التلفاز وتاثيره على الطفل
((هل أنجزتَ فروضَك المدرسية لهذا اليوم، يا بُنيّ؟)).
تُلقي الأم هذا السؤال على ابنها ولكنه جالس لا يريم.. إنه مشدود إلى شاشة التلفزيون، مُسَمّر إليها بكل جوارحه وحواسه.
ويظل سؤال الأم المشوب بالقلق، بلا جواب.
ولكي نفهم هذا القلق المشروع لدى بعض الآباء.. ولكي نفهم شكل العلاقة بين الأطفال وبين التلفاز يحسن بنا أن نُلقي نظرة فاحصة على طبيعة هذا الجهاز ((والخدمات)) التي يقدّمها، ولكي نفهم بالتالي الجوانب التي يُمكن أن تشكِّل خطراً على المشاهدين الذين لم يبلغوا سن النضج أو البلوغ بعد.
إن استخدام وسائل البث الحديثة ـ وفي مقدمتها التلفزيون ـ يخلق اتجاهاً أو ميلاً نحو السلبية. وتتمثّل السلبية في جلوس المُشَاهِد على مقعد وثير، في جلسة استرخاء لكي يستقبل ما يُبثّ على الشاشة الصغيرة.
وإذا كان التلفزيون ـ كما يقول د. غلين Dr. Glynn يقود الكبار إلى مرحلة شفوية تماثل مرحلة طفل تغذّيه أمه، ويلتهم بشراهة كل ما يُقدّم إليه دون أن يبذل أي مجهود(1)، فكيف الحال بالنسبة للطفل الذي يتميز عموماً بقدرة أقل من الراشدين على استخدام إرادته الشخصية؟ ويرى الكاتب غراهام أن التلفزيون يستهوي خاصة الأشخاص الذين يبحثون عن تسلية سلبية. ويفسر بعض المحلِّلين النفسيِّين هذا الميل إلى السلبية على أنه تقهقر للفرد إلى مرحلة شفوية.
ونظير ذلك، نجد أن الباحث انديرس G.Anders ينحي باللائمة على التلفزيون لأنه يجعل المُشَاهِد سلبياً، بل ويقوده إلى شكل من أشكال الاستلاب والارتهان(2).
ويُلاحظ بيلسون Belson نتيجة أبحاث ميدانية قام بها، لدى مُشاهدي التلفزيون تناقضاً أو انخفاضاً في روح المبادرة.
وتشير الدلائل إلى أن التلفاز يؤدِّي إلى تفشّي ظاهرتي الاسقاط والتقمّص المعروفتين لدى المحلِّلين النفسيين. ومع أن هاتين الظاهرتين هما ظاهرتان مختلفتان، إلاّ أن احداهما تؤدٍِّي إلى تعميق الأخرى وتقويتها.
ويُذكر أن مصطلح الإسقاط هو لفظة وضعها فرويد للدلالة على قيام شخص ما بنسبة اندفاعاته وعُقَدِه النفسية إلى الغير، بل وحتى بنقل صراعه الداخلي على قضية خارجية. أما عن طريق التمقص، فإن الفرد أو الطفل يصبح ـ لا شعورياً ـ مُماثلاً أو مُطابقاً لشخص آخر يغدق عليه مشاعر لا يغدقها الإنسان في العادة إلاّ على نفسه!
ويعتقد سيات Seat أن تقنية البث الواسع، عندما تقتحم على الإنسان جوّه العائلي الحميم، وتستحوذ عليه خلال وقت فراغه ـ وهو في حالة استرخاء في بيته ـ ، فإنها تضيف إلى وسائلها سطوة إضافية. وذلك لأن التلفزيون ـ كما يقول الفيلسوف الفرنسي باشلر ـ ينتزعنا من أنفسنا ويفرض نفسه علينا وعلى شخصيتنا.
فأي شخصية ستكون لأطفالنا وهم يتعرضون لتأثير التلفزيون ذي التقنيات والأساليب المتطورة:
انه يمتلك ـ إضافة إلى عناصر الصوت البشري والموسيقى والمؤثِّرات الصوتية ـ المؤثِّرات البصرية والخدع السينمائية وتوزيع الإضاءة ومزج الصور والديكور.. وحين ترتبط الحركة بالصوت فإن التأثير يتزايد وكل هذا مدعاة للثقة. حتى ليظن الطفل أن كل ما يراه هو حقيقة واقعة لا يرقى إليها الشك.
ولا ينبغي أن ننسى كذلك قدرة التلفزيون على التكبير والتصغير والحذف والإضافة. وبذا فإنه يفرض على مشاهديه ـ وخاصة الأطفال منهم ـ طريقة معينة لفهم المرئيات.
ترى، ماذا يعني كل ذلك بالنسبة للطفل؟ إنه يعني انشداد الطفل إلى لون من ألوان ((المعرفة)) السريعة المبتسرة.
أين يكمن الخطر؟
وتتضح خطورة الدور الذي يلعبه التلفزيون إذا أخذنا بنظر الاعتبار الأمور التالية:
1 ـ تشكِّل البرامج الترفيهية نسبة عالية من البرنامج العام: 60 إلى 70 بالمئة في الولايات المتحدة، 29% في فرنسا، 42% في اليابان، 35% في تشيكوسلوفاكيا(3).
2 ـ تبثّ البرامج الأساسية عادة في المساء: في فرنسا ـ مثلاً ـ 75% من أجهزة التلفزيون تُدار بين الساعة السابعة والنصف والتاسعة والنصف، وأحياناً حتى العاشرة والنصف.
وهذا يثبت أن الأطفال يتعرّضون أولاً لتأثير المواد الترفيهية، وهي في غالبيتها برامج غير جادّة ويقتصر همّها على التسلية وقضاء الوقت، وهي مما لا يضيف شيئاً إلى الرصيد الثقافي والفكري للطفل. بل وقد يعرّضه إلى تأثيرات خُلُقية ومعنوية ضارة(4).
أما توقيت بثّ البرامج الأساسية وحصرها في الفترة المسائية فإنه ينطوي على عدة إشكالات، منها ـ أو أقلّها ـ صرف الطفل عن تحضير دروسه وحرمانه من الراحة والنوم في وقت مبكر يتناسب وعمره.
وكل الدلائل تشير إلى أنه ليس ثمة تسلية بريئة. فقد جاء في دراسة لليونسكو أجريت عام 1974 أن غالبية الدول النامية التي تُوجد بها محطّات تلفزيونية تستورد ما لا يقلّ عن نصف البرامج التي تعرضها، وأن 75% من جملة الواردات العالمية من البرامج التلفزيونية يأتي من الولايات المتحدة الأمريكية(5).
ويقول محرّر التلفاز في مجلة ((ساتردي ريفيو)) إن ((برامج التسلية تُلَمّح للجمهور بالطريقة التي يتعيّن أن يتبعها في تحديد ما هو جدير بالاحترام في مجتمعنا [أي المجتمع الامريكي] والكيفية التي يتصرف بها، إنها في الواقع أشكال من التعليم أو تلقين المبادئ))(6).
وباختصار، فإن هذه البرامج تستهدف خلق نمط ثقافي عالمي واحد من حيث الذوق والأسلوب والمضمون.
ومن الأمثلة الصارخة على ذلك تعميم الجينز والببسي كولا والوجبات السريعة(7)، ومسلسلات دالاس وديناستي التي تقدّم التفسخ الخلقي والفساد والخيانة الزوجية وكأنها أمر طبيعي مقبول!
وقد اقتحم ميدان التلفزيون مضاربون ومتلاعبون بالعقول، ((وقد دخل هؤلاء عالم الأطفال فعلاً من خلال التلفاز اليوم، وأنشأوا شركات وأجهزة ليس من أغراضها تثقيف الأطفال بالثقافة المناسبة، بل من أجل تحقيق مآرب وأغرضا أخرى، فبدأ الحديث عن (جناية التلفاز على ثقافة الأطفال) وانتهى القول إلى أن التلفاز دخل البيوت عنوة...))(8).
وهكذا انطبع الجيل بطابع الفكر الأجنبي الهجين، حتى أن بعض أطفالنا اليوم يعرفون جي آر وكوجاك وجاك مارتان أكثر مما يعرفون أبا الأسود الدؤلي أو ابن رشد أو مالك بن نبي أو أبا الأعلى المودودي...
ونجم عن ذلك انفصام أو انفصال بين الناشئة وتراثهم ولغتهم الأصيلة بعد أن غُزوا في عقر دارهم.
تعليق