اقتناص ضوء القمر يتحدث سمير عبد الحميد (احد هواة جمع الاحجار الكريمة ودراستها), عن نوع آخر من الاحجار, معروف عالميا, وهو (الدر) الذي ورد ذكره في اشعار العرب وادبياتهم وموروثهم الشعبي منذ اقدم الازمنة فيقول قال شاعرنا الكوفي أبو الطيّب المتنبي: وليلاً تَوَسّدنا الثَـويَّةَ تحتَـهُ كأنّ ثَراها عَنبرٌ في المَرافقِ بلادٌ إذا زارَ الحسانُ بغيرها حصا تُرِبهـا ثقبتهُ للمَخانقِ الثَويّة أرض النجف، وحصا تربها دُرُّ النجف.. كانت النجف تسمى الرَّبوات البِيض، لأنها كانت مُغطّاة بالدرّ. وكان في النجف صُنّاع يُبلورون الدرَّ ويصنعون منه فُصوصاً للخواتم، ويَثقبونه قلائدَ للنساء. وكان الزوّار يشترونه تبركاً، ولم تبق سمن ذلك الدر بقية ( ما يزال مقدار منه يستخرج وتُتّخذ منه الخواتم ). . تقول كتب التاريخ إن الفاطميين في مصر كانت عندهم معامل لبلورة الدر. لا شك أنهم كانوا يأخذون من درّ النجف ويبلورونه. المصريّون يسمّون الثريّا البلّور ( نَجْفَة )، وأحسب أن هذا الاسم مأخوذ من ( درّ النجف ) فالدر من اندر انواع الاحجار الكريمة واغلاها ثمنا, وتوجد منه انواع كثيرة, وبأحجام مختلفة, وتقام دوريا معارض دولية للدرر النادرة, وينتج الدر حيوان بحري (نوع من المحار) يقال انه يخرج الى اليابسة في الليالي المقمرة, منتظرا اكتمال البدر, ليقبس بعضا من ضوئه ثم يطبق عليه صدفته وينحدر الى الماء, ويبدأ بافراز مادة ينفرد بها, تتكون بتجمعها مع مرور الايام درة تحمل التماعة ضوء القمر, وهو يشع من داخلها, مما يثير جمالية اخاذة تدفع الناس الى اقتنائها والتزين بها. ولان المرأة هي الاساس والهدف في التعامل مع هذه الاحجار التقينا وداد حكمت التي حدثتنا قائلة: ان المرأة بطبعها شغوفة بالحلي, بانواعها, وتحرص على اقتنائها, وهي بالطبع تجهل انواع تلك الحلي, ولكنها تعرف اسعارها جيدا .., وكثيرا ما تتزين بها, ليس من اجل الزينة فقط, وانما من اجل المباهاة ايضا, وعندها ان اجمل الحلي هي تلك التي تكون اغلاها سعرا. وقلما نجد امرأة, مهما كان وضعها المالي مترديا, ومهما بلغت من العمر, لا تمتلك شيئا من الحلي, حتى وان كان خاتما فضيا بشذرة حجرية تضعه في اصبعها, او سوارا معدنيا تضعه في معصمها, واهم الهدايا التي تعتز بها المرأة هي القطع الثمينة من الماس او الياقوت او المرجان او الذهب (حسب الاستطاعة) او حتى الفضة, التي تتلقاها من زوجها او من ذويها, ولدى كل امرأة ( متحف نسوي) منها, مهما كان صغيرا, كأن يكون صرة قماش او سلة خوص او صندوق خشب او خزانة حديد, تضع فيها مقتنياتها من تلك الحلي والاحجار, وتحتفظ بها للحاجة الطارئة, او لبناتها من بعدها. قد عُني الأقدمون باقتناء الحجارة الكريمة، والجواهر وقد اكتنـزها الآشوريون والأكديون والكلدانيون والمصريون والحثيون.. الخ. وقد وجدت في مقابرهم ومدافنهم وخزائن كنوزهم. لكن لم يُعن بها عناية علمية مثل اليونان والفرس أيام عزهم، فقد وصفوها وصفاً علمياً، ووضعوا لها أسماء تميز الحجر الواحد الكريم عن أخيه. وممن اشتهر بهذه المعرفة (أرسطو طاليس) وعنه أخذ معظم من تكلم عن أنواع هذه الحجارة، ثم جاء العرب، فأجادوا كل الإجادة، لأنهم دونّوا كل ما وضعه العلماء الأقدمون، من يونان ورومان وفرس، فكانت تآليفهم في هذا الفن الرفيع من أحسن ما كُتب. وخير الأحجار ما ثقل وزنه وطاب ريحه وسهل محكه وظهر نفعه. ومن الأحجار الكريمة التي يهمنا الحديث عنها في هذا الموضوع هو الدرّ حيث يقول عنه أرسطو طاليس: (إن الدرّ هو أنفع الجواهر، وأنفسها ما عَظُم وتشعشع وكان بهياً بصاصاً مشرقاً من غير تكدر ولا صفرة، لمّاعاً من غير تصدف وأعلاه قدراً وأغلاه ثمناً). ومن خاصية الدرّ أنه ينفع من الخفقان والخوف ويصفي دم القلب جداً ولذلك يخلطه الأطباء والحكماء في الأدوية، ويستعملونه في الاكتحال لتشديد أعصاب العين. وأعجب ما في هذه الحجارة (حجارة الدرّ) أنها تعتدل في كل زمان حتى زعموا أنها تتصور فيها طبائع أربعة (النار والتراب والهواء والماء). وأن جميع هذه الصفات والخواص التي ذكرها الحكيم أرسطو طاليس اليوناني موجودة في (درّ النجف). يقول الأب انستاس ماري الكرملي: وفي النجف من ديار العراق، بلور نقي، صافٍ، تتخذ منه الخواتم والأواني، وكان كثير الوجود في عهد الجاهلية، وصدر الإسلام، بل في عهد العباسيين أنفسهم، ولحسنه وشهرته في العراق كله، وما جاوره يسمى (درّ النجف) وبعضهم، بل أغلبهم يجعلها كلمة واحدة فيقول (در نجف) بضم الدال المهملة، وإسكان الراء، وحذف أداة التعريف من النجف، وكان يتخذ من هذا الحجر، مناور مختلفة الشكل، مما يسمى ثريا وأطلق عليها في ديار مصر اسم (النجفة) أي الثريا. ويصحفها بعضهم فيقول: (اللجفة) بلام في مكان النون. وقد نقل شيخنا الجليل العلامة المحقق جعفر محبوبه (نوّر الله مثواه) في كتابه القيم (ماضي النجف وحاضرها) ما يلي: عن الصادق عليه السلام أنه قال: (أُحب لكل مؤمن أن يتختم بخمس خواتم، وذكر منها ما يظهره الله عز وجل في الذكوات البيض بالغريين فقيل له عليه السلام: وما فيه من الفضل؟ قال: من تختم به فنظر إليه كتب الله له بكل نظرة زوره أجرها أجر النبيين والعالمين ولولا رحمة الله لشيعتنا لبلغ الفص منه ما لا يوجد بالثمن، ولكن الله جلّ ذكره رخصه عليهم ليتختم به غنيهم وفقيرهم) (ج1ص15ط2). وينقل عن علمائنا الأعلام، أن والد الشيخ البهائي (قدس سرهما الشريف) أنه وجد في مسجد الكوفة درّة حمراء وقد نقش عليها هذان البيتان من الشعر: أنــا در من السمـا نثـروني يوم تزويج والـد السبطـينِ كنت أجلى من اللجين بياضاً صبغتني دماء نحر الحسين والدرّة التي توجد متفردة فتلك لا توجد إلاّ في خزائن الملوك وبها يباهون بعضهم بعضاً. وأغلى أنواع الدر قديماً هو الدرّ النجم: سمي كذلك لتشبهه بالكوكب البراق، والكوكب الدرّي كما سموه لنفاسة هذا الحجر. وأما في النجف الأشرف فقد عرفنا الدرّ أنه حجر عديم اللون بعد صقله (وأن الخام منه يميل إلى اللون الأسمر) وإذا صُقل بالحك تغيّر إلى شفاف ناصع. وأن منه الذي يميل إلى اللون الأسود (ويسمى النفطي وذلك لميل لونه إلى لون النفط) ومنه الأحمر الذي يسمى (درّ حسيني) ومنه اللون الأصفر والأخضر والأزرق وهذه الألوان الأخيرة تكون من النوادر. ومن الدرّ ما يكون في داخله شعيرات أو عيدان أو طحالب وربما جزء من حشرة، ومنه ما يكون في داخله حجر آخر (كحجر الحديد الصيني والياقوت وغيره)، وهناك بعض الأحجار التي تتشابه في التكوين والخواص مع الدرّ وهي ليست من أصناف الدرّ وإن يكن قد وجد البعض منها في أرض النجف ألا وهي (حجر المها وحجر القمر والبلور). وخلاصة القول أن حجر الدرّ (درّ النجف) هو حجر شفاف كثير النور براق ساطع صلب وقيمته حسب حجمه وصفاءه. في الجهة الشمالية الغربية من حاضرة النجف الأشرف يوجد منخَفض ظاهر للعيان تكثر فيه القواقع والمتحجرات البحرية الدالة على أن هذا المنخفض جزء من قاع بحر قديم تأكيداً لما يقوله المؤرخون والجيولوجيون.. هطول المطر في كل عام على ذلك المنخفض يزيح التراب عن وجه قطع الدر لتعلن عن نفسها كقطع حصى مختلفة الأشكال والأحجام والألوان، يتبارى البدو وفلاحو المنطقة والجنود لجمعها ومن ثم بيعها في أسواق النجف لحرفيين متخصصين (الچرّاخين) وهؤلاء يتعاملون معها بخطوات توارثوها أباً عن جد وكما يلي: أ. تفصيل قطع الدرّ الخام: بمعنى تشذيب القطعة من النتوءات والزوائد للحصول على أفضل شكل منها أو الشكل المطلوب وبأقل هدر من حجمها. ب. تنعيم الدرّة لتقترب حالتها من الشفافية مع ما بها من العتمة. ج. المرحلة الأخيرة هي جلي وتلميع تلك القطعة من الدرّ بحجر ناعم لتظهر بأفضل حالة ممكنة ولتفصح عمّا في داخلها. فسيظهر أن بعضها شفاف بشكل مطلق وبعضها شفاف ويشوبه قطعة على شكل غصن نباتي (مثل هذه الدرّة تدعى درّ شجري)، وأخرى شفافة ويشوبها حشرة صغيرة أو جزء من حشرة وهذه أنواع مرغوبة لغرابتها وتفردها كما وتوجد بعض القطع الشفافة التي يشوبها لون من ألوان الطيف الضوئي ذلك بحسب نوع الأوكسيد الذي يدخل في تركيبها، وهي نماذج قليلة الحصول إن لم تكن نادرة. وبعد انتهاء عمل الچرّاخ تكون الدرّة مهيأة للصياغة أو الكتابة عليها أو لتصنيعها حسب الراغب. وقد أبدع فنانو وحرفيو النجف الأشرف (من چرّاخين وخطّاطين) في جلي ونحت الدرّ ما يسرّ الناظرين من أشكال غاية في الفن والذوق والرفعة، وقد كتبوا ونقشوا السور القرآنية والأحاديث النبوية والأشعار على درّها الزاهي البراق. وعلى سبيل المثال كتبوا نهج البلاغة على عدة قطع من الدرّ وكذلك كتبوا عشرات المصاحف القرآنية على ذلك الدر وهذا شرح موجز عن أحد هذه المصاحف التي أبدعته الأنامل النجفية. كُتب هذا المصحف الكريم على 313 درّة (درّ النجف) في مدينة النجف الأشرف. وصُنع له صندوق وقاعدة (على شكل مصحف ذي صفحتين) من خشب الصاج المُطعم بخشب النارنج، بالإضافة إلى النقوش والزخارف الإسلامية قياس الصندوق (67سم) طولاً، و(37سم) عرضاً، و(21سم) ارتفاعاً. يستقر القرآن على خشبة (رحلة) وقد طُعمت هذه (الرحلة) من الجانبين بعبارة (هو الله الحي القيوم)، علماً أن أعداد حروف هذه العبارة (313) لما لهذا العدد من اعتبارات ومعاني كثيرة، منها أن عدد المشتركين في معركة بدر الكبرى هو (313). كذلك من المعتقد أن عدد أنصار الحجة المهدي (عجل الله تعالى فرجه) حين ظهوره سيكون (313) مؤمن بإذن الله. أما موضع استقرار الدرّ فقد صيغ على شكل مِصحف مفتوح إلى صفحتين طول الصفحة الواحدة (60سم) وعرضها (30سم)، الصفحة الأولى تحتوي على (157) درّة موزعة على (14) سطراً كل سطر يحتوي على (11) درّة، وفي أعلى الصفحة درّة كتب عليها (بسم الله الرحمن الرحيم)، وفي أسفل الصفحة درّة كُتب عليها (تمّ كتابة هذا القرآن الكريم في مدينة النجف الأشرف سنة 1424هـ على مُهاجرها آلاف التحية والسلام في اليوم العشرين من شهر جمادى الآخرة)، وفي الجانب الأيمن من هذه الصفحة درة كتب عليها (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون)، أما الصفحة الثانية فتحتوي على (156) درّة موزعة على (14) سطراً كل سطر يحتوي على (11) درّة، وفي أعلى الصفحة درّة كتب عليها (بسم الله الرحمن الرحيم)، وفي أسفل الصفحة درة كُتب عليها (صدق الله مولانا العلي العظيم وصدق رسوله النبي الأمين الكريم ونحن على ذلك من الشاهدين والحمد لله ربّ العالمين) المصادر 1. إكسير الدعوات: عبد الله بن محمد بن عباس الزاهد. 2. الجماهر في معرفة الجواهر: أبي الريحان محمد بن أحمد البيروني. 3. سر الأسرار في معرفة الجواهر والأحجار: عمر بن أحمد بن علي الحلبي. 4. عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات: زكريا بن محمد القزويني. 5. قطف الأزهار في خصائص المعادن والأحجار: أحمد بن عوض المغربي. 6. ماضي النجف وحاضرها: الشيخ جعفر محبوبه. 7. نخب الذخائر في أحوال الجواهر: محمد بن إبراهيم المعروف بابن الاكفاني.
إعـــــــلان
تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.
در النجف اقتناص من ضوء القمر
تقليص
X
تعليق