بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تبارك وتعالى(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) الشورى، آية 13
هذه الآية الكريمة تبين لنا أنّ المهمة الأساسية والوظيفة الرئيسية لأنبياء الله العظام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولاسيما نبينا الخاتم صلى الله عليه وآله بدلالة قوله تعالى (والذي أوحينا إليك) ـ أي اليك يارسول الله ـ إنما هي هذه الوظيفة وهي إقامة الدين (أن أقيموا الدين)، ولاشك أنّ كل من يلجُ في سلك التبليغ الديني ويطلع بمهمة الدعوة إلى دين الله تبارك وتعالى، سواءاً كان عالما أو خطيبا أو كاتبا أو من أشبه، يطلع بتلك المهمة لأجل هذا الهدف وهذه المهمة (إقامة الدين) . العلماء يعتبرون أنفسهم خلفاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنّ هنالك أحاديث وردت في ذلك الشأن،وكذلك الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر يُعتبرون خلفاء أيضا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولاشك أنّ خليفة رسول الله في هذا الشأن يجب أن يكون هدفه هو هدف رسول الله المتمثل في (إقامة الدين).
هنا لابد من التركيز على نقطة وهي أنّ إقامة الدين أمر له شرائط أساسية. ليس لكل أحد أن يسعى لإقامة الدين، ولا يتأتى لكل أحد ذلك، هنالك شرائط وصفات إذا ما تحققت في هذا الساعي لإقامة الدين أو هذا المبلغ، هذا العالم ،هذا العامل، هذا الناشط الديني فإن هدفه يتحقق أو على الأقل يضمن تحقق الصدق وخلوص النية في مسعاه. أما إذا لم يلتزم بهذه الشروط فهو إما أنّه رجل يخدع نفسه فيتوهم ويظن في نفسه بأنه يقيم الدين ويدعو له، وإما أنه يخدع الناس ويُلبّس عليهم..
هذه مسألة يجب أن نكون جميعا مدركين لها تمام الإدراك.
ماهي تلك الشرائط؟
الشرائط تجدونها في كلمة درية، متلألئة من كلمات أمير المؤمنين عليه السلام في حكمه القصار وكل كلماته مضيئة.. تلك الكلمة الدُريّة تجدونها في أواخرنهج البلاغة.
هناك يقول أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه (لا يقيم أمر الله سبحانه إلا من لا يصانع، ولا يضارع، ولا يتّبع المطامع)
هنا يبين مولانا أمير المؤمنين عليه السلام أنّ من يقيم دين الله تعالى لابد أن تتوفر فيه ثلاث خلال وشرائط
الصفة الأولى: رجل لا (يصانع) أي لا يجامل، لا يداهن، لا يداري على حساب الحق ويجعله سلعة يساوم ويصانع عليها.
هذا الذي تجده يجامل ويزعم بأنه يسعى لإقامة دين الله فقل له أنت كاذب فالذي يسعى لإقامة دين الله لا يصانع ولا يجامل. هكذا يقول أمير المؤمنين سلام الله عليه.
الصفة الثانية: رجل (لا يضارع) فما معنى ذلك؟
الجذر اللغوي للمفردة هو ضرعَ يضرع ضراعةً أي ذلّ وخضع ، ومنه ضارعَ: أي شابه وماثل.
فنخلص الى أنّ الفعل ضارعَ ومنه المضارعة يعني الخضوع على نحو(المشاكلة والمشابهة) للاخرين والمحاكاة لباطلهم ومسايرتهم.
أنت حين تقول أنا أتضرع لله أي أتخضع و أذل نفسي لله..
فالمؤمن الحقيقي لا( يضرَعُ) ولا (يُضارع(
الرجل الذي لا يَضرع هو ذلك الذي لا يخضع لأحد، هو ذلك الذي يمد رقبته للسيف في سبيل الحق ، هو ذلك الذي حمل روحه على كفه ومضى داعيا الى سبيل ربه لا يخشى في الله لومة لائم.. فلا تصدق من يدّعي أنه يسعى لإقامة الدين إذا ما وجدته رجلا يضرع و يخضع لحاكم أو لسلطان أو لثري.
هذا الخضوع ليس لصاحب سيف حتى يُقال تقية مثلا بل للدينار والدرهم.
المؤمن ايضا (لا يضارع) فهو لا يخضع للاخرين فيركب موجة تياراتهم ويسعى لالغاء الفروق بينه وبينهم ليكون متجانسا ومنسجما معهم وغير مختلف عنهم فيكون بهذا مشابها ومشاكلا لهم! فتضيع هويته ويصبح هجينا..
الصفة الثالثة: رجل (لا يتّبع المطامع).
أي أنّه رجل لاطمع له بمال أو منصب أو جاه أو شيء من حطام الدنيا ولا يسعى وراء الشهرة سعيا لإرضاء الأنا والذات أو طلبا للشهرة.
هذه الكلمة العلوية المقدسة اجعلها نبراسا وميزانا لك أيها المؤمن و زِن بها كل المدعين.
إذا وجدت احدا ممن يتصدى للدعوة ويدعى السعي لإقامة دين الله وكان على خلاف شرائط وموازين هذه الكلمة في سلوكه وعمله فاعزله وأسقطه عن الاعتبار. أما إذا انطبقت على رجل فاجعله على رأسك لأنه بالفعل صادق يسعى لإقامة دين الله..
دعوني أُقلّب بعض صفحات التاريخ لنستعرضَ نماذج من كلتا الطائفتين ونتعرف على مواقف لرجالات حملوا شرائط إقامة الدين وكانوا أجلى وأصدق نموذج لها وفي المقابل سنعرض مواقف لرجال كانوا على خلاف ذلك تماما ..
كان هنالك رجل هو تلميذ وصاحب أبي حنيفة، يسمى : أبو يوسف، وكان زعيما دينيا للطائفة البكرية في زمانه و قاضي القضاة في عصر هارون، وله قبر مُلحق حتى اليوم بمرقدي الجوادين وهو ملاصق للحرم .
يقع مدفنه شرقي الصحن الكاظمي المقدس ، وهو جليل القدر عندهم ومعظم لذا ترونهم قد أقاموا له حرما وعظموا قبره ورفعوا شأنه..
حينما تقرأ تاريخه وسيرته كان يتلاعب بدين الله كما يشاء لكي يرضي الحاكم. كان يصانع على دين الله.. طالعوا مثلا كتاب (تاريخ الخلفاء) للسيوطي الذي كان يؤرخ فيه لخلفائهم. هناك في ص ٢٣١ أخرج السلفي في الطيوريات بسنده عن ابن المبارك ـ وهو أيضا فقيه ومحدث جليل القدر عندهم ـ قال: لما أفضت الخلافة إلى الرشيد وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي ـ أي هارون هوى جارية لأبيه محمد الملقب بالمهدي وهي لاتجوز له لانّ والده قد وطئها ولكنّ خليفة القوم مصر على رغبته بتلك الجارية..
تقول الرواية: فراودها عن نفسها
فقالت الجارية: لا أصلح لك، إنّ أباك قد طاف بي ـ اي لا يجوز لك أن تأتيني فقد أتاني والدك ..
تقول الرواية: فشُغف بها فأرسل إلى أبي يوسف فسأله أعندك في هذا شيء؟ ـ اي هل عندك حيلة ومخرج ؟
فقال أبو يوسف: يا أمير المؤمنين أكُلما دَعَت أمة شيء يجب أن تُصدق؟ ـ أي هل يتحتم علينا أن نصدق شيئا تدعيه اي جارية ونُسلم بصحة إخبارها؟
لا تصدقها فإنها ليست بمأمونة. ـ أي لا تأخذ بقولها ولا تصدقها فإنها ليست بمأمونة ولا صادقة..
بناءا على قول أبي يوسف هذا ما الذي حصل؟
بفتوى أبي يوسف ذهب هارون و وطأ جارية أبيه!!!
يقول ابن المبارك: فلم أدرِ ممن أعجب؟ من هذا الذي قد وضع يده في دماء المسلمين وأموالهم يتحرج عن حرمة أبيه؟! أم من هذه الأمة التي رغبت بنفسها عن أمير المؤمنين ؟ أو أعجب من هذا فقيه الأرض وقاضيها، قال له اهتك حرمة أبيك واقض شهوتك وصيره في رقبتي! ..
ـ هذا أبو يوسف الذي يزوره أهل بغداد من المخالفين ولا يعرفون تاريخه الاسود !
صورة أخرى من صور المتاجرة بدين الله والمصانعة على شرع الله تعالى في نفس المصدر السابق (تاريخ الخلفاء(
وأخرج أيضا ـ أي السلفي ـ قال الرشيد لأبي يوسف: إني اشتريت جارية وأريد أن أطأها الآن قبل الاستبراء
ـ بعد أن تنتقل الجارية لمالك جديد يجب أن تبقى الجارية فترة لاستبراء رحمها منعا لاختلاط الانساب كما في العِدة للمطلقة والأرملة.. لكنّ الرشيد متعجل ولا يهمه حلال وحرام فالمهم عنده هو إشباع رغباته وأهوائه، فيذهب ليستفتي رجل الملمات والمواقف الصعبة القاضي أبا يوسف
قال الرشيد لأبي يوسف : إني اشتريت جارية وأريد أن أطأها الآن قبل الاستبراء، فهل عندك حيلة؟
ـ كان لسان حال العباسي الملقب زورا وبهتانا بالرشيد: أنت أيها القاضي أبو يوسف رجلٌ محتال ، أنت صاحب أبي حنيفة الذي كان رأس الحيلة، فهل عندك في هذه القضية حيلة أم لا؟
قال القاضي أبو يوسف: هبها لبعض وُلدك ثم تزوجها..
ـ أي هبها لأحد أبنائك ومن ثمّ تزوجها وطأها!
ـ رجل يصانع على دين الله بشكل واضح وصريح ويقبض المال!
طبعا هارون كان معجبا بأبي يوسف هذا لذا جعله قاضي القضاة اي المرجع الأعلى ، وهذا طبيعي فالرجل كان يفتي لهارون بما يرضي أهواءه وما يعجبه ويقبض ثمن فتواه..
في نفس المصدر جاء التالي . و أخرج عن اسحاق ابن راهويه قال: دعى الرشيد أبا يوسف بالليل فأفتاهـ إستدعى هارون قاضي القضاة ليلا، واستجلابه لأبي يوسف في هذا الوقت لاشك لقضية متعلقة بأمور الفراش، فأفتاه القاضي بما يريح باله ..
يقول ابن راهويه : دعى الرشيد أبا يوسف بالليل فأفتاه، فأمر له بمائة ألف درهم.
ـ هذا مبلغ ضخم بالتأكيد، وهو ينبيكَ عن مدى إعجاب هارون بما أفتاه به أبو يوسف فأمر له فورا بذلك المبلغ..
و كما سترون فإنّ أبا يوسف هذا كان شديد الزهد والورع ومحتاطا جدا فيما يختص بأموال بيت المسلمين لدرجة أنه لم يقبل أن يتأخر الدفع حتى الصباح!!
كان مستعجلا جدا ولم يستطع أن يصبر الى أن يطلع الصباح فيتسلم نقوده من خازن بيت مال المسلمين الذي يباشر عمله صباحا ، و قد كان في تلك الساعة من الليل نائما في بيته..
إلا أنّ الورع الزاهد قاضي القضاة أبى إلا أن يقبض ثمن فتواه حالا قبل الصبح..
يقول ابن راهويه : فقال أبو يوسف: إن رأى أمير المؤمنين أمر بتعجيلها قبل الصبح، فقال هارون: عجّلوها ـ أي ادفعوا إليه المال على الفورـ ، فقال بعض من عنده: إنّ الخازن في بيته، والأبواب مغلقة.
فقال أبو يوسف: فقد كانت الأبواب مغلقة حين دعاني ففتحت. ـ أي يقول أبو يوسف: عندما دعاني هارون الى قصره في هذه الساعة من الليل كانت الأبواب مغلقة فَفُتحت من أجل عيني هارون، فمن أجل عيني هارون وعينيّ أنا افتحوا أيضا أبواب بيت مال المسلمين. المهم أن أقبض المائة ألف. هل بعت ديني بدون مقابل؟ أعطيت هارون الجواب الذي أعجبه وأراح باله وبعتُ ديني ولا بد أن أقبض الثمن فورا..
هذا نموذج و مثال على من يصانع في دين الله تعالى.قال الله تبارك وتعالى(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) الشورى، آية 13
هذه الآية الكريمة تبين لنا أنّ المهمة الأساسية والوظيفة الرئيسية لأنبياء الله العظام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولاسيما نبينا الخاتم صلى الله عليه وآله بدلالة قوله تعالى (والذي أوحينا إليك) ـ أي اليك يارسول الله ـ إنما هي هذه الوظيفة وهي إقامة الدين (أن أقيموا الدين)، ولاشك أنّ كل من يلجُ في سلك التبليغ الديني ويطلع بمهمة الدعوة إلى دين الله تبارك وتعالى، سواءاً كان عالما أو خطيبا أو كاتبا أو من أشبه، يطلع بتلك المهمة لأجل هذا الهدف وهذه المهمة (إقامة الدين) . العلماء يعتبرون أنفسهم خلفاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنّ هنالك أحاديث وردت في ذلك الشأن،وكذلك الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر يُعتبرون خلفاء أيضا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولاشك أنّ خليفة رسول الله في هذا الشأن يجب أن يكون هدفه هو هدف رسول الله المتمثل في (إقامة الدين).
هنا لابد من التركيز على نقطة وهي أنّ إقامة الدين أمر له شرائط أساسية. ليس لكل أحد أن يسعى لإقامة الدين، ولا يتأتى لكل أحد ذلك، هنالك شرائط وصفات إذا ما تحققت في هذا الساعي لإقامة الدين أو هذا المبلغ، هذا العالم ،هذا العامل، هذا الناشط الديني فإن هدفه يتحقق أو على الأقل يضمن تحقق الصدق وخلوص النية في مسعاه. أما إذا لم يلتزم بهذه الشروط فهو إما أنّه رجل يخدع نفسه فيتوهم ويظن في نفسه بأنه يقيم الدين ويدعو له، وإما أنه يخدع الناس ويُلبّس عليهم..
هذه مسألة يجب أن نكون جميعا مدركين لها تمام الإدراك.
ماهي تلك الشرائط؟
الشرائط تجدونها في كلمة درية، متلألئة من كلمات أمير المؤمنين عليه السلام في حكمه القصار وكل كلماته مضيئة.. تلك الكلمة الدُريّة تجدونها في أواخرنهج البلاغة.
هناك يقول أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه (لا يقيم أمر الله سبحانه إلا من لا يصانع، ولا يضارع، ولا يتّبع المطامع)
هنا يبين مولانا أمير المؤمنين عليه السلام أنّ من يقيم دين الله تعالى لابد أن تتوفر فيه ثلاث خلال وشرائط
الصفة الأولى: رجل لا (يصانع) أي لا يجامل، لا يداهن، لا يداري على حساب الحق ويجعله سلعة يساوم ويصانع عليها.
هذا الذي تجده يجامل ويزعم بأنه يسعى لإقامة دين الله فقل له أنت كاذب فالذي يسعى لإقامة دين الله لا يصانع ولا يجامل. هكذا يقول أمير المؤمنين سلام الله عليه.
الصفة الثانية: رجل (لا يضارع) فما معنى ذلك؟
الجذر اللغوي للمفردة هو ضرعَ يضرع ضراعةً أي ذلّ وخضع ، ومنه ضارعَ: أي شابه وماثل.
فنخلص الى أنّ الفعل ضارعَ ومنه المضارعة يعني الخضوع على نحو(المشاكلة والمشابهة) للاخرين والمحاكاة لباطلهم ومسايرتهم.
أنت حين تقول أنا أتضرع لله أي أتخضع و أذل نفسي لله..
فالمؤمن الحقيقي لا( يضرَعُ) ولا (يُضارع(
الرجل الذي لا يَضرع هو ذلك الذي لا يخضع لأحد، هو ذلك الذي يمد رقبته للسيف في سبيل الحق ، هو ذلك الذي حمل روحه على كفه ومضى داعيا الى سبيل ربه لا يخشى في الله لومة لائم.. فلا تصدق من يدّعي أنه يسعى لإقامة الدين إذا ما وجدته رجلا يضرع و يخضع لحاكم أو لسلطان أو لثري.
هذا الخضوع ليس لصاحب سيف حتى يُقال تقية مثلا بل للدينار والدرهم.
المؤمن ايضا (لا يضارع) فهو لا يخضع للاخرين فيركب موجة تياراتهم ويسعى لالغاء الفروق بينه وبينهم ليكون متجانسا ومنسجما معهم وغير مختلف عنهم فيكون بهذا مشابها ومشاكلا لهم! فتضيع هويته ويصبح هجينا..
الصفة الثالثة: رجل (لا يتّبع المطامع).
أي أنّه رجل لاطمع له بمال أو منصب أو جاه أو شيء من حطام الدنيا ولا يسعى وراء الشهرة سعيا لإرضاء الأنا والذات أو طلبا للشهرة.
هذه الكلمة العلوية المقدسة اجعلها نبراسا وميزانا لك أيها المؤمن و زِن بها كل المدعين.
إذا وجدت احدا ممن يتصدى للدعوة ويدعى السعي لإقامة دين الله وكان على خلاف شرائط وموازين هذه الكلمة في سلوكه وعمله فاعزله وأسقطه عن الاعتبار. أما إذا انطبقت على رجل فاجعله على رأسك لأنه بالفعل صادق يسعى لإقامة دين الله..
دعوني أُقلّب بعض صفحات التاريخ لنستعرضَ نماذج من كلتا الطائفتين ونتعرف على مواقف لرجالات حملوا شرائط إقامة الدين وكانوا أجلى وأصدق نموذج لها وفي المقابل سنعرض مواقف لرجال كانوا على خلاف ذلك تماما ..
كان هنالك رجل هو تلميذ وصاحب أبي حنيفة، يسمى : أبو يوسف، وكان زعيما دينيا للطائفة البكرية في زمانه و قاضي القضاة في عصر هارون، وله قبر مُلحق حتى اليوم بمرقدي الجوادين وهو ملاصق للحرم .
يقع مدفنه شرقي الصحن الكاظمي المقدس ، وهو جليل القدر عندهم ومعظم لذا ترونهم قد أقاموا له حرما وعظموا قبره ورفعوا شأنه..
حينما تقرأ تاريخه وسيرته كان يتلاعب بدين الله كما يشاء لكي يرضي الحاكم. كان يصانع على دين الله.. طالعوا مثلا كتاب (تاريخ الخلفاء) للسيوطي الذي كان يؤرخ فيه لخلفائهم. هناك في ص ٢٣١ أخرج السلفي في الطيوريات بسنده عن ابن المبارك ـ وهو أيضا فقيه ومحدث جليل القدر عندهم ـ قال: لما أفضت الخلافة إلى الرشيد وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي ـ أي هارون هوى جارية لأبيه محمد الملقب بالمهدي وهي لاتجوز له لانّ والده قد وطئها ولكنّ خليفة القوم مصر على رغبته بتلك الجارية..
تقول الرواية: فراودها عن نفسها
فقالت الجارية: لا أصلح لك، إنّ أباك قد طاف بي ـ اي لا يجوز لك أن تأتيني فقد أتاني والدك ..
تقول الرواية: فشُغف بها فأرسل إلى أبي يوسف فسأله أعندك في هذا شيء؟ ـ اي هل عندك حيلة ومخرج ؟
فقال أبو يوسف: يا أمير المؤمنين أكُلما دَعَت أمة شيء يجب أن تُصدق؟ ـ أي هل يتحتم علينا أن نصدق شيئا تدعيه اي جارية ونُسلم بصحة إخبارها؟
لا تصدقها فإنها ليست بمأمونة. ـ أي لا تأخذ بقولها ولا تصدقها فإنها ليست بمأمونة ولا صادقة..
بناءا على قول أبي يوسف هذا ما الذي حصل؟
بفتوى أبي يوسف ذهب هارون و وطأ جارية أبيه!!!
يقول ابن المبارك: فلم أدرِ ممن أعجب؟ من هذا الذي قد وضع يده في دماء المسلمين وأموالهم يتحرج عن حرمة أبيه؟! أم من هذه الأمة التي رغبت بنفسها عن أمير المؤمنين ؟ أو أعجب من هذا فقيه الأرض وقاضيها، قال له اهتك حرمة أبيك واقض شهوتك وصيره في رقبتي! ..
ـ هذا أبو يوسف الذي يزوره أهل بغداد من المخالفين ولا يعرفون تاريخه الاسود !
صورة أخرى من صور المتاجرة بدين الله والمصانعة على شرع الله تعالى في نفس المصدر السابق (تاريخ الخلفاء(
وأخرج أيضا ـ أي السلفي ـ قال الرشيد لأبي يوسف: إني اشتريت جارية وأريد أن أطأها الآن قبل الاستبراء
ـ بعد أن تنتقل الجارية لمالك جديد يجب أن تبقى الجارية فترة لاستبراء رحمها منعا لاختلاط الانساب كما في العِدة للمطلقة والأرملة.. لكنّ الرشيد متعجل ولا يهمه حلال وحرام فالمهم عنده هو إشباع رغباته وأهوائه، فيذهب ليستفتي رجل الملمات والمواقف الصعبة القاضي أبا يوسف
قال الرشيد لأبي يوسف : إني اشتريت جارية وأريد أن أطأها الآن قبل الاستبراء، فهل عندك حيلة؟
ـ كان لسان حال العباسي الملقب زورا وبهتانا بالرشيد: أنت أيها القاضي أبو يوسف رجلٌ محتال ، أنت صاحب أبي حنيفة الذي كان رأس الحيلة، فهل عندك في هذه القضية حيلة أم لا؟
قال القاضي أبو يوسف: هبها لبعض وُلدك ثم تزوجها..
ـ أي هبها لأحد أبنائك ومن ثمّ تزوجها وطأها!
ـ رجل يصانع على دين الله بشكل واضح وصريح ويقبض المال!
طبعا هارون كان معجبا بأبي يوسف هذا لذا جعله قاضي القضاة اي المرجع الأعلى ، وهذا طبيعي فالرجل كان يفتي لهارون بما يرضي أهواءه وما يعجبه ويقبض ثمن فتواه..
في نفس المصدر جاء التالي . و أخرج عن اسحاق ابن راهويه قال: دعى الرشيد أبا يوسف بالليل فأفتاهـ إستدعى هارون قاضي القضاة ليلا، واستجلابه لأبي يوسف في هذا الوقت لاشك لقضية متعلقة بأمور الفراش، فأفتاه القاضي بما يريح باله ..
يقول ابن راهويه : دعى الرشيد أبا يوسف بالليل فأفتاه، فأمر له بمائة ألف درهم.
ـ هذا مبلغ ضخم بالتأكيد، وهو ينبيكَ عن مدى إعجاب هارون بما أفتاه به أبو يوسف فأمر له فورا بذلك المبلغ..
و كما سترون فإنّ أبا يوسف هذا كان شديد الزهد والورع ومحتاطا جدا فيما يختص بأموال بيت المسلمين لدرجة أنه لم يقبل أن يتأخر الدفع حتى الصباح!!
كان مستعجلا جدا ولم يستطع أن يصبر الى أن يطلع الصباح فيتسلم نقوده من خازن بيت مال المسلمين الذي يباشر عمله صباحا ، و قد كان في تلك الساعة من الليل نائما في بيته..
إلا أنّ الورع الزاهد قاضي القضاة أبى إلا أن يقبض ثمن فتواه حالا قبل الصبح..
يقول ابن راهويه : فقال أبو يوسف: إن رأى أمير المؤمنين أمر بتعجيلها قبل الصبح، فقال هارون: عجّلوها ـ أي ادفعوا إليه المال على الفورـ ، فقال بعض من عنده: إنّ الخازن في بيته، والأبواب مغلقة.
فقال أبو يوسف: فقد كانت الأبواب مغلقة حين دعاني ففتحت. ـ أي يقول أبو يوسف: عندما دعاني هارون الى قصره في هذه الساعة من الليل كانت الأبواب مغلقة فَفُتحت من أجل عيني هارون، فمن أجل عيني هارون وعينيّ أنا افتحوا أيضا أبواب بيت مال المسلمين. المهم أن أقبض المائة ألف. هل بعت ديني بدون مقابل؟ أعطيت هارون الجواب الذي أعجبه وأراح باله وبعتُ ديني ولا بد أن أقبض الثمن فورا..
تعليق