بسم الله الرحمن الرحيم
بحار الانوار-الجزء الخامس والاربعون- كتاب تاريخ الأمام الحسين (ع)-باب ما جرى عليه بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته .
فجعل برُير يضاحك عبد الرحمن ، فقال له عبد الرحمن : يا بُرير أتضحك ؟.. ما هذه ساعة باطل ، فقال برير : لقد علم قومي أنني ما أحببت الباطل كهلا ولا شابا ، وإنما أفعل ذلك استبشارا بما نصير إليه ، فو الله ما هو إلا أن نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم ساعة ، ثم نعانق الحور العين .ص1المصدر:الملهوف ص84قال علي بن الحسين (ع) : إني جالس في تلك الليلة التي قُتل أبي في صبيحتها وعندي عمتي زينب تمرّضني ، إذا اعتزل أبي خباء له ، وعنده فلان مولى أبي ذر الغفاري وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول :
يا دهر أفّ لك ِمن خليل***كم لكِ بالإشراق والأصيل
من صاحبٍ وطالبٍ قتيل*** والدهر لايقنع بالبديل
وإنما الأمر إلى الجليل*** وكل حيّ سالك سبيلي
فأعادها مرتين ، أو ثلاثا حتى فهمتها وعلمت ما أراد فخنقتني العبرة ، فرددتها ولزمت السكوت ، وعلمت أن البلاء قد نزل ، وأما عمتي فلما سمعت ما سمعت - وهي امرأة ومن شأن النساء الرقة والجزع - فلم تملك نفسها أن وثبتْ تجرّ ثوبها وهي حاسرة حتى انتهت إليه ، وقالت :
واثكلاه !.. ليت الموت أعدمني الحياة ، اليوم ماتت أمي فاطمة ، وأبي علي ، وأخي الحسن ، يا خليفة الماضي ، وثمال الباقي !..فنظر إليها الحسين (ع) وقال لها : يا أخته لايذهبن حلمك الشيطان !.. وترقرقت عيناه بالدموع ، وقال : لو ترك القطا ليلا لنام ، فقالت :
يا ويلتاه !.. أفتغتصب نفسك اغتصابا ؟.. فذلك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي ، ثم لطمت وجهها ، وهوت إلى جيبها وشقته وخرت مغشية عليها ..
فقام إليها الحسين (ع) فصَب على وجهها الماء وقال لها :
يا أختاه !.. اتقي الله وتعزي بعزاء الله ، واعلمي أن أهل الأرض يموتون ، وأهل السماء لايبقون ، وأن كل شيء هالك إلا وجه الله تعالى ، الذي خلق الخلق بقدرته ، ويبعث الخلق ويعودون ، وهو فرد وحده ، وأبي خير مني ، وأمي خير مني ، وأخي خير مني ، ولي ولكل مسلم برسول الله أسوة ، فعزاها بهذا ونحوه ، وقال لها :
يا أختاه !.. إني أقسمت عليكِِ فأبري قسمي : لاتشقّي عليّ جيبا ، ولا تخمشي عليّ وجها ، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت ، ثم جاء بها حتى أجلسها عندي ..
ثم خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقرن بعضهم بيوتهم من بعض ، وأن يُدخلوا الأطناب بعضها في بعض ، وأن يكونوا بين البيوت ، فيقبلوا القوم في وجه واحد والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم قد حفّت بهم ، إلا الوجه الذي يأتيهم منه عدوهم .
ورجع (ع) إلى مكانه فقام ليلته كلها يصلي ويستغفر ويدعو ويتضرع ، وقام أصحابه كذلك يصلون ويدعون ويستغفرون . ص3المصدر:بحار الانوارج45/ص3فلما كان وقت السحر خفق الحسين برأسه خفقة ثم استيقظ ، فقال : أتعلمون ما رأيت في منامي الساعة ؟..
فقالوا : وما الذي رأيت يا بن رسول الله ؟.. فقال : رأيت كأن كلابا قد شدّت علي لتنهشني ، وفيها كلب أبقع رأيته أشدها عليّ ، وأظن أن الذي يتولى قتلي رجل أبرص من بين هؤلاء القوم ، ثم إني رأيت بعد ذلك جدي رسول الله (ص) ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول لي :
يا بني!.. أنت شهيد آل محمد ، وقد استبشر بك أهل السماوات وأهل الصفيح الأعلى ، فليكن إفطارك عندي الليلة عجّل ولا تؤخّر !.. فهذا ملك قد نزل من السماء ليأخذ دمك في قارورة خضراء ، فهذا ما رأيتُ وقد أزف الأمر ، واقترب الرحيل من هذه الدنيا لا شك في ذلك .ص3المصدر:المناقب قال علي بن الحسين (ع) : لما أصبحت الخيل تُقبل على الحسين (ع) رفع يديه وقال :
اللهم !.. أنت ثقتي في كل كرب ، ورجائي في كل شدة ، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة ، كم من كرب يضعف عنه الفؤاد ، وتقلّ فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ، ويشمت فيه العدو ، أنزلتُه بك وشكوته إليك ، رغبة مني إليك عمن سواك ، ففرّجته وكشفته ، فأنت ولي كل نعمة ، وصاحب كل حسنة ، ومنتهى كل رغبة .
فأقبل القوم يجولون حول بيت الحسين ، فيرون الخندق في ظهورهم والنار تضطرم في الحطب والقصب الذي كان أُلقي فيه ، فنادى شمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته : ياحسين أتعجّلت بالنارقبل يوم القيامة ؟..
فقال الحسين (ع) : من هذا ، كأنه شمر بن ذي الجوشن ؟.. فقالوا : نعم ، فقال له : يا بن راعية المعزى ، أنت أولى بها صليا ، ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فمنعه الحسين (ع) من ذلك ، فقال له :
دعني حتى أرميه ، فإن الفاسق من أعداء الله وعظماء الجبارين ، وقد أمكن الله منه ، فقال له الحسين (ع) : لا ترمه !.. فاني أكره أن أبدأهم بقتال .ص5المصدر:الإرشاد ص217وتقدم الحسين (ع) حتى وقف بإزاء القوم ، فجعل ينظر إلى صفوفهم كأنهم السيل ، ونظر إلى ابن سعد واقفا في صناديد الكوفة ، فقال :
الحمدلله الذي خلق الدنيا فجعلها دارفناء وزوال ، متصرفة بأهلها حالا بعد حال ، فالمغرور من غرّته والشقي من فتنته ، فلا تغرنكم هذه الدنيا ، فإنها تقطع رجاء من ركن إليها ، وتخيّب طمع من طمع فيها ، وأراكم قد اجتمعتم على أمرٍ قد أسخطتم الله فيه عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحلّ بكم نقمته ، وجنّبكم رحمته ، فنعم الرب ربّنا ، وبئس العبيد أنتم !..
أقررتم بالطاعة ، وآمنتم بالرسول محمد (ص) ، ثم إنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم الشيطان ، فأنساكم ذكر الله العظيم ، فتبّا لكم ولما تريدون ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين .ص6المصدر:تسلية المجالسودعا الحسين (ع) براحلته فركبها ونادى بأعلى صوته : ياأهل العراق - وجُلّهم يسمعون - فقال :
أيها الناس !.. اسمعوا قولي ولاتعجلوا حتى أعظكم بمايحق لكم عليّ ، وحتى أعذر عليكم ، فإن أعطيتموني النَّصف كنتم بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم { فاجمعوا رأيكم ثم لايكن أمركم علكيم غمة ثم اقضوا إلي ولاتنظرون إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهويتولى الصالحين } ، ثم حمدالله وأثنى عليه وذكر الله بما هو أهله ، وصلى على النبي وعلى ملائكته وعلى أنبيائه ، فلم يُسمع متكلم قط قبله ولابعده ، أبلغ منه في منطق .ص6المصدر:الإرشاد ص217 ثم قال لهم الحسين (ع) : فإن كنتم في شك من هذا ، أفتشكون أني ابن بنت نبيكم ؟.. فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم ، ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته ؟.. أو مالٍ لكم استهلكته ؟.. أوبقصاص من جراحة ؟..
فأخذوا لايكلمونه ، فنادى : يا شبث بن ربعي !.. يا حجّار بن أبجر !.. يا قيس بن الأشعث ! .. يا يزيد بن الحارث !.. ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار ، واخضرّ الجناب ، وإنما تقدم على جند لك مجنّد ؟..
فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول ؟.. ولكن انزل على حكم بني عمك ، فإنهم لن يروك إلا ما تحب ، فقال لهم الحسين (ع) : لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد ..
ثم نادى : يا عباد الله !.. إني عذت بربي وربكم أن ترجمون ، وأعوذ بربي وربكم من كل متكبر لايؤمن بيوم الحساب .ص7المصدر:الإرشاد ص217 وأحاطوا بالحسين من كل جانب ، حتى جعلوه في مثل الحلقة ، فخرج (ع) حتى أتى الناس فاستنصتهم ، فأبوا أن ينصتوا حتى قال لهم :
ويلكم !.. ما عليكم أن تنصتوا إليّ فتسمعوا قولي ، وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد ، فمن أطاعني كان من المرشَدين ، ومن عصاني كان من المهلَكين ، وكلكم عاص لأمري ، غير مستمع قولي ، فقد مُلئت بطونكم من الحرام ، وطُبع على قلوبكم ، ويلكم ألا تنصتون ؟!.. ألا تسمعون ؟!..
فتلاوم أصحاب عمر بن سعد بينهم ، وقالوا : أنصتوا له .
فقام الحسين (ع) ثم قال : تبا لكم أيتها الجماعة وترحا ، أفحين استصرختمونا ولهين متحيرين ، فأصرختكم مؤدِّين مستعدِّين ، سللتم علينا سيفا في رقابنا ، وحششتم علينا نارالفتن ، خباها عدوكم وعدونا ، فأصبحتم إلبا على أوليائكم ، ويداً عليهم لأعدائكم ، بغير عدلٍ أفشوه فيكم ، ولا أملٍ أصبح لكم فيهم ، إلا الحرام من الدنيا أنالوكم ، وخسيس عيش طمعتم فيه ، من غير حدث كان منا ولا رأي تفيل لنا ، فهلاّ - لكم الويلات - إذ كرهتمونا وتركتمونا ، تجهزتموها والسيف لم يُشهر ، والجاش طامن ، والرأي لم يستحصف ، ولكن أسرعتم علينا كطيرة الذباب ، وتداعيتم كتداعي الفراش .
فقبحا لكم !.. فإنما أنتم من طواغيت الأمة وشذّاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ونفثة الشيطان ، وعصبة الآثام ، ومحرّفي الكتاب ، ومطفئي السنن ، وقتلة أولاد الأنبياء ، ومبيري عترة الأوصياء ، وملحقي العهار بالنسب ، ومؤذي المؤمنين ، وصراخ أئمة المستهزئين ، الذين جعلوا القرآن عضين ....
ألا إن الدعي بن الدعي قد ركّز بين اثنتين : بين القلّة والذلة ، وهيهات ما آخذالدنية !.. أبى الله ذلك ورسوله ، وجدود طابت ، وحجور طهرت ، وأنوف حمية ، ونفوس أبية ، لاتؤْثر مصارع اللئام على مصارع الكرام ، ألا قد أعذرت وأنذرت ، ألا إني زاحف بهذه الأسرة ، على قلة العتاد ، وخذلة الأصحاب ، ثم أنشأ يقول :
فإن نَهزِم فهزّامون قدْما***وإن نُهزم فغيرمهزّمينا
وما إن طبّنا جبن ولكن***منايانا ودولة آخرينا
ألا !.. ثم لا تلبثون بعدها إلا كريث ما يركب الفرس ، حتى تدور بكم الرحى ، عهدٌ عهده إليّ أبي عن جدي ، فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم كيدوني جميعا فلا تنظرون ، إني توكلت على الله ربي وربكم ، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ..
اللهم احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسني يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف ، يسقيهم كأسا مصبّرة ، ولايدع فيهم أحدا إلا قتله قتلةً بقتلة ، وضربة بضربة ، ينتقم لي ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي منهم ، فإنهم غرّونا وكذبونا وخذلونا ، وأنت ربنا عليك توكلّنا وإليك أنبنا وإليك المصير ، ثم قال : أين عمر بن سعد ؟.. ادعوا لي عمر !.. فدُعي له ، وكان كارهاً لايحب أن يأتيه فقال :
يا عمر أنت تقتلني ؟.. تزعم أن يوليك الدعي بن الدعي بلاد الري وجرجان ، والله لاتتهنأ بذلك أبدا ، عهدا معهودا ، فاصنع ما أنت صانع ، فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، ولكأني برأسك على قصبة قد نصب بالكوفة ، يتراماه الصبيان ويتخذونه غرضا بينهم .. فاغتاظ عمر من كلامه ، ثم صرف بوجهه عنه ونادى بأصحابه :
ما تنتظرون به ؟.. احملوا بأجمعكم إنما هي أكلة واحدة .
ثم إن الحسين دعا بفرس رسول الله المرتجز فركبه ، وعبّأ أصحابه . ص10المصدر:المناقب فلما رأى الحر بن يزيد أن القوم قد صمموا على قتال الحسين (ع) قال لعمر بن سعد : أي عمر !.. أمقاتل أنت هذا الرجل ؟.. قال : إي والله قتالا شديدا ، أيسره أن تسقط الرؤوس ، وتطيح الأيدي .
قال : أفما لكم فيما عرضه عليكم رضاً ؟..
قال عمر : أمَا لوكان الأمر إليّ لفعلت ، ولكن أميرك قد أبى .
فأقبل الحر حتى وقف من الناس موقفا ومعه رجل من قومه يقال له قرّة بن قيس ، فقال له : يا قرّة !.. هل سقيت فرسك اليوم ؟.. قال : لا .
قال : فما تريدأن تسقيه ؟.. قال قرة : فظننت والله إنه يريد أن يتنحى ولايشهد القتال ، فكره أن أراه حين يصنع ذلك .
فقلت له : لم أسقِه وأنا منطلقٌ فأسقيه ، فاعتزل ذلك المكان الذي كان فيه ، فوالله لو أنه أطلعني على الذي يريد ، لخرجتُ معه إلى الحسين ، فأخذ يدنو من الحسين قليلا قليلا ، فقال له مهاجر بن أوس : ماتريد يا بن يزيد ؟.. أتريد أن تحمل ؟.. فلم يجبه فأخذه مثل الافكل - وهي الرعدة - .
فقال له المهاجر : إن أمرك لمريب ، والله مارأيت منك في موقف قط مثل هذا ، ولو قيل لي : من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك !..
فما هذا الذي أرى منك ؟.. فقال له الحرّ :
إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار ، فو الله لا أختار على الجنة شيئا ، ولوقُطّعت و أحرقت ، ثم ضرب فرسه فلحق الحسين (ع) فقال له :
جعلت فداك يا بن رسول الله !.. أنا صاحبك الذي حبستُك عن الرجوع ، وسايرتك في الطريق ، وجعجعتُ بك في هذا المكان ، وما ظننت أن القوم يردّون عليك ما عرضتَه عليهم ، ولايبلغون منك هذه المنزلة ، والله لو علمت أنهم ينتهون بك إلى ما أرى ماركبتُ مثل الذي ركبت ، وأنا تائب إلى الله مما صنعت ، فترى لي من ذلك توبة ؟..
فقال له الحسين (ع) : نعم !.. يتوب الله عليك ، فانزلْ ، فقال :
أنا لك فارسا خير مني راجلا أقاتلهم على فرسي ساعة ، وإلى النزول ما يصير آخر أمري ، فقال له الحسين (ع) : فاصنع - يرحمك الله - ما بدا لك .. فاستقدم أمام الحسين (ع) فقال :
يا أهل الكوفة !.. لأمّكم الهبل ( أي الثكل ) والعبر ( أي الموت ) ، أدعوتم هذا العبد الصالح حتى إذا أتاكم أسلمتموه ؟.. وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه ، ثم عدوتم عليه لتقتلوه ؟.. أمسكتم بنفسه ، وأخذتم بكلكله ، وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجه إلى بلاد الله العريضة ، فصار كالأسير في أيديكم : لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرا ، وحلأْتموه ونساءه وصبيته وأهله عن ماء الفرات الجاري ، تشربه اليهود والنصارى والمجوس ، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابهم ، وها هم قد صرعهم العطش ، بئسما خلفتم محمدا في ذريته ، لا سقاكم الله يوم الظمأ !.
بحار الانوار-الجزء الخامس والاربعون- كتاب تاريخ الأمام الحسين (ع)-باب ما جرى عليه بعد بيعة الناس ليزيد إلى شهادته .
فجعل برُير يضاحك عبد الرحمن ، فقال له عبد الرحمن : يا بُرير أتضحك ؟.. ما هذه ساعة باطل ، فقال برير : لقد علم قومي أنني ما أحببت الباطل كهلا ولا شابا ، وإنما أفعل ذلك استبشارا بما نصير إليه ، فو الله ما هو إلا أن نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا نعالجهم ساعة ، ثم نعانق الحور العين .ص1المصدر:الملهوف ص84قال علي بن الحسين (ع) : إني جالس في تلك الليلة التي قُتل أبي في صبيحتها وعندي عمتي زينب تمرّضني ، إذا اعتزل أبي خباء له ، وعنده فلان مولى أبي ذر الغفاري وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول :
يا دهر أفّ لك ِمن خليل***كم لكِ بالإشراق والأصيل
من صاحبٍ وطالبٍ قتيل*** والدهر لايقنع بالبديل
وإنما الأمر إلى الجليل*** وكل حيّ سالك سبيلي
فأعادها مرتين ، أو ثلاثا حتى فهمتها وعلمت ما أراد فخنقتني العبرة ، فرددتها ولزمت السكوت ، وعلمت أن البلاء قد نزل ، وأما عمتي فلما سمعت ما سمعت - وهي امرأة ومن شأن النساء الرقة والجزع - فلم تملك نفسها أن وثبتْ تجرّ ثوبها وهي حاسرة حتى انتهت إليه ، وقالت :
واثكلاه !.. ليت الموت أعدمني الحياة ، اليوم ماتت أمي فاطمة ، وأبي علي ، وأخي الحسن ، يا خليفة الماضي ، وثمال الباقي !..فنظر إليها الحسين (ع) وقال لها : يا أخته لايذهبن حلمك الشيطان !.. وترقرقت عيناه بالدموع ، وقال : لو ترك القطا ليلا لنام ، فقالت :
يا ويلتاه !.. أفتغتصب نفسك اغتصابا ؟.. فذلك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي ، ثم لطمت وجهها ، وهوت إلى جيبها وشقته وخرت مغشية عليها ..
فقام إليها الحسين (ع) فصَب على وجهها الماء وقال لها :
يا أختاه !.. اتقي الله وتعزي بعزاء الله ، واعلمي أن أهل الأرض يموتون ، وأهل السماء لايبقون ، وأن كل شيء هالك إلا وجه الله تعالى ، الذي خلق الخلق بقدرته ، ويبعث الخلق ويعودون ، وهو فرد وحده ، وأبي خير مني ، وأمي خير مني ، وأخي خير مني ، ولي ولكل مسلم برسول الله أسوة ، فعزاها بهذا ونحوه ، وقال لها :
يا أختاه !.. إني أقسمت عليكِِ فأبري قسمي : لاتشقّي عليّ جيبا ، ولا تخمشي عليّ وجها ، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت ، ثم جاء بها حتى أجلسها عندي ..
ثم خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقرن بعضهم بيوتهم من بعض ، وأن يُدخلوا الأطناب بعضها في بعض ، وأن يكونوا بين البيوت ، فيقبلوا القوم في وجه واحد والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم قد حفّت بهم ، إلا الوجه الذي يأتيهم منه عدوهم .
ورجع (ع) إلى مكانه فقام ليلته كلها يصلي ويستغفر ويدعو ويتضرع ، وقام أصحابه كذلك يصلون ويدعون ويستغفرون . ص3المصدر:بحار الانوارج45/ص3فلما كان وقت السحر خفق الحسين برأسه خفقة ثم استيقظ ، فقال : أتعلمون ما رأيت في منامي الساعة ؟..
فقالوا : وما الذي رأيت يا بن رسول الله ؟.. فقال : رأيت كأن كلابا قد شدّت علي لتنهشني ، وفيها كلب أبقع رأيته أشدها عليّ ، وأظن أن الذي يتولى قتلي رجل أبرص من بين هؤلاء القوم ، ثم إني رأيت بعد ذلك جدي رسول الله (ص) ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول لي :
يا بني!.. أنت شهيد آل محمد ، وقد استبشر بك أهل السماوات وأهل الصفيح الأعلى ، فليكن إفطارك عندي الليلة عجّل ولا تؤخّر !.. فهذا ملك قد نزل من السماء ليأخذ دمك في قارورة خضراء ، فهذا ما رأيتُ وقد أزف الأمر ، واقترب الرحيل من هذه الدنيا لا شك في ذلك .ص3المصدر:المناقب قال علي بن الحسين (ع) : لما أصبحت الخيل تُقبل على الحسين (ع) رفع يديه وقال :
اللهم !.. أنت ثقتي في كل كرب ، ورجائي في كل شدة ، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة ، كم من كرب يضعف عنه الفؤاد ، وتقلّ فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ، ويشمت فيه العدو ، أنزلتُه بك وشكوته إليك ، رغبة مني إليك عمن سواك ، ففرّجته وكشفته ، فأنت ولي كل نعمة ، وصاحب كل حسنة ، ومنتهى كل رغبة .
فأقبل القوم يجولون حول بيت الحسين ، فيرون الخندق في ظهورهم والنار تضطرم في الحطب والقصب الذي كان أُلقي فيه ، فنادى شمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته : ياحسين أتعجّلت بالنارقبل يوم القيامة ؟..
فقال الحسين (ع) : من هذا ، كأنه شمر بن ذي الجوشن ؟.. فقالوا : نعم ، فقال له : يا بن راعية المعزى ، أنت أولى بها صليا ، ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فمنعه الحسين (ع) من ذلك ، فقال له :
دعني حتى أرميه ، فإن الفاسق من أعداء الله وعظماء الجبارين ، وقد أمكن الله منه ، فقال له الحسين (ع) : لا ترمه !.. فاني أكره أن أبدأهم بقتال .ص5المصدر:الإرشاد ص217وتقدم الحسين (ع) حتى وقف بإزاء القوم ، فجعل ينظر إلى صفوفهم كأنهم السيل ، ونظر إلى ابن سعد واقفا في صناديد الكوفة ، فقال :
الحمدلله الذي خلق الدنيا فجعلها دارفناء وزوال ، متصرفة بأهلها حالا بعد حال ، فالمغرور من غرّته والشقي من فتنته ، فلا تغرنكم هذه الدنيا ، فإنها تقطع رجاء من ركن إليها ، وتخيّب طمع من طمع فيها ، وأراكم قد اجتمعتم على أمرٍ قد أسخطتم الله فيه عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحلّ بكم نقمته ، وجنّبكم رحمته ، فنعم الرب ربّنا ، وبئس العبيد أنتم !..
أقررتم بالطاعة ، وآمنتم بالرسول محمد (ص) ، ثم إنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم الشيطان ، فأنساكم ذكر الله العظيم ، فتبّا لكم ولما تريدون ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين .ص6المصدر:تسلية المجالسودعا الحسين (ع) براحلته فركبها ونادى بأعلى صوته : ياأهل العراق - وجُلّهم يسمعون - فقال :
أيها الناس !.. اسمعوا قولي ولاتعجلوا حتى أعظكم بمايحق لكم عليّ ، وحتى أعذر عليكم ، فإن أعطيتموني النَّصف كنتم بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم { فاجمعوا رأيكم ثم لايكن أمركم علكيم غمة ثم اقضوا إلي ولاتنظرون إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهويتولى الصالحين } ، ثم حمدالله وأثنى عليه وذكر الله بما هو أهله ، وصلى على النبي وعلى ملائكته وعلى أنبيائه ، فلم يُسمع متكلم قط قبله ولابعده ، أبلغ منه في منطق .ص6المصدر:الإرشاد ص217 ثم قال لهم الحسين (ع) : فإن كنتم في شك من هذا ، أفتشكون أني ابن بنت نبيكم ؟.. فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم ، ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته ؟.. أو مالٍ لكم استهلكته ؟.. أوبقصاص من جراحة ؟..
فأخذوا لايكلمونه ، فنادى : يا شبث بن ربعي !.. يا حجّار بن أبجر !.. يا قيس بن الأشعث ! .. يا يزيد بن الحارث !.. ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار ، واخضرّ الجناب ، وإنما تقدم على جند لك مجنّد ؟..
فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول ؟.. ولكن انزل على حكم بني عمك ، فإنهم لن يروك إلا ما تحب ، فقال لهم الحسين (ع) : لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد ..
ثم نادى : يا عباد الله !.. إني عذت بربي وربكم أن ترجمون ، وأعوذ بربي وربكم من كل متكبر لايؤمن بيوم الحساب .ص7المصدر:الإرشاد ص217 وأحاطوا بالحسين من كل جانب ، حتى جعلوه في مثل الحلقة ، فخرج (ع) حتى أتى الناس فاستنصتهم ، فأبوا أن ينصتوا حتى قال لهم :
ويلكم !.. ما عليكم أن تنصتوا إليّ فتسمعوا قولي ، وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد ، فمن أطاعني كان من المرشَدين ، ومن عصاني كان من المهلَكين ، وكلكم عاص لأمري ، غير مستمع قولي ، فقد مُلئت بطونكم من الحرام ، وطُبع على قلوبكم ، ويلكم ألا تنصتون ؟!.. ألا تسمعون ؟!..
فتلاوم أصحاب عمر بن سعد بينهم ، وقالوا : أنصتوا له .
فقام الحسين (ع) ثم قال : تبا لكم أيتها الجماعة وترحا ، أفحين استصرختمونا ولهين متحيرين ، فأصرختكم مؤدِّين مستعدِّين ، سللتم علينا سيفا في رقابنا ، وحششتم علينا نارالفتن ، خباها عدوكم وعدونا ، فأصبحتم إلبا على أوليائكم ، ويداً عليهم لأعدائكم ، بغير عدلٍ أفشوه فيكم ، ولا أملٍ أصبح لكم فيهم ، إلا الحرام من الدنيا أنالوكم ، وخسيس عيش طمعتم فيه ، من غير حدث كان منا ولا رأي تفيل لنا ، فهلاّ - لكم الويلات - إذ كرهتمونا وتركتمونا ، تجهزتموها والسيف لم يُشهر ، والجاش طامن ، والرأي لم يستحصف ، ولكن أسرعتم علينا كطيرة الذباب ، وتداعيتم كتداعي الفراش .
فقبحا لكم !.. فإنما أنتم من طواغيت الأمة وشذّاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ونفثة الشيطان ، وعصبة الآثام ، ومحرّفي الكتاب ، ومطفئي السنن ، وقتلة أولاد الأنبياء ، ومبيري عترة الأوصياء ، وملحقي العهار بالنسب ، ومؤذي المؤمنين ، وصراخ أئمة المستهزئين ، الذين جعلوا القرآن عضين ....
ألا إن الدعي بن الدعي قد ركّز بين اثنتين : بين القلّة والذلة ، وهيهات ما آخذالدنية !.. أبى الله ذلك ورسوله ، وجدود طابت ، وحجور طهرت ، وأنوف حمية ، ونفوس أبية ، لاتؤْثر مصارع اللئام على مصارع الكرام ، ألا قد أعذرت وأنذرت ، ألا إني زاحف بهذه الأسرة ، على قلة العتاد ، وخذلة الأصحاب ، ثم أنشأ يقول :
فإن نَهزِم فهزّامون قدْما***وإن نُهزم فغيرمهزّمينا
وما إن طبّنا جبن ولكن***منايانا ودولة آخرينا
ألا !.. ثم لا تلبثون بعدها إلا كريث ما يركب الفرس ، حتى تدور بكم الرحى ، عهدٌ عهده إليّ أبي عن جدي ، فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم كيدوني جميعا فلا تنظرون ، إني توكلت على الله ربي وربكم ، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ..
اللهم احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسني يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف ، يسقيهم كأسا مصبّرة ، ولايدع فيهم أحدا إلا قتله قتلةً بقتلة ، وضربة بضربة ، ينتقم لي ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي منهم ، فإنهم غرّونا وكذبونا وخذلونا ، وأنت ربنا عليك توكلّنا وإليك أنبنا وإليك المصير ، ثم قال : أين عمر بن سعد ؟.. ادعوا لي عمر !.. فدُعي له ، وكان كارهاً لايحب أن يأتيه فقال :
يا عمر أنت تقتلني ؟.. تزعم أن يوليك الدعي بن الدعي بلاد الري وجرجان ، والله لاتتهنأ بذلك أبدا ، عهدا معهودا ، فاصنع ما أنت صانع ، فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة ، ولكأني برأسك على قصبة قد نصب بالكوفة ، يتراماه الصبيان ويتخذونه غرضا بينهم .. فاغتاظ عمر من كلامه ، ثم صرف بوجهه عنه ونادى بأصحابه :
ما تنتظرون به ؟.. احملوا بأجمعكم إنما هي أكلة واحدة .
ثم إن الحسين دعا بفرس رسول الله المرتجز فركبه ، وعبّأ أصحابه . ص10المصدر:المناقب فلما رأى الحر بن يزيد أن القوم قد صمموا على قتال الحسين (ع) قال لعمر بن سعد : أي عمر !.. أمقاتل أنت هذا الرجل ؟.. قال : إي والله قتالا شديدا ، أيسره أن تسقط الرؤوس ، وتطيح الأيدي .
قال : أفما لكم فيما عرضه عليكم رضاً ؟..
قال عمر : أمَا لوكان الأمر إليّ لفعلت ، ولكن أميرك قد أبى .
فأقبل الحر حتى وقف من الناس موقفا ومعه رجل من قومه يقال له قرّة بن قيس ، فقال له : يا قرّة !.. هل سقيت فرسك اليوم ؟.. قال : لا .
قال : فما تريدأن تسقيه ؟.. قال قرة : فظننت والله إنه يريد أن يتنحى ولايشهد القتال ، فكره أن أراه حين يصنع ذلك .
فقلت له : لم أسقِه وأنا منطلقٌ فأسقيه ، فاعتزل ذلك المكان الذي كان فيه ، فوالله لو أنه أطلعني على الذي يريد ، لخرجتُ معه إلى الحسين ، فأخذ يدنو من الحسين قليلا قليلا ، فقال له مهاجر بن أوس : ماتريد يا بن يزيد ؟.. أتريد أن تحمل ؟.. فلم يجبه فأخذه مثل الافكل - وهي الرعدة - .
فقال له المهاجر : إن أمرك لمريب ، والله مارأيت منك في موقف قط مثل هذا ، ولو قيل لي : من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك !..
فما هذا الذي أرى منك ؟.. فقال له الحرّ :
إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار ، فو الله لا أختار على الجنة شيئا ، ولوقُطّعت و أحرقت ، ثم ضرب فرسه فلحق الحسين (ع) فقال له :
جعلت فداك يا بن رسول الله !.. أنا صاحبك الذي حبستُك عن الرجوع ، وسايرتك في الطريق ، وجعجعتُ بك في هذا المكان ، وما ظننت أن القوم يردّون عليك ما عرضتَه عليهم ، ولايبلغون منك هذه المنزلة ، والله لو علمت أنهم ينتهون بك إلى ما أرى ماركبتُ مثل الذي ركبت ، وأنا تائب إلى الله مما صنعت ، فترى لي من ذلك توبة ؟..
فقال له الحسين (ع) : نعم !.. يتوب الله عليك ، فانزلْ ، فقال :
أنا لك فارسا خير مني راجلا أقاتلهم على فرسي ساعة ، وإلى النزول ما يصير آخر أمري ، فقال له الحسين (ع) : فاصنع - يرحمك الله - ما بدا لك .. فاستقدم أمام الحسين (ع) فقال :
يا أهل الكوفة !.. لأمّكم الهبل ( أي الثكل ) والعبر ( أي الموت ) ، أدعوتم هذا العبد الصالح حتى إذا أتاكم أسلمتموه ؟.. وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه ، ثم عدوتم عليه لتقتلوه ؟.. أمسكتم بنفسه ، وأخذتم بكلكله ، وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجه إلى بلاد الله العريضة ، فصار كالأسير في أيديكم : لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرا ، وحلأْتموه ونساءه وصبيته وأهله عن ماء الفرات الجاري ، تشربه اليهود والنصارى والمجوس ، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابهم ، وها هم قد صرعهم العطش ، بئسما خلفتم محمدا في ذريته ، لا سقاكم الله يوم الظمأ !.
تعليق