بسم الله الرحمن الرحيم
لطالما طرقت أسماعَنا ـ ونحن نجلس في مجالس ذكر الإمام أبي عبد الله الحسين (صلوات الله عليه) ـ عباراتٍ من الخطباء وأرباب منابر، تتضمّن ما يوحي أنّ الحسين (عليه السلام) خرج إلى كربلاء بتخطيط سياسي، فقد رأى أو ارتأى أنّ صلاح الأُمة وإصلاحها ينحصران في سفك دمه المقدس الطاهر في كربلاء، فوجد الفرصة المناسبة لخروجه من أجل طلب هذا الإصلاح في أُمة جده (صلّى الله عليه وآله)، وذلك بنظرة ثاقبة وتخطيط عسكري مُسبَق.
ولا تخلو الكثير من الكتابات عن هذا النهج، إذ إنّها ترى في الحسين (عليه السلام) قائداً عسكرياً محنّكاً، كان تخطيطه وفق تصوّرات خاصة بعيدة عن الرسم الإلهي، فقد رسم نهجاً جديداً للقيام ضدّ الظلم والفساد، فجعل من دمه الزاكي الذي أُريق في كربلاء نهجاً تسير عليه الأُمم والشعوب المضطهدة.
كلُّ هذا ينطلق من تعامل البعض مع الذوات المقدسة لأهل بيت العصمة والطهارة (صلوات الله عليهم) كشخصياتٍ إسلاميةٍ فذّة، عاشت في حقبةٍ من الزمن، فكانت فيها من العبقرية والذكاء والحنكة ما تفوقت بها على أقرانها، فناضلوا من أجل مبادئهم، وفكّروا وخططوا حتى بلغوا مُنيتهم، ولا يجد السامعُ أو القارئ للوهلة الأُولى كلاماً غريباً في هذا، لا سيّما بعد أن تعوّد سمعُه على ذلك.
وللوقوف بشكلٍ أعمق على هذا الكلام، يجب علينا أن نقدّم مقدمة في علم الإمام، لنعرف أن عبارات من قبيل "رأى" أو "ارتأى" ونِسْبتَها إلى الإمام المعصوم، لا تنمّ عن معرفة قائلها بعلمهم (صلوات الله عليهم)، وما خصّهم الله تعالى به من عظيم المنزلة، وما أطْلعهم عليه من الغيوب الغائبة عنّا.
• علمُ الإمام:
لقد أعطى اللهُ تعالى لأهل البيت (عليهم السلام) تلك المقامات السامية، فجعلهم طاهرين مطهَّرين، أئمّة وحججاً على الخلق لهم راشدين، معصومين من كلِّ عيبٍ ودنس، عالمين بكلِّ ما كان وما يكون، فلا يغيب عنهم علمُ شيء ولا يخفى عنهم أمر، فهم يعلمون ما في السماوات وما في الأرض، وما في الجنة وما في النار، كلُّ ذلك من كتاب الله (عزّ وجل) الذي فيه تبيان كلّ شيء (يراجع: أُصول الكافي للشيخ الكليني: 1 / 261 باب أنّ الأئمّة (عليهم السلام) يعلمون علمَ ما كان وما يكون وأنّه لا يخفى عليهم الشيء (صلوات الله عليهم) ح 2).
وبمقتضى كونهم أئمة للعباد وحججاً على الخلق، يلزم من ذلك علمهم بكلّ شيء، فقد كان المفضّل يوماً عند أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، فقال له: جُعلت فداك، يفرض اللهُ طاعةَ عبدٍ على العباد ويحجب عنه خبرَ السماء؟ قال: «لا، الله أكرم وأرحم وأرأف بعباده من أن يفرض طاعة عبدٍ على العباد، ثمَّ يحجبُ عنه خبرَ السماء صباحاً ومساءً» (الكافي: 1 / 261 ح 3).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام): «عجبتُ من قومٍ يتولّونا ويجعلونا أئمّة ويصفون أن طاعتنا مفترضة عليهم كطاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثمّ يكسرون حجّتهم ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم، فيُنقصونا حقّنا، ويعيبون ذلك على مَن أعطاه اللهُ برهانَ حقِّ معرفتنا والتسليم لأمرنا. أترون أنّ الله (تبارك وتعالى) افترض طاعةَ أوليائه على عباده، ثمّ يُخفي عنهم أخبار السماوات والأرض ويقطع عنهم موادّ العلم فيما يَرِد عليهم ممّا فيه قِوامُ دِينهم؟!» (الكافي: 1 / 261 ح 4).
وعنه (عليه السلام) أيضاً: «لا والله، لا يكون عالمٌ جاهلاً أبداً، عالماً بشيءٍ جاهلاً بشيء»، ثم قال: «اللهُ أجلُّ وأكرمُ من أن يفرض طاعة عبدٍ يحجب عنه علمَ سمائه وأرضه»، ثم قال: «لا يحجبُ ذلك عنه» (الكافي: 1 / 262 ح 6).
وبهذا يتبيّن لنا أنّ نسبة الرأي للإمام المعصوم نوعٌ من أنواع نسبة الجهل له ـ والعياذ بالله ـ، فالعالِم المأمور لا يرى من نفسه شيئاً، والإمام ممتثلٌ في كلِّ أحواله لأمر الله تعالى بما علَّمه، لا يفعل برأي نفسه أو مِن تلقاء ما يخطط.
وفي هذا كلامٌ واضح وجلي للإمام الصادق (عليه السلام) حينما سأله رجلٌ مسألةً فأجابه فيها، فقال الرجل: أرأيتَ إن كان كذا وكذا، ما يكون القولُ فيها؟ فقال له: «مَه، ما أجبتُك فيه من شيء فهو عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لسنا مِن (أرأيتَ) في شيء» (الكافي: 1 / 58 باب البدع والرأي والمقائيس ح 21).• علمُ الأئمّة (عليهم السلام) بوفاتهم:
لا أودّ الاقتصار هنا على علم الإمام العام المجمل، بل لنا أن نتوسّع في علم الإمام حتى في ساعة شهادته وكيفيّتهما وأين، وهذا ما نراه في سيرتهم (صلوات الله عليهم) وإخبارهم بوفَياتهم.
لقد عَرف أميرُ المؤمنين (عليه السلام) قاتلَه والليلةَ التي يُقتل فيها والموضع الّذي يُقتل فيه، فقال لمّا سمع صياح الإوزّ: «صوائح، تتبعها نوائح» (الكافي: 1 / 259 باب أن الأئمّة (عليهم السلام) يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلّا باختيارٍ منهم ح 4)، وقد أخبر الإمام الكاظم (عليه السلام) شيعته ـ وهو في السجن ـ بقرب حلول أجله، وأنه قد سُقي السمَّ في سبع تمرات وسيموت بعد غد (الكافي: 1 / 258 ح 2)، ولك أن تراجع في ذلك باب "أنّ الأئمة (عليهم السلام) يعلمون متى يموتون، وأنهم لا يموتون إلّا باختيارٍ منهم" (من: الكافي الشريف ج 1، وبحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 27).• علمُ الإمام الحسين (عليه السلام) وإخباره بمقتله:
لقد صدح صوتُ الحسين (صلوات الله عليه) ـ كراراً ومراراً وفي مواطن عدة ـ أنه خارجٌ إلى أرض كربٍ وبلاء، إلى موطنٍ اختاره اللهُ تعالى له مَسفكاً لدمه الزاكي ومضجعاً يضمّ جسمه الطاهر، وكان قولُ الحسين (عليه السلام) يقرعُ أسماعَهم: «كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسلان الفلوات، بين النواويس وكربلا ...».
وكان ردُّ الحسين (عليه السلام) على مَن حاول منعَه من الخروج أو عارضه ـ كابن عباس وابن الزبير ـ: «إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أمرني بأمرٍ وأنا ماضٍ فيه» (بحار الأنوار: 44 / 364 الباب 37 ـ عن كتاب: اللهوف على قتلى الطفوف للسيّد ابن طاووس: 26)، وقوله ليحيى وعبد الله بن جعفر ما يشبه ذلك، أو قوله لأخيه محمّد بن الحنفيّة: «... أتاني رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) بعدما فارقتك، فقال: يا حسين اخرج، فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً»، فلمّا قال له محمّد بن الحنفية: فما معنى حَمْلِك هؤلاء النساءَ معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال؟! أجابه الحسين (صلوات الله عليه): «إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا» (بحار الأنوار: 44 / 364).
فلم يكن بين طيّات كلام سيّد الشهداء (صلوات الله عليه) ما يؤكد أن ذلك من الرأي أو التخطيط الخاص الذي يكون بمعزلٍ عن المشيئة الإلهية، إنّما هي تلك المشيئة التي أرادت أن ترى في الحسين (عليه السلام) قتيلاً جديلاً على أطهر أرضٍ وأشرف بقعة، وهي المشيئة نفسها التي أرادت أن ترى في عيال الحسين وبنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحرمه سبايا في البلدان، وما ذاك إلّا أمرُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي لا ينطق عن الهوى، فالحسين (عليه السلام) مأمورٌ من قِبل جده بالخروج، وما هو إلّا ممتثل لذلك الأمر الذي هو أمرُ الله تعالى.
ومن الغريب كثرةُ إلحاح بعض من عارض الحسين (عليه السلام) في خروجه، بحجّة خوفه من أن يُقتل أو يُسفك دمه، وكأنه أخوف عليه من جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأشدُّ غرابة بعد ذلك تركه للحسين (عليه السلام) وعدم الخروج معه، بل حتى عدم إخراج بعض ولده لنصرته!
ويبدو أن فكرة خروج الحسين (صلوات الله عليه) كانت بحسب رأيه وتخطيطه الخاص، كانت منذ ذلك الحين، لذلك غابت عنهم خصائص إمامته ومنها علمه الإلهيّ، فأخذوا يقترحون عليه وجعلوا أنفسهم له في مقام الناصح.
ورغم كل ذلك، فقد كان الحسين (سلام الله عليه) دوماً في مقام الإخبار عن مقتله، وأنه قائمٌ بأمر الله تعالى ومصيره الشهادة لا محالة، حتى بلغ الأمرُ بإظهار بعض الإعجاز لهم، ليعرفوا أن الله تعالى غير عاجز عن درء القتل عنه أو عن نصره، إلّا أنه اختار له القتل بإرادة وحكمة سبقت منه تعالى.
روى السيد ابن طاووس بإسناده عن الواقدي وزرارة بن صالح، قالا: لقينا الحسين بن علي (عليهما السلام) قبل خروجه إلى العراق بثلاثة أيام، فأخبرناه بهوى الناس بالكوفة وأن قلوبهم معه وسيوفهم عليه، فأومأ بيده نحو السماء، ففُتحت أبواب السماء ونزلت الملائكة عدداً لا يحصيهم إلا الله تعالى، فقال (عليه السلام): «لولا تقاربُ الأشياء وحبوط الأجر، لَقاتلتُهم بهؤلاء، ولكن أعلم يقيناً أن هناك مصرعي ومصرع أصحابي، ولا ينجو منهم إلّا ولدي علي» (بحار الأنوار: 44 / 364)، أي: الإمام زين العابدين (عليه السلام).
وفضلاً عمّا ورد من إخبارٍ بمقتل الحسين (عليه السلام) على لسان جبرائيل والنبيّ (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين والإمام الحسن (عليهما السلام)، فالشواهد التاريخية في إخبار الإمام الحسين (عليه السلام) نفسِه كثيرة، منها قوله لعمر بن لوذان عندما طلب منه الانصراف عن الكوفة، إذ قال له: أين تريد؟ فقال (عليه السلام) له: «الكوفة»، فقال: أُنشدك الله لمّا انصرفت، فوالله ما تقدِم إلّا على الأسنّة وحدِّ السيوف، وإنّ هؤلاء الّذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطّأوا لك الأشياء فقدمتَ عليهم، كان ذلك رأياً، فأمّا على هذه الحال التي تذكر فإنّي لا أرى لك أن تفعل، فقال له: «يا عبد الله، ليس يخفى عليَّ الرأي، ولكنّ الله لا يُغلَب على أمره»، ثم قال (عليه السلام): «والله لا يَدَعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ...» (الإرشاد للمفيد: 2 / 76، بحار الأنوار: 44 / 375)، أو قوله لرجلٍ من العراق لقيه في الطريق، بعد قوله له: ما أنزلك في هذه الأرض القفراء التي ليس فيها ريف ولا منعة؟! مجيباً: «إن هؤلاء أخافوني، وهذه كتب أهل الكوفة، وهم قاتِليّ» (بحار الأنوار: 44 / 368، عوالم العلوم ـ الإمام الحسين (عليه السلام): 218)، أو قوله لأبي هرّة: «وأيم الله لتَقتُلني الفئة الباغية» (مثير الأحزان لابن نما: 33، بحار الأنوار: 44 / 368).
كلُّ ذلك يؤكد علمَ الحسين (عليه السلام) بمقتله، وأنه مأمور بالرحيل ولقاء الشهادة، لذا يطمئنّ المتأمِّلُ في هذه النصوص وأمثالها أنّ قيام الحسين كان تخطيطاً إلهياً، وأنه كان متوجهاً إلى الأرض الموعودة والحفرة المقصودة!• الوصية عند خروج الحسين (عليه السلام):
لقد كانت وصية الحسين (عليه السلام) عند خروجه إلى كربلاء واضحة، ورغم معارضة مَن عارضه خوفاً أو تخوّفاً عليه من القتل، فقد كان قولُ الحسين (عليه السلام) يصدح بمشيئة الله تعالى بأن يراه قتيلاً!
لقد كان قول الحسين (عليه السلام) مخبِراً عن القضاء الذي أُمضي وحُتم على سبيل الاختيار، وعن الوصية التي نزلت من السماء بكتاب مختوم تأمره بالخروج والقتال حتّى الشهادة.
عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: «إن الوصية نزلت من السماء على محمّد كتاباً، لم يُنزَل على محمّد (صلى الله عليه وآله) كتاب مختوم إلّا الوصية، فقال جبرئيل (عليه السلام): يا محمّد، هذه وصيتك في أُمتك عند أهل بيتك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أيّ أهل بيتي يا جبرئيل؟ قال: نجيب الله منهم وذريته، ليرثك علم النبوة كما ورثه إبراهيم (عليه السلام)، وميراثه لعلي (عليه السلام) وذريتُك من صلبه. قال: وكان عليها خواتيم، قال: ففتح علي (عليه السلام) الخاتم الأول ومضى لما فيها، ثم فتح الحسن (عليه السلام) الخاتم الثاني ومضى لما أُمر به فيها، فلما توفي الحسن ومضى، فَتَح الحسين (عليه السلام) الخاتمَ الثالث، فوجد فيها أن قاتلْ فاقتلْ وتُقتَل، واخرج بأقوام للشهادة، لا شهادة لهم إلّا معك، قال: ففعل (عليه السلام) ...» (الكافي: 1 / 279 باب أنّ الأئمّة (عليهم السلام) لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلون إلّا بعهدٍ من الله (عزّ وجل) وأمرٍ منه لا يتجاوزونه ح 1).
وعنه (عليه السلام) أيضاً: «إن الله (عزّ وجل) أنزل على نبيه (صلى الله عليه وآله) كتاباً قبل وفاته، فقال: يا محمّد، هذه وصيتك إلى النُّجَبة من أهلك، قال: وما النجبة يا جبرئيل؟ فقال: علي بن أبي طالب ووُلْده (عليهم السلام). وكان على الكتاب خواتيمُ من ذهب، فدفعه النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وأمره أن يفكّ خاتماً منه ويعمل بما فيه، ففك أميرُ المؤمنين (عليه السلام) خاتماً وعمل بما فيه، ثم دفعه إلى ابنه الحسن (عليه السلام) ففك خاتماً وعمل بما فيه، ثم دفعه إلى الحسين (عليه السلام) ففك خاتماً، فوجد فيه أن اخرج بقوم إلى الشهادة، فلا شهادة لهم إلّا معك، واشْرِ نفسك لله (عزّ وجل). ففعل ...» (الكافي: 1 / 280 ح 2).
ومن الغريب محاولة البعض المقارنة بين موقف الحسين (عليه السلام) وموقف أخيه الحسن السبط (سلام الله عليه)، فربّما استحسن هذا الموقف أو ذاك وبقي متحيراً من الآخر، في حين أنّ الروايات نصّت ومواقف الأئمة دلّت بوضوح على أنّهم لا يعملون إلّا وفق ما أمرهم الله تعالى ورسم لهم منهجه.
ويظهر أنّ الرواة المقرّبين من الأئمّة التفتوا إلى ما قد يُساور خَلَد البعض ممّن سيأتي بعد عصر النصّ، فسألوهم مستوضحين درءاً للشبهة، فهذا حُمران يسأل الإمام الباقر (عليه السلام) قائلاً: جُعلت فداك، أرأيت ما كان من أمر قيام علي بن أبي طالب والحسن والحسين (عليهم السلام) وخروجهم وقيامهم بدين الله (عزّ ذكره)، وما أُصيبوا من قتل الطواغيت إياهم والظفر بهم حتى قُتلوا وغُلبوا؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): «يا حمران، إن الله (تبارك وتعالى) قد كان قدّر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه على سبيل الاختيار ثم أجراه، فبتقدّم علمٍ إليهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قام علي والحسن والحسين (عليهم السلام)، وبعلمٍ صَمَتَ مَن صمت منا، ولو أنهم ـ يا حمران ـ حيث نزل بهم ما نزل من أمر الله (عزّ وجل) وإظهار الطواغيت عليهم، سألوا الله (عزّ وجل) أن يدفع عنهم ذلك وألحّوا عليه في طلب إزالة مُلك الطواغيت وذهاب ملكهم، إذاً لأجابهم ودفع ذلك عنهم، ثم كان انقضاء مدة الطواغيت وذَهاب ملكهم أسرَعَ مِن سِلكٍ منظوم انقطع فتبدد، وما كان ذلك الذي أصابهم ـ يا حمران ـ لذنب اقترفوه ولا لعقوبةِ معصيةٍ خالفوا الله فيها، ولكن لمنازلَ وكرامةٍ من الله أراد أن يبلغوها، فلا تذهبنّ بك المذاهب فيهم» (الكافي: 1 / 261 ح 4).
وعن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) قال: لما عزم الحسينُ بن علي (عليهما السلام) على الخروج إلى العراق، أتيتُه فقلت له: أنت ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأحد سبطيه، لا أرى إلّا أنك تصالح كما صالح أخوك الحسن، فإنه كان موفَّقاً راشداً، فقال لي: «يا جابر، قد فعل أخي ذلك بأمر الله وأمر رسوله، وإني أيضاً أفعل بأمر الله وأمر رسوله، أتريد أن أستشهد لك رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله) وعلياً وأخي الحسن بذلك الآن؟». قال جابر: ثم نظرتُ فإذا السماء قد انفتح بابها، وإذا رسول الله وعلي والحسن وحمزة وجعفر وزيد نازلين عنها حتى استقروا على الأرض، فوثبتُ فَزِعاً مذعوراً، فقال لي رسولُ الله (صلى الله عليه وآله): «يا جابر، ألم أقل لك في أمر الحسن قبل الحسين؛ لا تكون مؤمناً حتى تكون لأئمتك مسلّماً ولا تكن معترضاً، أتريد أن ترى مقعد معاوية ومقعد الحسين ابني ومقعد يزيد قاتله (لعنه الله)؟»، قلت: بلى يا رسول الله. فضرب برجله الأرض فانشقت وظهر بحر فانفلق، ثم ضرب فانشقت هكذا حتى انشقت سبع أرضين وانفلقت سبعة أبحر، فرأيت من تحت ذلك كله النار، فيها سلسلة قُرِن فيها الوليد بن مغيرة وأبو جهل ومعاوية الطاغية ويزيد، وقرن بهم مردة الشياطين، فهم أشد أهل النار عذاباً، ثم قال (صلى الله عليه وآله): «إرفع رأسك»، فرفعت، فإذا أبواب السماء متفتّحة، وإذا الجنة أعلاها، ثم صعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومَن معه إلى السماء، فلما صار في الهواء صاح بالحسين: «يا بُنيَّ الحقني»، فلحقه الحسين (عليه السلام)، وصعدوا حتى رأيتهم دخلوا الجنة من أعلاها، ثم نظر إلى من هناك رسول الله، وقبض على يد الحسين وقال: «يا جابر، هذا ولدي معي ها هنا، فسلِّم له أمره ولا تشكَّ لتكون مؤمناً»، قال جابر: فعَمِيَت عيناي إن لم أكن رأيتُ ما قلت من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)» (الثاقب في المناقب لابن حمزة عماد الدين الطوسي: 322).• ختامه قتل!
لقد أرسل الحسينُ (عليه السلام) سفيرَه وابنَ عمّه وثقته مسلم بن عقيل (عليه السلام) إلى الكوفة، من أجل دعوة الناس إلى طاعته وإخذالهم عن آل أبي سفيان، ورغم أن الظاهر هو تجهيز الكوفة لقدوم الحسين (عليه السلام) وثورته كما يُقال، إلّا أن الحسين (صلوات الله عليه) قال في وصيّته لمسلم: «وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء» (الفتوح لابن أعثم الكوفي: 5 / 36، الإرشاد: 204، مقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي الحنفي: 1 / 196).
فلو أمعنّا الفكر في ذلك، لعرفنا أن مسلم بن عقيل (عليه السلام) أيضاً كانت مهمّته هو التمهيد للفتح بالشهادة قبل أيّ أمر آخر، ولأيقنّا أن كلّ من تبع الحسين (عليه السلام) حتى ساعة الموت لم يتبعه طلباً للعافية، فـ «لو قاتلَ معه أهلُ الأرض كلُّهم لقُتلوا كلُّهم» (بحار الأنوار: 44 / 220)، بل كان هؤلاء عارفين بالمصير الذي بشّر به الحسينُ (عليه السلام)، بل حتى من تركه وبقي في المدينة كان لهم نفس السبب!
ثمّ مضت الأيام، وورد خبرُ مقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة (عليهما السلام) إلى الحسين (صلوات الله عليه) وهو في الطريق، فلم يرجع الحسين أو يغيّر طريقه، وهذا يدلّ بوضوح أنه سائرٌ على تلك الوصية وماضٍ إلى أمر الله تعالى.
قال الشيخ المفيد (رحمه الله): روى عبد الله بن سليمان والمنذر بن المشمعل الأسديان، قالا: لمّا قضينا حجتنا، لم تكن لنا همّة إلّا اللّحاق بالحسين في الطريق لننظر ما يكون من أمره، فأقبلنا ترقل بنا ناقتانا مسرعَينِ حتى لحقناه بزَرود، فلما دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حتى رأى الحسين (عليه السلام)، فوقف الحسين (عليه السلام) كأنه يريده، ثم تركه ومضى ومضينا نحوه، فقال أحدُنا لصاحبه: إذهب بنا إلى هذا لنسأله، فإن عنده خبر الكوفة. فمضينا حتى انتهينا إليه، فقلنا: السلام عليك، فقال: وعليكما السلام، قلنا: ممّن الرجل؟ قال: أسدي، قلنا له: ونحن أسديان، فمن أنت؟ قال: أنا بكر بن فلان، فانتسبنا له، ثم قلنا له: أخبرنا عن الناس وراءك، قال: نعم، لم أخرج من الكوفة حتى قُتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، ورأيتهما يُجَرّان بأرجلهما في السوق، فأقبلنا حتى لحقنا بالحسين، فسايرناه حتى نزل الثعلبية ممسياً، فجئناه حين نزل، فسلّمنا عليه فرد علينا السلام، فقلنا له: يرحمك الله، إنّ عندنا خبراً إن شئت حدّثناك به علانية وإن شئت سراً. فنظر إلينا وإلى أصحابه ثم قال: «ما دون هؤلاء سر»، فقلنا له: رأيتَ الراكبَ الذي استقبلته عشيَّ أمس؟ فقال: «نعم، قد أردتُ مسألته»، فقلنا: قد والله استبرأنا لك خبره وكفيناك مسألته، وهو امرؤٌ منا ذو رأي وصدق وعقل، وإنه حدثنا أنه لم يخرج من الكوفة حتى قُتل مسلم وهانئ، ورآهما يُجرّان في السوق بأرجلهما، فقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمة الله عليهما»، يردد ذلك مراراً.. فقلنا له: ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلا انصرفت من مكانك هذا، وإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوف أن يكونوا عليك. فنظر إلى بني عقيل فقال: «ما تَرَون؟ فقد قُتل مسلم»، فقالوا: والله ما نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق. فأقبل علينا الحسين (عليه السلام) فقال: «لا خير في العيش بعد هؤلاء»، فعلمنا أنه قد عزم رأيه على المسير، فقلنا له: خارَ اللهُ لك، فقال: «يرحمكم الله»، فقال له أصحابُه: إنك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمتَ الكوفة لكان أسرع الناس إليك. فسكت (الإرشاد: 204، بحار الأنوار: 44 / 373).
وهكذا عندما وصله خبر عبد الله بن يقطر ـ رسوله الذي أرسله بكتابٍ إلى جماعة من أهل الكوفة ـ، فاستعبر الحسينُ (عليه السلام) باكياً لمقتله.
وقد تفرق الناسُ حينها عن الحسين (عليه السلام) وأخذوا يميناً وشمالاً، وتركه مَن ظنّ أنه يأتي بلداً قد استقامت له طاعةُ أهلها، حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة ونفر يسير ممّن انضمّوا إليه فقط، الذين عاهدوه على المضيّ معه إلى الشهادة.
ومضى الحسينُ (عليه السلام) إلى مصيره المعلوم، تتلمسُ أقدامُه رملَ الصحراء والقفار، ليجد موطنَ قبره الذي اختاره الله تعالى له فيها، يمشي بنفسه المطمئنة إلى تلك الرمضاء والحفرة الموعودة والموضع الذي اختاره الله تعالى له، ليعرج منها إلى بارئه مع أرواحٍ حلّت بفنائه وأناخت برحله، ويقام له فيها علماً لا تندرس آثاره إلى يوم القيامة.
لقد كان الحسين (صلوات الله عليه) ماضياً إلى أمر الله، وقد حقق الإرادة الإلهية والمشيئة الربانية ورضيَ بها، لأن رضاه رضا الله ورضا الله رضاه، وهذا هو الأصل، وكل ما سوى ذلك فهو من بركات هذا التسليم لله والقتل فيه، ومن آثاره ولوازمه ومعطياته التي لا تنفك عنه.
لطالما طرقت أسماعَنا ـ ونحن نجلس في مجالس ذكر الإمام أبي عبد الله الحسين (صلوات الله عليه) ـ عباراتٍ من الخطباء وأرباب منابر، تتضمّن ما يوحي أنّ الحسين (عليه السلام) خرج إلى كربلاء بتخطيط سياسي، فقد رأى أو ارتأى أنّ صلاح الأُمة وإصلاحها ينحصران في سفك دمه المقدس الطاهر في كربلاء، فوجد الفرصة المناسبة لخروجه من أجل طلب هذا الإصلاح في أُمة جده (صلّى الله عليه وآله)، وذلك بنظرة ثاقبة وتخطيط عسكري مُسبَق.
ولا تخلو الكثير من الكتابات عن هذا النهج، إذ إنّها ترى في الحسين (عليه السلام) قائداً عسكرياً محنّكاً، كان تخطيطه وفق تصوّرات خاصة بعيدة عن الرسم الإلهي، فقد رسم نهجاً جديداً للقيام ضدّ الظلم والفساد، فجعل من دمه الزاكي الذي أُريق في كربلاء نهجاً تسير عليه الأُمم والشعوب المضطهدة.
كلُّ هذا ينطلق من تعامل البعض مع الذوات المقدسة لأهل بيت العصمة والطهارة (صلوات الله عليهم) كشخصياتٍ إسلاميةٍ فذّة، عاشت في حقبةٍ من الزمن، فكانت فيها من العبقرية والذكاء والحنكة ما تفوقت بها على أقرانها، فناضلوا من أجل مبادئهم، وفكّروا وخططوا حتى بلغوا مُنيتهم، ولا يجد السامعُ أو القارئ للوهلة الأُولى كلاماً غريباً في هذا، لا سيّما بعد أن تعوّد سمعُه على ذلك.
وللوقوف بشكلٍ أعمق على هذا الكلام، يجب علينا أن نقدّم مقدمة في علم الإمام، لنعرف أن عبارات من قبيل "رأى" أو "ارتأى" ونِسْبتَها إلى الإمام المعصوم، لا تنمّ عن معرفة قائلها بعلمهم (صلوات الله عليهم)، وما خصّهم الله تعالى به من عظيم المنزلة، وما أطْلعهم عليه من الغيوب الغائبة عنّا.
• علمُ الإمام:
لقد أعطى اللهُ تعالى لأهل البيت (عليهم السلام) تلك المقامات السامية، فجعلهم طاهرين مطهَّرين، أئمّة وحججاً على الخلق لهم راشدين، معصومين من كلِّ عيبٍ ودنس، عالمين بكلِّ ما كان وما يكون، فلا يغيب عنهم علمُ شيء ولا يخفى عنهم أمر، فهم يعلمون ما في السماوات وما في الأرض، وما في الجنة وما في النار، كلُّ ذلك من كتاب الله (عزّ وجل) الذي فيه تبيان كلّ شيء (يراجع: أُصول الكافي للشيخ الكليني: 1 / 261 باب أنّ الأئمّة (عليهم السلام) يعلمون علمَ ما كان وما يكون وأنّه لا يخفى عليهم الشيء (صلوات الله عليهم) ح 2).
وبمقتضى كونهم أئمة للعباد وحججاً على الخلق، يلزم من ذلك علمهم بكلّ شيء، فقد كان المفضّل يوماً عند أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، فقال له: جُعلت فداك، يفرض اللهُ طاعةَ عبدٍ على العباد ويحجب عنه خبرَ السماء؟ قال: «لا، الله أكرم وأرحم وأرأف بعباده من أن يفرض طاعة عبدٍ على العباد، ثمَّ يحجبُ عنه خبرَ السماء صباحاً ومساءً» (الكافي: 1 / 261 ح 3).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام): «عجبتُ من قومٍ يتولّونا ويجعلونا أئمّة ويصفون أن طاعتنا مفترضة عليهم كطاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثمّ يكسرون حجّتهم ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم، فيُنقصونا حقّنا، ويعيبون ذلك على مَن أعطاه اللهُ برهانَ حقِّ معرفتنا والتسليم لأمرنا. أترون أنّ الله (تبارك وتعالى) افترض طاعةَ أوليائه على عباده، ثمّ يُخفي عنهم أخبار السماوات والأرض ويقطع عنهم موادّ العلم فيما يَرِد عليهم ممّا فيه قِوامُ دِينهم؟!» (الكافي: 1 / 261 ح 4).
وعنه (عليه السلام) أيضاً: «لا والله، لا يكون عالمٌ جاهلاً أبداً، عالماً بشيءٍ جاهلاً بشيء»، ثم قال: «اللهُ أجلُّ وأكرمُ من أن يفرض طاعة عبدٍ يحجب عنه علمَ سمائه وأرضه»، ثم قال: «لا يحجبُ ذلك عنه» (الكافي: 1 / 262 ح 6).
وبهذا يتبيّن لنا أنّ نسبة الرأي للإمام المعصوم نوعٌ من أنواع نسبة الجهل له ـ والعياذ بالله ـ، فالعالِم المأمور لا يرى من نفسه شيئاً، والإمام ممتثلٌ في كلِّ أحواله لأمر الله تعالى بما علَّمه، لا يفعل برأي نفسه أو مِن تلقاء ما يخطط.
وفي هذا كلامٌ واضح وجلي للإمام الصادق (عليه السلام) حينما سأله رجلٌ مسألةً فأجابه فيها، فقال الرجل: أرأيتَ إن كان كذا وكذا، ما يكون القولُ فيها؟ فقال له: «مَه، ما أجبتُك فيه من شيء فهو عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لسنا مِن (أرأيتَ) في شيء» (الكافي: 1 / 58 باب البدع والرأي والمقائيس ح 21).• علمُ الأئمّة (عليهم السلام) بوفاتهم:
لا أودّ الاقتصار هنا على علم الإمام العام المجمل، بل لنا أن نتوسّع في علم الإمام حتى في ساعة شهادته وكيفيّتهما وأين، وهذا ما نراه في سيرتهم (صلوات الله عليهم) وإخبارهم بوفَياتهم.
لقد عَرف أميرُ المؤمنين (عليه السلام) قاتلَه والليلةَ التي يُقتل فيها والموضع الّذي يُقتل فيه، فقال لمّا سمع صياح الإوزّ: «صوائح، تتبعها نوائح» (الكافي: 1 / 259 باب أن الأئمّة (عليهم السلام) يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلّا باختيارٍ منهم ح 4)، وقد أخبر الإمام الكاظم (عليه السلام) شيعته ـ وهو في السجن ـ بقرب حلول أجله، وأنه قد سُقي السمَّ في سبع تمرات وسيموت بعد غد (الكافي: 1 / 258 ح 2)، ولك أن تراجع في ذلك باب "أنّ الأئمة (عليهم السلام) يعلمون متى يموتون، وأنهم لا يموتون إلّا باختيارٍ منهم" (من: الكافي الشريف ج 1، وبحار الأنوار للشيخ المجلسي ج 27).• علمُ الإمام الحسين (عليه السلام) وإخباره بمقتله:
لقد صدح صوتُ الحسين (صلوات الله عليه) ـ كراراً ومراراً وفي مواطن عدة ـ أنه خارجٌ إلى أرض كربٍ وبلاء، إلى موطنٍ اختاره اللهُ تعالى له مَسفكاً لدمه الزاكي ومضجعاً يضمّ جسمه الطاهر، وكان قولُ الحسين (عليه السلام) يقرعُ أسماعَهم: «كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسلان الفلوات، بين النواويس وكربلا ...».
وكان ردُّ الحسين (عليه السلام) على مَن حاول منعَه من الخروج أو عارضه ـ كابن عباس وابن الزبير ـ: «إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أمرني بأمرٍ وأنا ماضٍ فيه» (بحار الأنوار: 44 / 364 الباب 37 ـ عن كتاب: اللهوف على قتلى الطفوف للسيّد ابن طاووس: 26)، وقوله ليحيى وعبد الله بن جعفر ما يشبه ذلك، أو قوله لأخيه محمّد بن الحنفيّة: «... أتاني رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) بعدما فارقتك، فقال: يا حسين اخرج، فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً»، فلمّا قال له محمّد بن الحنفية: فما معنى حَمْلِك هؤلاء النساءَ معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال؟! أجابه الحسين (صلوات الله عليه): «إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا» (بحار الأنوار: 44 / 364).
فلم يكن بين طيّات كلام سيّد الشهداء (صلوات الله عليه) ما يؤكد أن ذلك من الرأي أو التخطيط الخاص الذي يكون بمعزلٍ عن المشيئة الإلهية، إنّما هي تلك المشيئة التي أرادت أن ترى في الحسين (عليه السلام) قتيلاً جديلاً على أطهر أرضٍ وأشرف بقعة، وهي المشيئة نفسها التي أرادت أن ترى في عيال الحسين وبنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحرمه سبايا في البلدان، وما ذاك إلّا أمرُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي لا ينطق عن الهوى، فالحسين (عليه السلام) مأمورٌ من قِبل جده بالخروج، وما هو إلّا ممتثل لذلك الأمر الذي هو أمرُ الله تعالى.
ومن الغريب كثرةُ إلحاح بعض من عارض الحسين (عليه السلام) في خروجه، بحجّة خوفه من أن يُقتل أو يُسفك دمه، وكأنه أخوف عليه من جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأشدُّ غرابة بعد ذلك تركه للحسين (عليه السلام) وعدم الخروج معه، بل حتى عدم إخراج بعض ولده لنصرته!
ويبدو أن فكرة خروج الحسين (صلوات الله عليه) كانت بحسب رأيه وتخطيطه الخاص، كانت منذ ذلك الحين، لذلك غابت عنهم خصائص إمامته ومنها علمه الإلهيّ، فأخذوا يقترحون عليه وجعلوا أنفسهم له في مقام الناصح.
ورغم كل ذلك، فقد كان الحسين (سلام الله عليه) دوماً في مقام الإخبار عن مقتله، وأنه قائمٌ بأمر الله تعالى ومصيره الشهادة لا محالة، حتى بلغ الأمرُ بإظهار بعض الإعجاز لهم، ليعرفوا أن الله تعالى غير عاجز عن درء القتل عنه أو عن نصره، إلّا أنه اختار له القتل بإرادة وحكمة سبقت منه تعالى.
روى السيد ابن طاووس بإسناده عن الواقدي وزرارة بن صالح، قالا: لقينا الحسين بن علي (عليهما السلام) قبل خروجه إلى العراق بثلاثة أيام، فأخبرناه بهوى الناس بالكوفة وأن قلوبهم معه وسيوفهم عليه، فأومأ بيده نحو السماء، ففُتحت أبواب السماء ونزلت الملائكة عدداً لا يحصيهم إلا الله تعالى، فقال (عليه السلام): «لولا تقاربُ الأشياء وحبوط الأجر، لَقاتلتُهم بهؤلاء، ولكن أعلم يقيناً أن هناك مصرعي ومصرع أصحابي، ولا ينجو منهم إلّا ولدي علي» (بحار الأنوار: 44 / 364)، أي: الإمام زين العابدين (عليه السلام).
وفضلاً عمّا ورد من إخبارٍ بمقتل الحسين (عليه السلام) على لسان جبرائيل والنبيّ (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين والإمام الحسن (عليهما السلام)، فالشواهد التاريخية في إخبار الإمام الحسين (عليه السلام) نفسِه كثيرة، منها قوله لعمر بن لوذان عندما طلب منه الانصراف عن الكوفة، إذ قال له: أين تريد؟ فقال (عليه السلام) له: «الكوفة»، فقال: أُنشدك الله لمّا انصرفت، فوالله ما تقدِم إلّا على الأسنّة وحدِّ السيوف، وإنّ هؤلاء الّذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطّأوا لك الأشياء فقدمتَ عليهم، كان ذلك رأياً، فأمّا على هذه الحال التي تذكر فإنّي لا أرى لك أن تفعل، فقال له: «يا عبد الله، ليس يخفى عليَّ الرأي، ولكنّ الله لا يُغلَب على أمره»، ثم قال (عليه السلام): «والله لا يَدَعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ...» (الإرشاد للمفيد: 2 / 76، بحار الأنوار: 44 / 375)، أو قوله لرجلٍ من العراق لقيه في الطريق، بعد قوله له: ما أنزلك في هذه الأرض القفراء التي ليس فيها ريف ولا منعة؟! مجيباً: «إن هؤلاء أخافوني، وهذه كتب أهل الكوفة، وهم قاتِليّ» (بحار الأنوار: 44 / 368، عوالم العلوم ـ الإمام الحسين (عليه السلام): 218)، أو قوله لأبي هرّة: «وأيم الله لتَقتُلني الفئة الباغية» (مثير الأحزان لابن نما: 33، بحار الأنوار: 44 / 368).
كلُّ ذلك يؤكد علمَ الحسين (عليه السلام) بمقتله، وأنه مأمور بالرحيل ولقاء الشهادة، لذا يطمئنّ المتأمِّلُ في هذه النصوص وأمثالها أنّ قيام الحسين كان تخطيطاً إلهياً، وأنه كان متوجهاً إلى الأرض الموعودة والحفرة المقصودة!• الوصية عند خروج الحسين (عليه السلام):
لقد كانت وصية الحسين (عليه السلام) عند خروجه إلى كربلاء واضحة، ورغم معارضة مَن عارضه خوفاً أو تخوّفاً عليه من القتل، فقد كان قولُ الحسين (عليه السلام) يصدح بمشيئة الله تعالى بأن يراه قتيلاً!
لقد كان قول الحسين (عليه السلام) مخبِراً عن القضاء الذي أُمضي وحُتم على سبيل الاختيار، وعن الوصية التي نزلت من السماء بكتاب مختوم تأمره بالخروج والقتال حتّى الشهادة.
عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: «إن الوصية نزلت من السماء على محمّد كتاباً، لم يُنزَل على محمّد (صلى الله عليه وآله) كتاب مختوم إلّا الوصية، فقال جبرئيل (عليه السلام): يا محمّد، هذه وصيتك في أُمتك عند أهل بيتك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أيّ أهل بيتي يا جبرئيل؟ قال: نجيب الله منهم وذريته، ليرثك علم النبوة كما ورثه إبراهيم (عليه السلام)، وميراثه لعلي (عليه السلام) وذريتُك من صلبه. قال: وكان عليها خواتيم، قال: ففتح علي (عليه السلام) الخاتم الأول ومضى لما فيها، ثم فتح الحسن (عليه السلام) الخاتم الثاني ومضى لما أُمر به فيها، فلما توفي الحسن ومضى، فَتَح الحسين (عليه السلام) الخاتمَ الثالث، فوجد فيها أن قاتلْ فاقتلْ وتُقتَل، واخرج بأقوام للشهادة، لا شهادة لهم إلّا معك، قال: ففعل (عليه السلام) ...» (الكافي: 1 / 279 باب أنّ الأئمّة (عليهم السلام) لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلون إلّا بعهدٍ من الله (عزّ وجل) وأمرٍ منه لا يتجاوزونه ح 1).
وعنه (عليه السلام) أيضاً: «إن الله (عزّ وجل) أنزل على نبيه (صلى الله عليه وآله) كتاباً قبل وفاته، فقال: يا محمّد، هذه وصيتك إلى النُّجَبة من أهلك، قال: وما النجبة يا جبرئيل؟ فقال: علي بن أبي طالب ووُلْده (عليهم السلام). وكان على الكتاب خواتيمُ من ذهب، فدفعه النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وأمره أن يفكّ خاتماً منه ويعمل بما فيه، ففك أميرُ المؤمنين (عليه السلام) خاتماً وعمل بما فيه، ثم دفعه إلى ابنه الحسن (عليه السلام) ففك خاتماً وعمل بما فيه، ثم دفعه إلى الحسين (عليه السلام) ففك خاتماً، فوجد فيه أن اخرج بقوم إلى الشهادة، فلا شهادة لهم إلّا معك، واشْرِ نفسك لله (عزّ وجل). ففعل ...» (الكافي: 1 / 280 ح 2).
ومن الغريب محاولة البعض المقارنة بين موقف الحسين (عليه السلام) وموقف أخيه الحسن السبط (سلام الله عليه)، فربّما استحسن هذا الموقف أو ذاك وبقي متحيراً من الآخر، في حين أنّ الروايات نصّت ومواقف الأئمة دلّت بوضوح على أنّهم لا يعملون إلّا وفق ما أمرهم الله تعالى ورسم لهم منهجه.
ويظهر أنّ الرواة المقرّبين من الأئمّة التفتوا إلى ما قد يُساور خَلَد البعض ممّن سيأتي بعد عصر النصّ، فسألوهم مستوضحين درءاً للشبهة، فهذا حُمران يسأل الإمام الباقر (عليه السلام) قائلاً: جُعلت فداك، أرأيت ما كان من أمر قيام علي بن أبي طالب والحسن والحسين (عليهم السلام) وخروجهم وقيامهم بدين الله (عزّ ذكره)، وما أُصيبوا من قتل الطواغيت إياهم والظفر بهم حتى قُتلوا وغُلبوا؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): «يا حمران، إن الله (تبارك وتعالى) قد كان قدّر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه على سبيل الاختيار ثم أجراه، فبتقدّم علمٍ إليهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قام علي والحسن والحسين (عليهم السلام)، وبعلمٍ صَمَتَ مَن صمت منا، ولو أنهم ـ يا حمران ـ حيث نزل بهم ما نزل من أمر الله (عزّ وجل) وإظهار الطواغيت عليهم، سألوا الله (عزّ وجل) أن يدفع عنهم ذلك وألحّوا عليه في طلب إزالة مُلك الطواغيت وذهاب ملكهم، إذاً لأجابهم ودفع ذلك عنهم، ثم كان انقضاء مدة الطواغيت وذَهاب ملكهم أسرَعَ مِن سِلكٍ منظوم انقطع فتبدد، وما كان ذلك الذي أصابهم ـ يا حمران ـ لذنب اقترفوه ولا لعقوبةِ معصيةٍ خالفوا الله فيها، ولكن لمنازلَ وكرامةٍ من الله أراد أن يبلغوها، فلا تذهبنّ بك المذاهب فيهم» (الكافي: 1 / 261 ح 4).
وعن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) قال: لما عزم الحسينُ بن علي (عليهما السلام) على الخروج إلى العراق، أتيتُه فقلت له: أنت ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأحد سبطيه، لا أرى إلّا أنك تصالح كما صالح أخوك الحسن، فإنه كان موفَّقاً راشداً، فقال لي: «يا جابر، قد فعل أخي ذلك بأمر الله وأمر رسوله، وإني أيضاً أفعل بأمر الله وأمر رسوله، أتريد أن أستشهد لك رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله) وعلياً وأخي الحسن بذلك الآن؟». قال جابر: ثم نظرتُ فإذا السماء قد انفتح بابها، وإذا رسول الله وعلي والحسن وحمزة وجعفر وزيد نازلين عنها حتى استقروا على الأرض، فوثبتُ فَزِعاً مذعوراً، فقال لي رسولُ الله (صلى الله عليه وآله): «يا جابر، ألم أقل لك في أمر الحسن قبل الحسين؛ لا تكون مؤمناً حتى تكون لأئمتك مسلّماً ولا تكن معترضاً، أتريد أن ترى مقعد معاوية ومقعد الحسين ابني ومقعد يزيد قاتله (لعنه الله)؟»، قلت: بلى يا رسول الله. فضرب برجله الأرض فانشقت وظهر بحر فانفلق، ثم ضرب فانشقت هكذا حتى انشقت سبع أرضين وانفلقت سبعة أبحر، فرأيت من تحت ذلك كله النار، فيها سلسلة قُرِن فيها الوليد بن مغيرة وأبو جهل ومعاوية الطاغية ويزيد، وقرن بهم مردة الشياطين، فهم أشد أهل النار عذاباً، ثم قال (صلى الله عليه وآله): «إرفع رأسك»، فرفعت، فإذا أبواب السماء متفتّحة، وإذا الجنة أعلاها، ثم صعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومَن معه إلى السماء، فلما صار في الهواء صاح بالحسين: «يا بُنيَّ الحقني»، فلحقه الحسين (عليه السلام)، وصعدوا حتى رأيتهم دخلوا الجنة من أعلاها، ثم نظر إلى من هناك رسول الله، وقبض على يد الحسين وقال: «يا جابر، هذا ولدي معي ها هنا، فسلِّم له أمره ولا تشكَّ لتكون مؤمناً»، قال جابر: فعَمِيَت عيناي إن لم أكن رأيتُ ما قلت من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)» (الثاقب في المناقب لابن حمزة عماد الدين الطوسي: 322).• ختامه قتل!
لقد أرسل الحسينُ (عليه السلام) سفيرَه وابنَ عمّه وثقته مسلم بن عقيل (عليه السلام) إلى الكوفة، من أجل دعوة الناس إلى طاعته وإخذالهم عن آل أبي سفيان، ورغم أن الظاهر هو تجهيز الكوفة لقدوم الحسين (عليه السلام) وثورته كما يُقال، إلّا أن الحسين (صلوات الله عليه) قال في وصيّته لمسلم: «وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء» (الفتوح لابن أعثم الكوفي: 5 / 36، الإرشاد: 204، مقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي الحنفي: 1 / 196).
فلو أمعنّا الفكر في ذلك، لعرفنا أن مسلم بن عقيل (عليه السلام) أيضاً كانت مهمّته هو التمهيد للفتح بالشهادة قبل أيّ أمر آخر، ولأيقنّا أن كلّ من تبع الحسين (عليه السلام) حتى ساعة الموت لم يتبعه طلباً للعافية، فـ «لو قاتلَ معه أهلُ الأرض كلُّهم لقُتلوا كلُّهم» (بحار الأنوار: 44 / 220)، بل كان هؤلاء عارفين بالمصير الذي بشّر به الحسينُ (عليه السلام)، بل حتى من تركه وبقي في المدينة كان لهم نفس السبب!
ثمّ مضت الأيام، وورد خبرُ مقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة (عليهما السلام) إلى الحسين (صلوات الله عليه) وهو في الطريق، فلم يرجع الحسين أو يغيّر طريقه، وهذا يدلّ بوضوح أنه سائرٌ على تلك الوصية وماضٍ إلى أمر الله تعالى.
قال الشيخ المفيد (رحمه الله): روى عبد الله بن سليمان والمنذر بن المشمعل الأسديان، قالا: لمّا قضينا حجتنا، لم تكن لنا همّة إلّا اللّحاق بالحسين في الطريق لننظر ما يكون من أمره، فأقبلنا ترقل بنا ناقتانا مسرعَينِ حتى لحقناه بزَرود، فلما دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حتى رأى الحسين (عليه السلام)، فوقف الحسين (عليه السلام) كأنه يريده، ثم تركه ومضى ومضينا نحوه، فقال أحدُنا لصاحبه: إذهب بنا إلى هذا لنسأله، فإن عنده خبر الكوفة. فمضينا حتى انتهينا إليه، فقلنا: السلام عليك، فقال: وعليكما السلام، قلنا: ممّن الرجل؟ قال: أسدي، قلنا له: ونحن أسديان، فمن أنت؟ قال: أنا بكر بن فلان، فانتسبنا له، ثم قلنا له: أخبرنا عن الناس وراءك، قال: نعم، لم أخرج من الكوفة حتى قُتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، ورأيتهما يُجَرّان بأرجلهما في السوق، فأقبلنا حتى لحقنا بالحسين، فسايرناه حتى نزل الثعلبية ممسياً، فجئناه حين نزل، فسلّمنا عليه فرد علينا السلام، فقلنا له: يرحمك الله، إنّ عندنا خبراً إن شئت حدّثناك به علانية وإن شئت سراً. فنظر إلينا وإلى أصحابه ثم قال: «ما دون هؤلاء سر»، فقلنا له: رأيتَ الراكبَ الذي استقبلته عشيَّ أمس؟ فقال: «نعم، قد أردتُ مسألته»، فقلنا: قد والله استبرأنا لك خبره وكفيناك مسألته، وهو امرؤٌ منا ذو رأي وصدق وعقل، وإنه حدثنا أنه لم يخرج من الكوفة حتى قُتل مسلم وهانئ، ورآهما يُجرّان في السوق بأرجلهما، فقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمة الله عليهما»، يردد ذلك مراراً.. فقلنا له: ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلا انصرفت من مكانك هذا، وإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوف أن يكونوا عليك. فنظر إلى بني عقيل فقال: «ما تَرَون؟ فقد قُتل مسلم»، فقالوا: والله ما نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق. فأقبل علينا الحسين (عليه السلام) فقال: «لا خير في العيش بعد هؤلاء»، فعلمنا أنه قد عزم رأيه على المسير، فقلنا له: خارَ اللهُ لك، فقال: «يرحمكم الله»، فقال له أصحابُه: إنك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمتَ الكوفة لكان أسرع الناس إليك. فسكت (الإرشاد: 204، بحار الأنوار: 44 / 373).
وهكذا عندما وصله خبر عبد الله بن يقطر ـ رسوله الذي أرسله بكتابٍ إلى جماعة من أهل الكوفة ـ، فاستعبر الحسينُ (عليه السلام) باكياً لمقتله.
وقد تفرق الناسُ حينها عن الحسين (عليه السلام) وأخذوا يميناً وشمالاً، وتركه مَن ظنّ أنه يأتي بلداً قد استقامت له طاعةُ أهلها، حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة ونفر يسير ممّن انضمّوا إليه فقط، الذين عاهدوه على المضيّ معه إلى الشهادة.
ومضى الحسينُ (عليه السلام) إلى مصيره المعلوم، تتلمسُ أقدامُه رملَ الصحراء والقفار، ليجد موطنَ قبره الذي اختاره الله تعالى له فيها، يمشي بنفسه المطمئنة إلى تلك الرمضاء والحفرة الموعودة والموضع الذي اختاره الله تعالى له، ليعرج منها إلى بارئه مع أرواحٍ حلّت بفنائه وأناخت برحله، ويقام له فيها علماً لا تندرس آثاره إلى يوم القيامة.
لقد كان الحسين (صلوات الله عليه) ماضياً إلى أمر الله، وقد حقق الإرادة الإلهية والمشيئة الربانية ورضيَ بها، لأن رضاه رضا الله ورضا الله رضاه، وهذا هو الأصل، وكل ما سوى ذلك فهو من بركات هذا التسليم لله والقتل فيه، ومن آثاره ولوازمه ومعطياته التي لا تنفك عنه.
تعليق