / 249 - 252 ) - في الإرشادات الإلهية في المباحث الأصولية - أن الشيعة قد احتجت بقول الله تعالى : * ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " ) * ، على أن أهل البيت معصومون ، ثم على أن إجماعهم حجة .
وأما أنهم معصومون ، فلأنهم طهروا ، وأذهب الله عنهم الرجس والرجس اسم جامع لكل شر ونقص ، والخطأ وعدم العصمة بالجملة شر ونقص ، فيكون ذلك مندرجا " تحت عموم الرجس الذاهب عنهم ، فتكون الإصابة في القول والفعل والاعتقاد ، والعصمة بالجملة ثابتة لهم .
هذا فضلا " عن أن الله طهرهم ، وأكد تطهيرهم بالمصدر ، حيث قال : * ( ويطهركم تطهيرا " ) * ، أي ويطهركم من الرجس وغيره تطهيرا " ، إذ هي تقتضي عموم تطهيرهم من كل ما ينبغي التطهير منه عرفا " ، أو عقلا " أو شرعا " ، والخطأ وعدم العصمة داخل تحت ذلك ، فيكونون مطهرين منه ، ويلزم من ذلك عموم إصابتهم وعصمتهم (المقريزي : فضل آل البيت - معرفة ما يجب لآل البيت النبوي من الحق على من عداهم - القاهرة 1973 ص 35 - 36) .
ثم أكد دليل عصمتهم من الكتاب والسنة في الإمام علي وحده ، وفي فاطمة عليها السلام وحدها ، وفي جميعهم . أما دليل العصمة في الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه ، وكرم الله وجهه في الجنة - فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما أرسله إلى اليمن قاضيا " ، ثم قال : يا رسول الله ، كيف تبعثني قاضيا " ، ولا علم لي بالقضاء ؟ قال : اذهب ، فإن الله سيهدي قلبك ، ويسدد لسانك ، ثم ضرب صدره وقال : اللهم اهد قلبه ، وسدد لسانه (مسند الإمام أحمد 1 / 111 ، 149) .
وروى الإمام أحمد في فضائل الصحابة ( 2 / 699 - 700 ) بسنده عن سماك عن حنش عن علي قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى اليمن ، قال : فقلت :
يا رسول الله ، تبعثني إلى قوم أسن مني ، وأنا حدث لا أبصر القضاء ، قال : فوضع يده على صدري ، وقال : اللهم ثبت لسانه ، واهد قلبه ، يا علي ، إذا جلس إليك الخصمان ، فلا تقض بينهما ، حتى تسمع من الآخر ، ما سمعت من الأول ، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء ، قال : فما اختلف على قضاء بعد ، أو ما أشكل على قضاء بعد .
وفي رواية أخرى - في فضائل الصحابة أيضا " ( 2 / 580 - 581 ) عن الأعمش عن عمر وبن مرة عن أبي البختري عن علي قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، وأنا شاب ، فقلت : يا رسول الله تبعثني إلى قوم أقضي بينهم ،
ولا علم لي بالقضاء ؟ فقال : أدن ، فدنوت ، فضرب يده على صدري ، فقال : اللهم اهد قلبه ، وثبت لسانه ، قال : فما شككت في قضاء بين اثنين . قالوا : قد دعا له بهداية القلب ، وسداد اللسان ، وأخبره بأن سيكونا له ، ودعاؤه مستجاب ،
وخبره حق وصدق ، ونحن لا نعني بالعصمة إلا هداية القلب للحق ، ونطق اللسان بالصدق ، فمن كان عنده للعصمة معنى غير هذا ، أو ما يلازمه فليذكره ( المقريزي : المرجع السابق ص 36 - 38) .
وأما دليل العصمة في السيدة فاطمة عليها السلام ، فقوله صلى الله عليه وسلم : فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ، ويؤذيني ما آذاها (الحديث الشريف له صيغ مختلفة ( أنظر : صحيح البخاري 5 / 28 ، 5 / 36 ، 7 / 47 ، صحيح مسلم 16 / 2 - 4) ، والنبي صلى الله عليه وسلم ، معصوم ، ومن ثم فبضعته - أي جزؤه - والقطعة منه ، يجب أن تكون معصومة .
وهناك قصة أبي لبابة الذي ربط نفسه في عمود من عمد المسجد النبوي الشريف ، بسبب ما فاه به ليهود بني قريظة ، عندما سألوه : أينزلون على حكم محمد ، قال : نعم ، وأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح ، إن لم تفعلوا ، وقد أقسم أن لا يطلقه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، روى الإمام السهيلي بسنده عن الإمام علي زين العابدين بن مولانا الإمام الحسين ، أن فاطمة الزهراء ، عليها السلام ، أرادت حله ، حين نزلت توبته ، فقال : أقسمت أن لا يحلني ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن فاطمة بضعة مني ، فحلته ، فصلى
الله عليه وعلى فاطمة ، فهذا حديث يدل على أن من سبها فقد كفر ، وأن من صلى عليها فقد صلى على أبيها صلى الله عليه وسلم . وبدهي أنها معصومة مثله .
يتبع .....
فقال قوم : المعصوم هو الذي لا يمكنه الإتيان بالمعاصي، وهؤلاء هم الأقلون أهل النظر، واختلفوا في عدم التمكن كيف هو ؟
فقال قوم منهم : المعصوم هو المختص في نفسه أو بدنه أو فيهما ، الخاصية تقتضي امتناع إقدامه على المعاصي .
وقال قوم منهم : بل المعصوم مساو في الخواص النفسية والبدنية لغير المعصوم ، وإنما العصمة هي القدرة على الطاعة ، أو عدم القدرة على المعصية ، هذا قول الأشعري نفسه ، وإن كان كثير من أصحابه قد خالفوه فيه .
وقال الأكثرون من أهل النظر : بل المعصوم مختار ، متمكن من المعصية طاعة .
وهناك تفسيران للعصمة :
أحدهما : - أنها أمور يفعلها الله تعالى بالمكلف ، فتقضي ألا يفعل المعصية اقتضاء غير بالغ إلى حد الإيجاب ، وفسروا هذه الأمور ، فقالوا : إنها أربعة أشياء ،
أولها : أن يكون لنفس الإنسان ملكة مانعة من الفجور ، داعية إلى العفة ،
وثانيها : العلم بمثالب المعصية ، ومناقب الطاعة .
وثالثها : تأكيد ذلك العلم بالوحي والبيان من الله تعالى .
ورابعها : أنه متى صدر عنه خطأ من باب النسيان والسهو ، لم يترك مهلا " بل يعاقب وينبه ، ويضيق عليه العذر .
قالوا : فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة ، كان الشخص معصوما " عن المعاصي لا محالة ، لأن العفة إذا انضاف إليها العلم ، بما في الطاعة من سعادة ، وما في المعصية من شقاوة ، ثم أكد ذلك تتابع الوحي إليه وترادفه ، وتظاهر البيان عنده ، وتمم ذلك خوفا " من العقاب على القدر القليل ، حصل من اجتماع هذه الأمور حقيقة العصمة .
وثانيهما : - العصمة لطف يمتنع المكلف عند فعله من القبيح اختيارا " ، وقد يكون ذلك اللطف خارجا " عن الأمور الأربعة المعدودة ، مثل أن يعلم الله تعالى أنه إن أنشأ سحابا " ، أو أهب ريحا " ، أو حرك جسما " ، فإن زيدا " يمتنع عن قبيح
مخصوص اختيارا " ، فإنه تعالى يجب عليه فعل ذلك ، ويكون هذا اللطف عصمة لزيد ، وإن كان الإطلاق المشتهر في العصمة ، إنما هو لمجموع ألطاف يمتنع المكلف بها عن القبيح مدة زمان تكليفه ( شرح نهج البلاغة 7 / 7 - 8 . ) .
وترى الشيعة الإمامية أن الأنبياء لا تجوز عليهم الكبائر ولا الصغائر ، لا عمدا " ولا خطأ ، ولا سهوا " ، ولا على سبيل التأويل والتشبيه ، وكذلك قولهم في الأئمة ( شرح نهج البلاغة 7 / 12 ، وانظر آراء أخرى 7 / 7 - 21 ) .
وهكذا رأت الشيعة الإمامية أن العصمة واجبة للإمام ، قال ابن بابويه القمي في رسالته للصدوق ( ص 108 - 109 ) : اعتقدنا في الأخبار الصحيحة عن الأئمة أنها موافقة لكتاب الله ، متفقة المعاني ، غير مختلفة ، لأنها مأخوذة من طريق الوحي عن الله سبحانه وتعالى ( بحار الأنوار 25 / 350 - 351 ) .
وقال المجلسي : أصحابنا الإمامية أجمعوا على عصمة الأنبياء والأئمة من الذنوب الصغيرة والكبيرة ، وعمدا " وخطأ ونسيانا " - قبل النبوة والإمامة وبعدهما ، بل من وقت ولادتهم ، إلى أن يلقوا الله تعالى ، ولم يخالف في ذلك إلا الصدوق محمد بن بابويه وشيخه ابن الوليد ، فإنهما جوزا الإسهاء ، من الله تعالى ، لأن السهو الذي يكون من الشيطان في غير ما يتعلق بالتبليغ وبيان الأحكام ( التبيان 4 / 165 - 166 ) .
وقال الطوسي : لا يجوز عليهم - أي على الأئمة - السهو والنسيان فيما يؤدونه عن الله تعالى ، أما غير ذلك ، فإنه يجوز أن ينسوه أو يسهون عنه ، مما لم يؤد ذلك إلى الإخلال بكمال العقل ، وكيف لا يجوز عليهم ذلك ، وهم ينامون ويمرضون ، ويغشى عليهم ، والنوم سهو ، وينسون كثيرا " من متصرفاتهم أيضا " ، وما يجري لهم فيما مضى من الزمان .
ومن المعروف أن سيدنا ومولانا وجدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما قد أوصى أمته بأهل بيته ، وساواهم بالقرآن - كما في حديث الثقلين الذي أشرنا إليه آنفا " - وذلك لأن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، سلالة الحسن والحسين ، أبناء الزهراء والإمام علي ، إنما هم بضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سيد الأنبياء ، الذي اصطفاه الله
من أطهر المناقب ، وأعرق الأصول ، وتعهدهم نوره في الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الطاهرة ، من لدن آدم ، حتى حملته أمه ، ما تشعبت شعبتان إلا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في خيرهما شعبة ، ولا افترقت فرقتان ، إلا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في أكرمهما فرقة ، ومن ثم كان أهل بيت النبوة ، سلالة النبي صلى الله عليه وسلم ، أهل الحسب والنسب ، والطهر والشرف ،
لا يلوثهم رجس ، ولا ينالهم دنس ، فلقد طهرهم الله - فضلا " منه وكرما " - ثم دعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، فقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس ، وطهرهم وتطهيرا " .
ويقول العارف بالله محيي الدين بن عربي ( 560 - 638 ه ) في كتابه الفتوحات الملكية : ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عبدا " محضا " ، قد طهره الله تعالى ، وأهل بيته ، تطهيرا " ، وأذهب عنهم الرجس قال الله تعالى : * ( إنما يريد
الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " ) * ( سورة الأحزاب : آية 33 ) ، فلا يضاف إليه إلا مطهر ، ولا بد ، فإن المضاف إليهم هو الذي يشبههم ، فما يضيفون لأنفسهم ، إلا من له حكم الطهارة والتقديس ، وأهل البيت هم المطهرون ، بل هم عين
الطهارة ، فهذه الآية إنما تدل على أن الله تعالى قد شرك أهل البيت ، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في قول الله تعالى : * ( ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) * ( سورة الفتح : آية 2 ) . وهكذا طهر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالمغفرة ، مما
هو ذنب بالنسبة إلينا ، لو وقع منه صلى الله عليه وسلم ، لكان ذنبا " في الصورة - لا في المعنى - لأن الذنب لا يلحق به على ذلك ، من الله تعالى ، ولا منا شرعا " ، فلو كان حكمه حكم الذنب لصحبه ما يصحب الذنب من المذمة ، ولم يكن يصدق قول الله تعالى : * ( ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " ) * .
ومن ثم فقد دخل الأشراف أولاد سيدة نساء العالمين - السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام - كلهم إلى يوم القيامة في حكم هذه الآية من الغفران ، فهم المطهرون باختصاص من الله تعالى ، وعناية بهم ، لشرف محمد صلى الله عليه وسلم ،
وعناية الله سبحان وتعالى به ، وبالتالي فينبغي لكل مسلم مؤمن بالله ، وبما أنزله ، أن يصدق الله تعالى في قوله : * ( ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " ) * ، فيعتقد في جميع ما يصدر من أهل البيت - رضوان الله عليهم - أن الله
تعالى قد عفا عنهم ، ولا ينبغي لمسلم أن يلحق المذمة ، ولا ما يشنأ أعراض من قد شهد الله تعالى بتطهيرهم ، وإذهاب الرجس عنهم ، ليس ذلك بعمل عملوه ، ولا بخير قدموه ، بل هو سابق عناية واختصاص إلهي ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (سورة الحديد : آية 21) .
على أن هذا الشرف لأهل بيت النبوة ، لا يظهر إلا في الدار الآخرة ، فإنهم يحشرون مغفورا " لهم ، وأما في الدنيا فمن أتى منهم حدا " ، أقيم عليه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : لو أن فاطمة بنت محمد سرقت ، لقطعت يدها وقد أعاذها الله من ذلك ، وطهرها تطهيرا " (ابن عربي : الفتوحات المكية 1 / 196 - 198) .
وقصة الحديث الشريف - كما رواه ابن سعد في طبقاته ، وابن الأثير في أسد الغابة ، وابن عبد البر في الإستيعاب ، وابن حجر العسقلاني في الإصابة - واللفظ لابن الأثير : روى عمار الدهني عن شقيق قال : سرقت فاطمة بنت أبي الأسد ، فأشفقت قريش أن يقطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلموا أسامة بن زيد ، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : كل شئ ، ولا ترك حد من حدود الله عز وجل ، ولو كانت فاطمة بنت محمد لقطعتها ، فقطعها ( أنظر : أسد الغابة 7 / 218 ، الإستيعاب 4 / 386 الإصابة في تمييز الصحابة 4 / 380) .
ويذكر المقريزي ( 766 - 845 ه ) في كتابه معرفة ما يجب لآل البيت النبوي من الحق على من عداهم ما رواه الحاكم في المستدرك من حديث معاوية بن هشام عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن فاطمة أحصنت فرجها ، فحرم الله ذريتها على النار ( المستدرك للحاكم 3 / 152 ، حلية الأولياء 4 / 188 ، ميزان الاعتدال 9 / 202 ) ،
وما رواه الحافظ محب الدين الطبري في ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى ، وأخرجه الملا في سيرته من حديث حصين بن عمران قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سألت ربي أن لا يدخل النار أحدا " من أهل بيتي ، فأعطاني ذلك . وفي رواية - في مجمع الزوائد - عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها : إن الله غير معذبك ولا ولدك - قال أخرجه الطبراني عن ابن عباس (مجمع الزوائد 9 / 202 ، كنز العمال 6 / 219) .
وفي كنز العمال : إن فاطمة حصنت فرجها ، وإن الله أدخلها بإحصان فرجها وذريتها الجنة . قال : أخرجه الطبري عن ابن مسعود (كنز العمال 6 / 219) .
وروى الخطيب البغدادي ( 392 - 463 ه ) بسنده عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابنتي فاطمة حوراء آدمية ، لم تحض ولم تطمث ، وإنما سماها فاطمة لأن الله فطمها ومحبيها عن النار (تاريخ بغداد 12 / 331) .
وذكره ابن حجر الهيثمي ( 909 ه / 1504 - 974 ه / 1567 م ) في صواعقه ، وقال : أخرجه النسائي (الصواعق المحرقة ص 96) .
ويقول المقريزي - نقلا " عن العلامة نجم الدين سليمان بن عبد القوي ، المعروف بابن عباس الطوفي ( 657 - 716 ه ) (أنظر : ابن حجر العسقلاني : الدرر الكامنة من أعيان المائة الثامنة 2 / 249 - 252 ) - في الإرشادات الإلهية في المباحث الأصولية - أن الشيعة قد احتجت بقول الله تعالى : * ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " ) * ، على أن أهل البيت معصومون ، ثم على أن إجماعهم حجة .
وأما أنهم معصومون ، فلأنهم طهروا ، وأذهب الله عنهم الرجس والرجس اسم جامع لكل شر ونقص ، والخطأ وعدم العصمة بالجملة شر ونقص ، فيكون ذلك مندرجا " تحت عموم الرجس الذاهب عنهم ، فتكون الإصابة في القول والفعل والاعتقاد ، والعصمة بالجملة ثابتة لهم .
هذا فضلا " عن أن الله طهرهم ، وأكد تطهيرهم بالمصدر ، حيث قال : * ( ويطهركم تطهيرا " ) * ، أي ويطهركم من الرجس وغيره تطهيرا " ، إذ هي تقتضي عموم تطهيرهم من كل ما ينبغي التطهير منه عرفا " ، أو عقلا " أو شرعا " ، والخطأ وعدم العصمة داخل تحت ذلك ، فيكونون مطهرين منه ، ويلزم من ذلك عموم إصابتهم وعصمتهم (المقريزي : فضل آل البيت - معرفة ما يجب لآل البيت النبوي من الحق على من عداهم - القاهرة 1973 ص 35 - 36) .
ثم أكد دليل عصمتهم من الكتاب والسنة في الإمام علي وحده ، وفي فاطمة عليها السلام وحدها ، وفي جميعهم . أما دليل العصمة في الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه ، وكرم الله وجهه في الجنة - فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما أرسله إلى اليمن قاضيا " ، ثم قال : يا رسول الله ، كيف تبعثني قاضيا " ، ولا علم لي بالقضاء ؟ قال : اذهب ، فإن الله سيهدي قلبك ، ويسدد لسانك ، ثم ضرب صدره وقال : اللهم اهد قلبه ، وسدد لسانه (مسند الإمام أحمد 1 / 111 ، 149) .
وروى الإمام أحمد في فضائل الصحابة ( 2 / 699 - 700 ) بسنده عن سماك عن حنش عن علي قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى اليمن ، قال : فقلت :
يا رسول الله ، تبعثني إلى قوم أسن مني ، وأنا حدث لا أبصر القضاء ، قال : فوضع يده على صدري ، وقال : اللهم ثبت لسانه ، واهد قلبه ، يا علي ، إذا جلس إليك الخصمان ، فلا تقض بينهما ، حتى تسمع من الآخر ، ما سمعت من الأول ، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء ، قال : فما اختلف على قضاء بعد ، أو ما أشكل على قضاء بعد .
وفي رواية أخرى - في فضائل الصحابة أيضا " ( 2 / 580 - 581 ) عن الأعمش عن عمر وبن مرة عن أبي البختري عن علي قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، وأنا شاب ، فقلت : يا رسول الله تبعثني إلى قوم أقضي بينهم ،
ولا علم لي بالقضاء ؟ فقال : أدن ، فدنوت ، فضرب يده على صدري ، فقال : اللهم اهد قلبه ، وثبت لسانه ، قال : فما شككت في قضاء بين اثنين . قالوا : قد دعا له بهداية القلب ، وسداد اللسان ، وأخبره بأن سيكونا له ، ودعاؤه مستجاب ،
وخبره حق وصدق ، ونحن لا نعني بالعصمة إلا هداية القلب للحق ، ونطق اللسان بالصدق ، فمن كان عنده للعصمة معنى غير هذا ، أو ما يلازمه فليذكره ( المقريزي : المرجع السابق ص 36 - 38) .
وأما دليل العصمة في السيدة فاطمة عليها السلام ، فقوله صلى الله عليه وسلم : فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ، ويؤذيني ما آذاها (الحديث الشريف له صيغ مختلفة ( أنظر : صحيح البخاري 5 / 28 ، 5 / 36 ، 7 / 47 ، صحيح مسلم 16 / 2 - 4) ، والنبي صلى الله عليه وسلم ، معصوم ، ومن ثم فبضعته - أي جزؤه - والقطعة منه ، يجب أن تكون معصومة .
وهناك قصة أبي لبابة الذي ربط نفسه في عمود من عمد المسجد النبوي الشريف ، بسبب ما فاه به ليهود بني قريظة ، عندما سألوه : أينزلون على حكم محمد ، قال : نعم ، وأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح ، إن لم تفعلوا ، وقد أقسم أن لا يطلقه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، روى الإمام السهيلي بسنده عن الإمام علي زين العابدين بن مولانا الإمام الحسين ، أن فاطمة الزهراء ، عليها السلام ، أرادت حله ، حين نزلت توبته ، فقال : أقسمت أن لا يحلني ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن فاطمة بضعة مني ، فحلته ، فصلى
الله عليه وعلى فاطمة ، فهذا حديث يدل على أن من سبها فقد كفر ، وأن من صلى عليها فقد صلى على أبيها صلى الله عليه وسلم . وبدهي أنها معصومة مثله .
يتبع .....
تعليق