بسم الله الرحمن الرحيم
حقيقة ودوافع ثورة عاشوراء
هناك تساؤلات تتعلّق بثورة الإمام الحسين ـ عليه السَّلام ـ يتوقّف وضوح دوافعها على الإجابة عليها وهي:
1. لو لم يضغط يزيد على الحسين ـ عليه السَّلام ـ لأخذ البيعة منه، فهل كان سيعارض سلطته؟
2. ولو لم يدعو أهل الكوفة الإمام إلى العراق، فهل كانت ستحدث هذه الثورة؟
3. وهل كانت هذه الثورة ثورة عفوية غير مدروسة وانتفاضة متفجّرة من تلك الانتفاضات الاجتماعية الثائرة التي يعرضها الماديون اليوم؟ أم هي ثورة واعية مدروسة؟
ولكي تتضح الإجابة على هذه التساؤلات نشير ابتداء إلى أنّه على عكس الظواهر الطبيعية التي عادة ما تكون أحادية الطبيعة والحقيقة، فإنّ الظواهر الاجتماعية قد تكون ذات جوانب وطبائع متنوعة، فالفلز لا يمكن أن يكون ذا طبيعة ذهبية وطبيعة نحاسية في آن واحد، بينما يمكن أن يكون للظواهر الاجتماعية جوانب متعددة في نفس الوقت وأن يؤثر فيها عدة أسباب، مثلاً قد تكون الثورة ردة فعل أي تكون رداً لحدث فقط وفي الوقت ذاته تكون ذات طبيعة هجومية، وعندما تكون الثورة ردّاً لفعل ما قد تعدّ سلبية بالنسبة إلى حدث وإيجابية إلى آخر، كانت ثورة الحسين من هذا القبيل وقد أثّر فيها جميع ما تقدم، لأنّها انبثقت من عدة أسباب سنوضحها.
أسباب ثورة الحسين ـ عليه السَّلام ـ
حدثت الثورة الحسينية للدوافع والأسباب التالية:
1. طلب البيعة من الإمام الحسين ليزيد والضغط عليه بهذا القصد.
2. دعوة أهالي الكوفة للحسين للوفود إلى العراق.
3. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا هو الشعار الذي انطلق به من المدينة منذ اليوم الأوّل.
والآن سندرس كلّ واحد من هذه الأسباب لنتعرف على طبيعة ثورة الإمام بالنظر إلى هذه الأسباب ومدى تأثير كلّ منها فيها.
1. رفض مبايعة يزيد
أوّل الأسباب من الناحية الزمنية هو مطالبة الإمام الحسين ـ عليه السَّلام ـ بالبيعة ليزيد ورفضه ـ عليه السَّلام ـ لها كما يقول المؤرّخون انّه قد كتب يزيد بعد موت معاوية في النصف من رجب عام ستين هجرية(1)إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان والي المدينة: أن خذ البيعة من الحسين بن علي أخذاً ليس فيه رخصة ولا تأخير. وما أن وصلت رسالة يزيد استدعى عامل المدينة الحسين بن علي عليمها السَّلام وفاتحه بذلك، الحسين الذي كان يعارض ولاية العهد ليزيد منذ عهد معاوية بشدّة امتنع هذه المرة عنها أيضاً، لأنّ مبايعة يزيد لا تعني إسباغ الشرعية على خلافة شخصية شاذة مثل يزيد فقط، بل يعني تأييد انحراف كبير من مثل تأسيس نظام ملكي أسّسه معاوية.
استمر الضغط عدة أيّام من قبل عامل المدينة غير انّ الحسين قاوم ذلك، وجرّاء هذه المضايقات انطلق الإمام في 28 رجب برفقة أهل بيته وجماعة من بني هاشم نحو مكة ودخلها في الثالث من شعبان.
وكان سبب اختيار مكّة من بين المدن الكثيرة هو انّها كانت حرماً آمناً، مضافاً إلى ذلك كان موسم الحجّ على وشك الاقتراب، ونظراً إلى الاجتماع القريب للحجاج في مكة كانت مكاناً مناسباً جداً للإعلان عن رسالة الإمام وتبيين أهدافه للمسلمين.
إلى هنا كانت ثورة الإمام الحسين ردّة فعل سلبي أمام طلب غير مشروع، لأنّ حكومة يزيد طالبته بالبيعة بالضغط والإلحاح وكان هو يمتنع عن ذلك، ولكن قد بدا واضحاً انّ الإمام قد أعرب عن رفضه لبيعة يزيد رغم ضغوطه وقبل أن يدعوه الكوفيون، وحتى لو لم يدعوه إلى المسير إليهم فإنّه كان سيرفض مبايعته.
2.استدعاء أهل الكوفة للحسين ـ عليه السَّلام ـ
أقام الحسين ـ عليه السَّلام ـ في مكة بعد أن دخلها في الثالث من شعبان وراح يكشف عن طبيعة السلطة اللا إسلامية الحاكمة، وصل خبر معارضة الإمام الحسين ـ عليه السَّلام ـ لخلافة يزيد وإقامته في مكّة إلى العراق، واجتمع الكوفيون الذين كانوا ما يزالون يتذكّرون حكومة علي ـ عليه السَّلام ـ العادلة قبل ما يقارب العشرين عاماً، ومازالت آثار تربية أمير المؤمنين وتعاليمه باقية في تلك المدينة ولم يزل اليتامى الذين ربّاهم علي ـ عليه السَّلام ـ على يديه والأيامى اللائي كان يرعاهنّ بعطفه أحياء يرزقون. اجتمعوا وبعد أن درسوا الظروف قرروا أن يعصوا يزيد ولا يطيعوه، وأن يدعوا الحسين بن علي عليمها السَّلام ليقودهم ويكون إماماً عليهم ويخضعوا لطاعته، وبعد هذا التشاور كتب وجهاء شيعة الكوفة وكبارهم من أمثال: سليمان بن صُـرَد، ومسيب بن نَجَبَةَ، ورفاعة بن شداد البَجَلي، وحبيب بن مظاهر، رسائل وبعثوا بها إلى الحسين ودعوه أن يقدم إلى العراق ويكون إماماً عليهم.
وصلت أوّل رسالة في العاشر من رمضان عام 60 هجرية إلى يد الحسين ـ عليه السَّلام ـ .(2)وراحت مراسلة الشخصيات والجماعات من الكوفة للحسين ـ عليه السَّلام ـ تستمر حتى اجتمعت ستمائة رسالة عند الحسين في يوم واحد فقط، وبلغ مجموع الرسائل المرسلة بالتدريج اثني عشر ألف رسالة(3).
ونظراً إلى كلّ هذا الترحيب الحار والكبير وإلى السيل الجارف من الرسائل والدعوات قبل الإمام الحسين ـ عليه السَّلام ـ دعوة العراقيين انطلاقاً من شعوره بالمسؤولية تجاه ذلك، وفي أوّل ردّفعل إيجابي منه بعث مسلم بن عقيل ابن عمه ممّثلاً عنه إلى الكوفة حتى يدرس أوضاع وظروف العراق ويطلع الإمام على ذلك، ثمّ إن رأى الكوفيين مازالوا أوفياء بما كتبوا انطلق الإمام باتجاههم، وكما هو ملحوظ نجد انّ مقابلة الإمام مع دعوتهم كانت مقابلة إيجابية وتعدّ نوعاً من التعاطف مع العراقيين.
ويتضح بالالتفات إلى ما تقدّم انّه بعد رفض البيعة ليزيد لم يكن للإمام الحسين ـ عليه السَّلام ـ في مكة مسؤولية ،لأنّه لم يبايع على أية حال، غير انّ دعوة الكوفيين له شكّلت منعطفاً جديداً في قضيته وحمّلته مسؤولية أُخرى.
ولعلّ تقدير الإمام وتقييمه كان بهذا النحو: الآن وقد دعاني أهل الكوفة مع كلّ هذا الإلحاح والترحيب، سأنطلق نحو العراق، فإن وفوا بوعودهم فخير على خير، وإن لم يكن ذلك أعود إلى مكة أو إلى إحدى المدن الإسلامية.
وهكذا كان الامتناع عن مبايعة يزيد أسبق من دعوة الكوفيين من الناحية الزمنية، وقد وصلت أوّل رسالة من الكوفة إلى الحسين بعد أربعين يوماًمن إقامته في مكة.
إذن فليس امتناع الإمام عن مبايعة يزيد كان بسبب دعوة الكوفيين، بل كان امتناعه عن ذلك قبل وصول دعوتهم ورسائلهم.
وبعبارة أُخرى: حتى إذا لم تكن هناك كوفة ما ولا هناك من يدعوه وضاقت الأرض عليه بما رحبت، فإنّ الإمام كان سيظل رافضاً لبيعة يزيد.
3. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
انطلق الإمام الحسين ومنذ اليوم الأوّل من المدينة حاملاً شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والواقع انّ القضية لم تكن قضية عرض البيعة عليه ورفضه لها ثمّ القيام بالثورة لذلك، بل انّه كان يرى أنّ الثورة ضرورية حتى لو لم يطالبوه بالبيعة.
وهكذا الإمام بالنسبة إلى دعوة الكوفيين فإنّه لم يثر لدعوة الكوفيين له حيث قد لاحظنا تأخّر دعوتهم ومراسلتهم له عن امتناعه عن البيعة حوالي شهر ونصف الشهر، و من هذه الزاوية كان منطق الإمام الحسين منطق الشجب والاعتراض ومهاجمة الحكومة اللإسلامية.
وقد كان منطقه هو انّه حيث إنّ العالم الإسلامي قد ساد فيه المنكر والفساد وتلوّث بهما وكانت السلطة الحاكمة هي مصدر ذلك كلّه كان من الضروري أن يثور انطلاقاً من مسؤوليته الدينية وواجبه الإلهي، وكما أشرنا كان لهذه الأسباب الثلاثة دور في ثورة الحسين العظيمة، وأوجب كلّ واحد منها نوعاً خاصاً من المسؤولية بالنسبة إليه، فكان موقفه ـ عليه السَّلام ـ يختلف ازاء كلّ منها.
فكان موقف الإمام ـ عليه السَّلام ـ دفاعياً بالنسبة إلى الدافع الأوّل، لأنّهم أرادوا إجباره على البيعة وكان هو يحجم عن ذلك.
وكان موقفه ازاء الباعث الثاني موقفاً تعاطفياً، لأنّهم طلبوا منه أن يتجاوب معهم فأجابهم.
وأمّا السبب الثالث فقد كان موقف الإمام ازاءه موقفاً هجومياً متحرشاً ذلك انّه حتى لو لم يطالبوه بالبيعة، فكان عليه أن يهاجم السلطة ويعتبرها سلطة غير إسلامية ولا شرعية.
تقييم الدوافع الثلاثة
لنلاحظ أي الأسباب الثلاثة أكثر أهمية.
ولا شكّ انّ للاستجابة لدعوة الكوفيين أهمية كبيرة، لأنّ الإمام ـ عليه السَّلام ـ قد أعلن عن استعداده باستجابته للناس الذين تمرّدوا على يزيد ودعوه للإمامة عليهم وفيما لو كانت الظروف مؤاتية ومناسبة لكان يبادر إلى تشكيل حكومة إسلامية، غير أنّ امتناعه عن مبايعة يزيد له أهمية أكبر من ذلك، لأنّه قد أعلن مراراً انّه لن يبايع يزيد مهما كان و مهما كانت الضغوط، وهذا الأمر يدلّ على صمود الإمام وثباته أمام الضغط والوعيد، ولكن يبقى للسبب الثالث أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أهميته القصوى، ذلك انّ موقف الإمام لم يكن موقفاً دفاعياً ولا تعاطفياً مع من دعوه بل كان موقفاً هجومياً تحرشياً استنكارياً، لأنّ ممّا لا شكّ فيه هو انّه لو كانت دعوة الكوفيين للإمام هي الدافع الرئيسي للثورة كان على الإمام أن ينسحب ولغيّـر موقفه عندما علم بتخاذلهم وعدم وفائهم وما كان يتجه نحو العراق، ولكننا نرى أنّ من أسخن خطب الإمام الحسين ـ عليه السَّلام ـ وأكثرها إثارة وحماسة هي تلك التي قالها بعد استشهاد مسلم.
ومن هنا يتضح مدى أهمية دور دافع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ثورته، وكم كان موقفه هجومياً صاخباً إزاء سلطة يزيد الفاسدة(4)
إلى هنا اتضحت الإجابة على التساؤل الأوّل والثاني المطروحين في بداية هذا البحث وتبيّن أيضاً انّه حتى لو افترض أن يزيد لم يضغط على الحسين لأخذ البيعة منه فإنّه ـ عليه السَّلام ـ كان سيعارض سلطته، وعلمنا كذلك انّ الثورة كانت ستحدث من دون دعوة الكوفيين أيضاً.
بقى الآن أن نشير إلى بعض الوثائق الحية التي تمثّل درجة اهتمام الإمام الحسين ـ عليه السَّلام ـ بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ثورته لكي تتضح إجابة التساؤل الثالث أيضاً.
1-حياة الإمام الحسين بن علي عليمها السَّلام ، باقر شريف القرشي:2/231 نقلاً عن نهج البلاغة.
2-الارشاد، ص 200.
3-الإرشاد، المفيد، ص 203; مقتل الحسين ـ عليه السَّلام ـ ، أبو مخنف، ص ص16
4-اللهوف على قتلى الطفوف ، ابن طاووس، ص 15.
حقيقة ودوافع ثورة عاشوراء
هناك تساؤلات تتعلّق بثورة الإمام الحسين ـ عليه السَّلام ـ يتوقّف وضوح دوافعها على الإجابة عليها وهي:
1. لو لم يضغط يزيد على الحسين ـ عليه السَّلام ـ لأخذ البيعة منه، فهل كان سيعارض سلطته؟
2. ولو لم يدعو أهل الكوفة الإمام إلى العراق، فهل كانت ستحدث هذه الثورة؟
3. وهل كانت هذه الثورة ثورة عفوية غير مدروسة وانتفاضة متفجّرة من تلك الانتفاضات الاجتماعية الثائرة التي يعرضها الماديون اليوم؟ أم هي ثورة واعية مدروسة؟
ولكي تتضح الإجابة على هذه التساؤلات نشير ابتداء إلى أنّه على عكس الظواهر الطبيعية التي عادة ما تكون أحادية الطبيعة والحقيقة، فإنّ الظواهر الاجتماعية قد تكون ذات جوانب وطبائع متنوعة، فالفلز لا يمكن أن يكون ذا طبيعة ذهبية وطبيعة نحاسية في آن واحد، بينما يمكن أن يكون للظواهر الاجتماعية جوانب متعددة في نفس الوقت وأن يؤثر فيها عدة أسباب، مثلاً قد تكون الثورة ردة فعل أي تكون رداً لحدث فقط وفي الوقت ذاته تكون ذات طبيعة هجومية، وعندما تكون الثورة ردّاً لفعل ما قد تعدّ سلبية بالنسبة إلى حدث وإيجابية إلى آخر، كانت ثورة الحسين من هذا القبيل وقد أثّر فيها جميع ما تقدم، لأنّها انبثقت من عدة أسباب سنوضحها.
أسباب ثورة الحسين ـ عليه السَّلام ـ
حدثت الثورة الحسينية للدوافع والأسباب التالية:
1. طلب البيعة من الإمام الحسين ليزيد والضغط عليه بهذا القصد.
2. دعوة أهالي الكوفة للحسين للوفود إلى العراق.
3. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا هو الشعار الذي انطلق به من المدينة منذ اليوم الأوّل.
والآن سندرس كلّ واحد من هذه الأسباب لنتعرف على طبيعة ثورة الإمام بالنظر إلى هذه الأسباب ومدى تأثير كلّ منها فيها.
1. رفض مبايعة يزيد
أوّل الأسباب من الناحية الزمنية هو مطالبة الإمام الحسين ـ عليه السَّلام ـ بالبيعة ليزيد ورفضه ـ عليه السَّلام ـ لها كما يقول المؤرّخون انّه قد كتب يزيد بعد موت معاوية في النصف من رجب عام ستين هجرية(1)إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان والي المدينة: أن خذ البيعة من الحسين بن علي أخذاً ليس فيه رخصة ولا تأخير. وما أن وصلت رسالة يزيد استدعى عامل المدينة الحسين بن علي عليمها السَّلام وفاتحه بذلك، الحسين الذي كان يعارض ولاية العهد ليزيد منذ عهد معاوية بشدّة امتنع هذه المرة عنها أيضاً، لأنّ مبايعة يزيد لا تعني إسباغ الشرعية على خلافة شخصية شاذة مثل يزيد فقط، بل يعني تأييد انحراف كبير من مثل تأسيس نظام ملكي أسّسه معاوية.
استمر الضغط عدة أيّام من قبل عامل المدينة غير انّ الحسين قاوم ذلك، وجرّاء هذه المضايقات انطلق الإمام في 28 رجب برفقة أهل بيته وجماعة من بني هاشم نحو مكة ودخلها في الثالث من شعبان.
وكان سبب اختيار مكّة من بين المدن الكثيرة هو انّها كانت حرماً آمناً، مضافاً إلى ذلك كان موسم الحجّ على وشك الاقتراب، ونظراً إلى الاجتماع القريب للحجاج في مكة كانت مكاناً مناسباً جداً للإعلان عن رسالة الإمام وتبيين أهدافه للمسلمين.
إلى هنا كانت ثورة الإمام الحسين ردّة فعل سلبي أمام طلب غير مشروع، لأنّ حكومة يزيد طالبته بالبيعة بالضغط والإلحاح وكان هو يمتنع عن ذلك، ولكن قد بدا واضحاً انّ الإمام قد أعرب عن رفضه لبيعة يزيد رغم ضغوطه وقبل أن يدعوه الكوفيون، وحتى لو لم يدعوه إلى المسير إليهم فإنّه كان سيرفض مبايعته.
2.استدعاء أهل الكوفة للحسين ـ عليه السَّلام ـ
أقام الحسين ـ عليه السَّلام ـ في مكة بعد أن دخلها في الثالث من شعبان وراح يكشف عن طبيعة السلطة اللا إسلامية الحاكمة، وصل خبر معارضة الإمام الحسين ـ عليه السَّلام ـ لخلافة يزيد وإقامته في مكّة إلى العراق، واجتمع الكوفيون الذين كانوا ما يزالون يتذكّرون حكومة علي ـ عليه السَّلام ـ العادلة قبل ما يقارب العشرين عاماً، ومازالت آثار تربية أمير المؤمنين وتعاليمه باقية في تلك المدينة ولم يزل اليتامى الذين ربّاهم علي ـ عليه السَّلام ـ على يديه والأيامى اللائي كان يرعاهنّ بعطفه أحياء يرزقون. اجتمعوا وبعد أن درسوا الظروف قرروا أن يعصوا يزيد ولا يطيعوه، وأن يدعوا الحسين بن علي عليمها السَّلام ليقودهم ويكون إماماً عليهم ويخضعوا لطاعته، وبعد هذا التشاور كتب وجهاء شيعة الكوفة وكبارهم من أمثال: سليمان بن صُـرَد، ومسيب بن نَجَبَةَ، ورفاعة بن شداد البَجَلي، وحبيب بن مظاهر، رسائل وبعثوا بها إلى الحسين ودعوه أن يقدم إلى العراق ويكون إماماً عليهم.
وصلت أوّل رسالة في العاشر من رمضان عام 60 هجرية إلى يد الحسين ـ عليه السَّلام ـ .(2)وراحت مراسلة الشخصيات والجماعات من الكوفة للحسين ـ عليه السَّلام ـ تستمر حتى اجتمعت ستمائة رسالة عند الحسين في يوم واحد فقط، وبلغ مجموع الرسائل المرسلة بالتدريج اثني عشر ألف رسالة(3).
ونظراً إلى كلّ هذا الترحيب الحار والكبير وإلى السيل الجارف من الرسائل والدعوات قبل الإمام الحسين ـ عليه السَّلام ـ دعوة العراقيين انطلاقاً من شعوره بالمسؤولية تجاه ذلك، وفي أوّل ردّفعل إيجابي منه بعث مسلم بن عقيل ابن عمه ممّثلاً عنه إلى الكوفة حتى يدرس أوضاع وظروف العراق ويطلع الإمام على ذلك، ثمّ إن رأى الكوفيين مازالوا أوفياء بما كتبوا انطلق الإمام باتجاههم، وكما هو ملحوظ نجد انّ مقابلة الإمام مع دعوتهم كانت مقابلة إيجابية وتعدّ نوعاً من التعاطف مع العراقيين.
ويتضح بالالتفات إلى ما تقدّم انّه بعد رفض البيعة ليزيد لم يكن للإمام الحسين ـ عليه السَّلام ـ في مكة مسؤولية ،لأنّه لم يبايع على أية حال، غير انّ دعوة الكوفيين له شكّلت منعطفاً جديداً في قضيته وحمّلته مسؤولية أُخرى.
ولعلّ تقدير الإمام وتقييمه كان بهذا النحو: الآن وقد دعاني أهل الكوفة مع كلّ هذا الإلحاح والترحيب، سأنطلق نحو العراق، فإن وفوا بوعودهم فخير على خير، وإن لم يكن ذلك أعود إلى مكة أو إلى إحدى المدن الإسلامية.
وهكذا كان الامتناع عن مبايعة يزيد أسبق من دعوة الكوفيين من الناحية الزمنية، وقد وصلت أوّل رسالة من الكوفة إلى الحسين بعد أربعين يوماًمن إقامته في مكة.
إذن فليس امتناع الإمام عن مبايعة يزيد كان بسبب دعوة الكوفيين، بل كان امتناعه عن ذلك قبل وصول دعوتهم ورسائلهم.
وبعبارة أُخرى: حتى إذا لم تكن هناك كوفة ما ولا هناك من يدعوه وضاقت الأرض عليه بما رحبت، فإنّ الإمام كان سيظل رافضاً لبيعة يزيد.
3. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
انطلق الإمام الحسين ومنذ اليوم الأوّل من المدينة حاملاً شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والواقع انّ القضية لم تكن قضية عرض البيعة عليه ورفضه لها ثمّ القيام بالثورة لذلك، بل انّه كان يرى أنّ الثورة ضرورية حتى لو لم يطالبوه بالبيعة.
وهكذا الإمام بالنسبة إلى دعوة الكوفيين فإنّه لم يثر لدعوة الكوفيين له حيث قد لاحظنا تأخّر دعوتهم ومراسلتهم له عن امتناعه عن البيعة حوالي شهر ونصف الشهر، و من هذه الزاوية كان منطق الإمام الحسين منطق الشجب والاعتراض ومهاجمة الحكومة اللإسلامية.
وقد كان منطقه هو انّه حيث إنّ العالم الإسلامي قد ساد فيه المنكر والفساد وتلوّث بهما وكانت السلطة الحاكمة هي مصدر ذلك كلّه كان من الضروري أن يثور انطلاقاً من مسؤوليته الدينية وواجبه الإلهي، وكما أشرنا كان لهذه الأسباب الثلاثة دور في ثورة الحسين العظيمة، وأوجب كلّ واحد منها نوعاً خاصاً من المسؤولية بالنسبة إليه، فكان موقفه ـ عليه السَّلام ـ يختلف ازاء كلّ منها.
فكان موقف الإمام ـ عليه السَّلام ـ دفاعياً بالنسبة إلى الدافع الأوّل، لأنّهم أرادوا إجباره على البيعة وكان هو يحجم عن ذلك.
وكان موقفه ازاء الباعث الثاني موقفاً تعاطفياً، لأنّهم طلبوا منه أن يتجاوب معهم فأجابهم.
وأمّا السبب الثالث فقد كان موقف الإمام ازاءه موقفاً هجومياً متحرشاً ذلك انّه حتى لو لم يطالبوه بالبيعة، فكان عليه أن يهاجم السلطة ويعتبرها سلطة غير إسلامية ولا شرعية.
تقييم الدوافع الثلاثة
لنلاحظ أي الأسباب الثلاثة أكثر أهمية.
ولا شكّ انّ للاستجابة لدعوة الكوفيين أهمية كبيرة، لأنّ الإمام ـ عليه السَّلام ـ قد أعلن عن استعداده باستجابته للناس الذين تمرّدوا على يزيد ودعوه للإمامة عليهم وفيما لو كانت الظروف مؤاتية ومناسبة لكان يبادر إلى تشكيل حكومة إسلامية، غير أنّ امتناعه عن مبايعة يزيد له أهمية أكبر من ذلك، لأنّه قد أعلن مراراً انّه لن يبايع يزيد مهما كان و مهما كانت الضغوط، وهذا الأمر يدلّ على صمود الإمام وثباته أمام الضغط والوعيد، ولكن يبقى للسبب الثالث أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أهميته القصوى، ذلك انّ موقف الإمام لم يكن موقفاً دفاعياً ولا تعاطفياً مع من دعوه بل كان موقفاً هجومياً تحرشياً استنكارياً، لأنّ ممّا لا شكّ فيه هو انّه لو كانت دعوة الكوفيين للإمام هي الدافع الرئيسي للثورة كان على الإمام أن ينسحب ولغيّـر موقفه عندما علم بتخاذلهم وعدم وفائهم وما كان يتجه نحو العراق، ولكننا نرى أنّ من أسخن خطب الإمام الحسين ـ عليه السَّلام ـ وأكثرها إثارة وحماسة هي تلك التي قالها بعد استشهاد مسلم.
ومن هنا يتضح مدى أهمية دور دافع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ثورته، وكم كان موقفه هجومياً صاخباً إزاء سلطة يزيد الفاسدة(4)
إلى هنا اتضحت الإجابة على التساؤل الأوّل والثاني المطروحين في بداية هذا البحث وتبيّن أيضاً انّه حتى لو افترض أن يزيد لم يضغط على الحسين لأخذ البيعة منه فإنّه ـ عليه السَّلام ـ كان سيعارض سلطته، وعلمنا كذلك انّ الثورة كانت ستحدث من دون دعوة الكوفيين أيضاً.
بقى الآن أن نشير إلى بعض الوثائق الحية التي تمثّل درجة اهتمام الإمام الحسين ـ عليه السَّلام ـ بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ثورته لكي تتضح إجابة التساؤل الثالث أيضاً.
1-حياة الإمام الحسين بن علي عليمها السَّلام ، باقر شريف القرشي:2/231 نقلاً عن نهج البلاغة.
2-الارشاد، ص 200.
3-الإرشاد، المفيد، ص 203; مقتل الحسين ـ عليه السَّلام ـ ، أبو مخنف، ص ص16
4-اللهوف على قتلى الطفوف ، ابن طاووس، ص 15.
تعليق