بِسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعالَمِيْنَ وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلى أشْرَفِ الْأَنْبِياءِ وَالْمُرْسَلِينَ أَبِي الْقاسِمِ مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ الْطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِين ..
منذ أن خلق الله تعالى الانسان شرّع له القوانين والأحكام وسن له السنن ، وذلك لضمان سير الحياة واستمرارها وديمومتها بحفظ الحقوق العامة والخاصة .
واستمرت هذه التشريعات بالظهور والبيان للناس بالتدريج مع استمرار بعث الانبياء ومع تطور البشرية عبر العصور والأحقاب الى أن وصلت الى ديننا الاسلامي فتكاملت مع ظهوره هذه القوانين وغطت جميع الجوانب في الحياة البشرية ، بحيث لم تترك أي ثغرة أو فسحة في حياتهم آنذاك الا ووصلت اليها ، بل ان هذه التشريعات ذهبت الى أبعد من ذلك ، فقد سنت قوانين للمستقبل سواء كان بعيداً أو قريباً ، ولم تغفل عن أدق التفاصيل والدقائق كحكم ضرب الطفل من قبل غير وليه أو من وليه لغير التأديب أو مجاوزة الحد عن التعزير ،وحكم الزوجة وحقوقها من مهر ونفقة وأجرة رضاع ووجوب النفقة على الزوجة أيام العدة الرجعية ، وكوجوب الاعتناء بالمقطوع أو الأقطع(1) والاهتمام به وعلاجه حتى يبرأ والاهتمام به واعانته مادياً بعد اقامة الحد عليه :
عن الحارث بن حضيرة ، قال : مررت بحبشي وهو يستقي [ يستسقي ] . بالمدينة فاذا هو أقطع ، فقلت له : من قطعك ؟ قال : قطعني خير الناس إنا اخذنا في سرقة ونحن ثمانية نفر فذهب بنا إلى علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فأقررنا بالسرقة ، فقال [ عليه السلام ] لنا :
"تعرفون أنها حرام ؟ "
فقلنا : نعم ،
فأمر [ عليه السلام ] بنا فقطعت أصابعنا من الراحة وخليت الابهام ، ثم أمر بنا فحبسنا في بيت يطعمنا فيه السمن والعسل حتى برئت أيدينا ، ثم أمر بنا فاخرجنا وكسانا فأحسن كسوتنا ، ثم قال [ عليه السلام ] لنا :
"إن تتوبوا وتصلحوا فهو خير لكم يلحقكم الله بأيديكم في الجنة ، وإلا تفعلوا يلحقكم الله بأيديكم في النار "(2)
وعن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال :
« أتي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بقوم لصوص وسائل
قد سرقوا فقطع أيديهم من نصف الكف وترك الابهام ولم يقطعها ، وأمرهم أن يدخلوا إلى دار الضيافة ، وأمر بأيديهم أن تعالج فأطعمهم السمن والعسل واللحم حتى برؤوا ، فدعاهم ، فقال [ عليه السلام ] :
" يا هؤلاء إن أيديكم سبقتكم إلى النار ، فان تبتم وعلم الله منكم صدق النية تاب عليكم وجررتم أيديكم إلى الجنة ، ( فان لم تتوبوا ولم تقلعوا ) عما أنتم عليه جرتكم أيديكم إلى النار " »(2)
بل ذهبت الى أبعد من ذلك وهو أن ينبغي للقاضي أن يساوي بين خصميه حتى في الكلمة والنظرة والاشارة والمجلس وغيرها :
فمن وصية لأمير المؤمنين (عليه السلام) لشريح القاضي :
" ... ثم واس بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك ، حتى لا يطمع قريبك في حيفك ، ولا ييأس عدوك من عدلك ... "(3)
وعن أبي عبدالله ( عليه السلام ) ، قال :
« قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
" من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الاشارة ، وفي النظر ، وفي المجلس " » (4)
وكذلك أكد الاسلام على ضرورة الأخذ بنظر الاعتبار الحالة النفسية والجسدية للقاضي حين نطقه بالحكم ، وهو ما معمول به في الدول المتقدمة وهو أحد الأمور التي يدرسها اليوم طلاب علوم القانون
عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) ، قال :
« قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) :
" من ابتلي بالقضاء فلا يقضي وهو غضبان " »(5)
وقد ينبهر من يطلع لأول مرة على بعض تفاصيل الشريعة المقدسة لما يرى من الاهتمام الكبير بالجانب الانساني في وقت لم تكن هناك قيمة تكاد تذكر لأمور عامة الناس وحقوق الطبقة البسيطة عند الحكام والمتنفذين ، بينما اهتمت الشريعة بكرامة الفرد الانساني مشاعره وأحاسيسه وجعلت مقابل ترويع الأبرياء وما يلحقه من اجهاض أو خوف حقوقاً يجوز للمروَّع (بالفتح) المطالبة بها والتعويض بدلاً عنها وهو أمر معمل به اليوم في الدول المتقدمة .
وهذه الجنبة الانسانية في أحكام الاسلام يلمسها القارئ من خلال تصفحه لصفحات التأريخ الاسلامي في أيام النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) حيث كان (صلى الله عليه وآله) يوصي المقاتلة باحترام الناس وإن كانوا على غير ملة الاسلام ما لم يشهروا السيف ، وبالمحافظة على أموال البلاد التي يدخلونها والممتلكات العامة والخاصة فيها .
عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
« كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه، ثم يقول:
" سيروا بسم الله وبالله، وفي سبيل الله، و على ملة رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأةً ، ولا تقطعوا شجراً إلا أن تضطروا إليها ... " »(6)
وما يلاحظه من حادثة خالد بن الوليد مع بني المصطلق :
عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال:
« بعث رسول الله صلى الله عليه واله خالد بن الوليد إلى حي يقال لهم: بنو المصطلق من بني جذيمة، وكان بينهم وبينه وبين بني مخزوم إحنة في الجاهلية (فلما ورد عليهم) كانوا قد أطاعوا رسول الله (صلى الله عليه واله) وأخذوا منه كتابا، فلما ورد عليهم خالد أمر منادياً فنادى بالصلاة فصلى وصلوا، فلما كان صلاة الفجر أمر مناديه فنادى فصلى وصلوا، ثم أمر الخيل فشنوا فيهم الغارة فقتل وأصاب، فطلبوا كتابهم فوجدوه فأتوا به النبي صلى الله عليه واله و حدّثوه بما صنع خالد بن الوليد، فاستقبل (صلى الله عليه واله) القبلة ثم قال:
" اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد " »
قال[ عليه السلام ]:
« ثم قدم على رسول الله (صلى الله عليه واله) تبر ومتاع فقال لعلي (عليه السلام):
" يا علي ائت بني جذيمة من بني المصطلق فأرضهم مما صنع خالد " ثم رفع (صلى الله عليه واله) قدميه فقال:
" يا علي اجعل قضاء أهل الجاهلية تحت قدميك "
فأتاهم علي (عليه السلام) فلما انتهى إليهم حكم فيهم بحكم الله، فلما رجع إلى النبي (صلى الله عليه واله) قال:
" يا علي أخبرني بما صنعت "
فقال[عليه السلام]:
" يا رسول الله عمدت فأعطيت لكل دم دية ولكل جنين غرة، ولكل مال مالا، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة كلابهم وحبلة(7) رعاتهم، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لروعة نسائهم وفزع صبيانهم، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لما يعلمون ولما لا يعلمون، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول الله "
فقال (صلى الله عليه واله) :
"يا علي أعطيتهم ليرضوا عني، رضي الله عنك، يا علي إنما أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي » (8).
فهذا هو ديننا وهذه أحكامه التي انزلها الله سبحانه على نبيه ( صلى الله عليه وآله ) ليخرج بها الناس من الظلمات الى النور ویحفظ بها انسانیتهم و?رامتهم .
ولكن قد يتسائل سائل ، فيقول :
أين هذه الأحكام في فترات الحكام الذي خلفوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) ؟؟ فلا نكاد نجد أمثالها الا ما ندر !!
فنجيب عن هذا التساؤل بالقول :
إن جميع من حكم البلاد الاسلامية بعد النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) سوى الامام علي (عليه السلام) لم يلتزموا بأحكام وتشريعات الإسلام كافة وانما حادوا عن كثير منها يميناً وشمالاً وحكموا بآراءهم واجتهاداتهم أو آراء واجتهادات طلاب الدنيا و وعاظ السلاطين ، وسنوا سنناً من عند أنفسهم ، بل أن بعضهم حكم بأحكام الكفار والمشركين في الجاهلية ، وفي المقابل منعوا ذكر أحايث رسول الله وكتابتها وتدوينها تحت عناوين خاوية وحجج هاوية ، بل وتوعدوا من يحدّث بأحاديث رسول الله أو يدوّنها بأشد العقوبات !!
واستمر هذا الحال الى أن اعتاد الناس على حكم هؤلاء فغُيبت أحكام الاسلام النقية واظهرت المبتدعات والاستحسانات ، وألغيت التشريعات الحقيقية واستبدلت بالاجتهادات والقياسات والحكم بالآراء ، وهذه الاراء فتحت الباب لآراء جديدة وهذه الأخيرة فتحت لأراء جديدة غيرها ، وهكذا الحال الى أن وصل الأمر بالدول الاسلامية الى استبدال أحكام الاسلام بقوانين وضعية مستوردة من الغرب والدول الكافرة !!
فصارالمسلمون يسيّرون بها أمور دنياهم !!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاقطع : المقطوع اليد [ الصحاح للجوهري ] - (4 / 402)
(2) وسائل الشيعة - الحر العاملي - (28 / 300)
(3) وسائل الشيعة - الحر العاملي - (27 / 212)
(4) وسائل الشيعة - الحر العاملي - (27 / 214)
(5) وسائل الشيعة - الحر العاملي - (27 / 213)
(6) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - (19 / 177)
(7) ميلغة الكلب، هي الاناء الذي يلغ فيه الكلب يعني أعطاهم قيمة كل ما ذهب لهم حتى قيمة الميلغة .
والحبلة: جمع الرسن أي الحبل أو بالتحريك، أي الجنين الساقط من دوابهم ومواشيهم،
(8) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - (21 / 142)