الإمام ُعليٌ :عليه السلام:
في
: سداديَّة القيادة وضرورة الإعتبار بها:
==========================
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله المعصومين
بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان سنة 35 للهجرة.
أجمعت الأمة على بيعة الإمام علي :ع: قائدا وأميرا
وقد إجتاحت النفوس موجة من العاطفة مع علي :ع:
ولكنَّ علياً :ع: ليس ممن تغريه المناصب حتى يستجيب فور إقبال الناس عليه
لأن القيادة لاتساوي عنده شيئا مذكورا مالم يُقم الحق ويُبطل الباطل
تلك مقولة مقدسة لم ولن يتنازل عنها أبدا .
غير إنّ إصرار الأمة على مبايعته جعله يطرح عليها شروطه لقبول الخلافة
فقد قال :ع:
(( دعوني والتمسوا غيري فإنا مُستقبلون أمرا له وجوه وألوان .
لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول .
وإن الآفاق قد أغامت والمَحجّة قد تنكرت .
واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب .
وإن تركتموني فأنا كأحدكم و لعلِّي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم .
وأنا لكم وزيرا خير لكم مني أميرا ))
:نهج البلاغة:ج1:ص182.
وهنا يضعُ الإمام علي:ع:
قرائته الإستشرافية الواعية لصورة المستقبل القادم أمام الناس المُبايعين له
حتى أنه يضطر إلى مخاطبة الأمة بخيار مُرٍٍّ وهو إلتماس غيره .
وفي كلامه أنّ المستقبل القريب في حكومته سيحمل وجوها وألوانا من الأزمات والمحن ما لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول.
وقد بدأت الرؤيا السياسية في آفاق الحاضر آنذاك غائمة مُلبَّدَةً بالفتن وهذا هو معنى قوله :ع:
((وإنّ الأفاق قد أغامت))
وفعلاً أنّ الغيوم القادمة لم تحمل مطرا طاهرا
بل حملت وبالاً سافراً ضد منهج الإمام علي:ع:
وحكومته الشرعية .
فكانت واقعة الجمل وصفين والنهروان هي مَن أغامت الآفاق في عهد حكومة علي:ع:
وهي من ضلّت عن طريق الحق المبين.
وهذا ما تنبأ به علي:ع: في قوله:
((والمحَجّة قد تنكرت))
:أي وجادة الطريق الحق قد تنكر له المسلمون واتبعوا الباطل وأهله.
ثم إنّ الإمام علي :ع: قد بيّنَ أنّ من أهم شروطه الشرعية::
هو أن تدرك الأمة أنّ عليا:ع:إمام حق ومعصوم نصاً. ومُسدداً من قبل الله تعالى.
فلا يمكن له أي يتبع أهواء ورغبات الآخرين من الطامعين بالسلطة والثروة.
وهذا ما توفّرَ عليه قوله:ع:
((واعلموا أنِّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب .))
فالقيادة في نظر ووعي الإمام علي:ع:
يجب أن تسير على خطوات علمية ومنهجية وحكيمة حتى تتمكن من أن تبسط الحق والعدل والمساواة في واقع الأمة .
وهذا هو معنى قوله:ع:
((ركبتُ بكم ما أعلم))
أي سرتُ بكم بمنهج سديد ورباني التأسيس لا بشري الوضع .
ومن هنا ضمّنَ خطابه الشريف قوله:
((ولم أصغِ الى قول القائل وعتب العاتب))
فقول القائل وعتب العاتب من الآخرين غالباً ما ينطلق من الهوى أو الجهل أو الطمع.
أما المعصوم مثلُ عليٌ :ع:
فلم ينطق عن الهوى بحكم عصمته الحقة .
فلذا ركّز على هذه الركيزة في قيادة حكومته ومجتمعه آنذاك.
والإمام علي:ع: كان قد مارس دوره كإمام معصوم نصاً منذ اللحظات الأولى
بعد شهادة النبي محمد :صلى الله عليه وآله وسلم .
وإن تم دفعه قهرا عن مقام تدبير وخلافة المسلمين ولكنه بقى يُمارس دوره العقدي والشرعي والإجتماعي وحتى السياسي في وقت الخلفاء الثلاثة من قبله.
وعندما بايعه المسلمون ذكّرهم
بأنه سيبقى ناشطا ومتحركا في تدبير وإدارة امور المسلمين وإن وليَّ الأمر غيره
وهذا هو معنى قوله :
((وإن تركتموني فأنا كأحدكم و لعلِّي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم
وأنا لكم وزيرا خير لكم مني أميرا))
وهنا نكتةٌ مهمة جدا يجب الإلتفات إليها شرعيا وعقديا وحتى سياسيا ::
وهي أنّ الإمامة والقيادة الدينية والدنيوية لشخص المعصوم:ع:
هي مُنحَفِظَةٌ وباقية له وإن لم يمسك بزمام الأمر فعلا.
لكنه يبقى إماماً مُفتَرض الطاعة وواجب الإنقياد له شرعا وعقلا.
وهذه النكتة المهمة جدا قد بيّنها الإمام علي :ع: في قوله:
((إنّما الأئمة قُوّام الله على خلقه وعرفاءه على عباده ..لا يدخل الجنة إلاّ من عرفهم وعرفوه ولا يدخل النار إلاّ من أنكرهم ونكروه))
:نهج البلاغة:خطبة 212. ص152.
فالإمامة المعصومة والمنصوص عليها إلهيا ونبويا لها أبعادها المتعددة ::
وأهمها البعد الروحي والمعنوي والعبادي في تعاطي الأمة مع الإمام المعصوم :ع:
وإن لم يتمكن من الظفر بالبعد الإداري والسياسي للدولة.
لذا جاء الحديث النبوي الشريف مؤسسّاً لهذه الحقيقة الدينية والوجودية في كل زمان ولكل إناس.
مطلقا:
((مَنْ ماتَ بغيرإمام مات ميتةً جاهلية))
:مسند أحمد بن حنبل:ج4:ص96.
والقرآن الكريم أيضا تعرّض للتأسيس لوجوبية معرفة إمام الوقت والإنسان في هذه الحياة
فقال الله تعالى:
((يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ))الإسراء71
أي:
اذكر -أيها الرسول الأكرم محمد:صلى الله عليه وآله وسلم - يوم البعث مُبشرًا ومخوفًا، حين يدعو الله عز وجل كل جماعة من الناس في كل زمان مع إمامهم الذي كانوا يقتدون به في الدنيا،
فمن كان منهم صالحًا، وأُعطي كتاب أعماله بيمينه، فهؤلاء يقرؤون كتاب حسناتهم فرحين مستبشرين، ولا يُنْقَصون من ثواب أعمالهم الصالحة شيئًا، وإن كان مقدارَ الخيط الذي يكون في شَقِّ النواة.
::
إنّ الإمام علي:ع: عندما مسك بزمام الأمر في وقت حكومته قد عمل جاهدا على بث الوعي في عموم المسلمين
وأكّدّ على أنّ تصديه لقيادة الأمة الفعلية إنما ينطلق من الباعث الإيجابي والشرعي والإصلاحي
للعمل على إعادة بناء الهيكلة الصحيحة للدولة والمجتمع
فالفساد والإنحراف قد دمّر كل شيء من قبله
فلم تصله الحكومة إلاّ عرجاء شوهاء مكشوفة السوأة.
وهنا يضعُ عليٌ :ع: قوله الشريف:إنموذجا في قيادة الدولة ومهمتها في التغيير والإصلاح للواقع على الأرض.
فيقول:ع:
( أللّهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولاإلتماس شيء من فضول الطعام
ولكن لنردَ المعالم من دينك ونُظهر الأصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتُقام المُعطلة من حدودك)
إنظر :الكتاب :131 :نهج البلاغة.
لذاكانت من أولى مهماته :عليه السلام:
أن يزيل صور الانحراف التي طرأت على الحياة الاسلامية في وقت الخلفاء الثلاثة
وأن يعود بالأمة إلى أصالة المنهج الإلهي
فطرح مشروعه القويم وهو اصلاح السياسة الراهنة في وقته
واصلاح الوضع الاقتصادي وبناء دولة العدالة والمساواة والنزاهة والاخلاق.
فكان يسعى مثابرا وجادا في بناء الأمة بناءاً واعيا وعلميا في شتى مجالات الحياة الانسانية
فهذه أطروحاته ومقولاته المقدسة في نهج البلاغة
تؤكد على عصمة وعيه الثاقب وسداد فهمه للقرآن الكريم في ضرورةالتغير للإنسان والدولة .
ولكن حالت مؤامرات المنافقين والناكثين والقاسطين والمارقين دون ذلك
فإنشغل عن طموحاته الراقيه بهذه المشاكل الخطيرة التي حلّت بالمسلمين
والتي راح :عليه السلام: ضحيتها غدرا وعدوانا .
وأخيرا بقت حكومة وعدالة وقيادة الإمام علي:عليه السلام:
حكومة وعدالة وقيادةً تُصنّف في الدرجة الأولى في الرتبة الحضارية في المسيرة الإنسانية .
وأصبحتْ أنموذجا يُمكن بل يجب الأخذ من منهاجه في صورة بناء الإنسان والدولة والمجتمع البشري.
مهما تغيَّر الزمان وتبدّل وضع الإنسان .
فالقيم والحقائق لاتتبدل أبدا بل تبقى عامرة في الميدان
فلا يمكن الإستغناء عنها حياتيا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مرتضى علي الحلي : النجف الأشرف .
تعليق