الشهيد الأول . . علم وعمل
قال الله تعالى: ((إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)) [فاطر: 28]. وقال رسول الله(ص): (إذا كان يومُ القيامة وُزن مدادُ العلماء بدماء الشهداء، فيرجح مدادُ العلماء على دماء الشهداء). (الأمالي للطوسي: 2، 98).
لقد ورد الكثير من الآيات والروايات الشريفة التي تبين عظمة وفضل العلم والتعلم، ومنزلة العلماء، وفضل طالب العلم، والتي تبين أن (كمال الإنسان هو بالعلم، الذي يضاهي به ملائكة السماء، ويستحق به رفيع الدرجات في العقبى مع جميل الثناء في الدنيا، ويتفضل مداده على دماء الشهداء، وتضع الملائكة أجنحتها تحت رجليه إذا مشى، ويستغفر له الطير في الهواء والحيتان في الماء...). (مُنية المريد للشهيد الثاني: ص78).
ولذا من الواجب أن نهتم بالعلم والعلماء ونستعرض حياتهم لأجل العبرة والفائدة.. وها نحن أمام قمة من قمم العلم والعمل والتقوى.. ألا وهو الشهيد الأوّل(قدس).. الذي يعتبر رائد الحركة العلمية في جبل عامل، والمفجر الرئيسي للحركة الثورية العاملية في وجه الاضطهاد المملوكي.
وتقديراً لهذه الشخصية العملاقة، ولجهوده الجبارة التي بذلها في خدمة الدين، وتثبيت عقائد المؤمنين، وتذكيراً للأخوة المؤمنين بهذه النماذج الوضاءة.. نستعرض -ونحن في ذكرى استشهاده- نبذة يسيرة من سيرته وحياته..
هو الشيخ أبو عبد الله، محمّد بن مكّي العاملي الجزّيني المعروف بالشهيد الأوّل. ولد عام 734ﻫ بقرية جزّين، إحدى قرى جبل عامل في لبنان.
ترعرع في بيت من بيوت العلم والدين، وخالط العلماء وجالسهم، وارتاد الندوات العلمية في جبل عامل، واشترك في حلقات الدرس هناك.. وقد ساهم في المحاورات العلمية بين الأساتذة والطلّاب، حتّى كان له -فيما بعد- آراؤه في مسائل الفقه والفكر والأدب، أعانته على ذلك ثقافته الشخصية وقريحته الفيّاضة وبيئته النشطة.
لم يكتف(قدس) بثقافته التي تلقّاها في جِزّين، بل راح يتطلّع إلى آفاق أُخرى في مراكز إسلامية لتلقّي المعارف الجديدة، فرحل إلى الحلّة وكربلاء المقدّسة وبغداد ومكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة والشام والقدس.. فناظر وحاجج في أجواء علمية رحبة، فاستفاد وأفاد.
سعى(قدس) من خلال علاقاته الواسعة ومكانته في الأوساط العلمية لأن يُنجز مهام كبيرة في مجال الإصلاح والتوجيه وتوحيد الكلمة، والضرب على أيدي العابثين المغرضين، فأخمد فتنة اليالوش الذي ادّعى النبوّة، وقلّص الخلافات الطائفية، فوافقه أُناس وعارضه آخرون، فكان أن استدعاه حاكم خراسان فيما اعتقله حاكم دمشق، واغتاله فيما بعد؛ لأنّ حكومة بيدمر بدمشق كانت تخشاه؛ إذ هي حكومة ضعيفة، فحاولت أن تتخلّص منه وتقضي عليه حيث ترى فيه مذهباً مُندّداً بالانحراف والضلال.
ومن مؤلّفاته: كتاب اللمعة الدمشقية: وهي من أبرز وأشهر ما ألفه من المسائل الفقهية المختصرة في أيامه الأخيرة في السجن خلال سبعة أيام فقط وبعث بها إلى البلدان معزياً بذلك نفسه لأنها آخر ما كتب، وقد شرحها الشهيد الثاني زين الدين الجبعي العاملي(ره)، وهو من المتون الفقهية المهمة التي تدرس في الحوزات العلمية لمرحلة السطوح.
من أقوال العلماء فيه:
1- قال الشهيد الثاني(قدس): (شيخنا وإمامنا المحقّق البدل النحرير المدقّق الجامع بين منقبة العلم والسعادة، ومرتبة العمل والشهادة، الإمام السعيد أبي عبد الله الشهيد محمّد بن مكّي، أعلى الله درجته كما شرّف خاتمته).
2- قال الحرّ العاملي(قدس): (كان عالماً ماهراً فقيهاً محدّثاً محقّقاً متبحّراً، جامعاً لفنون العقليات والنقليات، زاهداً عابداً شاعراً أديباً منشئاً، فريد دهره، عديم النظير في زمانه).
شهادته:
وُشِيَ به(قدس) إلى الملك بيدمر، فسُجن في قلعة دمشق سنة كاملة، فلمّا ضجّ الناس خاف بيدمر ثورتهم وهجومهم على السجن لإنقاذه، أو الاستيلاء على الحكم، فحاول التعجيل بقتله وإراحة نفسه منه، فقُدّم وقُتل(قدس)، وكانت شهادته في 9 جمادى الأولى سنة 786ﻫ عن عمر 52 سنة. ثمّ أُمر به أن يُصلب وهو مقتول على مرأىً من الناس ليكون أول مصلوب من العلماء في القرن السابع، ثمّ رُجم بالحجارة.. وقاموا بإحراق جثمانه الطاهر.
إن حياته الشريفة حلقات متّصلة من الجهاد العلمي والاجتماعي، فلم يهدأ حتّى ختمها بالشهادة خاتمة مشرّفة، أدرجته في سجلّ الشامخين... فرحمه الله، وحشره مع الشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
أخوكم
منير الحزامي (الخفاجي)
كربلاء المقدسة
تعليق