الإشتياق للموت
و بناءً علي هذه الحقيقة فانّ الموت سوف لن يوجد الاضطراب و لا الحيرة و الفزع للعارف و المؤمن، بل انّه سيُثير فزع الافراد الذين ابتعدوا عن تجرّد النفس بالانغمار في عالم المادّة و الشهوات، و الذين لم يعرفوا ربّهم بسبب عدم معرفة عوالم القرب و عدم الانس بها، اولئك الذين يجعلهم جهلهم في فزع و اضطراب دائمين.
أمّا المؤمن الذي لم يتخطّ طريق الحقّ قدماً واحداً، و الذي وافق بين عمله و صفاته و بين الحقّ و أمر الحقّ، فطوي كشحه في هذه الدنيا عن عالم الغرور و تجافي عنه، و مال الي دار الخلود و الابديّة، و كان عاشقاً و محبّاً للقاء الله، فهو كذلك عاشق للموت، عاشق للتجرّد، لانّه محبّ لله مؤمن بفردانيّته، فهو يتمنّي كلّ يوم أن يخلع لباس البدن و يرتدي خلعة التجرّد و زيّه، بل انّه يسعي علي الدوام ليقلّل كلّ يوم درجةً من غروره ومجازه، و يقترب كلّ يوم درجةً من إدراك المعني و الحقيقة، حتّي يصل الي الحد الذي تصبح لديه جميع الامور الدنيويّة الفانية مدفونة في سراب البطلان و العدم، و حتي يتحقّق لديه تجلّي عالم الانوار و الحقيقة.
يقول الباري عزّوجل في خطابه لليهود:
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاْخِرَةُ عِنْدَ اللَهِ خَالِصَةً مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَـ'دِقِينَ * وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيْهِمْ وَاللَهُ عَلِيمٌ بِالظَّـ'لِمِينَ [1]
يا أيّها النبيّ قل لليهود (الذين يدّعون انّهم مقرّبون عندالله، و انّ الآخرة و الجنّة ملكهم المنحصر بهم) قل: إن كانت الجنّة و المنزل الخالد عندالله لكم فقط لا يستفيد منه الآخرون، و إن صدقتم في ادّعائكم هذا فتمنّوا الموت. و لن يتمنّونه أبداً بسبب أساليبهم و أعمالهم الظالمة التي اجترحوها و قدّموها قبلهم، و الله سبحانه عليم بالظالمين.
أي انّ من عمل صالحاً، و لم يتجاوز علي حقوق الآخرين، و لمينحرف عن مقام عبوديّته لله سبحانه، سيكون قد وجد الارتباط بالله والمعرفة به، و هذا الانس و العلاقة سيوجبان محبّته و نزوعه الي لقاءه والنظر اليه عزّوجل، و باعتبار انّ الموت يمثّل جسر العبور للّقاء والوصال، فانّ المؤمن ينبغي أن يكون عاشقاً للموت، لانّ عاشق الحبيب يعشق أيضاً الطريق الذي يقوده الي حبيبه. و يقول تعالي أيضاً:
قُلْ يَـ'أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنُّوُا الْمَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَـ'دِقِينَ * وَ لاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَالَلهُ عَلِيمٌ بِالظَّـ'لِمِينَ. [2]
انّ من يعقد آماله علي عالم الغرور، فينحصر نظره الي عالم الوجود من نافذة الشهوة و الغضب و الاستثمار و التعيّن و الحكومات غير اللائقة، اي انّ من انغمر في عين الجهل و ابتعد عن عالم الحقيقة الماثل في متن الواقعيّة، و ابتعد عن الله سبحانه و لم يُبدِ خضوعاً في مقام العبوديّة له، فهو ليس عاشقاً لله أبداً، بل هو مُدّعٍ كاذب و ليس من أولياء الله، لانّ الوليّ عاشق لمولاه، كما انّه ليس محبّاً لانّ المحبّ مشتاق لزيارة و لقاء حبيبه.
انّ اليهود يدّعون انّهم النخبة و الصفوة من ولد آدم، و انّهم لن يحترقوا في نار جهنّم يوم القيامة الاّ أيّاماً معدودات هي الاربعين يوماً التي تمرّدوا فيها علي هارون وصيّ موسي فعبدوا العجل، و هم كاذبون في ادّعائهم هذا، لانّ آثار المحبّة لا تبين في هيكل وجودهم و في أرجاء عملهم و اسلوبهم و سلوكهم المعرّف بصفاتهم و ذواتهم وطريقة تفكيرهم.
اولئكم عشّاق الدنيا، المتلهّفون لكنز المال و الثروة، و هم لذلك يعشقون ايّ سبيل ينهج بهم الي معشوقهم و معبودهم، و لو كان قتل النفوس البريئة و نهب الاموال المحترمة. اولئكم عشّاق حياة عالم الغرور لا عشّاق الابديّة و السرمديّة.
اُقتلوني اُقتلوني يا ثِقاة إنَّ فِي قتلي حياةً في حياة [3]
و في رواية عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال:
لمّا أراد الله تبارك و تعالي قبض روح ابراهيم عليه السلام أهبط ملك الموت فقال: السلام عليك يا ابراهيم!
قال: وَ عَلَيْكَ السَّلاَمُ يَا مَلَكَ الْمَوتِ. أدَاعٍ أمْ نَاعٍ؟قال: بل داعٍ يا ابراهيم، فأجب.قال ابراهيم: فَهَلْ رَأَيْتَ خَلِيلاً يُمِيتُ خَلِيلَهُ؟قال: فرجع ملك الموت حتّي وقف بين يدي الله جلّ جلاله فقال:الهي قد سمعتَ ما قال خليلُك ابراهيم.فقال الله جلّ جلاله: يا ملك الموت اذهب اليه و قل له: هَلْ رَأيْتَ حَبِيبَاً يَكْرَهُ لِقَاء حَبِيبِهِ؟ إنَّ الْحَبِيبَ يُحِبُّ لِقَاءَ حَبِيبِهِ.[4]
الهوامش:[1] ـ الآية 94 و 95، من السورة 2: البقرة.[2] ـ الآية 6 و 7، من السورة 62: الجمعة.[3] ـ يقول: وجدتُ في حياتي موتي، ادركتُ انّ الخلود في رحيلي عن هذه الحياة اقتلوني اقتلوني...[4] ـ بحار الانوار طبع الاسلامية، ج 6، ص 127، نقلاً عن أمالي الصدوق، عن الدقاق، باسناده عن ابن ظبيان، عن الصادق عليه السلام عن آبائه الواحد تلو الآخر الي أميرالمؤمنين عليه السلام كما يرويه في ج 12، ص 78 بنفس السند عن الامالي و علل الشرايع.