التواضع وخفض الجناح
وهما من أهم وأبرز الصفات التي تجعل القائد محبوباً في أوساط مجتمعه وقومه وتجعلانه يؤثر فيهم ويستهوي قلوبهم. فالكبر يشكل حجاباً حاجزاً بين القائد والناس الذين يقودهم، والقائد الذي يركبه الكبر يصبح معزولاً عن الجماهير وبعيداً عمن حوله.
كان التواضع وخفض الجناح طبعين ملازمين لائمة أهل البيت (عليهم السلام) فلم يدخل في قلوبهم مثقال ذرة من الكبر، وذلك يظهر لمن اطلع على سيرتهم ومن تابع سيرتهم سينكشف له هذا الأمر في عدة صور أبرزها: مخالطتهم للفقراء وللعوام، ولا نستشهد هنا بمواقف الإمام علي (عليه السلام) لأنه يعتبر في هذا الصدد المصداق الجلي، فقد كان(اشد الناس تواضعاً، لصغير وكبير، وألينهم عريكة، وأبعدهم عن كبر في زمان خلافته وقبلها لم تغير الآمرة وإلا أحالت خلقه الرياسة).
كما يقول المجتهد الأكبر السيد محسن الأمين. وعليه فنكتفي بإيراد بعض الشواهد من حياة بقية أئمة أهل البيت (عليهم السلام) حتى ابن شهر آشوب في المناقب: أن الحسن (عليه السلام) مر على فقراء وقد وضعوا كسيرات من الخبز على الأرض وهم قعود يلتقطونها ويأكلونها فقالوا له: هلم يا ابن بنت رسول الله إلى الغداء. فنزل وقال: فإن الله لا يحب المتكبرين، وجعل يأكل معهم ثم دعاهم إلى ضيافته وأطعمهم وأكساهم . وفي موقف آخر مر علي بن الحسين (عليهما السلام) بمجذومين فسلم عليهم وهم يأكلون فمضى ثم قال: إن الله لا يحب المتكبرين، فرجع إليهم فقال: إني صائم وقال ائتوني بهم في المنزل، فأتوه بهم فأطعمهم ثم أعطاهم. وفي موقف ثالث: عن تحف العقول، روى أن الإمام الكاظم (عليه السلام) مر برجل من أهل السواد دميم المنظر، فسلم ونزل عنده، وحادثه طويلاً ثم عرض عليه نفسه في القيام بحاجته إن عرضت، فقيل له يا ابن رسول الله أتنزل إلى هذا ثم تسأله عن حوائجه، وهو إليك أحوج؟ فقال: عبد من عبيد الله، وأخ في كتاب الله، وجار في بلاد الله، يجمعنا وإياه خير الآباء آدم وأفضل الأديان الإسلام.
من هذه الصور نستكشف يقيناً بأن أهل البيت (عليهم السلام) كانوا يعيشون مع كل الناس ويستقبلون ويجالسون كل الناس وخاصة الفقراء منهم وذوي النقائص والمعائب الخلقية بغية إشعارهم بقيمتهم، ورفع الحيف عنهم، ولم تحل مقاماتهم السامية الدينية والنسبية عن النزول إلى مستوى السّوقة وعامة الناس بغية هدايتهم وتحسيسهم بمكانتهم الاجتماعية.
خدمة الآخرين وقضاء حوائجهم
في مفهوم أهل البيت (عليهم السلام) (إن رأس الإيمان هو الإحسان إلى الناس).
وعندهم أن حق الناس مقدم على حق الله، يقول الإمام علي (عليه السلام): (جعل الله سبحانه حقوق عباده مقدمة على حقوقه، فمن قام بحقوق عباد الله، كان ذلك مؤدياً إلى القيام بحقوق الله)، فهم إذن يعطون الأولوية لقضاء حوائج الناس، لما في العمل الصالح من آثار اجتماعية كبيرة إضافة إلى ثماره الدينية الجزيلة، وعند صادق أهل البيت (عليهم السلام): (أن الماشي في حاجة أخيه… كالساعي بين الصفا والمروة)…
وقال في حديث آخر: (لأن أسعى مع أخي لي في حاجة حتى تقضى أحب إلي من أن أعتق ألف نسمة، وأحمل على ألف فارس في سبيل الله مسرجة ملجمة)… ويقول في حديث آخر عميق الدلالة ويفيض بالمعاني السامية: (إني لأسارع إلى حاجة عدوي خوفاً أن أرده فيستغني عني) ولم يكتف أهل البيت (عليهم السلام) بنشر المفاهيم وإطلاق الأقوال، بل قرنوها بالوقائع والأفعال فعلى سبيل الاستشهاد نجد أن أمير المؤمنين (عليه السلام): أعتق ألف مملوك من كد يده(6).
كل ذلك من أجل إنقاذ الناس من شراك الرّق وأغلال العبودية إلى فضاء الحرية. وبلغ من حبه لقضاء حوائج الناس أنه تصدق بخاتمه وهو في أثناء الصلاة! فنزل فيه قرأنا يتلى أناء الليل وأطراف النهار: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)… تثميناً لهذا الموقف النبيل الذي يهتف بضرورة قضاء حوائج الناس في كافة الحالات حتى في الصلاة. ويضرب ابنه الحسن (عليه السلام) المثل الأعلى في الكرم والسخاء حتى أنه قد خرج من ماله مرتين، وقاسم الله تعالى ماله ثلاث مرات(7). وعنده إن المعروف ما كان ابتداءً من غير مسألة، فأما من أعطيته بعد مسألة فإنما أعطيته بما بذل لك من وجهه.
أما الحسين بن علي (عليهما السلام)، فيسجل له التاريخ مواقف مشرقة في العطاء والكرم والسخاء. وكان يؤكد على ضرورة صون الوجه عن بذل المسألة، وعليه كان يطلب من ذوي الحاجات أن يكتبوا حاجاتهم في ورقة، حرصاً منه على قضائها لهم بأسلوب مهذب، يحفظ كرامتهم. أما ولده الإمام السجاد (عليه السلام) فقد واصل مسيرة العطاء وكان إذا أتاه السائل يقول: مرحباً بمن يحمل زادي إلى الآخرة!.
يروي الصدوق في الخصال أنه كان يخرج في الليلة الظلماء، فيحمل الجراب على ظهره وفيه الصرر من الدنانير والدراهم وربما حمل على ظهره الطعام أو الحطب ، حتى يأتي باباً فيقرعه ثم يناول من يخرج إليه، وكان يغطي وجهه إذا ناول فقيراً لئلا يعرفه، فلما توفى فقدوا ذلك فعلموا أنه كان علي بن الحسين.
وقد سار بقية الأئمة (عليهم السلام) على هذا النهج ينقل مؤلف (عمدة الطالب) أن الإمام الكاظم (عليه السلام) كان عظيم الفضل، واسع العطاء، وكان يضرب المثل بصرار موسى!… حتى أن أهله يقولون: عجباً لمن جاءته صرة موسى فشكى القلة وكان يتفقد فقراء المدينة في الليل فيحمل إليهم (الزبيل) فيه العين والورق والأدقة والتمور، فيوصل إليهم ولا يعلمون من أي جهة هو. وينقل المؤرخون وأصحاب المناقب عنه أتباعه لأسلوب عجيب في التعامل مع من يسيئون إليه، وكان إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرة دنانير!!. أما عطاء ولده الرضا (عليه السلام) فحدث ولا حرج، ويكفي أنه قد فرق بخراسان ماله كله في يوم عرفه، فقال له الفضل بن سهل: إن هذا لمغرم، فقال: بل هو مغنم، لا تعدن مغرماً ما ابتعت به أجراً وكرماً. وينقل أنه مر رجل بأبي الحسن الرضا (عليه السلام) فقال له أعطني على قدر مروءتك قال: لا يسعني ذلك، فقال الرجل: على قدر مروءتي قال: أما هذا فنعم. هكذا كان أهل البيت (عليهم السلام) قمم سامقة في العطاء وقضاء حوائج الناس، كانت أبوابهم مفتحة للسائلين، يتوافد على موائدهم المحرومين يغرف من بحر جودهم البائس والفقير. وهم مع ذلك لا يسألون الناس إلحافاً ولا تحل عليهم الصدقة، ولا يعتدون على حقوق الآخرين ولو بمقدار نملة يسلبونه جلب شعيرة كما يقول الإمام علي (عليه السلام): وكان من جراء ذلك أن التف حولهم أبناء الأمة، فغدت تدين لهم بالولاء والطاعة وتفديهم بالنفس وتضع بين أيديهم مقاليد الأمور.
سلاطين القلوب
إذا كان سلطان الحكام على الأبدان، فإن سلطان أهل البيت (عليهما السلام) ما زال ولم يزل على القلوب والنفوس، ولا عجب فإن من أحسن إلى الناس استدام منهم المحبة، وفي الإحسان تملك القلوب، ومن حلم ساد، وبالحلم تكثر الأنصار كما تقر بذلك الروايات والأخبار. فمن خلال خصالهم الجميلة الأنفة الذكر أصبح لأهل البيت (عليهم السلام) قوة جماهيرية كان أعداؤهم يحسبون لها ألف حساب ويحاولون بشتى السبل والحيل فك الارتباط الروحي بين الأئمة والأمة ولكنهم فشلوا وخابت ظنونهم، وعلى العكس من ذلك فقد ازداد التفاف الناس حولهم وزاد تعظيمهم لهم سواء في حياتهم أم بعد موتهم. وينقل لنا التاريخ عدة مواقف كانت بمثابة استفتاء شعبي على حقانية أهل البيت (عليهم السلام) وأحقيتهم بالأمر…(فهذا هشام يحج في خلافة أخيه عبد الملك وبيده القوة السلطان وحوله وجوه أهل الشام، فيروم استلام الحجر الأسود فلا يقدر ولا يعبأ الناس به، وبملكه وسلطانه. وعلي بن الحسين الذي ليس له سلطان غير سلطان الدين والتقوى والعلم وليس معه خدم ولا حشم، يتقدم إلى استلام الحجر، فينظر الناس إليه بعين الإجلال والإعظام وينحنون له عن الحجر حتى يستلمه)(8).
وهذا لشاهد آخر ينقله لنا صاحب المناقب ابن شهر آشوب عن أبي حمزة الثمالي (لما كانت السنة التي حج فيها أبو جعفر بن علي(عليهما السلام) ولقيه هشام بن عبد الملك أقبل الناس ينثالون عليه. فقال عكرمة من هذا؟ عليه سيماء زهرة العلم لأجربنه فلما مثل بين يديه ارتعدت فرائصه، واسقط ما في يده وقال: يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لقد جلست مجالس كثيرة بين يدي ابن عباس وغيره فما أدركني ما أدركني آنفاً. فقال له أبو جعفر (عليه السلام): ويلك يا عبيد أهل الشام إنك بين يدي بيوت أذن الله له أن ترفع، ويذكر فيها اسمه).
وينقل لنا التاريخ شاهد آخر عن الإمام الرضا (عليه السلام): أنه لما خرج للصلاة في مرو ورآه القواد والعسكر رموا بنفوسهم عن دوابهم، ونزعوا خفافهم وقطعوها بالسكاكين طلباً للسرعة!… لما رأوه (عليه السلام) راجلاً حافياً. وإنه لما هجم الجند على دار المأمون بسرخس بعد قتل الفضل بن سهل وجاءوا بنار ليحرقوا الباب، وطلب منهم المأمون أن يخرج إليهم، فلما خرج وأشار إليهم أن يتفرقوا تفرقوا مسرعين وهذه بعض الشواهد وغيرها في التاريخ كثير، تبين مدى تعلق أبناء الأمة بالأئمة (عليهم السلام) بصفتهم منارات هدى تحدد لهم معالم دينهم، وأقطاب رحى تحرك عجلة مجتمعهم نحو الخير والصلاح.