بسم الله الرحمن الرحيم
محمّد بن الحسن في (المجالس والاخبار)، عن الحسين بن إبراهيم القزويني، عن محمّد بن وهبان، عن علي بن حبشي، عن العباس بن محمّد بن الحسين، عن أبيه، عن صفوان بن يحيى، عن الحسين بن أبي غندر، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن صوم يوم عرفة؟ فقال: «عيدٌ من أعياد المسلمين، ويوم دعاء ومسألة»، قلت: فصوم عاشوراء؟ قال: «ذاك يوم قتل فيه الحسين (عليه السلام)، فإن كنت شامتاً فصُم»، ثم قال: «إن آل أمية نذروا نذراً إن قتل الحسين (عليه السلام) أن يتخذوا ذلك اليوم عيداً لهم، يصومون فيه شكراً، ويفرحون أولادهم، فصارت في آل أبي سفيان سُنة إلى اليوم، فلذلك يصومونه ويدخلون على أهاليهم وعيالاتهم الفرح ذلك اليوم»، ثم قال: «إن الصوم لا يكون للمصيبة، ولا يكون إلّا شكراً للسلامة، وإنّ الحسين (عليه السلام) أُصيب يوم عاشوراء، إن كنت فيمن أُصيب به فلا تصم، وإن كنت شامتاً ممّن سرّه سلامة بني أُمية، فصُم شكراً لله تعالى» (وسائل الشيعة للحرّ العاملي: 10 / 463 ط آل البيت ح 13852).
وقد أفادت الرواية أن صوم هذا اليوم سُنَّة سنَّها آل أبي سفيان، لأنهم جعلوا من هذا اليوم عيداً، يصومون فيه شكراً لسلامتهم، ولأن الحسين (عليه السلام) أُصيب في هذا اليوم، ثم خاطب الإمام السائل قائلاً: «إن كنت شامتاً فصم، وإن كنت فيمن أُصيب فلا تصم».
ومنها: رواية زيد النرسي، قال: سمعت عبيد بن زرارة يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن صوم يوم عاشوراء، فقال: «مَن صامه كان حظه مِن صيام ذلك اليوم حظ ابن مرجانة وآل زياد»، قال: قلت: وما كان حظهم من ذلك اليوم؟ قال: «النار، أعاذنا الله من النار ومن عمل يقرب من النار» (الكافي للكليني: 4 / 147، الاستبصار للطوسي: 2 / 135 ح 443، وسائل الشيعة: 10 / 461 ط آل البيت ح 13849).
والظاهر أن عبيد بن زرارة إنما كان يسأل عن استحباب صوم عاشوراء بنحو الخصوصية، فهو يستفهم عمّا عليه العامة من دعوى استحباب صوم هذا اليوم بالخصوص، فجاء الجواب انَّ من صامه كان حظّه حظ ابن مرجانة وآل زياد، وهو النار، أعاذنا الله من النار.
ومنها رواية الشيخ الطوسي في (المصباح: 782)، عن عبد الله بن سنان قال: دخلتُ على أبي عبد الله (عليه السلام) يوم عاشوراء، ودموعه تنحدر على عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلت: ممًّ بكاؤك؟ فقال: «أفي غفلة أنت؟! أما علمت أنّ الحسين (عليه السلام) أُصيب في مثل هذا اليوم؟!»، فقلت: ما قولك في صومه؟ فقال لي: «صُمْه من غير تببيت، وأفطره من غير تشميت، ولا تجعله يوم صوم كملاً، وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعة على شربة من ماء، فإنه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلت الهيجاء عن آل رسول الله (صلى الله عليه وآله)».
وظاهر السؤال هو الاستفهام أيضاً عمّا عليه العامّة من القول باستحباب صوم يوم عاشوراء، وقد جاء الجواب بالأمر بالإمساك دون قصد الصوم، ثم الإفطار بعد صلاة العصر بساعة، وكان من المناسب بيان استحباب الصوم في يوم عاشوراء بنحو الخصوصيّة لو كان ثابتاً، إلا أن الجواب لم يكن كذلك، بل اشتمل على النهي عن صوم عاشوراء، فهو إن لم يكن ظاهراً في الحرمة فهو ظاهر في عدم الاستحباب بنحو الخصوصيّة، وبذلك يكون صومه بقصد الخصوصيّة من التشريع المحرم.
وباتضاح مفاد هذه الروايات، يتبين أن العلاقة بينها وبين روايات الجواز هو التعارض المستقر ذلك، لأن مفاد روايات الجواز هو استحباب الصوم في عاشوراء بنحو الخصوصيّة، ومفاد روايات الطائفة الثانية هو حرمة صوم عاشوراء بقصد الخصوصيّة، ولا يصحُّ الجمع بينها بالقول أن مقتضى الصناعة هو حمل روايات المنع على الكراهة في العبادة بمعنى قلة الثواب، لأن ذلك لا يناسب التعبير عن الصوم بالبدعة في رواية نجبة العطار، ولا يناسب نسبة سنِّ صوم هذا اليوم إلى أعداء أهل البيت (عليهم السلام)، والوعد بأن محشر من يصومه يكون مع محشر أعداء أهل البيت (عليهم السلام) كما في رواية جعفر بن عيسى عن أخيه، كما أن هذا الحمل لا يناسب ما جاء في رواية أبي غندر من انتساب صوم هذا اليوم إلى سنّة آل سفيان، وهو منافٍ أيضاً لما ورد في رواية النرسي من أن من صام هذا اليوم كان حظُّه منه حظَّ ابن مرجانة وآل سفيان، وهو النّار.
على أنّ الحمل على الكراهة لو كان بمعنى انتفاء الخصوصيّة المقتضية للحرمة والتشريع حين قصدها فهو المطلوب، ولو كان لا يقتضي نفي الخصوصيّة وأنّ الأمر بصوم ذلك اليوم بنحو الخصوصيّة يظل ثابتاً، لكان المناسب هو عدم النهي عن صومه، كما في رواية عبد الله بن سنان، فلا معنى للنهي عن الصوم إلّا انتفاء الأمر عنه بنحو الخصوصيّة، وإذا كان كذلك كيف يصحُّ الجمع بين كل ذلك وبين القول بأنّ صيامه بنحو الخصوصيّة موجب لتكفير الذنوب لسنة كاملة.
فالطائفتان متكاذبتان جداً، ولابدّ من معالجتها على أساس مرجحات باب التعارض، وهي تقتضي إسقاط الطائفة الأولى الظاهرة في الاستحباب عن الحجيَّة، والعمل بمقتضى الطائفة الثانية الظاهرة في حرمة صوم عاشوراء بقصد الخصوصيّة، وذلك لأن الطائفة الأُولى موافقة لمذهب العامّة فهي محمولة على التقيّة.
والإشكال الذي يمكن إيراده على هذه النتيجة هي أنّ روايات الطائفة الثانية ضعيفة السند، فهي ساقطة عن الحجيّة من أول الأمر، فلا تكون مكافئة للطائفة الأولى حتى يقال بترجيحها على أساس المرجح الجهتي، فالتعارض بينها وبين الطائفة الأُولى من تعارض الحجة مع اللّاحجة، وذلك يقتضي اعتماد ما هو حجة وإسقاط الفاقد للحجيّة.
وهذا الإشكال الذي أفاده السيّد الخوئي غير واردٍ، وذلك للاطمئنان بصدور روايات الطائفة الثانية في الجملة نظراً لاستفاضتها، فلا يضرها أن تكون ضعيفة من حيث السند، ولأن تصدِّي المشهور للجمع بينها وبين الطائفة الأُولى يعبّر عن وثوقهم بصدورها، إذ لا معنى لمحاولة الجمع بينها إلا ذلك، هذا بالإضافة إلى التزام المتشرعة بترك الصوم في يوم عاشوراء، ولا نحتمل أن يكون منشأ الالتزام بالترك غير ما ورد عن المعصومين (عليهم السلام)، فالسيرة المتشرعية وإن لم تكن معبِّرة عن الحرمة، إلّا إنها موجبة للوثوق بصدور هذه الروايات، فتكون واحداً من القرائن المنتجة للعلم أو الاطمئنان بالصدور، وإذا أضفنا إليها ما نقله بعض الأعلام من دعوى مداومة الأئمة (عليهم السلام) على عدم صوم هذا اليوم، فإن الاطمئنان يكون آكداً.
وثمة قرينة أُخرى تصلح للمساهمة في تأكيد الإطمئنان بصدور هذه الروايات، وهي اعتماد ابن إدريس الحلِّي وابن زهرة عليها، إذ أن من المعروف أن مبناهما عدم الاعتماد على أخبار الآحاد، وأنه لا يصح بنظرهما الاعتماد إلا على الأخبار المتواترة أو المحتفَّة بالقرائن المفيدة للعلم بالصدور.
على أن رواية عبد الله بن سنان صحيحة السند خلافاً لما أفاده السيد الخوئي، إذ لو سلّمنا بتماميّة ما أفاده من أن طريق الشيخ في المصباح إلى عبد الله سنان مجهول، فإن ثمة طريقاً آخر اعتمده السيد الخوئي تبعاً لاعتماد السيد ابن طاووس وابنه عليه، وهو الطريق الذي ذكره المشهدي في كتاب المزار، حيث روى المشهدي عن عماد الدين الطبري عن أبي علي حسن ابن الشيخ الطوسي عن والده أبي جعفر الطوسي عن المفيد عن الشيخ جعفر بن قولويه والصدوق عن الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عبد الله بن سنان، وجميع من ورد في هذا الطريق من أجلاء الطائفة، فرواية عبد الله بن سنان صحيحة السند، وهي كما ذكرنا ظاهرة في عدم استحباب الصوم في يوم عاشوراء، فيكون الصوم بقصد الخصوصية تشريع محرَّم.
والمتحصّل من مجموع ما ذكرناه: أن الطائفة الثانية واجدة لشرائط الحجّية، وبذلك تكون مكافئة للطائفة الأُولى، فيتعيّن علاج التعارض بينهما بمرجحات باب التعارض، وهي تقتضي سقوط الطائفة الأولى عن الحجّية على أساس المرجِّع الجهتي، والحكم بصدور الطائفة الأولى تقيّةً.
وقد ذكر صاحب الحدائق تقييدَ جملة من الأصحاب لاستحباب صوم عاشوراء على وجه الحزن، فقال:
- ”وكأنهم جعلوا ذلك وجه جمع بين الأخبار الواردة في صومه أمراً ونهياً، وبهذا جمع الشيخ بين الأخبار في الإستبصار، فقال: إنّ مَن صام يوم عاشوراء على طريق الحزن بمصاب آل محمّد (صلى الله عليه وآله) والجزع لما حل بعترته (صلى الله عليه وآله)، فقد أصاب، ومن صامه على ما يعتقده مخالفونا من الفضل في صومه والتبرك به والاعتقاد ببركته وسعادته، فقد أثم وأخطأ.
ونقل هذا الجمع عن شيخه المفيد (قدس سره)، قال في المدارك بعد ذكر ذلك: وهو جيد.
أقول: بل الظاهر بعده لما سيظهر لك إن شاء الله تعالى بعد نقل الأخبار الواردة في هذا المقام...“.
ثم أورد المحقق البحراني جملة الروايات الواردة في هذا الباب، المؤيدة لاستحباب صوم عاشوراء والناهية عنه، وقد مرّ ذكر بعضها، ثم قال:
- ”لا يخفى عليك ما في دلالة هذه الأخبار من الظهور والصراحة في تحريم صوم هذا اليوم مطلقاً، وأنّ صومه إنما كان في صدر الإسلام ثم نُسخ بنزول صوم شهر رمضان، وعلى هذا يُحمل خبر صوم رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وأما خبر القداح وخبر مسعدة بن صدقة، الدالّ كل منهما على أن صومه كفارة سنة والأمر بصومه كما في ثانيهما، فسبيلها الحمل على التقية، لا على ما ذكروه من استحباب صومه على سبيل الحزن والجزع، كيف وخبر الحسين بن أبي غندر عن أبيه ظاهر في أنّ الصوم لا يكون للمصيبة، وإنما يكون شكراً للسلامة، مع دلالة الأخبار الباقية على النهي الصريح عن صومه مطلقاً، سيّما خبر نجية وقولهما (عليهما السلام) فيه أنه متروك بصيام شهر رمضان والمتروك بدعة! وبالجملة: فتحريم صيامه مطلقاً مِن هذه الأخبار أظهر ظاهر“.
ثمّ أشار إلى أن العذر لأصحابنا فيما ذكروه من حيث عدم تتبّع الأخبار كاملاً والتأمل فيها.
نعم، قد روى الشيخ (رضي الله عنه) في كتاب (مصباح المتهجد: 547)، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: دخلت عليه يوم عاشوراء، فألفيته كاسفَ اللون ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلتُ: يا ابن رسول الله، ممّ بكاؤك؟ لا أبكى الله عينيك، فقال لي: «أوَ في غفلة أنت؟! أما علمت أن الحسين بن علي (عليهما السلام) أُصيب في مثل هذا اليوم؟»، فقلت: يا سيدي، فما قولك في صومه؟ فقال لي: «صُمْه من غير تبييت، وأفطره من غير تشميت، ولا تجعله يوم صوم كملا، وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعة على شربة من ماء، فإنه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلت الهيجاء عن آل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وانكشفت الملحمة عنهم».
ثم عقّب صاحب الحدائق على هذه الرواية بقوله:
- ”وهذه الرواية هي التي ينبغي العمل عليها، وهي دالة على مجرد الإمساك إلى الوقت المذكور. والمفهوم من كلام شيخنا الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك حمل كلام الأصحاب باستحباب صوم يوم عاشوراء على وجه الحزن، هو صومه على هذا الوجه المذكور في هذه الرواية، وهو بعيد، فإن كلامهم صريح أو كالصريح في أن مرادهم صيام اليوم كملاً كما في جملة أفراد الصيام، والله العالم“ (الحدائق الناظرة للبحراني: 13 / 369 ـ 376 صوم يوم عاشوراء).
المورد الثاني: وهو صوم عاشوراء على أساس أنه واحد من أيام السنة، والظاهر أن ذلك جائز، إذ لو كان الصوم محرّماً كحرمة صوم العيدين، لكان واضحاً ولما وقع الخلاف في ثبوته، نظراً لكونه من الموارد التي يعمّ بها الابتلاء، وروايات المنع التي ذكرناها لا تصلح للدلالة على حرمته، وذلك لظهورها في حرمته بقصد الخصوصيّة، كما أوضحنا ذلك فيما تقدم، فمع عدم وجود الدليل على الحرمة، تبقى عمومات استحباب الصوم في كل يوم بلا موجب للتخصيص من هذه الجهة.
محمّد بن الحسن في (المجالس والاخبار)، عن الحسين بن إبراهيم القزويني، عن محمّد بن وهبان، عن علي بن حبشي، عن العباس بن محمّد بن الحسين، عن أبيه، عن صفوان بن يحيى، عن الحسين بن أبي غندر، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن صوم يوم عرفة؟ فقال: «عيدٌ من أعياد المسلمين، ويوم دعاء ومسألة»، قلت: فصوم عاشوراء؟ قال: «ذاك يوم قتل فيه الحسين (عليه السلام)، فإن كنت شامتاً فصُم»، ثم قال: «إن آل أمية نذروا نذراً إن قتل الحسين (عليه السلام) أن يتخذوا ذلك اليوم عيداً لهم، يصومون فيه شكراً، ويفرحون أولادهم، فصارت في آل أبي سفيان سُنة إلى اليوم، فلذلك يصومونه ويدخلون على أهاليهم وعيالاتهم الفرح ذلك اليوم»، ثم قال: «إن الصوم لا يكون للمصيبة، ولا يكون إلّا شكراً للسلامة، وإنّ الحسين (عليه السلام) أُصيب يوم عاشوراء، إن كنت فيمن أُصيب به فلا تصم، وإن كنت شامتاً ممّن سرّه سلامة بني أُمية، فصُم شكراً لله تعالى» (وسائل الشيعة للحرّ العاملي: 10 / 463 ط آل البيت ح 13852).
وقد أفادت الرواية أن صوم هذا اليوم سُنَّة سنَّها آل أبي سفيان، لأنهم جعلوا من هذا اليوم عيداً، يصومون فيه شكراً لسلامتهم، ولأن الحسين (عليه السلام) أُصيب في هذا اليوم، ثم خاطب الإمام السائل قائلاً: «إن كنت شامتاً فصم، وإن كنت فيمن أُصيب فلا تصم».
ومنها: رواية زيد النرسي، قال: سمعت عبيد بن زرارة يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن صوم يوم عاشوراء، فقال: «مَن صامه كان حظه مِن صيام ذلك اليوم حظ ابن مرجانة وآل زياد»، قال: قلت: وما كان حظهم من ذلك اليوم؟ قال: «النار، أعاذنا الله من النار ومن عمل يقرب من النار» (الكافي للكليني: 4 / 147، الاستبصار للطوسي: 2 / 135 ح 443، وسائل الشيعة: 10 / 461 ط آل البيت ح 13849).
والظاهر أن عبيد بن زرارة إنما كان يسأل عن استحباب صوم عاشوراء بنحو الخصوصية، فهو يستفهم عمّا عليه العامة من دعوى استحباب صوم هذا اليوم بالخصوص، فجاء الجواب انَّ من صامه كان حظّه حظ ابن مرجانة وآل زياد، وهو النار، أعاذنا الله من النار.
ومنها رواية الشيخ الطوسي في (المصباح: 782)، عن عبد الله بن سنان قال: دخلتُ على أبي عبد الله (عليه السلام) يوم عاشوراء، ودموعه تنحدر على عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلت: ممًّ بكاؤك؟ فقال: «أفي غفلة أنت؟! أما علمت أنّ الحسين (عليه السلام) أُصيب في مثل هذا اليوم؟!»، فقلت: ما قولك في صومه؟ فقال لي: «صُمْه من غير تببيت، وأفطره من غير تشميت، ولا تجعله يوم صوم كملاً، وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعة على شربة من ماء، فإنه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلت الهيجاء عن آل رسول الله (صلى الله عليه وآله)».
وظاهر السؤال هو الاستفهام أيضاً عمّا عليه العامّة من القول باستحباب صوم يوم عاشوراء، وقد جاء الجواب بالأمر بالإمساك دون قصد الصوم، ثم الإفطار بعد صلاة العصر بساعة، وكان من المناسب بيان استحباب الصوم في يوم عاشوراء بنحو الخصوصيّة لو كان ثابتاً، إلا أن الجواب لم يكن كذلك، بل اشتمل على النهي عن صوم عاشوراء، فهو إن لم يكن ظاهراً في الحرمة فهو ظاهر في عدم الاستحباب بنحو الخصوصيّة، وبذلك يكون صومه بقصد الخصوصيّة من التشريع المحرم.
وباتضاح مفاد هذه الروايات، يتبين أن العلاقة بينها وبين روايات الجواز هو التعارض المستقر ذلك، لأن مفاد روايات الجواز هو استحباب الصوم في عاشوراء بنحو الخصوصيّة، ومفاد روايات الطائفة الثانية هو حرمة صوم عاشوراء بقصد الخصوصيّة، ولا يصحُّ الجمع بينها بالقول أن مقتضى الصناعة هو حمل روايات المنع على الكراهة في العبادة بمعنى قلة الثواب، لأن ذلك لا يناسب التعبير عن الصوم بالبدعة في رواية نجبة العطار، ولا يناسب نسبة سنِّ صوم هذا اليوم إلى أعداء أهل البيت (عليهم السلام)، والوعد بأن محشر من يصومه يكون مع محشر أعداء أهل البيت (عليهم السلام) كما في رواية جعفر بن عيسى عن أخيه، كما أن هذا الحمل لا يناسب ما جاء في رواية أبي غندر من انتساب صوم هذا اليوم إلى سنّة آل سفيان، وهو منافٍ أيضاً لما ورد في رواية النرسي من أن من صام هذا اليوم كان حظُّه منه حظَّ ابن مرجانة وآل سفيان، وهو النّار.
على أنّ الحمل على الكراهة لو كان بمعنى انتفاء الخصوصيّة المقتضية للحرمة والتشريع حين قصدها فهو المطلوب، ولو كان لا يقتضي نفي الخصوصيّة وأنّ الأمر بصوم ذلك اليوم بنحو الخصوصيّة يظل ثابتاً، لكان المناسب هو عدم النهي عن صومه، كما في رواية عبد الله بن سنان، فلا معنى للنهي عن الصوم إلّا انتفاء الأمر عنه بنحو الخصوصيّة، وإذا كان كذلك كيف يصحُّ الجمع بين كل ذلك وبين القول بأنّ صيامه بنحو الخصوصيّة موجب لتكفير الذنوب لسنة كاملة.
فالطائفتان متكاذبتان جداً، ولابدّ من معالجتها على أساس مرجحات باب التعارض، وهي تقتضي إسقاط الطائفة الأولى الظاهرة في الاستحباب عن الحجيَّة، والعمل بمقتضى الطائفة الثانية الظاهرة في حرمة صوم عاشوراء بقصد الخصوصيّة، وذلك لأن الطائفة الأُولى موافقة لمذهب العامّة فهي محمولة على التقيّة.
والإشكال الذي يمكن إيراده على هذه النتيجة هي أنّ روايات الطائفة الثانية ضعيفة السند، فهي ساقطة عن الحجيّة من أول الأمر، فلا تكون مكافئة للطائفة الأولى حتى يقال بترجيحها على أساس المرجح الجهتي، فالتعارض بينها وبين الطائفة الأُولى من تعارض الحجة مع اللّاحجة، وذلك يقتضي اعتماد ما هو حجة وإسقاط الفاقد للحجيّة.
وهذا الإشكال الذي أفاده السيّد الخوئي غير واردٍ، وذلك للاطمئنان بصدور روايات الطائفة الثانية في الجملة نظراً لاستفاضتها، فلا يضرها أن تكون ضعيفة من حيث السند، ولأن تصدِّي المشهور للجمع بينها وبين الطائفة الأُولى يعبّر عن وثوقهم بصدورها، إذ لا معنى لمحاولة الجمع بينها إلا ذلك، هذا بالإضافة إلى التزام المتشرعة بترك الصوم في يوم عاشوراء، ولا نحتمل أن يكون منشأ الالتزام بالترك غير ما ورد عن المعصومين (عليهم السلام)، فالسيرة المتشرعية وإن لم تكن معبِّرة عن الحرمة، إلّا إنها موجبة للوثوق بصدور هذه الروايات، فتكون واحداً من القرائن المنتجة للعلم أو الاطمئنان بالصدور، وإذا أضفنا إليها ما نقله بعض الأعلام من دعوى مداومة الأئمة (عليهم السلام) على عدم صوم هذا اليوم، فإن الاطمئنان يكون آكداً.
وثمة قرينة أُخرى تصلح للمساهمة في تأكيد الإطمئنان بصدور هذه الروايات، وهي اعتماد ابن إدريس الحلِّي وابن زهرة عليها، إذ أن من المعروف أن مبناهما عدم الاعتماد على أخبار الآحاد، وأنه لا يصح بنظرهما الاعتماد إلا على الأخبار المتواترة أو المحتفَّة بالقرائن المفيدة للعلم بالصدور.
على أن رواية عبد الله بن سنان صحيحة السند خلافاً لما أفاده السيد الخوئي، إذ لو سلّمنا بتماميّة ما أفاده من أن طريق الشيخ في المصباح إلى عبد الله سنان مجهول، فإن ثمة طريقاً آخر اعتمده السيد الخوئي تبعاً لاعتماد السيد ابن طاووس وابنه عليه، وهو الطريق الذي ذكره المشهدي في كتاب المزار، حيث روى المشهدي عن عماد الدين الطبري عن أبي علي حسن ابن الشيخ الطوسي عن والده أبي جعفر الطوسي عن المفيد عن الشيخ جعفر بن قولويه والصدوق عن الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عبد الله بن سنان، وجميع من ورد في هذا الطريق من أجلاء الطائفة، فرواية عبد الله بن سنان صحيحة السند، وهي كما ذكرنا ظاهرة في عدم استحباب الصوم في يوم عاشوراء، فيكون الصوم بقصد الخصوصية تشريع محرَّم.
والمتحصّل من مجموع ما ذكرناه: أن الطائفة الثانية واجدة لشرائط الحجّية، وبذلك تكون مكافئة للطائفة الأُولى، فيتعيّن علاج التعارض بينهما بمرجحات باب التعارض، وهي تقتضي سقوط الطائفة الأولى عن الحجّية على أساس المرجِّع الجهتي، والحكم بصدور الطائفة الأولى تقيّةً.
وقد ذكر صاحب الحدائق تقييدَ جملة من الأصحاب لاستحباب صوم عاشوراء على وجه الحزن، فقال:
- ”وكأنهم جعلوا ذلك وجه جمع بين الأخبار الواردة في صومه أمراً ونهياً، وبهذا جمع الشيخ بين الأخبار في الإستبصار، فقال: إنّ مَن صام يوم عاشوراء على طريق الحزن بمصاب آل محمّد (صلى الله عليه وآله) والجزع لما حل بعترته (صلى الله عليه وآله)، فقد أصاب، ومن صامه على ما يعتقده مخالفونا من الفضل في صومه والتبرك به والاعتقاد ببركته وسعادته، فقد أثم وأخطأ.
ونقل هذا الجمع عن شيخه المفيد (قدس سره)، قال في المدارك بعد ذكر ذلك: وهو جيد.
أقول: بل الظاهر بعده لما سيظهر لك إن شاء الله تعالى بعد نقل الأخبار الواردة في هذا المقام...“.
ثم أورد المحقق البحراني جملة الروايات الواردة في هذا الباب، المؤيدة لاستحباب صوم عاشوراء والناهية عنه، وقد مرّ ذكر بعضها، ثم قال:
- ”لا يخفى عليك ما في دلالة هذه الأخبار من الظهور والصراحة في تحريم صوم هذا اليوم مطلقاً، وأنّ صومه إنما كان في صدر الإسلام ثم نُسخ بنزول صوم شهر رمضان، وعلى هذا يُحمل خبر صوم رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وأما خبر القداح وخبر مسعدة بن صدقة، الدالّ كل منهما على أن صومه كفارة سنة والأمر بصومه كما في ثانيهما، فسبيلها الحمل على التقية، لا على ما ذكروه من استحباب صومه على سبيل الحزن والجزع، كيف وخبر الحسين بن أبي غندر عن أبيه ظاهر في أنّ الصوم لا يكون للمصيبة، وإنما يكون شكراً للسلامة، مع دلالة الأخبار الباقية على النهي الصريح عن صومه مطلقاً، سيّما خبر نجية وقولهما (عليهما السلام) فيه أنه متروك بصيام شهر رمضان والمتروك بدعة! وبالجملة: فتحريم صيامه مطلقاً مِن هذه الأخبار أظهر ظاهر“.
ثمّ أشار إلى أن العذر لأصحابنا فيما ذكروه من حيث عدم تتبّع الأخبار كاملاً والتأمل فيها.
نعم، قد روى الشيخ (رضي الله عنه) في كتاب (مصباح المتهجد: 547)، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: دخلت عليه يوم عاشوراء، فألفيته كاسفَ اللون ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلتُ: يا ابن رسول الله، ممّ بكاؤك؟ لا أبكى الله عينيك، فقال لي: «أوَ في غفلة أنت؟! أما علمت أن الحسين بن علي (عليهما السلام) أُصيب في مثل هذا اليوم؟»، فقلت: يا سيدي، فما قولك في صومه؟ فقال لي: «صُمْه من غير تبييت، وأفطره من غير تشميت، ولا تجعله يوم صوم كملا، وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعة على شربة من ماء، فإنه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلت الهيجاء عن آل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وانكشفت الملحمة عنهم».
ثم عقّب صاحب الحدائق على هذه الرواية بقوله:
- ”وهذه الرواية هي التي ينبغي العمل عليها، وهي دالة على مجرد الإمساك إلى الوقت المذكور. والمفهوم من كلام شيخنا الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك حمل كلام الأصحاب باستحباب صوم يوم عاشوراء على وجه الحزن، هو صومه على هذا الوجه المذكور في هذه الرواية، وهو بعيد، فإن كلامهم صريح أو كالصريح في أن مرادهم صيام اليوم كملاً كما في جملة أفراد الصيام، والله العالم“ (الحدائق الناظرة للبحراني: 13 / 369 ـ 376 صوم يوم عاشوراء).
المورد الثاني: وهو صوم عاشوراء على أساس أنه واحد من أيام السنة، والظاهر أن ذلك جائز، إذ لو كان الصوم محرّماً كحرمة صوم العيدين، لكان واضحاً ولما وقع الخلاف في ثبوته، نظراً لكونه من الموارد التي يعمّ بها الابتلاء، وروايات المنع التي ذكرناها لا تصلح للدلالة على حرمته، وذلك لظهورها في حرمته بقصد الخصوصيّة، كما أوضحنا ذلك فيما تقدم، فمع عدم وجود الدليل على الحرمة، تبقى عمومات استحباب الصوم في كل يوم بلا موجب للتخصيص من هذه الجهة.