الدخان الابيض
في البدء… قذف الدخان الابيض الكثيف على الطرف الايمن للمدينة .. وراح يتصاعد عموديا نحو السماء , ثم ما لبث ان دفعه الهواء افقيا فراح يتهادى نحو المدينة , ينفذ الى شوارعها .. بيوتها … يدخل في كل شئ .
ثم لف الاشجار , ولامس البراعم المتفتحة لبضعة ايام خلت .. ونزل الى الارض الخصبة , فخضب جذور النبت والشجر .. وحتى الاطفال الرضع ,فقد
عانقهم الدخان وهم غافون في سرير , أو في حضن أم رؤوف …
الدخان يسير … يحمله الهواء الذي لايخلو من لسعات من برد قارس , والسماء صافية تماما .. فقد بدد الهواء الربيعي غيومها الداكنة التي كانت متراكمة بالأمس .. دفعها عن وجه الشمس , فاشرقت هذه تزهو باشعتها الدافئة ..
كان كل شئ مدروسا بدقة متناهية … فقد لوحظت تقلبات الجو .. وعرفت حركة الهواء وسرعته .. فحددت كمية الدخان , بعدها تم اختيار المكان المناسب لقذفه .. ورشت المدينة به ؛ وكأنها موبوءة بوباء خطير , قرر ازالته والقضاء عليه بأطنان من الدخان الابيض … كما كان يقضى على البعوض ايام الصيف بسيارة ( الدخانية ) , هكذا كنا نسميها في زمن الطفولة .. كانت تجوب الشوارع والازقة , ترش الدخان مع قدوم الليل .. لتنقذنا من لسعات البعوض البغيضة .. كنا نركض وراءها بمرح شديد .. ولكي نصبح ضمن دائرة الدخان الكثيف ..عندها تنعدم الرؤية نسبيا .. فنلعب .. ويضرب بعضنا بعضا بمرح وبراءة , وما ان تبتعد السيارة حتى نرجع الى بيوتنا متعبين , ولننعم بنوم هادئ في سطوح منازلنا , نوم ليس فيه لسعة بعوضة واحدة ..!
ولكن … هذا الدخان غطى المدينة بسرعة بالغة , فلم يدع للاطفال فرصة اللعب به ..فالكل كان قد استنشق الدخان الذي نفذ الى الانوف رغما عنها ,
وتسلل الى الاعماق ! .. وما هي الا لحظات حتى احمرت الأعين .. وشعر اهل المدينة لا ( البعوض ) بحرقة بالغة في وجوههم , وراحت تتسلل ببطء
وتنتشر الى كل اقسام الجسد .. وبحركات سريعة مذعورة ترك الناس كل شئ .. الا الأتجاه الى المياه الباردة , ليطفئوا لهيب اجسادهم … ملأوا
الاحواض البلاستيكية .. السطول ..قدور الطبخ ؛ بالماء , وجلسوا يرشونه على عيونهم ووجوههم …
وصرخ الاطفال ..
رقصت اجسادهم الناعمة كطيور مذبوحة .. هرعوا الى الشوارع .. لحقتهم امهاتهم .. كان الدخان قد تسلل الى اعماقهم , افئدتهم .. ركضوا بهلع شديد ..وسرعان ما سقطت اجسادهم في الطريق .. وعلى عتبات البيوت .. وسكتت انفاسهم تماما ..!
لتريحهم من عذاب لايوصف .. ومن الناس من هرع الى النهر الصغير الذي يمر في اطراف المدينة .. ليشاهدوا الطيور تتساقط .. الابقار ترفس الارض بأرجلها .. لقد احترقت هي الاخرى بالدخان .. ماتت .
وشهد النهر بمائه البارد , مئات البشر وهم يضطجعون على حافته .. يغرفون الماء ليرشوا به عيونهم , ليغسلوا وجوههم .. عل الماء البارد يخفف اللهيب الداخلي الذي راح يسري في كل عرق من عروق اجسادهم .. فيحرقه .
ولدقائق معدودة .. سكتت الانفاس .. ومات الكل , النساء .. الاطفال .. الشيوخ ..الحيوانات .. العصافير الجميلة .. وحتى جذور الشجر ..!
فقد كان الدخان كثيفا ..
وكان كل شئ مدروسا بدقة متناهية ؛ من اجل القضاء على الكرد في حلبجة . ))
في البدء… قذف الدخان الابيض الكثيف على الطرف الايمن للمدينة .. وراح يتصاعد عموديا نحو السماء , ثم ما لبث ان دفعه الهواء افقيا فراح يتهادى نحو المدينة , ينفذ الى شوارعها .. بيوتها … يدخل في كل شئ .
ثم لف الاشجار , ولامس البراعم المتفتحة لبضعة ايام خلت .. ونزل الى الارض الخصبة , فخضب جذور النبت والشجر .. وحتى الاطفال الرضع ,فقد
عانقهم الدخان وهم غافون في سرير , أو في حضن أم رؤوف …
الدخان يسير … يحمله الهواء الذي لايخلو من لسعات من برد قارس , والسماء صافية تماما .. فقد بدد الهواء الربيعي غيومها الداكنة التي كانت متراكمة بالأمس .. دفعها عن وجه الشمس , فاشرقت هذه تزهو باشعتها الدافئة ..
كان كل شئ مدروسا بدقة متناهية … فقد لوحظت تقلبات الجو .. وعرفت حركة الهواء وسرعته .. فحددت كمية الدخان , بعدها تم اختيار المكان المناسب لقذفه .. ورشت المدينة به ؛ وكأنها موبوءة بوباء خطير , قرر ازالته والقضاء عليه بأطنان من الدخان الابيض … كما كان يقضى على البعوض ايام الصيف بسيارة ( الدخانية ) , هكذا كنا نسميها في زمن الطفولة .. كانت تجوب الشوارع والازقة , ترش الدخان مع قدوم الليل .. لتنقذنا من لسعات البعوض البغيضة .. كنا نركض وراءها بمرح شديد .. ولكي نصبح ضمن دائرة الدخان الكثيف ..عندها تنعدم الرؤية نسبيا .. فنلعب .. ويضرب بعضنا بعضا بمرح وبراءة , وما ان تبتعد السيارة حتى نرجع الى بيوتنا متعبين , ولننعم بنوم هادئ في سطوح منازلنا , نوم ليس فيه لسعة بعوضة واحدة ..!
ولكن … هذا الدخان غطى المدينة بسرعة بالغة , فلم يدع للاطفال فرصة اللعب به ..فالكل كان قد استنشق الدخان الذي نفذ الى الانوف رغما عنها ,
وتسلل الى الاعماق ! .. وما هي الا لحظات حتى احمرت الأعين .. وشعر اهل المدينة لا ( البعوض ) بحرقة بالغة في وجوههم , وراحت تتسلل ببطء
وتنتشر الى كل اقسام الجسد .. وبحركات سريعة مذعورة ترك الناس كل شئ .. الا الأتجاه الى المياه الباردة , ليطفئوا لهيب اجسادهم … ملأوا
الاحواض البلاستيكية .. السطول ..قدور الطبخ ؛ بالماء , وجلسوا يرشونه على عيونهم ووجوههم …
وصرخ الاطفال ..
رقصت اجسادهم الناعمة كطيور مذبوحة .. هرعوا الى الشوارع .. لحقتهم امهاتهم .. كان الدخان قد تسلل الى اعماقهم , افئدتهم .. ركضوا بهلع شديد ..وسرعان ما سقطت اجسادهم في الطريق .. وعلى عتبات البيوت .. وسكتت انفاسهم تماما ..!
لتريحهم من عذاب لايوصف .. ومن الناس من هرع الى النهر الصغير الذي يمر في اطراف المدينة .. ليشاهدوا الطيور تتساقط .. الابقار ترفس الارض بأرجلها .. لقد احترقت هي الاخرى بالدخان .. ماتت .
وشهد النهر بمائه البارد , مئات البشر وهم يضطجعون على حافته .. يغرفون الماء ليرشوا به عيونهم , ليغسلوا وجوههم .. عل الماء البارد يخفف اللهيب الداخلي الذي راح يسري في كل عرق من عروق اجسادهم .. فيحرقه .
ولدقائق معدودة .. سكتت الانفاس .. ومات الكل , النساء .. الاطفال .. الشيوخ ..الحيوانات .. العصافير الجميلة .. وحتى جذور الشجر ..!
فقد كان الدخان كثيفا ..
وكان كل شئ مدروسا بدقة متناهية ؛ من اجل القضاء على الكرد في حلبجة . ))