بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
أفضلية الإمام عليّ عليه السّلام على الصحابة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
أفضلية الإمام عليّ عليه السّلام على الصحابة
مقدّمة
لم يتحدّد الدليل الشرعي لإبراز أفضليّة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بخصوص جهد الرسول صلّى الله عليه وآله والكلام الذي كان يصدر منه بحق الإمام علي عليه السّلام، وإنّما رافق ذلك نزول الكثير من الآيات القرآنية التي تكفلت بظهور مناقب علي عليه السّلام.
والملاحِظ لكلّ النصوص سيجد أنها من وجه قد سلّطت الضوء على أفضلية الإمام عليّ عليه السّلام على الصحابة، لا من باب عَقْد المقارنة فحسب، وإنّما تتسع النصوص لأكثر من هذا المعنى فتشمل بمقصودها أن عليّاً بمؤهلاته القدسيّة هو الإنسانُ المُعَدّ لتولّي الإمامة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله لا سواه.
وبغضّ النظر عن العصمة والعلم الحضوري الذي يمتلكه الإمام أو المعاجز والكرامات التي كانت تظهر على يديه، دون غيره، يبقى علي عليه السّلام بقدراته وعلومه وصفاته الأفضلَ من الصحابة، حتّى على فرض مقياس مدرسة الخلفاء التي تنظر للإمام عليّ عليه السّلام كصحابيٍّ ليس إلاّ.
من هنا سنتناول موضوع أفضليّة الإمام عليّ عليه السّلام على الصحابة ضمن عدّة أُمور، ومن خلال روايات أهل السنّة!
الأمر الأوّل: مظاهر من شخصية الإمام عليّ عليه السّلام:
إنّ سلوك الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام وملامحه الربّانية تشكل النموذجَ الإلهيّ والقدوةَ الحسنة.
ولا يمكن أن نتوصل إلى الأعماق والأسرار التي يحملها هذا النموذج عبر انتقاء بعض مظاهره العلمية أو السلوكية.
لكن المشاهِد حتّى لو وقف على بعض مظاهره لكفاه دليلاً على أفضلية الإمام عليه السّلام على الصحابة، لا في ميدان محدّد، بل في كل الميادين، بحيث لا يبقى مع ذلك أدنى شك أن الإمام عليّاً عليه السّلام لا يضاهيه أحد من الصحابة، وإليك بعض مظاهر شخصيته عليه السّلام:
1 ـ مظاهر شخصية الإمام عليّ عليه السّلام في الجانب العلميّ:
من الثابت أن الإمام عليّاً عليه السّلام كان أعلمَ الصحابة، وقد بلغ الكمال العلمي عند الإمام عليّ عليه السّلام إلى درجة حتّى قال عنه الرسول صلّى الله عليه وآله: « أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها » (1). ولم يقل الرسول صلّى الله عليه وآله مثل هذا القول لأحد من الصحابة.
ويؤكد ذلك قولُه عليه السّلام: « علّمني رسولُ الله صلّى الله عليه وآله ألفَ باب من العلم، يُفتَح لي من كلّ بابٍ ألفُ باب » (2).
وتفوّقُ الإمام علي عليه السّلام بعلمه الإلهيّ الذي اختُصّ به دعاه أن يقول: « لو كُشِف ليَ الغطاء ما ازددتُ يقيناً » (3).
وتصريحه عليه السّلام بأن العلم الذي يحمله كبير لا يقوى على حمله أحد من الصحابة: « ها إنّ ها هنا لَعِلماً جَمّاً، لو أصبتُ له حَمَلة! ـ وأشار إلى صدره ـ » (4).
فهذه الأقوال تدل بكل وضوح على أن الإمام عليّاً عليه السّلام بلغ من العلم مرتبة لا يمكن لأحد من الخلق أن يبلغها سوى رسول الله صلّى الله عليه وآله.
وإلى هذا أشار عليه السّلام بقوله: « بل اندمجتُ على مكنون علمٍ لو بُحتُ به لأضطربتمُ آضطرابَ الأرشية في الطوى (5) البعيدة » (6).
وعن أبي الطفيل قال: شهدت عليّاً يقول: « سَلُوني، والله لا تسألوني عن شيءٍ إلا أخبرتُكم، وسلوني عن كتاب الله، فواللهِ ما مِن آيةٍ إلاّ وأنا أعلمُ أبِليلٍ نزلت أم بنهار، في سهلٍ أم في جبل » (7).
وعن سعيد بن المسيب أنه قال: « لم يكن أحد من صحابة رسول الله يقول: سلوني، إلاّ عليّاً » (8).
وقد شهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وفي أكثر من مرّة بأفضليّة « الإمام عليٍّ عليه عليه السّلام » وتفوّقه العلمي على كلّ الصحابة.
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله لفاطمة الزهراء عليها السّلام: « أما تَرضينَ أن أُزوّجكِ أقْدمَ أُمّتي سِلماً، وأكثرَهم عِلماً، وأعظمَهم حِلْماً » (9).
وقال صلّى الله عليه وآله: « أعلمُ اُمّتي من بعدي عليُّ بن أبي طالب » (10).
وقال صلّى الله عليه وآله: « عليٌّ وعاء علمي، ووصيّي، وبابيَ الذي أُوتى منه » (11).
وقال صلّى الله عليه وآله: « عليٌّ باب علمي، ومبيّنٌ لأُمّتي ما أُرسِلتُ به مِن بعدي » (12).
وقال صلّى الله عليه وآله: « أعلم اُمّتي بالسنّة والقضاء بعدي عليُّ بن أبي طالب » (13).
وقال صلّى الله عليه وآله: « أنتَ تُبيّن لأُمّتي ما آختلفوا فيه بعدي » (14).
وقال صلّى الله عليه وآله: « لِيُهنكَ العلمُ أبا الحسن، لقد شربتَ العلمَ شُرباً، ونهلتَه نهلاً » (15).
2 ـ مظاهر شخصية الإمام عليّ عليه السّلام في الجانب الإيمانيّ:
هذه الصفحة من حياة الإمام عليّ عليه السّلام قد منح فيها زخماً معنوياً ورسم فيها صورة عالية للأجيال، وسجل فيها الأسبقية على الصحابة قاطبة.
فقوّة الإيمان ميزة ينفرد بها علي عليه السّلام وقد تجسدت في صور شتى، ففي العبادة هو المثال، فقد جاء في تفسير قوله تعالى: تَراهُم رُكَّعاً سُجَّداً (16) على أنها نزلت في عليّ عليه السّلام (17).
وقال بهذا الصدد: « صلّيتُ مع رسول الله صلّى الله عليه وآله قبلَ الناس سبعَ سنين، وأنا أوّلُ مَن صلّى معه » (18).
وقال عليه السّلام: « ما أعرفُ أحداً من هذه الاُمّة عَبَدَ الله بعد نبيِّنا غيري... » (19).
وقال عليه السّلام: « أسلمتُ قبل إسلام الناس، وصلّيتُ قبل صلاتهم » (20).
فكان الإمام عليّ عليه السّلام أعبدَ الناس وأكثرَهم صلاةً وصوماً، ومنه تعلّم الناس صلاةَ الليل وملازمةَ الأوراد، وقيام النافلة، وما ظنُّك برجل يبلغ من محافظته على وِرْده أن يُبسَطَ له نطعٌ بين الصفَّين ليلة الهرير، فيصلي عليه ورده والسهامُ تقع بين يديه وتمرّ على صِماخَيه يميناً وشمالاً،فلا يرتاع لذلك، ولا يقوم حتّى يفرغ من وظيفته ؟ وما ظنُّك برجلٍ كانت جبهته كثِفْنة البعير لطول سجوده ؟ (21).
وقيل لعليّ بن الحسين زين العابدين عليه السّلام ـ وكان قد بلغ الغايةَ في العبادة ـ: أين عبادتك من عبادة جدك ؟
قال عليه السّلام: « عبادتي من عبادة جَدّي كعبادة جَدّي من عبادة رسول الله صلّى الله عليه وآله » (22).
أمّا في مظاهر الإيمان الأُخرى فنجده عليه السّلام القمّة في النزاهة والخلق الإلهيّ، وأنه المثل القرآني الذي ساقه لمعنى الصدق، فقد قال تعالى: والذين آمنوا بالله ورسله اُولئك هم الصدّيقون (23).
وهذه الآية حسب رواية أحمد بن حنبل أنّها نزلت في الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام (24).
وهناك آيات كثيرة تشهد بأن الإمام عليّاً عليه السّلام هو النموذجَ الحيَّ لمعنى الإيمان، فقد قال تعالى: أجَعَلْتُم سِقايةَ الحاجِّ وعِمارةَ المَسجدِ الحَرامِ كَمَنْ آمنَ باللهِ واليومِ الآخِر وجاهَدَ في سبيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عندَ اللهِ واللهُ لا يَهدي القومَ الظالمين (25).
هذه الآية وما بعدها نزلت في حقّ « علي » لمّا افتخر طلحة بن شيبة والعباس، فقال طلحة: أنا أولى بالبيت، لأن المفتاح بيدي، وقال العباس: أنا أولى، أنا صاحب السقاية والقائم عليها، فقال علي عليه السّلام: « أنا أوّل الناس إيماناً، وأكثرهم جهاداً »، فأنزل الله تعالى هذه الآية لبيان أفضليّة الإمام عليِّ بن أبي طالب عليه السّلام عليهما (26).
وقال تعالى: أفمَن كانَ مُؤمناً كمَنْ كان فاسقاً لا يَسْتَوُون (27) المؤمن عليّ عليه السّلام، والفاسق الوليد (28).
بهذه الآية يقدّم القرآن الكريم للناس نموذجه الإيمانيّ المتمثل في الإمام عليّ عليه السّلام.
وأُولوا الأرحامِ بعضُهم أَولى ببعضٍ في كتابِ اللهِ مِن المؤمنينَ والمُهاجرين (29).
ذهب جملة من المفسرين على أن الآية منطبقة في الإمام عليٍّ عليه السّلام؛ لأنّه كان مهاجراً ذا رحم (30).
كما بيّن رسول الله صلّى الله عليه وآله للناس وفي أكثر من موضع مدى تسليم الإمام عليٍّ للرسالة وتعاليمها، وسابقتَه في الإسلام، وأنّه الإنسان القادر بقوّة إيمانه على حلّ المشكلات عند التباسها.
روي عن أبي ذرّ، حيث قال: دخَلْنا على رسول الله صلّى الله عليه وآله فقلنا: مَن أحبُّ أصحابك إليك، إن كان أمرٌ كُنّا معه، وإن كانت نائبة كنّا مِن دونه ؟
قال: « عليّ أقدمُكم سِلْماً وإسلاماً » (31).
نكتفي بهذا القدر من الأدلة الكاشفة عن قوة إيمان الإمام عليّ عليه السّلام وأفضليّته، لنرى جانبه الجهاديّ.
3 ـ مظاهر شخصية الإمام عليّ عليه السّلام في الجانب الجهادي:
أما الجهاد عند الإمام عليّ عليه السّلام، فالخوض في إثباته يجري مجرى إيضاح الواضحات وتقرير البديهيات، فإنّه لا خلاف بين جميع المسلمين وغيرهم أن الإمام عليّاً عليه السّلام في جهاده كان أشجعَ الصحابة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وأكثرَهم إقداماً، وإن كانت الشجاعة وحبّ الجهاد عند الصحابة ظاهرة بارزة في حياتهم، إلاّ أنها عند الإمام عليّ عليه السّلام تبدو قيمتها أكثر جلاءً في المهمات الصعبة وعند تراجع الآخرين وعدم قدرتهم على تجاوزها، فيتقدم الإمام عليّ عليه السّلام بتفوّقه الإلهيّ لفكّ الطوق عن المسلمين، وهذا ما تشهد به المعارك التي خاضها ضدّ المشركين وأهلِ الكتاب في بدرٍ والأحزاب وخيبر وحنين وغيرها.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله يومَ خيبر: « لأَدفعنّ الرايةَ إلى رجل يحبُّ اللهَ ورسولَه، ويفتح الله عليه، قال عمر: فما أحببتُ الإمارة قطّ قبلَ يومئذٍ، فدفعها إلى عليّ قال: قال: ولا تلتفت، فسار قريباً، قال: يا رسول الله، علامَ نقاتل ؟
قال صلّى الله عليه وآله: على أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عَصَموا دماءهم وأموالَهم إلاّ بحقها، وحسابُهم على الله تعالى » (32).
وفي غزوة الخندق: ضرب الإمام عليّ عليه السّلام أروع مثالٍ لنصرة الحق، وتميّزَ به عن غيره من الصحابة، وقد عزّز الرسولُ صلّى الله عليه وآله قيمةَ هذا الحدث العظيم عندما صرّح بأن الإمام يمثّل جانبَ الحقّ كلِّه، فقد روى الجمهور:
أنه لما برز عمرو بن عبد ودّ العامري في غزوة الخندق، وقد عجز عنه المسلمون، قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: « برَز الإيمانُ كلُّه إلى الشِّركِ كلِّه » (33).
ونقل أحمد بن حنبل في مسنده، قال: خطب الإمامُ الحسن عليه السّلام فقال: « لقد فارقَكُم رجلٌ بالأمس لم يَسبقْه الأوّلون بعلم، ولا يُدركه الآخِرون، كان رسولُ الله صلّى الله عليه وآله يبعثه بالراية، جبرئيلُ عن يمينه وميكائيلُ عن شماله، لا ينصرف حتّى يُفتَح له » (34).
وروى الخوارزميّ قال: حدثنا عبيدالله بن عائشة عن أبيه قال: « كان المشركون إذا أبصروا عليّاً في الحرب، عَهِد بعضُهم إلى بعض » (35).
وعن جابر بن عبدالله قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول يوم الحديبيّة ـ وهو آخذٌ بضِبْع عليّ بن أبي طالب ـ يقول: هذا أمير البررة، وقاتل الفجرة، منصورٌ مَن نَصَره، مخذولٌ مَن خَذَله. ثم مدّ بها صوته وقال: أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها، فمن أراد الدارَ فلْيأتِ الباب » (36).
وعن ابن عبّاس قال: « كان المهاجرون يوم بدرٍ سبعةً وسبعين رجلاً، وكان الأنصار مائتين وستة وثلاثين رجلاً، وكان صاحب راية رسول الله صلّى الله عليه وآله عليّ ابن أبي طالب، وصاحب راية الأنصار سعد بن عُبادة » (37).
وعن ابن عباس قال: « إن راية المهاجرين كانت مع عليّ عليه السّلام في المواقف كلِّها: يوم بدر ويوم أُحد ويوم خيبر ويوم الأحزاب ويوم فتح مكة، ولم تزل معه في المواقف كلِّها » (38).
ويحدثنا الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام عن صُحبته لرسول الله صلّى الله عليه وآله عندما عزما على كسر الأصنام التي كانت فوق الكعبة وقد صعد عليه السّلام على مَنكِبَي رسول الله صلّى الله عليه وآله:
قال عليّ عليه السّلام: « إنطلقتُ مع رسول الله صلّى الله عليه وآله حتّى أتينا الكعبة، فصعد رسولُ الله صلّى الله عليه وآله على مَنْكِبي ثمّ قال صلّى الله عليه وآله: إنهض. فنهضت، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله ضَعفي قال لي: إجلْس. فجلست، فنزل النبيّ صلّى الله عليه وآله وجلس لي، وقال لي: إصعد على مَنْكِبي. فصَعِدتُ على مَنكِبَيه فنهض بي. فقال عليّ عليه السّلام: إنه يُخيَّل إليّ أنّي لو شئتُ لَنِلتُ أُفقَ السماء، فصعدت على الكعبة وعليها تمثال من صفر أو نحاس، فجعلت أعالجه لأُزيله يميناً وشمالاً وقداماً ومن بين يديه ومن خلفه، حتّى استمكنتُ منه، فقال نبيُّ الله: اِقذفْه، فقذفتُ به فكسرته كما يكسر القوارير، ثمّ نزلت فانطلقتُ أنا ورسول الله صلّى الله عليه وآله نستبق، حتّى توارينا بالبيوت؛ خشيةَ أن يلقانا أحد » (39).
وتتلخّص صورة سلوك الإمام عليّ عليه السّلام بكل جوانبها الإلهيّة عندما يشبّهه رسول الله صلّى الله عليه وآله بالأنبياء عليهم السّلام، فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « من أراد أن ينظر إلى آدمَ في علمه، وإلى نوحٍ في عزمه، وإلى إبراهيمَ في حِلْمه، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في زُهده؛ فلْينظُرْ إلى عليِّ بنِ أبي طالب » (40).
4ـ مظاهر شخصية الإمام عليّ عليه السّلام في الجانب السلوكيّ والأخلاقيّ:
ولا يقتصر تفوق الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام وتميّزه على الصحابة في الجوانب التي ذكرناها، وإنّما أمسى عليه السّلام بتجسيده لقيم الرسالة ومفاهيمها وأخلاقها النموذجَ والمثال الذي يثير العزيمة والهمم في نفوس الصحابة، مما كان موضع ثناء الحق سبحانه، وفيما يلي نقف على مفردات من سلوكه وأخلاقه التي تميّزه عن غيره:
1 ـ قال تعالى: ومِنَ الناسِ مَن يَشْري نفسَه آبتغاءَ مَرضاةِ الله (41).
إنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السّلام لمّا خلفه الرسول، عندما هاجر صلّى الله عليه وآله؛ لقضاء دينه وردّ ودايعه، فبات على فراشه، وأحاط المشركون بالدار، فأوحى الله إلى جبرائيل، وميكائيل: إني قد آخيتُ بينكما، وجعلت عُمْرَ أحدِكما أطولَ من الآخر، فأيُّكما يُؤْثر صاحبَه بالحياة ؟ فاختار كلٌّ منهما الحياة، فأوحى الله إليهما: ألا كُنتما مثلَ عليّ بن أبي طالب، آخيتُ بينه وبين محمّد، فبات على فراشه، يفديه بنفسه ويُؤْثِره بالحياة ؟ إهبطا إلى الأرض، فاحفظاه من عدوّه. فنزلا فكان جبرائيل عند رجليه، فقال جبرائيل: بخٍ بخٍ، مَن مِثْلُك يآبنَ أبي طالب! يُباهي الله بك الملائكة » (42).
2 ـ ويُطعِمونَ الطعامَ على حُبِّهِ مِسكيناً ويَتيماً وأسيراً * إنّما نُطعِمُكم لوجهِ اللهِ لا نُريد مِنكُم جَزاءً ولا شُكُوراً (43).
روى الجمهور: أن الحسنَ والحسين مَرِضا، فعادهما رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وعامّة العرب، فنذر عليٌّ صوم ثلاثة أيام، وكذا أُمُّهما فاطمة عليها السّلام وخادمتهم فضّة، لئن بَرِئا، وليس عند آل محمد صلّى الله عليه وآله قليل ولا كثير، فاستقرض أميرُ المؤمنين عليه السّلام ثلاثةَ أصوعٍ من شعير، وطحنت فاطمة منها صاعاً، فخبزته أقراصاً لكل واحد قرص، وصلّى عليٌّ المغرب ثم أتى المنزل، فوُضع بين يديه للإفطار، فأتاهم مسكين وسألهم، فأعطاه كلٌّ منهم قُوتَه، ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئاً.
ثم صاموا اليوم الثاني، فخبزت فاطمة صاعاً آخر، فلما قدمته بين أيديهم للإفطار أتاهم يتيم، وسألهم القوت فتصدق كل منهم بقوته.
فلما كان اليوم الثالث من صومهم وقُدّم الطعام للإفطار، أتاهم أسير وسألهم القوت، فأعطاه كل منهم قوته، ولم يذوقوا في الأيام الثلاثة سوى الماء.
فرآهم النبيّ صلّى الله عليه وآله في اليوم الرابع وهم يرتعشون من الجوع، وفاطمة عليها السّلام قد التصق بطنها بظهرها من شدة الجوع وغارت عينُها، فقال صلّى الله عليه وآله: واغوثاه يا اَلله! أهلُ محمّد يموتون جوعاً ؟! فهبط جبرئيل، فقال: خذ ما هنّأك الله تعالى به في أهل بيتك، فقال: وما آخذُ يا جبرئيل ؟ فأقرأه هل أتى (44).
لم يتحدّد الدليل الشرعي لإبراز أفضليّة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بخصوص جهد الرسول صلّى الله عليه وآله والكلام الذي كان يصدر منه بحق الإمام علي عليه السّلام، وإنّما رافق ذلك نزول الكثير من الآيات القرآنية التي تكفلت بظهور مناقب علي عليه السّلام.
والملاحِظ لكلّ النصوص سيجد أنها من وجه قد سلّطت الضوء على أفضلية الإمام عليّ عليه السّلام على الصحابة، لا من باب عَقْد المقارنة فحسب، وإنّما تتسع النصوص لأكثر من هذا المعنى فتشمل بمقصودها أن عليّاً بمؤهلاته القدسيّة هو الإنسانُ المُعَدّ لتولّي الإمامة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله لا سواه.
وبغضّ النظر عن العصمة والعلم الحضوري الذي يمتلكه الإمام أو المعاجز والكرامات التي كانت تظهر على يديه، دون غيره، يبقى علي عليه السّلام بقدراته وعلومه وصفاته الأفضلَ من الصحابة، حتّى على فرض مقياس مدرسة الخلفاء التي تنظر للإمام عليّ عليه السّلام كصحابيٍّ ليس إلاّ.
من هنا سنتناول موضوع أفضليّة الإمام عليّ عليه السّلام على الصحابة ضمن عدّة أُمور، ومن خلال روايات أهل السنّة!
الأمر الأوّل: مظاهر من شخصية الإمام عليّ عليه السّلام:
إنّ سلوك الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام وملامحه الربّانية تشكل النموذجَ الإلهيّ والقدوةَ الحسنة.
ولا يمكن أن نتوصل إلى الأعماق والأسرار التي يحملها هذا النموذج عبر انتقاء بعض مظاهره العلمية أو السلوكية.
لكن المشاهِد حتّى لو وقف على بعض مظاهره لكفاه دليلاً على أفضلية الإمام عليه السّلام على الصحابة، لا في ميدان محدّد، بل في كل الميادين، بحيث لا يبقى مع ذلك أدنى شك أن الإمام عليّاً عليه السّلام لا يضاهيه أحد من الصحابة، وإليك بعض مظاهر شخصيته عليه السّلام:
1 ـ مظاهر شخصية الإمام عليّ عليه السّلام في الجانب العلميّ:
من الثابت أن الإمام عليّاً عليه السّلام كان أعلمَ الصحابة، وقد بلغ الكمال العلمي عند الإمام عليّ عليه السّلام إلى درجة حتّى قال عنه الرسول صلّى الله عليه وآله: « أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها » (1). ولم يقل الرسول صلّى الله عليه وآله مثل هذا القول لأحد من الصحابة.
ويؤكد ذلك قولُه عليه السّلام: « علّمني رسولُ الله صلّى الله عليه وآله ألفَ باب من العلم، يُفتَح لي من كلّ بابٍ ألفُ باب » (2).
وتفوّقُ الإمام علي عليه السّلام بعلمه الإلهيّ الذي اختُصّ به دعاه أن يقول: « لو كُشِف ليَ الغطاء ما ازددتُ يقيناً » (3).
وتصريحه عليه السّلام بأن العلم الذي يحمله كبير لا يقوى على حمله أحد من الصحابة: « ها إنّ ها هنا لَعِلماً جَمّاً، لو أصبتُ له حَمَلة! ـ وأشار إلى صدره ـ » (4).
فهذه الأقوال تدل بكل وضوح على أن الإمام عليّاً عليه السّلام بلغ من العلم مرتبة لا يمكن لأحد من الخلق أن يبلغها سوى رسول الله صلّى الله عليه وآله.
وإلى هذا أشار عليه السّلام بقوله: « بل اندمجتُ على مكنون علمٍ لو بُحتُ به لأضطربتمُ آضطرابَ الأرشية في الطوى (5) البعيدة » (6).
وعن أبي الطفيل قال: شهدت عليّاً يقول: « سَلُوني، والله لا تسألوني عن شيءٍ إلا أخبرتُكم، وسلوني عن كتاب الله، فواللهِ ما مِن آيةٍ إلاّ وأنا أعلمُ أبِليلٍ نزلت أم بنهار، في سهلٍ أم في جبل » (7).
وعن سعيد بن المسيب أنه قال: « لم يكن أحد من صحابة رسول الله يقول: سلوني، إلاّ عليّاً » (8).
وقد شهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وفي أكثر من مرّة بأفضليّة « الإمام عليٍّ عليه عليه السّلام » وتفوّقه العلمي على كلّ الصحابة.
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله لفاطمة الزهراء عليها السّلام: « أما تَرضينَ أن أُزوّجكِ أقْدمَ أُمّتي سِلماً، وأكثرَهم عِلماً، وأعظمَهم حِلْماً » (9).
وقال صلّى الله عليه وآله: « أعلمُ اُمّتي من بعدي عليُّ بن أبي طالب » (10).
وقال صلّى الله عليه وآله: « عليٌّ وعاء علمي، ووصيّي، وبابيَ الذي أُوتى منه » (11).
وقال صلّى الله عليه وآله: « عليٌّ باب علمي، ومبيّنٌ لأُمّتي ما أُرسِلتُ به مِن بعدي » (12).
وقال صلّى الله عليه وآله: « أعلم اُمّتي بالسنّة والقضاء بعدي عليُّ بن أبي طالب » (13).
وقال صلّى الله عليه وآله: « أنتَ تُبيّن لأُمّتي ما آختلفوا فيه بعدي » (14).
وقال صلّى الله عليه وآله: « لِيُهنكَ العلمُ أبا الحسن، لقد شربتَ العلمَ شُرباً، ونهلتَه نهلاً » (15).
2 ـ مظاهر شخصية الإمام عليّ عليه السّلام في الجانب الإيمانيّ:
هذه الصفحة من حياة الإمام عليّ عليه السّلام قد منح فيها زخماً معنوياً ورسم فيها صورة عالية للأجيال، وسجل فيها الأسبقية على الصحابة قاطبة.
فقوّة الإيمان ميزة ينفرد بها علي عليه السّلام وقد تجسدت في صور شتى، ففي العبادة هو المثال، فقد جاء في تفسير قوله تعالى: تَراهُم رُكَّعاً سُجَّداً (16) على أنها نزلت في عليّ عليه السّلام (17).
وقال بهذا الصدد: « صلّيتُ مع رسول الله صلّى الله عليه وآله قبلَ الناس سبعَ سنين، وأنا أوّلُ مَن صلّى معه » (18).
وقال عليه السّلام: « ما أعرفُ أحداً من هذه الاُمّة عَبَدَ الله بعد نبيِّنا غيري... » (19).
وقال عليه السّلام: « أسلمتُ قبل إسلام الناس، وصلّيتُ قبل صلاتهم » (20).
فكان الإمام عليّ عليه السّلام أعبدَ الناس وأكثرَهم صلاةً وصوماً، ومنه تعلّم الناس صلاةَ الليل وملازمةَ الأوراد، وقيام النافلة، وما ظنُّك برجل يبلغ من محافظته على وِرْده أن يُبسَطَ له نطعٌ بين الصفَّين ليلة الهرير، فيصلي عليه ورده والسهامُ تقع بين يديه وتمرّ على صِماخَيه يميناً وشمالاً،فلا يرتاع لذلك، ولا يقوم حتّى يفرغ من وظيفته ؟ وما ظنُّك برجلٍ كانت جبهته كثِفْنة البعير لطول سجوده ؟ (21).
وقيل لعليّ بن الحسين زين العابدين عليه السّلام ـ وكان قد بلغ الغايةَ في العبادة ـ: أين عبادتك من عبادة جدك ؟
قال عليه السّلام: « عبادتي من عبادة جَدّي كعبادة جَدّي من عبادة رسول الله صلّى الله عليه وآله » (22).
أمّا في مظاهر الإيمان الأُخرى فنجده عليه السّلام القمّة في النزاهة والخلق الإلهيّ، وأنه المثل القرآني الذي ساقه لمعنى الصدق، فقد قال تعالى: والذين آمنوا بالله ورسله اُولئك هم الصدّيقون (23).
وهذه الآية حسب رواية أحمد بن حنبل أنّها نزلت في الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام (24).
وهناك آيات كثيرة تشهد بأن الإمام عليّاً عليه السّلام هو النموذجَ الحيَّ لمعنى الإيمان، فقد قال تعالى: أجَعَلْتُم سِقايةَ الحاجِّ وعِمارةَ المَسجدِ الحَرامِ كَمَنْ آمنَ باللهِ واليومِ الآخِر وجاهَدَ في سبيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عندَ اللهِ واللهُ لا يَهدي القومَ الظالمين (25).
هذه الآية وما بعدها نزلت في حقّ « علي » لمّا افتخر طلحة بن شيبة والعباس، فقال طلحة: أنا أولى بالبيت، لأن المفتاح بيدي، وقال العباس: أنا أولى، أنا صاحب السقاية والقائم عليها، فقال علي عليه السّلام: « أنا أوّل الناس إيماناً، وأكثرهم جهاداً »، فأنزل الله تعالى هذه الآية لبيان أفضليّة الإمام عليِّ بن أبي طالب عليه السّلام عليهما (26).
وقال تعالى: أفمَن كانَ مُؤمناً كمَنْ كان فاسقاً لا يَسْتَوُون (27) المؤمن عليّ عليه السّلام، والفاسق الوليد (28).
بهذه الآية يقدّم القرآن الكريم للناس نموذجه الإيمانيّ المتمثل في الإمام عليّ عليه السّلام.
وأُولوا الأرحامِ بعضُهم أَولى ببعضٍ في كتابِ اللهِ مِن المؤمنينَ والمُهاجرين (29).
ذهب جملة من المفسرين على أن الآية منطبقة في الإمام عليٍّ عليه السّلام؛ لأنّه كان مهاجراً ذا رحم (30).
كما بيّن رسول الله صلّى الله عليه وآله للناس وفي أكثر من موضع مدى تسليم الإمام عليٍّ للرسالة وتعاليمها، وسابقتَه في الإسلام، وأنّه الإنسان القادر بقوّة إيمانه على حلّ المشكلات عند التباسها.
روي عن أبي ذرّ، حيث قال: دخَلْنا على رسول الله صلّى الله عليه وآله فقلنا: مَن أحبُّ أصحابك إليك، إن كان أمرٌ كُنّا معه، وإن كانت نائبة كنّا مِن دونه ؟
قال: « عليّ أقدمُكم سِلْماً وإسلاماً » (31).
نكتفي بهذا القدر من الأدلة الكاشفة عن قوة إيمان الإمام عليّ عليه السّلام وأفضليّته، لنرى جانبه الجهاديّ.
3 ـ مظاهر شخصية الإمام عليّ عليه السّلام في الجانب الجهادي:
أما الجهاد عند الإمام عليّ عليه السّلام، فالخوض في إثباته يجري مجرى إيضاح الواضحات وتقرير البديهيات، فإنّه لا خلاف بين جميع المسلمين وغيرهم أن الإمام عليّاً عليه السّلام في جهاده كان أشجعَ الصحابة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وأكثرَهم إقداماً، وإن كانت الشجاعة وحبّ الجهاد عند الصحابة ظاهرة بارزة في حياتهم، إلاّ أنها عند الإمام عليّ عليه السّلام تبدو قيمتها أكثر جلاءً في المهمات الصعبة وعند تراجع الآخرين وعدم قدرتهم على تجاوزها، فيتقدم الإمام عليّ عليه السّلام بتفوّقه الإلهيّ لفكّ الطوق عن المسلمين، وهذا ما تشهد به المعارك التي خاضها ضدّ المشركين وأهلِ الكتاب في بدرٍ والأحزاب وخيبر وحنين وغيرها.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله يومَ خيبر: « لأَدفعنّ الرايةَ إلى رجل يحبُّ اللهَ ورسولَه، ويفتح الله عليه، قال عمر: فما أحببتُ الإمارة قطّ قبلَ يومئذٍ، فدفعها إلى عليّ قال: قال: ولا تلتفت، فسار قريباً، قال: يا رسول الله، علامَ نقاتل ؟
قال صلّى الله عليه وآله: على أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عَصَموا دماءهم وأموالَهم إلاّ بحقها، وحسابُهم على الله تعالى » (32).
وفي غزوة الخندق: ضرب الإمام عليّ عليه السّلام أروع مثالٍ لنصرة الحق، وتميّزَ به عن غيره من الصحابة، وقد عزّز الرسولُ صلّى الله عليه وآله قيمةَ هذا الحدث العظيم عندما صرّح بأن الإمام يمثّل جانبَ الحقّ كلِّه، فقد روى الجمهور:
أنه لما برز عمرو بن عبد ودّ العامري في غزوة الخندق، وقد عجز عنه المسلمون، قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: « برَز الإيمانُ كلُّه إلى الشِّركِ كلِّه » (33).
ونقل أحمد بن حنبل في مسنده، قال: خطب الإمامُ الحسن عليه السّلام فقال: « لقد فارقَكُم رجلٌ بالأمس لم يَسبقْه الأوّلون بعلم، ولا يُدركه الآخِرون، كان رسولُ الله صلّى الله عليه وآله يبعثه بالراية، جبرئيلُ عن يمينه وميكائيلُ عن شماله، لا ينصرف حتّى يُفتَح له » (34).
وروى الخوارزميّ قال: حدثنا عبيدالله بن عائشة عن أبيه قال: « كان المشركون إذا أبصروا عليّاً في الحرب، عَهِد بعضُهم إلى بعض » (35).
وعن جابر بن عبدالله قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول يوم الحديبيّة ـ وهو آخذٌ بضِبْع عليّ بن أبي طالب ـ يقول: هذا أمير البررة، وقاتل الفجرة، منصورٌ مَن نَصَره، مخذولٌ مَن خَذَله. ثم مدّ بها صوته وقال: أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها، فمن أراد الدارَ فلْيأتِ الباب » (36).
وعن ابن عبّاس قال: « كان المهاجرون يوم بدرٍ سبعةً وسبعين رجلاً، وكان الأنصار مائتين وستة وثلاثين رجلاً، وكان صاحب راية رسول الله صلّى الله عليه وآله عليّ ابن أبي طالب، وصاحب راية الأنصار سعد بن عُبادة » (37).
وعن ابن عباس قال: « إن راية المهاجرين كانت مع عليّ عليه السّلام في المواقف كلِّها: يوم بدر ويوم أُحد ويوم خيبر ويوم الأحزاب ويوم فتح مكة، ولم تزل معه في المواقف كلِّها » (38).
ويحدثنا الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام عن صُحبته لرسول الله صلّى الله عليه وآله عندما عزما على كسر الأصنام التي كانت فوق الكعبة وقد صعد عليه السّلام على مَنكِبَي رسول الله صلّى الله عليه وآله:
قال عليّ عليه السّلام: « إنطلقتُ مع رسول الله صلّى الله عليه وآله حتّى أتينا الكعبة، فصعد رسولُ الله صلّى الله عليه وآله على مَنْكِبي ثمّ قال صلّى الله عليه وآله: إنهض. فنهضت، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله ضَعفي قال لي: إجلْس. فجلست، فنزل النبيّ صلّى الله عليه وآله وجلس لي، وقال لي: إصعد على مَنْكِبي. فصَعِدتُ على مَنكِبَيه فنهض بي. فقال عليّ عليه السّلام: إنه يُخيَّل إليّ أنّي لو شئتُ لَنِلتُ أُفقَ السماء، فصعدت على الكعبة وعليها تمثال من صفر أو نحاس، فجعلت أعالجه لأُزيله يميناً وشمالاً وقداماً ومن بين يديه ومن خلفه، حتّى استمكنتُ منه، فقال نبيُّ الله: اِقذفْه، فقذفتُ به فكسرته كما يكسر القوارير، ثمّ نزلت فانطلقتُ أنا ورسول الله صلّى الله عليه وآله نستبق، حتّى توارينا بالبيوت؛ خشيةَ أن يلقانا أحد » (39).
وتتلخّص صورة سلوك الإمام عليّ عليه السّلام بكل جوانبها الإلهيّة عندما يشبّهه رسول الله صلّى الله عليه وآله بالأنبياء عليهم السّلام، فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « من أراد أن ينظر إلى آدمَ في علمه، وإلى نوحٍ في عزمه، وإلى إبراهيمَ في حِلْمه، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في زُهده؛ فلْينظُرْ إلى عليِّ بنِ أبي طالب » (40).
4ـ مظاهر شخصية الإمام عليّ عليه السّلام في الجانب السلوكيّ والأخلاقيّ:
ولا يقتصر تفوق الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام وتميّزه على الصحابة في الجوانب التي ذكرناها، وإنّما أمسى عليه السّلام بتجسيده لقيم الرسالة ومفاهيمها وأخلاقها النموذجَ والمثال الذي يثير العزيمة والهمم في نفوس الصحابة، مما كان موضع ثناء الحق سبحانه، وفيما يلي نقف على مفردات من سلوكه وأخلاقه التي تميّزه عن غيره:
1 ـ قال تعالى: ومِنَ الناسِ مَن يَشْري نفسَه آبتغاءَ مَرضاةِ الله (41).
إنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السّلام لمّا خلفه الرسول، عندما هاجر صلّى الله عليه وآله؛ لقضاء دينه وردّ ودايعه، فبات على فراشه، وأحاط المشركون بالدار، فأوحى الله إلى جبرائيل، وميكائيل: إني قد آخيتُ بينكما، وجعلت عُمْرَ أحدِكما أطولَ من الآخر، فأيُّكما يُؤْثر صاحبَه بالحياة ؟ فاختار كلٌّ منهما الحياة، فأوحى الله إليهما: ألا كُنتما مثلَ عليّ بن أبي طالب، آخيتُ بينه وبين محمّد، فبات على فراشه، يفديه بنفسه ويُؤْثِره بالحياة ؟ إهبطا إلى الأرض، فاحفظاه من عدوّه. فنزلا فكان جبرائيل عند رجليه، فقال جبرائيل: بخٍ بخٍ، مَن مِثْلُك يآبنَ أبي طالب! يُباهي الله بك الملائكة » (42).
2 ـ ويُطعِمونَ الطعامَ على حُبِّهِ مِسكيناً ويَتيماً وأسيراً * إنّما نُطعِمُكم لوجهِ اللهِ لا نُريد مِنكُم جَزاءً ولا شُكُوراً (43).
روى الجمهور: أن الحسنَ والحسين مَرِضا، فعادهما رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وعامّة العرب، فنذر عليٌّ صوم ثلاثة أيام، وكذا أُمُّهما فاطمة عليها السّلام وخادمتهم فضّة، لئن بَرِئا، وليس عند آل محمد صلّى الله عليه وآله قليل ولا كثير، فاستقرض أميرُ المؤمنين عليه السّلام ثلاثةَ أصوعٍ من شعير، وطحنت فاطمة منها صاعاً، فخبزته أقراصاً لكل واحد قرص، وصلّى عليٌّ المغرب ثم أتى المنزل، فوُضع بين يديه للإفطار، فأتاهم مسكين وسألهم، فأعطاه كلٌّ منهم قُوتَه، ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئاً.
ثم صاموا اليوم الثاني، فخبزت فاطمة صاعاً آخر، فلما قدمته بين أيديهم للإفطار أتاهم يتيم، وسألهم القوت فتصدق كل منهم بقوته.
فلما كان اليوم الثالث من صومهم وقُدّم الطعام للإفطار، أتاهم أسير وسألهم القوت، فأعطاه كل منهم قوته، ولم يذوقوا في الأيام الثلاثة سوى الماء.
فرآهم النبيّ صلّى الله عليه وآله في اليوم الرابع وهم يرتعشون من الجوع، وفاطمة عليها السّلام قد التصق بطنها بظهرها من شدة الجوع وغارت عينُها، فقال صلّى الله عليه وآله: واغوثاه يا اَلله! أهلُ محمّد يموتون جوعاً ؟! فهبط جبرئيل، فقال: خذ ما هنّأك الله تعالى به في أهل بيتك، فقال: وما آخذُ يا جبرئيل ؟ فأقرأه هل أتى (44).
تعليق