إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مرآة الرشاد في الوصيّة إلى الأحبة و الذريّة و الأولاد

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مرآة الرشاد في الوصيّة إلى الأحبة و الذريّة و الأولاد

    مرآة الرشاد في الوصيّة إلى الأحبة و الذريّة و الأولاد

    بسم الله الرحمن الرحيم
    وبه نستعين

    الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على نبيّه الأمين، وآله الغُرّ الميامين.
    وبعد؛
    يقول العبد الضعيف الفاني؛ عبدالله الشريف المامقاني عفى عنه ربّه ابن الشيخ قُدّس سرّه: إنّي لما وجدت قِصَر الأعمار، وعدم اعتبار الآجال، ووجدت الأجل إذا جاء لا يُمهل، والموت إذا فاجأ لا يُستقدَم ولا يُستأخَر، وخِفتُ أن يُدركني الأجل قبل تربية ولَدي وفلذة كبدي سَمِيّ والدي محمّد حسن (1) ـ أحسن الله سبحانه حاله في الدارين، ووفقه لتحصيل الملَكتَين (2)، وأعزَّ به الدين، وشيّد به الشرع المبين ـ فرأيت أن أُفرد رسالة تتضمّن وصاياي إليه وإلى سائر ذريتي وأحبائي ممّا يدور مدار الإلتزام به كماله، وصلاح دارَيه.
    وأرجو من كافّة ذرّيتي ـ ما لم ينقرضوا ـ وسائر إخوان الدين العمل بها، ومَن ترك مِن ذرّيتي مراجعة هذه الرسالة في كل أسبوع [ مرة ] أو شهر مرة إلى أن يصير جميع ما فيها له مَلَكة فهو عاقّ عليّ، وأراه لا يُفلح ولا يرى الخير، ومَن حصل منهم مَلَكة بعضها، فعليه بمراجعة الباقي إلى أن يصير الجميع له ملكة.
    ومَن لم يخالفني في هذه الوصية فأسأل الجليل ـ عزّ شأنه ـ أن يصلح له شأن دارَيه، ولا يُريه مكروهاً، ويَمدّ له في العمر السعيد، ويمتّع له بالعيش الرغيد.
    وأسأل الكريم الوهّاب أن ينفعني وإيّاه بها يوم الحساب، الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون.. وسمّيتها بـ: « مرآة الرشاد في الوصية إلى الأحبة والذرّية والأولاد »
    وقد رتّبتها على فصول:
    الفصل الأول
    في نُبَذ يسيرة ممّا يرجع إلى الأُصول الخمسة إجمالاً
    إعلم بُنيّ ـ هداك الله سبحانه إلى سواء الصراط، وجنّبك المعاصي والزلاّت ـ أنّ أوّل ما يجب عليك أن تنظر في أصول دينك، وتُحكِم بالأدلّة القطعيّة بنيانَ اعتقادك ويقينك في خالقك.. وأنبيائه.. وأوليائه، لعدم كونك سُدى كالحيوانات.
    وليس غرضي من ذلك الاشتغال بعلمَي الكلام والحكمة، ومراجعة كتبهما، بل أنهاك عن مراجعتها ـ قبل الكمال ـ أشدّ المنع، لأنّ فيها سوفسطائية ربّما تُوقعك في الهاوية، بل ورد النصّ من أهل البيت عليهم السلام بالمنع عن مطلق مراجعتهما (3)، بل غرضي مراجعة كتب العقائد للفاضل المجلسي قدّس سرّه.. ونحوها، وبناء عقائدك على براهين مُورِثة لليقين..
    وكفاك في إثبات الصانع ما تراه من الآثار والعجائب وتدبير العالم، فإنّ الأثر لابدّ له من مؤثّر.
    ولقد أجاد من قال:
    ولله فـي كلِّ تحـريكـةٍوفي كلّ تسكينة شـاهـدُ
    وفي كلّ شيءٍ لـه آيـةتـدلّ عـلى أنـّه واحدُ
    وقال آخر:
    وفي الأرض آيات فلا تَكُ منكِراًفعجـائب الأشيـاء مـن آياتـهِ
    وإلى هذا المعنى أشار رئيس الموحّدين أمير المؤمنين عليه آلاف الصلاة والسّلام بقوله ـ في بعض خطبه ـ: « [ لقد ] زعموا أنّهم كالنبات ما لهم زارع، ولا لاختلاف صورهم صانع، لم يلجأوا إلى حجّة فيما ادّعَوا، ولا تحقيق لما أوعَوا، وهل يكون بناء مِن غير بانٍ، أو جناية من غير جان » (4).
    وغرضه عليه السّلام بذلك المقايسةُ بالمحسوسات، وتعليم طريق الاستدلال؛ بجعل منكِر الصانع مدّعياً لمخالفة قوله الظاهر ـ وهو توقّف حصول الأثر على وجود المؤثّر ـ وجعل المنكر مدّعياً من ألطف آداب المناظرة.. لغَناء المنكر حينئذ عن تكلّف الاستدلال والنظر.. ففيما نحن فيه على مدّعي حصول هذه الآثار من غير مؤثّر إقامة البرهان، ونحن مستريحون من ذلك، لاستكشافنا وجود المؤثّر من وجود الآثار، وهذا المسلك مركوز في الأذهان، ولذا ترى الأعرابيَّ استكشف وجود الباري تعالى بهذا الطريق، فقال: البعرة تدلّ على البعير، وأثر الأقدام على المسير، أفَسماءٌ ذات أبراج.. وأرض ذات فِجاج.. لا تدلاّن على اللطيف الخبير ؟! وكذلك صنعتِ العجوز (5)، حتّى أُمرنا بالأخذ بدينها من حيث كون استدلالها بالآثار من أقوم السبل، وأمتن المسالك في إثبات الصانع.
    ويكفيك بُنيّ ـ جنّبك الله تعالى من الشرك والنفاق ـ في إثبات وحدة الصانع جَلّ ذكره استقلال العقل باستلزام تعدّد الآلهة اختلافهما المؤدّي إلى فساد العالم، وعدم الانتظام، كما أرشدك الله تعالى إلى ذلك بقوله جَلّ ذكره: لَوْ كَانَ فِيهمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدتَا (6) وقوله عزّ من قائل: مَا آتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إلهٍ إذاً لَذَهَبَ كُلُّ إلهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ (7)..
    وهداك إليه أمير الموحّدين صلوات الله عليه بقوله:«لو كان معه إله آخر لأتتْك رسلُه» (8).
    فعلَّم عليه السّلام أيضاً طريق الاستدلال بجعل منكِر الوحدة مدّعياً من حيث كشف عدم الأثر ـ يعني عدم إتيان الرسل من قِبَل إله آخر ـ عدم إله آخر، فمدّعي وجود إله آخر يحتاج إلى البرهان، وأنَّى له بذلك ؟!
    وإنْ شئت قلت: إنّه لو تعدّدت الآلهة للزم تميّز كلّ منهما عن الآخر، ومع التميّز فالاشتراك في جميع الآثار غير معقول، لعدم تعقّل كَون ما به الامتياز نفس ما به الإشتراك، ففقد آثار التعدد يكشف عن الوحدة؛ ضرورة أنّه لو توقّفت الصانعيّة عليهما معاً، لزم عدم كفاية أحدهما أوّلاً، وهو نقص في كليهما معاً، والاختلاف بينهما ثانياً، ولو كفى كلّ منهما في الصانعيّة خرج الآخر عن قوّة الصانعية التامّة.. وذلك فاسد.
    ويكفيك بُنيّ ـ وفّقك الله تعالى للإخلاص واليقين به ـ في نفي الصفات السلبية عنه أنها نقائص، والناقص لا يكون واجبَ الوجود..
    وقد أرشدك إلى برهان ذلك أمير المؤمنين عليه السّلام في بعض خطبه (9) بقوله: «كمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نَفْيُ الصفات عنه، لِشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف».
    ويكفيك بُنيّ ـ أرشدك الله جلّ شأنه إلى الصواب ـ في إثبات النبوّة المطلقة، قضاء ضرورة العقل من باب لزوم اللطف على الحكيم بلزوم واسطة بين الخالق ـ الذي هو فيض محض ـ وبين المخلوقات المحتاجين إلى الفيض، يرشدهم من قِبله تعالى بأمرٍ منه سبحانه وتعيين منه جَلّ شأنه إلى منافعهم، ويزجرهم عن مضارّهم، ويخبرهم بأوامره ونواهيه.. ضرورةَ عدم إمكان وصول أحد من الناس إلى درك المضارّ والمنافع ـ التي لا يدركها إلاّ الحكيم تعالى ـ إلاّ بالوحي والإلهام منه تعالى، وحصول الوحي لا يمكن بالنسبة إلى آحاد الناس المتوغّلين في الشهوات النفسيّة المانعة من الالتفات إلى المبادئ العالية، فلا يليق هذا المنصب إلاّ بمن لم يكن في نوم الغفلة وسكر الهوى، ولم يكن أسيراً للنفس الأمَّارة، ولا في دار الظلمة طالباً للراحة، ولا مُفنياً للعمر بالبطالة.. بل أكمل بالروحانيّات والمجاهدات نفسَه، وغلب عليها عقله، واختصّ من بين الناس لذلك بالتوجّهات الخاصّة الإلهيّة، وتشرّف بمنصب النبوّة والرسالة.
    ولا ريب في أنّ معرفة النبيّ والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لا تمكن للآحاد بالوحي من ربّ الأرباب، فلابدّ من إقامة المعجزة لإثبات النبوّة حتّى تكشف عن ربطٍ خاصّ بين صاحبها وبين واجب الوجود، وامتيازه عن غيره بمنصب من الخالق المعبود.
    ويكفيك بُنيّ ـ حفظك الله تعالى من الشرور ـ في إثبات النبوّة الخاصّة.. قضاء الضرورة بأنّ محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم ابن عبدالله الهاشميّ القرشيّ الجامع لصفات الكمال كافّة صلوات الله عليه وآله قد ادّعى النبوّة بمكّة؛ ودعا الناس إلى توحيد الله جَلّ شأنه، ونبوّةِ نفسه، وكونِه خاتم الأنبياء، وأظهر معجزات كثيرة على دعواه..
    يكفيك منها القرآن المجيد، وحيث إنّ إظهار المعجزات على يد الكاذب قبيح على الله تعالى وتقدّس، يحكم العقل بأنّه كان صادقاً.. فإذا ثبتت نبوّته، علمنا بنبوّة مائة ألف نبيّ وأربعة وعشرين ألف نبيّ هو خاتمهم بإخباره صلّى الله عليه وآله.
    وأما بيان كيفيّة كَون القرآن الشريف معجزة.. فهو أنّه صلّى الله عليه وآله خَيّر أهل خَبَرة لسان العرب، والعارفين بنكات الفصاحة والبلاغة؛ بين أن يأتوا بسورة من مِثل القرآن، وبين أن يُذعنوا بنبوّته، أو يحاربهم ويقتلهم ويتملّك أموالهم ويأسر عيالهم.. فلو لم يعجزوا عن الإتيان بمثله لأتوا به وخلّصوا أنفسهم وأموالهم وأعراضهم من قيد الإطاعة والعبوديّة، والتلف والسَّرَف، فالتزام جمعٍ منهم بالرقّيّة والإطاعة، وآخرين بالحرب والقتل والنهب والأسر، يكشف عن عجزهم عن الإتيان بمثله.
    وتوهّمُ أنّ المعجزة لا تتحقّق في الكلام.. غلط فاحش، ضرورة أن المعجزة هي ما يعجز عنه البشر لكَونه خارقاً للعادة، وينكشف لذلك كَونه عن ربط واجب الوجود خاصّ، وعُلقة به مخصوصة، والمدار في كون شيء خارقاً للعادة اعتراف أهل الخبرة بذلك، كاعتراف السَّحَرة بالعجز عن إتيان مثل عصا موسى عليه السّلام. فأهل خبرة الكلام القادرين على إنشاء التركيبات الرشيقة، والتأليفات الدقيقة الرقيقة، المحتوية على حلاوة اللفظ ولطافة المعنى، إذا اعترفوا قَولاً أو فِعلاً بعجزهم عن الإتيان بسورة من مثله، المُريح لهم عن تكاليف الآتي بالقرآن، وأزالوا المعلّقات السبع عن البيت.. ثبت عندنا كَونه معجزة له على الأمّة، وكفى بذلك حُجّة بديعة.
    وأما الولاية المطلقة؛ فيكفي برهاناً لها نظير برهان النبوّة المطلقة بعد ثبوت كَون نبيّنا صلّى الله عليه وآله خاتم الأنبياء.
    وأما الولاية الخاصّة؛ فطريقها الأخبار الصريحة المتواترة عن النّبي صلّى الله عليه وآله بخلافة عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام بلا فصل، وبعده أحد عشر من ذريته الأطهار.. واحداً بعد واحد عليهم السّلام، مضافاً إلى الكرامات الكثيرة الصادرة من كلٍّ منهم.
    ومكابرة أهل العناد في دلالة الأخبار مدفوعة بما سُطِّر في الكتب المعدّة لذلك.
    ولَعَمري إنّ إمامة الأئمّة الاثني عشر بلغت في الوضوح إلى حدٍّ لا أظنّ ارتياب الخصم أيضاً في ضميره؛ وإنّ علماءهم ما بين شيعيّ في الباطن أو كافر بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم. أو مانع له جهله المطبق.. نعوذ بالله من الجهل ومن غلبة الهوى.
    وأما المعاد؛ فالّذي اتّفق عليه أهل المِلل إجمالاً هو الإذعان به وعدم إنكارهم له، وإن اختلف الحكماء والمتكلّمون في تفاصيله، ولا يمكن تكليف عامّة الناس بالعِلم بتفاصيله، بل يكفي الاعتقاد بإجماله، والآيات ناطقة به هادية إلى طريق إقامة البرهان عليه، والأخبار به متواترة، بل العقل مستقلّ إجمالاً بلزوم مجازاة العدل الحكيم للأعمال بهذه الأبدان والجوارح الصادرة منها الأفعال، حتّى لا تَزِر وازرةٌ وِزْرَ أُخرى.
    وفَناءُ جسمٍ لا ينافي عَودَه بعينه.. بعد قدرة الباري ـ تعالى جَلّ ذِكره ـ على أن يُحييَ العظام وهي رميم؛ ضرورة أنّ إحياءها عيناً ليس بأصعب من إنشائها أول مرّة من العدم الصرف، كما لوّح تعالى إلى ذلك (10).
    وأيضاً يحكم العقل بلزوم كون المُعاد ـ بضم الميم ـ عين الجسم الصادر منه الأعمال، والأخبار الناطقة بذلك أيضاً متواترة، ودلالتها واضحة. وتأويلُها ورفع اليد عن ظواهرها يوجب الاستهجان في كلام المُخبِر الصادق، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، وشَرْح ذلك يُطلَب من مظانّه.
    الفصل الثاني
    في الحث على طاعة الله سبحانه، والتحذير من المعصية والكسل
    وصرف العمر فيما لا ينبغي.. وجُملة أخرى من الوصايا
    اعلم بُنيّ ـ وفّقك الله جَلّ شأنه لطاعته، وعَصَمك من مخالفته ـ أنّ الله سبحانه وتعالى يحبّ كافّة مخلوقاته حُبّاً شديداً، كما هو الشأن في كلّ صانع بالنسبة إلى صنعته، وأنّه عَزّ وجلّ إنّما أوجب الواجبات، وسَنّ المستحبات والآداب، وحرّم المحرّمات، ونزّه عن المكروهات.. جلباً للمصالح إلى عباده، ودفعاً للمضارّ عنهم، وإلاّ فلا يضرّه عصيان العاصي، ولا تنفعه طاعة المطيع، ولقد أجاد من قال: ـ ما معناه ـ [ لا يضرّ كبرياءَ ه وجلاله سُبحانه كفرُ جميع الكائنات ] (11).
    لأنه تعالى غنيّ على الإطلاق، وإنّما مقصده من تشريع الأحكام إصلاح حال العباد، وإيصال النفع إليهم، ودفع الضرر عنهم في المبدأ والمعاد. وإذا كان كذلك فتَرْك الانقياد لأوامره ونواهيه ـ مع كَونه مخالفاً للعقل المستقلّ بوجوب شكر المنعم وإطاعة المولى ـ يكون سَفَهاً، لكَونه تركاً لما يرجع نفعُه إلى النفس، وإدخالاً للضرر على النفس، وتفويتاً للمنافع عليها وظلماً لها.
    فإيّاك بُنيّ والعصيان، فإنّه يجلب إليك خِذلان الدّنيا وعذاب الآخرة.. ألا ترى إلى جدّنا آدم عليه السّلام بخطيئة واحدة طُرد من الجنّة ولقد أجاد من قال ـ ما معناه ـ: [عندما كان أبوك آدم عليه السّلام في مقام القُرب من الجنّة استحقّ سجود الملائكة له، لكنّه استحقّ الاخراج منها بذنبٍ واحد هو تركه الأولى].
    وألحقتُ به قولي ـ الذي تعريبه ـ : [ ما دام الوقت متّسعاً لك أيّها السيّد المحترم، فعليك بالمبادرة إلى التوبة كي تغسل ما عليك من أدران الذنوب، وتصبح محفوظاً من عواقب عصيانك ] (12).
    وإيّاك بُنيّ والكسلَ والبطالة ومقدّماتهما، فقد قيل: إنّ الشيطان والنفس الأمّارة إذا عجزا عن أن يُزيّنا القبيح ويقبّحا الحسن من الأعمال، تَوجّها إلى إعمال ما يؤدّي إلى الكسل والبطالة ممّا هو زائد على مقدار الضرورة والحاجة.. من الأكل والشرب والنوم والراحة وجمع المال وصرف الأوقات في التفرّجات والتنفسات والمخالطات والمكالمات وغيرها، فيزيّنانِ كلّ واحد منها حتّى يرتكبه العبد، ويحصل له منه الكسالة والبطالة، وتضييع الوقات الشريفة.
    وإيّاك بُنيّ وصَرفَ العمر فيما لا ينبغي ولا ينفعك في الآخرة، لأنّ كلّ آنٍ من آنات عمرك جوهرة ثمينة، بل أعزّ منها، لإمكان تحصيل الجوهرة بالكسب والكدّ دون العمر، فإنّ الأجل إذا جاء لا يستأجر ساعة.. فإيّاك ـ بُنيّ ـ من إذهاب هذه الجوهرة هدراً وضياعاً ولقد أجاد القائل ـ ما معناه ـ: [ يا ليتك كنت تعرف قيمة أنفاسك، كي تغتنم ما بقي من عمرك ].
    وقول الآخر ـ ما معناه ـ: لو كنتَ تعلم ما هناك من عواقب تنتظرك، لما سمحت لك الفرصة أن تخلل شَعر رأسك. وكلّ ما في الوجود له ما يعوّضه ويسدّ مسدّه ممّا يحقّق لك الغرض الذي تتوخّاه منه، وهل تعلم أنّ الذي لا عوض له في هذا العالم ما هو ؟ ذاك هو العمر فاعرِف قدره جيّداً ! ] (13).
    واغتنم بُنيّ شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وقوّتك قبل ضعفك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك (14).
    فبـادِرْ شبابكَ أن تـهرمـاوصحّةَ جسمك أن يسقـمـا
    وأيّـامَ عمرك قبل الممـاتفما كُلّ مَن عاش أن يسلمـا
    وقـدّم فكـلُّ امـرئٍ قـادمٌعلى كـل مـا كان قد قدّما
    وقد ورد أنّ أهل الجنّة لا يندمون على شيء من أمور الدنيا إلاّ على ساعة مرّت بهم في الدّنيا لم يذكروا الله سبحانه فيها (15)، وأنّه ليس نفْس بَرّ ولا فاجر إلاّ وتلوم نفسها يوم القيامة، إنْ كانت عملت خيراً قالت: هلاّ ازددتُ حتّى أنال مرتبة أعلى من مرتبتي! وإنْ عَمِلت سوءً قالت: يا ليتني لم أفعل حتّى لا أُعذّب! (16).
    قال صلّى الله عليه وآله لأبي ذرّ: «كُن على عمرك أشحَّ منك على دِرهَمك ودينارك» (17).
    وورد أنّ « مِن أفضل الطاعات حفظ الأوقات ».. وأنّ « مَن ضيّع أيّام حرثه ندم أيّام حصاده » (18).
    وإلى ذلك أشار من قال: ـ ما معناه ـ: [ لا تحسب أنّك إذا بذرت شعيراً في هذا العالم تحصد حنطة ] (19). وقال آخر: ـ ما معناه ـ: [ إسعَ اليوم أن تبذر بذراً، إذ قد تعجز غداً من أن تحصل على شعير، ولو لم تهتمّ بهذه المزرعة اليوم، فلا ] (20).
    فاللهَ الله بُنيّ في عمرك فلا تضيّعه فيما لا ينفعك بعد الموت.
    وورد أنّ العاقلَ من يعمل في يومه لغده، قبل أن يخرج الأمر من يده، وأنّ الكيَّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق مَن أتبع نفسَه هواها وتمنّى على الله المغفرة (21).
    وما مَثَل مَن صرف عمره فيما لا ينفعه في الآخرة إلاّ مَثَل من ترك جواهر نفيسة ملقاة على وجه الأرض واشتغل بقلع أحجار وأخزاف منصوبة ومدفونة بمشقّة شديدة في قلعها ليلعب بها الأطفال.
    فيا ولدي، ويا نور بصري، وفلذة كبدي، اعرفْ قدر عمرك ولا تُفنِه فيما لا ينجيك.. ولا تكن كدود القزّ يسعى في هلاك نفسه.
    ثمّ أوصيك بُنيّ ـ وفّقك الله تعالى لكلّ خير، وجَنّبك من كلّ شرّ ـ بمكارم الأخلاق، ومحامد الأوصاف، وهي أمور: فمنها:
    حفظ اللّسان
    حفظ اللسان عمّا لا يعينك، فإنّ أكثر خطايا ابن آدم لسانه، وما من عضوٍ له ذنوب متعدّدة كثيرة مثل اللسان (22). وإنّ الصمت باب من أبواب الحكمة، فاحفظ لسانك إلاّ من خير يجرّك إلى الجنة.
    وقد ورد أنه لا يزال العبد المؤمن يُكتب محسناً ما دام ساكتاً (23).
    وأنّ من أراد سلامة الدارين فليحفظ لسانه (24).
    وهل يُكِبّ الناس على مناخرهم في النّار إلاّ حصائدُ ألسنتهم ؟! (25).
    وأنّه إذا أراد الله تعالى بعبد خيراً أعانه على حفظ لسانه، وشَغَله بُعيوبه عن عيوب غيره.
    وأنّ مَن قَلّ كلامه كَمل عقله وصفى قلبه، ومن كثر كلامه قَلّ عقله وقسا قلبه (26).
    وأنّه « لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه (27). لأنّ لسان المؤمن وراء قلبه، فإذا أراد أن يتكلّم يتدبّر الكلام، فإنْ كان خيراً أبداه، وإنْ كان شرّاً واراه، والمنافق قلبُه وراء لسانه، يتكلم بما أتى على لسانه ولا يُبالي ما عليه ممّا له » (28).
    وأنّ « الصمت لا يورث الندم »، و «رُب كلام يورث الندم في الدّنيا والآخرة» (29). وأنّ « المرء مخبوء تحت لسانه » (30).
    فَزِنْ بُنيّ كلامك قبل أن تنطق به، واعرضه على العقل والمعرفة فإنْ كان لله وفي الله فتكلّم به، وإلاّ فالسكوتَ السكوت.. الصمت الصمت.. الخرس الخرس ولقد أجاد من قال ـ ما معناه ـ: [ إنّ اللسان أرسل الكثير إلى خشبة الإعدام؛ إذ كان اللسان لنا عدوّاً منذ القِدم ].
    وقال آخر ـ ما معناه ـ: [ قد أُعطيتَ أُذُنَين ولساناً واحداً، بمعنى أنّه يلزمك أن تسمع مرّتين وتتكلّم مرّة واحدة، أي يلزم أن يكون مسموعك أكثر من كلامك ] (31).
    وقد ورد أنّه ما من يوم إلاّ كلّ عضو من الأعضاء يخاطب اللّسان ويقول له: أقسمك بالله تعالى أن لا تلقني في العذاب (32).
    وقيل: إنّه خُلّي التكلّم والسكوت وطبعهما، فالكلام من فضّة والسكوت من ذهب. وعليه يُحمل قول مَن قال:
    إنْ كان مِنْ فضةٍ كلامُكِ يا نَفْسُ إنّ السكوت من ذهبِ
    نعم، قد يكون الكلام ذهباً لعارض والسكوت تراباً، كالتكلّم بالفقه والوعظ والآداب الشرعية والأخلاق المرضية، بل قد يكون السكوت سمّاً قتّالاً، كالسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرشاد المسترشد.. وفّقك الله تعالى لمراضيه، وجعل مستقبل حالك خيراً من ماضيه. ومنها:
    محاسبة النفس
    محاسبة النفس في كلّ ليلة، فعليك بُنيّ ـ رزقك الله تعالى خير الدارَين ـ بأن تحاسِب نفسك قبل أن تُحاسَب، فكما يحاسب التاجر عامله حتّى يعلم ما فعل في يومه، فحاسِبْ نفسك في كلّ ليلة قبل النوم حتّى تعلم ما فعلتَ فيها وفي النهار المتقدّم عليها.
    فإنْ رأيتَ منها تقصيراً ـ بفعل معصيةٍ أو تَرْك طاعة ـ فاستغفر منه وتُبْ وتضرّع إلى الله تعالى في العفو عنه، واجبر الفائت بالقضاء والاستغفار..
    وإنْ رأيت منها فُتوراً وبَطالة وغفلة وإضاعة لرأس المال، فأدّبها بسوط النصيحة والموعظة، وأَلزِمها طُرُق الطاعة، ثمّ راقبها كالتاجر حتّى لا تضيّع أوقاتها بالغفلة، ولا تبيعَ عمرها بثمن بخس أو خسارة..
    وإنْ رأيت منها معاملة حسنة ومداقّة تامّة في صرف أوقاتها، فاشْكُر الله تعالى على ذلك، واطلُب منه أن يزيدها توفيقاً وهدى.
    وقد ورد عنهم عليهم السّلام: أنه « ليس منّا من لم يحاسِب نفسه في كلِّ يوم، فإن عَمِل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيّئاً استغفر الله منه وتاب إليه » (33).
    ونُقل أنّ الخواجة ربيع وضع قلماً وقرطاساً، وكان يكتب كلّ ما يقوله ويفعله من أوّل اليوم إلى وقت نومه في الليل، ثمّ ينظر فيه.. فما كان من الطاعات يشكر الله تعالى له، وما كان من القبائح يستغفر الله تعالى منه.
    وعن صحف إبراهيم عليه السّلام: إنّ على العاقل ـ ما لم يكن مغلوباً على عقله ـ أن يكون له أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة فيها يتفكّر فيما صَنع الله تعالى إليه، وساعة يخلو فيها بحظّ نفسه من الحلال.. فإنّ هذه الساعة عَون لتلك الساعات، واستجمام (34) القلوب توديع لها (35). ومنها:
    مراقبة النفس
    فعليك بُنيّ بها بملاحظة حضور الربّ واطّلاعه عليك في كلّ حالاتك وحركاتك، وأفعااك وأقوالك، وأنفاسك وخطراتك، وخطواتك ولحظاتك، فآثِرْ الله سبحانه، واختَرْ ما اختاره الله تعالى.
    وقد حكي أنّ لقمان قال لابنه: يا بُنيّ، إذا راقبتَ الله تعالى لم تُقدِم على معصية أبداً، لأنّه بمجرد التفاتك إلى أنّه يراك ويطّلع عليك يمنعك الحياءُ من مخالفته. ومنها:
    التفكّر
    فأوصيك بُنيّ به، فإنه من أعظم أسباب تنبّه النفس، وصفاء القلب، وله مدخل عظيم في رفع الكدورات، وكسر الشهوات، والتجافي عن دار الغرور، والتوجّه إلى دار الخلود والسرور، وأنه رأس العبادات ورئيسها، ولُبّ الطاعات بل وروحها.
    وقد ورد أنّ أفضل العبادة التفكّر في الله تعالى وفي قدرته (36).
    وعُلّل ذلك بأنّ الفكر يوصل العبد إلى الله سبحانه، والعبادة توصله إلى ثواب الله عزّوجلّ، والذي يوصل إليه تعالى خير ممّا يوصل إلى ثوابه. وبأنّ الفكر عمل القلب، والعبادة عمل الجوارح، والقلب أشرف من سائر الجوارح، فعمله يقتضي أن يكون أشرف من عمل سائر الجوارح.
    وورد أنّ « تَفكّر ساعة خير من عبادة سنة » (37).. أو ستين سنة.. أو سبعين سنة.. على اختلاف الروايات (38) المحمول على اختلاف مراتب التفكّرات.
    وأنّ من التفكّر ما ينجي الإنسان من النار، كما نجا الحرّ بن يزيد الرياحي بتفكّر ساعة.. ولو كان تعبّدَ سنة ـ بل سنين ـ لم تكن عبادته تنفعه مع ما كان عليه، ولكنّ تفكّر ساعة نفعه ونجّاه، ولذا جُعل تفكّر ساعة خيراً من عبادة سبعين سنة.
    وورد أنه ليست العبادة كثرة الصلاة والصوم، وإنّما العبادة التفكّر في الله سبحانه (39).
    فعليك بُنيّ بالتفكّر تارة في حال الماضين، وأنّهم من أين جاءوا ؟ وإلى أين ذهبوا ؟ وما صحبوا ؟ ولَمنْ تركوا ؟ وبما اشتغلوا ؟ وكيف عن دنياهم انقطعوا وعن نعيمها حُرموا ؟. ومَن كان لا يطأ التراب برجله، وكان ينام على الديباج والحرير، ويمشي على الأرض مرحاً.. كيف فارق المال، وترك العيال والأطفال، والقصور والديار، والخدم والحشم، ولبس الكفن، ووضع خدّه اللطيف النظيف على التراب، وصاحَبَ الدود والحيّات، وسكن القبر المظلم وحيداً فريداً ؟!
    وأخرى؛ في أنّ الموت يأتي بغتة، وله ساعة إذا جاءت لا يستأخرون عنها، ودقيقة لا يُمْهَلون بأُخرى عند حضورها (40). فكنْ مِنه في كلّ آنٍ على حذر، وحَضّرْ له نفسك قبل أن يخرج الأمر من يدك، ولا تتساهل في التهيّؤ له بالتوبة والعمل، ولا تكن منها في غفلة. فكم من أناس أدركهم الموت بَغتةً لم يكن لهم لذِكر الله سبحانه والاستغفار مهلة! فاحذر من أن تكون كذلك، فتكون حينئذ من أهل الحسرة والندم على تأخير التوبة والإنابة، واحذْر من قول: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيما تَرَكْتُ (41).
    وثالثة؛ في أنّ الدّنيا ليست إلاّ دار عناء وتعب، ومشقّة ومِحنة ونَصَب، وأنّ صفوتها ممزوجة بكدورة، وراحتها مقرونة بعَناء، وأنّ الله لم يخلق فيها راحة، كما قال تعالى في الحديث القدسيّ: « إنّ عبادي يطلبون منّي شيئاً لم أخلقه.. وهو الراحة في الدّنيا، ويَدَعون طلب ما خلقتُه.. وهو النعيم المقيم ».
    فإنّك ـ بُنيّ ـ إذا تفكّرتَ في ذلك هَان عليك ما تلقاه من شدّة، وَرغِبت في عمل الآخرة، والتفتّ إلى أنّه إذا كان لابدّ في الدنيا من التعب والمشقّة، فتحمُّل المشقّة للنعيم الدائم أولى وأهون.
    ورابعة؛ فيما تستبقله قريباً من عوالم ما بعد الموت.. من القبر، والبرزخ، والحشر، والنشر، وتطاير الكتب، وتجسّم الأعمال والعقائد، والحساب، والصراط، والميزان، وما أعدّ الله للمتّقين والمجرمين، من الجنّة وأنواع نعيمها والنار وأقسام عذابها.
    وخامسة؛ في أنّه لا ينفع من مالك إلاّ ما قدّمت صرفه في سبيل الله تعالى، وأنّك لا تصحب شيئاً منه إلاّ مقدار كفنك، وأنّ ولْدك وعيالك وأطفالك وأحبّاءك وأقاربك لا ينفعوك إلاّ بإضجاعك في حفرتك وتسليمك إلى عملك، وأنّ ما ينفعك إنّما هو ما عملتَه لوجه الله سبحانه، فإنّه يصاحبك ولا يفارقك. فإنّك إذا تفكّرتَ في الجهات المذكورة، أكثرتَ من الأعمال الحسنة، وأخلصتَ فيها النيّة، ونجوت من الهلكة، وقدّمت لغدك قبل أن يخرج الأمر من يدك.
    وقد ورد أن أفضل الزهد في الدنيا ذِكر الموت، وأفضل العبادة ذِكر الموت، وأفضل التفكّر ذِكْر الموت (42).
    ومَن غفل عن ذِكر الموت صرف عمره فيما لا يعنيه، ومَن لازم ذِكر الموت صرف عمره فيما ينفعه، وأنّ الموت لأَحْسَنُ واعظٍ، وأسرع زاجر، وكفى بذكر الموت حُسْناً، إنّه يهوِّن الضيق والعسر على من ابتُلي، ويُقيم الغنيّ على الجود بماله الموجب للأجر، ويُثبّط العبد عن الاشتغال بما لا ينفعه.
    ولقد أجادَ مَن قال: إنّ الموت مهوّن للمصاب، ومرغّب فيما ينفع يوم الحساب، وملزم بالتوبة قبل الموت، والتدارك قبل الفوت، وقاطع للأمل، ومانع من الفرح بـ: لِيْتَ ولعلّ. ومنها:
    الصبر والشكر والرضا
    الصبر على البلاء، والشّكر على النعماء،والرّضا بالقضاء.
    فأوصيك بُنيّ بذلك، فإنّه من أعظم أسباب الفرَج، وإن عباداً نالوا المراتب العالية في الدّارين به، كما لا يخفى على من راجع حال الماضين.
    ولقد أجاد من قال:
    ترَدَّ رِدَاءَ الصـبر عنـد النـوائـبِ تَنَلْ مِن جميل الصبر حُسن العواقبِ
    واجعل بُنيّ نفسَك طيّبة بالصدمات على نحو طِيبها بالنعم.
    واجعل كلّ ما يختاره لك من الصحّة والسقم، والعافية والبلاء، والشباب والهرم، والقوّة والضعف، والغنى والفقر.. ونحوها محبوباً لك، لأنّه ممّا اختاره لك حكيمٌ عالم بالعواقب، محبّ لك، أرأف بك من أبوَيك ونفسك.. فهو عين صلاحك.
    واحبس بُنيّ نفسك من الجزع عند المصيبة والمكروه، والفزع منه، وارضَ بما يفعله الحكيم الرؤوف تعالى شأنه، واترك الشكوى والإخبار بالسوء بما يصيبك. وقد نُقل أنّ سيد الساجدين عليه السّلام قال:
    فإذا بُليتَ بعثـرة فاصـبر لهـاصَبْرَ الكـريم، فـإنّ ذلك أحزمُ
    لا تشكُوَنّ إلـى الخـلائق إنّمـاتشكو الرحيمَ إلى الّذي لا يرحمُ
    وطيّبْ بُنيّ نفسك بالضراء كطيبها بالسرّاء، وبالفاقة كطيبها بالغَناء، وبالبلاء كطيبها بالعافية.. وهكذا. وقد قالوا عليهم السّلام ما معناه: إنّ الصبر صبر على ما تكره من بلاء وشدّة، وصبر على طاعة الله سبحانه، وهو أفضل من الأول، وأفضل منه الصبر على ترك ما حرّم الله تعالى (43).
    ورُوي عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله أنه قال: « إن مَن صبر على المصيبة حتّى يردّها بحسن عزائها، كتب الله له ثلاثمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء و الأرض. ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستّمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تُخوم الأرض إلى العرش. ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بَين تُخوم الأرض إلى منتهى العرش » (44).
    مراتب الصبر وأنواعه
    ذكر علماء الأخلاق للصبر مراتب:
    الأولى: الصبر عن الرّكون إلى ما يوافق الهوى.. من الصحّة والسلامة، والمال والجاه، وكَثرة العشيرة، واتّساع الأسباب، وسائر ملاذّ الدنيا. وما أحوج العبد إلى الصبر عن هذه الأمور، وضبط نفسه عن الركون إليها والانهماك فيها المؤدّي إلى الطغيان.
    الثانية: الصبر على الطاعة.. وهو شديد؛ لأنّ النفس بطبعها تنفر من العبوديّة، وتشتهي الربوبيّة. ولذلك قيل: ما من نفس إلاّ وهي مضمِرة ما أظهره فرعون، ولكن فرعون وجد مجالاً فأظهره. وما من أحد إلا ويدّعي ذلك مع عبيده وخدمه وأتباعه وإن كان ممتنعاً من إظهاره، ولذا ترى غيظه عند تقصيرهم في خدمته، فإنّ ذلك ليس إلاّ من الكبر.
    واعلم بُنيّ أنّ الصبر على الطاعة لازم قبل العمل وحالَه وبعدَه:
    أمّا قبله؛ فلتصحيح النيّة.
    وأمّا حالَه؛ فلِكي لا يغفل عن ذكر الله تعالى، ولا يستعمل الرياء.
    وأمّا بعده؛ فلكي لا يستعمل العُجْب ونحوه ممّا يُفسده.
    الثالثة: الصبر عن ارتكاب المعاصي؛ فإنّ العبد في غاية الحاجة إلى ذلك، وذلك أنّ المعاصي ـ سيّما الكذب والغيبة والنميمة والبهتان ـ مألوفة بالعادة، والعادة طبيعة ثانية، فإذا انضافت إلى الشهوة تظاهرَ جُندان من جنود الشيطان على جُند الله عزّوجلّ، وكلّما كان الذنب ألذّ على النفس كان الصبر عنه أصعب.
    الرابعة: ما ليس هجومه تحت اختياره ـ كما لو أُوذي بفعل أو قول ـ فإنّ الصبر عليه بتَرْك المكافأة حسن جميل.
    فعليك بُنيّ بالصبر عمّن أساء إليك، وإيكال الأمر إلى الله سبحانه، وعدم التعرّض للمسيء بوجهٍ وإن قدرت على أخذ الثار والمكافأة؛ فإنّ التجربة الأكيدة ـ فضلاً عن الأخبار (45) ـ قد قضت بأنّ الله تعالى خير مكافئ في الدّنيا قبل الآخرة، وخير منتصر للمظلوم من الظالم ولو بعد حين.
    الخامسة: ما لا يدخل تحت الاختيار أوّله ولا آخره: كالمصاب في مثْل فقْد الأعزّة والأحباب، وتلف الأموال، وزوال الصحّة، وعمى العين، وفساد الأعضاء، والفقر والفاقة.. وأشباه ذلك. والصبر على ذلك صعب غالباً، ولكنّ أجره عظيم، حتّى قال جَلّ ذكره: الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهم مُصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلّهِ وإنّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِن ربّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (46).
    واعلم بُنيّ ـ رزقك الله تعالى الصبر بأقسامه ـ أنّ الصبر عند المكاره يحصل بملاحظة أمور تجعل مرارته عند أهله أحلى من العسل:
    أحدها: ما ورد من جزيل الثواب الأُخرويّ؛ فقد استفاضت الأخبار بأنّ الصابرين يدخلون الجنّة بغير وقوف في العرصات، ولا نَصْب ميزان، ولا نَشْر ديوان ولا حساب (47).
    وورد أنّ « مَن صبر نال بصبره درجة الصائم القائم، ودرجة الشهيد الذي قد ضرب بسيفه قُدّام آل محمّد صلّى الله عليه وآله » (48).
    وأنّ « الصبر عل الفاقة جهاد »، وأنّه « أفضل من عبادة ستين سنة ».
    وأنّ « من ابتُلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد.. ».
    .. إلى غير ذلك من الأجور المتقدّم بعض منها.
    ثانيها: ما يترتب عليه بالتجربة من نيل المراتب العالية.
    ثالثها: تفاني المحنة بمرور الآنات، وفناء العمر على كلّ حال، وأنّ الساعة التي تمضي لا يبقى سرورها ولا ألمها، والّتي تأتي لا تدري ما هي، وإنّما هي ساعتك الّتي أنت فيها.
    رابعها: عدم حصول نتيجة للجزع والفزع والشكوى إلاّ قلّة الأجر، فإنّ المقدَّر كائن، وقضاء الله لا يُرَدّ ولا يبدَّل، والعبد مملوك لا يقدر على شيء أبداً.
    خامسها: ملاحظة حال الممتحَنين بأعظم من امتحانه، الصابرين عليه أجمل صبر.
    سادسها: ملاحظة أنّ الابتلاء من السعادة، وأنّ البلاء للولاء، بل شدة البلاء للمؤمن تكشف عن شدة القُرب إليه تعالى.
    سابعها: تذكّرُ أنّ ذلك من الحكيم الرؤوف، وأنّه لا يختار لعبده إلاّ ما فيه صلاحه، وأنه غنيّ على الإطلاق، وأنه على كلّ ما يشاء قدير.
    ثامنها: تذكّر أنّ ذلك تزكية لنفسه.
    تاسعها: أنّه لا أثر للشكوى إلاّ فرح العدوّ وحزن الصديق.
    عاشرها: أنّ الصبر محمود العاقبة حتّى في الدنيا، كما يستفاد من الأخبار وقضايا الصابرين، ألا ترى أنّ صبر يوسف عليه السّلام عن معصية الله تعالى وعلى المحن كيف أدى إلى بلوغه الغاية القصوى من العزّ، ومن تَصيير الجبّار العاتي له عبداً بعد أن كان له مالكاً، والإخوة له حقراء، وزليخا له ذليلة جالسة في طريقة، ونال منها بنهاية العزّ بعد عود شبابها وجمالها وعينها إليها، كما لا يخفى على من راجع الأخبار الواردة في تفسير سورة يوسف (49).
    وكذلك أيّوب عليه السّلام؛ رَدّ الله ـ بصبره ـ إليه ما فاته من الصحّة والأولاد والأزواج، وأعطاه أموالاً جزيلة، وأمطر في داره جراداً من ذهب (50).
    وقضايا حُسن نتيجة الصبر كثيرة مذكورة في المفصّلات.
    وعليك بُنيّ عند المصيبة بتذكر مصائب أهل البيت عليهم السّلام؛ إذ ما من مصيبة إلاّ وفيهم أتمّ فرد منها، فإذا تذكّرت مصائبهم العظام ـ وهم سادات الأنام، ولأجلهم خلِقَت الدنيا ومَن فيها (51) ـ هانت عليك مصيبتك، ولقد أجاد من قال:
    أنْسَتْ رزيّتُكم رزايانـا الّتيسَلَفَتْ، وهَوَّنت الرزايا الآتيهْ
    وإيّاك بُنيّ أن يكون صبرك صبر بعض العوام، وهو حبس النفس على وجه التجلّد، فإنّه رياء محض، بل ليكن صبرك ـ أقلاً ـ صبر المتّقين؛ وهو ما كان لتوقّع أجر الآخرة، وأجود منه صبر العارفين، وهو التلذّذ بالمكروه بالنظر إلى كونه من المحبوب الرؤوف العالم بالعواقب.
    واعلم بُنيّ أنّ الصبر لا ينافي البكاء على المصيبة، ألا ترى إلى أنّ سيد الكونين صلوات الله عليه وآله بكى في وفاة ولده إبراهيم، فقيل له ما معناه: إنّك تأمرنا بالصبر فما هذا البكاء ؟! فزجر صلّى الله عليه وآله القائل بقول معناه ـ: « ويحك! القلب يحترق، والعين تدمع، وإنّما لا نتكلم بما يُسخط الربّ ولا يرضيه » (52).
    وعليك بُنيّ عند المصيبة مَن إكثار الاسترجاع كي يكون لك بمقتضى الآية الكريمة (53) صلواتٌ من ربّك ورحمة، وتكون مِن المهتدين، وإكثار تذكّر حال الصابرين السابقين حتّى يكون الصبر مَلَكة لك.
    واعلم بُنيّ أنّه قد رُوي عن مولانا الصادق عليه السّلام أن عند فناء الصبر الفَرَج (54)، والتجربة أيضاً تشهد بذلك، وبأنّ لكلّ عسر يسراً (55).
    ولقد أجاد من قال (56):
    وكم لـلـهِ مِن لُطـفٍ خفيِّيَدقُّ خَـفَاهُ عـن فهمٍ الذكيِّ
    وكم يُسرٍ أتى مِن بَعْد عُسـرٍففرّجَ كُربـةَ القلـبِ الشَّجيِّ
    وكم أمرٍ تُسـَاءُ بهِ صبـاحاًفتـأتيكَ المَسَـرّةُ بالـعَشيِّ
    إذا ضاقت بكَ الأحوالُ يوماًفثِقْ بـالواحـدِ الفَردِ العَليِّ
    ولا تَجزَع إذا ما آبَ خَطبٌفـكم للهِ من لطـفٍ خفـيِّ
    بل ورد أنّ لكلّ عُسرٍ يُسرَين (57)، كما قال الشاعر:
    إذا ضـاقَت بـك الدنـيـا تفكَّر في « ألم نشـرحْ »
    تجد يُسرَينِ بعد العسرِ (58)إنْ فــكّرتَــه تَـفـرَحْ
    واعلم بُنيّ أنّ جملة من محامد الأخلاق ترجع إلى الصبر، لكنّ له بكلّ موردٍ من موارده اسماً:
    فإنْ كان صبراً عن شهوة البطن والفَرْج سُمْي ( عِفّة ).
    وإنْ كان على احتمال مكروه؛ اختلفت أسماؤه باختلاف المكروه الذي عليه الصبر.
    فإنْ كان مصيبة اقتصر على اسم ( الصبر )، ويضادّه: الجزَع.
    وإنْ كان في ترك معصية سُمّي ( التقوى ).
    وإنْ كان في احتمال الغنى سُمّي ( ضبط النفس )، ويضادّه: البطَر.
    وإنْ كان في حرب ومقاتلة سُمّي ( شجاعة )، ويضادّه: الجبن.
    وإنْ كان في كَظْم الغيظ والغضب سُمّي ( حِلماً )، ويضادّه: السفَه.
    وإنْ كان في نائبة من نوائب الدنيا سمّي ( سعة الصدر )، ويضاده: الضجَر،والتبرُّم، وضيق الصدر.
    وإنْ كان في إخفاء كلام سمّي ( كتمان السّر )، ويضادّه: إفشاء السّر.
    وإنْ كان في فُضول العيش سمّي ( زهداً )، ويضادّه: الحِرْص.
    وإنْ كان صبراً على قدر يسير من الحظوظ سمّي ( قناعة )، ويضادّه: الشرَه.
    اللهم صل ّعلى محمد وال محمد
    اللهم صلِ على فاطمة وابيها وبعلها وبنيها
    والسر المستودع فيها بعدد مااحاط به علمك
    وأحصاه كتابك ......

المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
x
يعمل...
X