((على ألواحِ الوجودِ :الزهراءُ: عليها السلام :تكتبُ قصتها الأخيرة))
:محنة فراق فاطمة:ع:
=================================
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله المعصومين
نرفعُ عزائنا إلى مقام الإمام المهدي:عليه السلام:وجميع المؤمنين والمؤمنات بذكرى شهادة الصديقة الزهراء:ع:
ونسأل الله تعالى أن يوفق الجميع من الرجال والنساء للإقتداء بها فكرا وسلوكا في زمننا هذا زمن الغيبة الكبرى حتى يُعجّل الله تعالى فرج إمامنا المهدي:ع:
ويملأ الأرض قسطا وعدلا بحق محمد وآله المعصومين :عليهم السلام:
لقد شعرَ الرسولُ الأكرم محمد:صلى الله عليه وآله وسلّم:
بالحزن والأسى ,وأحس بالفراق والوحشة
عندما فقد خديجة زوجته ونصيرته :عليها السلام:
و عمه (أبو طالب) :عليه السلام: المحامي والمدافع المؤمن والمُوحِّد.
فُسُمي ذلك العام بعام الحزن .
فشاطرت السيدة فاطمة الزهراء : ع: أبيها :ص: في مصيبته هذه ورُزِئتْ هي الأخرى
فشملتها محنة ذلك العام الحزين لفقد أمها :ع: الحنون ولم تكن:ع:بعد قد شبعتْ من حنانها وعاطفتها .
فأحستْ الزهراء :ع: أيضا بغمامة الحزن واليتم تخيم على حياتها الطاهرة .
ويحسُّ الأبُ المقدس والحنون (محمد ):ص:
بوطأة الحزن على نفس الزهراء :ع:
ويرى دموع ابنته الصغيرة دموع المحنة القادمة على متن الوجود تتسابق على خدّيها فيرق القلب الرحيم وتفيض مشاعر الأبوة الصادقة.
فيحنو رسول الله :ص: على الزهراء :ع: ليعوّضها من حبه وحنانه .
كان الرسول الأكرم : ص: أقرب إنسان إلى فاطمة :ع: ولا إنسان إقرب إلى نفسه الشريفة من فاطمة : ع:
فلذا عبَّر عن هذا السر عدة مرات:
فقال :ص:
(إنَّما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها )
وهنا يستشرفُ الرسول الأكرم : ص: المستقبل القادم بحمولاته الجاهلية والحاقدة
والتي ستغتال الزهراء :ع: عن قريب
وهذا ما بينته الأحاديث الشريفة عن الرسول الأكرم: ص: بحق الزهراء :ع:
في قوله:ص:
((فاطمة بضعة مني من اغضبها أغضبني ))
:صحيح البخاري:ج2 : ص 185
و أتسائلُ يارسول الله :ص:
وهل أحدٌ يقدر على أنْ يغضب فاطمة :ع: وأنت وعلي :عليه السلام: على متن الوجود ؟
كلاّ:
إنَّها قراءة المستقبل القريب القادم بثقله على قلب وضلع فاطمة :ع: وجنينها السقط :المُحسن:
وتبكي فاطمة :ع:
فيقول الرسول الأكرم: ص:
: يا بنية لا تبكي فإن الله مانع أباك ، ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب:
الغدير: الأميني :ج7:ص376.
ولمّا بّلغ الرسول الأكرم: ص: رسالته وأكمل مهمته على هذه الارض.
وآنَ له أنْ يلتحق بربه الكريم
ويمرضُ رسول الله :ص: والزهراء: ع: تنظر اليه وجلة فتشعر أنّها هي المقبوضة الأجل .
الزهراءُ:ع: تجلس بقرب أبيها : ص :
فيرحب بها ويخبرها بقرب رحيله :ص:
وأنّها أول أهله لحوقا به
فتستبشرُ الزهراء:ع: بذلك الأجل القادم لها
لأنه يمنحها سرعة اللحاق بأبيها : ص:
والتي تختار الموت للقائه عن الحياة من دونه
فبُعيد رحيل الرسول الأكرم: ص:
لم تعش الزهراء :ع: طويلا بعد أبيها:
إنَّها أيام قلائل وتبدأ محنة الزهراء :ع:
محنة فدك ومحنة علي :ع: في حقه ومحنة ضلعها الكسير المُهشَّم بعصرة الباب وقسوته الحاقدة
لقدأثَّرَتْ الأحداثُ التي عَصفت بالأمة الأسلامية بعد شهادة الرسول الأكرم محمد :صلى الله عليه وآله وسلّم: في الصدّيقة الزهراء :ع:
وما تعرَّضت له من مظلومية كبرى من :
غصب حق بعلها الإمام علي :ع : في الخلافة الحقة وكسر ضلعها الشريف وإسقاط جنينها (المُحسن ):ع: الشهيد في حادثة الدار الشهيرة تأريخياً
فكل تلك المآسي جعلتها تمرض وتعاني من شدة المرض أربعين ليلة.
وعن ابن عباس قال :
مرِضَتْ فاطمة ( عليها السلام ) مرضاً شديدا
فقالت:ع: لأسماء بنت عميس :
ألا ترين إلى ما بلغت ؟
فلا تحمليني على سرير ظاهر ،
فقالت أسماء : لا ، لعمري ، ولكن أصنع نعشاً كما رأيتُ يصنع بالحبشة ،
قالت :ع: فأرينيه
فأرسلت إلى جرائد رطبة فقطعت من الأسواق ، ثم جُعلتْ على السرير نعشا
وهو أول ما كان النعش ، فتبسمت وما رأيتها متبسمة إلاّ يومئذ ثم حملناها فدفناها ليلا .
:وسائل الشيعة: الحر العاملي:ج3:ص221.
ولكن بالرغم من ذلك فإنّ الزهراء :ع: كانت تبدو في اليوم الأخير من حياتها الشريفة وكأنها تتماثل للشفاء الأبدي .
فهي كانت متيقنة بالرحيل واللحوق السريع بأبيها :ص :
عن علي بن الحسين بن علي ، عن أبيه الحسين :عليهم السلام :قال :
لما مرَضتْ فاطمة بنت النبي :صلى الله عليه وآله وعليها السلام :
وصَّت إلى علي: صلوات الله عليه:
أن يكتم أمرها ، ويخفي خبرها ، ولا يُؤذن أحدا بمرضها ، ففعل ذلك .
فقالت :ع: يا ابن عم إنَّه قد نُعيَت إليَّ نفسي لأرى ما بي لا أشك ،
إلاّ أنني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة ،
وأنا أوصيكَ بأشياءٍ في قلبي .
( وما في قلبكِ يافاطمة :ع: أتفكِّرين في محنة علي :ع: من بعدكِ ؟
أم محنة الحسن :ع: ؟
أم تفكرين في الحسين :ع: وما سيجري عليه يوم عاشوراء؟
أم تتمنِين أنْ تطول حياتكِ فتنصرين ولدكِ الإمام المهدي المُنتَظر :ع: وتسترجعين حقك يازهراء ؟؟؟؟؟؟؟)
قال لها علي :ع:
أوصني بما أحببتِ يا بنت رسول الله
ثم قالت:ع:
: جزاك الله عني خير الجزاء يا ابن عم أوصيك :
أولاً: أن تتزوج بعدي بابنة أختي أمامة ، فإنها تكون لولدي مثلي ، فإن الرجال لابد لهم من النساء .
ثم قالت :ع: أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني وأخذوا حقي فإنّهم أعدائي وأعداء رسول الله ،
وأن لا يصلي علي أحد منهم ولا من أتباعهم ،
وادفني في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار .
:روضة الواعظين :النيسابوري: ص 151.
وكان علي:ع: يمرضها بنفسه ، وتُعينَه على ذلك أسماء بنت عميس :رحمها الله :على استسرار بذلك كما وصتْ به .
فلما حضرتها الوفاة وصَّت أمير المؤمنين :عليه السلام :
أن يتولى أمرها ، ويدفنها ليلا ، ويعفي قبرها .
فتولى ذلك أمير المؤمنين عليه السلام ودفنها ، وعفى موضع قبرها .
فلما نفض يده من تراب القبر ، هاج به الحزن ، فأرسل دموعه على خديه ، وحول وجهه إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فقال :ع:
السلام عليك يا رسول الله مني ،
والسلام عليك من ابنتك وحبيبتك وقرة عينك وزائرتك والبائتة في الثرى ببقعتك والمختار لها الله سرعة اللحاق بك ،
قلَّ يا رسول الله عن صفيتكَ صبري ، وضعف عن سيدة النساء تجلدي
إلاَّ أنّ في التأسي لي بسنتك والحزن الذي حل بي بفراقكَ موضع التعزي ،
فلقد وسَّدتُكَ في ملحود قبرك بعد أن فاضتْ نفسك على صدري ،
وغمضتكَ بيدي ، وتوليتُ أمرك بنفسي ،
نعم وفي كتاب الله أنعم القبول
إنا لله وإنا إليه راجعون .
لقد اُستُرجعَت الوديعة (أي :الزهراء:ع
وأُخذَت الرهينة ، واُختُلِستْ الزهراء
فما أقبح الخضراء والغبراء ، يا رسول الله !
أمّا حزني فسرمد ، وأمّا ليلي فمسهد ،
لا يبرح الحزن من قلبي ، أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم ، كمد مقيح ، وهم مهيج ، سرعان ما فرق بيننا ،
وإلى الله أشكو .
وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك عليَّ وعلى هضمها حقها ، فإستخبرها الحال ،
فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلا وستقول ، ويحكم الله وهو خير الحاكمين .
:الأمالي: المفيد:ص282.
وفي رواية أخرى بشأن وصيتها:ع:
قال لها علي :ع:
أوصيني بما أحببتِ يا بنت رسول الله :ص:
فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت
ثم قالتْ:ع:
يا ابن عم ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني
فقال :ع :
معاذ الله أنتِ أعلم بالله وأبرُّ وأتقى وأكرم وأشد خوفا من الله من أن أوبِّخكِ بمخالفتي
وقد عزَّ عليَّ مُفارقتكِ وفقدكِ إلاّ أنه أمر لا بد منه
والله لقد جددتِ عليَّ مصيبة رسول الله :ص:
وقد عظمت وفاتكِ وفقدكِ
فإنّا لله وإنّا إليه راجعون من مصيبة ما أفجعها وآلمها وأمضها وأحزنها
هذه والله مصيبة لا عزاء عنها ورزية لا خلف لها
ثم بكيا :عليها السلام: جميعا ساعة
واخذ علي :ع: رأسها وضمها إلى صدره
ثم قال أوصيني بما شئتِ:
فإنّكِ تجديني وفيّا أمضي كل ما أمرتني به
وأختار أمركِ على أمري
قالت:عليها السلام:
جزاك الله عني خير الجزاء يا ابن عم
ثم أوصته بما أرادتُ
فقام أمير المؤمنين علي:ع : بجميع ما وصَّته به
فغسلها في قميصها وأعانته على غسلها أسماء بنت عميس:
:أعيان الشيعة: السيد محسن الأمين:ج1:ص322.
وحين حان موعدُ دفنها :ع:
كان الكلُ ينتظر أن يُشيَّع الجسد الطاهر إلى مثواه الأخير.
إلاّ أنَّ علياً:ع: أخرج إليهم سلمان أو أبوذر – وأمره أن يصرف الجميع.
لأنَّ فاطمة:ع: أوصتْ أن لا يُشيّعها الناس وأن لايُدخل على جثمانها أحد.
وخرجَ أبو ذر فقال :
إنصرفوا فإنَّ ابنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله )
قد أُخِرَ إخراجها في هذه العشية
فقام الناس وانصرفوا ،
فلما أنْ هدأت العيون ، ومضى من الليل ،
أخرجها علي والحسن والحسين عليهما السلام ، وعمار والمقداد ، وعقيل والزبير ، وأبو ذر وسلمان وبريدة ، ونفر من بني هاشم وخواصه صلوا عليها ،
ودفنوها في جوف الليل وسوى على حواليها قبورا مزورة مقدار سبعة حتى لا يُعرف قبرها .
:روضة الواعظين: النيسابوري:ص152.
وهكذا ودَّعتْ فاطمة :ع : عليا :ع: وأولادها: الحسن والحسين وزينب :ع:
وإرتفعت روحها الطاهرة إلى عالم الخلد والنعيم الأبدي
وطوت :ع: صفحة الحياة الدنيا
لتبدأ مرحلة البقاء في عالم الأخرة
ورحلتْ فاطمة :ع: إلى ربِّها راضية مُطمئنة
و نشرتْ ألغازها في سفر الوجود
تاركةٌ في قلب المؤمنين لوعة لاتهدأ
يحمل أسرارها الامام المهدي:ع:
من مظلوميتها وخفاء قبرها الشريف.
ولتحيا ابدا في ضمير الإنسانية المؤمنة والتاريخ الحق مثلاً أعلى وقدوة صالحة معصومة تتطلع
إليها الأنظار الواعية وتسمو في قدسها النفوس الراقية .
فسلام عليها يوم ولدِتْ ويوم قضتْ شهيدةً ويوم تبعث حيا .
والسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته
مرتضى علي الحلي :النجف الأشرف:
تعليق