من رأي الإمام الصادق (عليه السلام) أن العلم والأدب يعمقان إيمان المؤمن، وأن قيمة كل امرئ ما يحسنه. وكان يقول إن إيمان العالم أعمق من إيمان العامي، وإن العامي لن يعرف حدود إيمانه، ومبدأه ومنتهاه، ولن يسلم من التغيير والتبديل إلا إذا تعلم وأصبح إيمانه إيمان علم ووعي وفهم وإدراك.
وضرب الإمام للناس أمثلة استقاها من التاريخ، فقال إن الإسلام انتشر في ربوع الأرض انتشاراً سريعاً ودخله الناس أفواجاً، ولكن أهل العلم والأدب في الأمم الأخرى تريثوا حتى استيقنوا من حقيقة الإسلام، وعرفوا نظمه، واتضحت لهم مزاياه الاجتماعية والمعنوية، ثم أقبـــلوا عليه وسخروا ملكاتهم العلمـــية في استيعاب الدين وعلـــوم القرآن وفهـــمها ونشرها.
وتعريف الأدب عند الإمام الصادق (عليه السلام) تعريف فريد ليس له مثيل. فهو يقول إن الأدب هو لباس العلم والفكر الذي يقر بهما من فهم السامع والقارئ، وبهذا التعريف وضع الأدب في موضعه الحقيقي، دون أن ينتقص من منزلة العلم والفكر. فللعلم قيمته، وللأدب زينته، وهو الوسيلة التي تقرب العلم إلى الأذهان.
وهذا أشمل تعريف للأدب منذ اثني عشر قرناً ونصف قرن، أي منذ وفاة الإمام الصادق (عليه السلام)، فلم يأت أحد بتعريف أجمع منه أو أوجز.
وللإمام تعريف آخر للأدب مؤداه أن الأدب قد لا يكون علماً، ولكن لا علم يخلو من أدب، وهذا بدوره تعريف جامع موجز أيضاً لعلاقة الأدب بالعلم.
وليس في وسعنا أن نجزم بأي الموضوعين كان أعز على الإمام وأقرب إلى قلبه: العلم أو الأدب، ولا يسعنا أن نعرف هل كان الإمام مثلاً يفضل الشعر على الفيزياء، أو نقيض ذلك.
والذي نراه في مجتمعنا الحاضر أن قلة من الناس هي التي يتساوى عندها حب العلم وحب الأدب، أما الأكثرية فينصرف اهتمامها إما إلى العلم وإما إلى الأدب. والذي ينهج نهجاً أدبياً، يرى في غيره قوماً ماديين لا يستهدفون إلا غايات مادية، ولكنه يرى في الأدباء قوماً رق ذوقهم ولطف تفكيرهم وتميزوا على غيرهم بقوة الخيال وشفافية الذوق ودقة الفهم.
أما الذي ينهج نهجاً علمياً، فهو يرى في الأدب ملهاة ومسلاة، ويعتقد أن الانصراف إلى الأدب ليس من دواعي العقل السليم، لأن الأدب لا يشبع من جوع.
وليس يهمنا رأي شاذ تقول به فئة من الناس انحازت إلى العلم، حتى قبل عصر المخترعات والصناعة، فلما تمخض العلم عن الصنعة، وجلبت الصنعة ثروات طائلة لهؤلاء القوم، استهانوا بالأدب، وفضلوا عليه العلم.
أما الإمام الصادق (عليه السلام) فقد كان من القلائل الذين أولوا العلم والأدب اهتماماً كبيراً، واستوى عندهم طالب العلم وطالب الأدب. وكان يقول:
وبفضل الإمام الصادق (عليه السلام) وتشجيعه للأدب عند العرب، ظهرت كتابات منثورة اعتباراً من هذا العصر.
وقد قيل إن الإمام الصادق (عليه السلام) هو أول من رصد جائزة أدبية في تاريخ العرب، ولكن إذا كان المقصود بالجائزة الأدبية هو إعطاء الأديب أو المؤلف مبلغاً من المال، فإن جائزة الإمام (عليه السلام) تختلف عن ذلك، لأن العرب اعتادت منح جوائز إلى الشعراء وتقريبهم من الحاكم، وهي عادة استمرت بعد الإسلام، فكان الشعراء يمدحون الولاة تقرباً منهم.
ولكن العرب لم تألف تقريب أصحاب الأدب المنثور أو مؤلفي الدراسات الأدبية أو التاريخية إلى الولاة. وهنا جاء صنيع الإمام الصادق (عليه السلام) صنيعاً مقدراً.
والذي لا ريب فيه أن الإمام الصادق (عليه السلام) شجع الأدب بنوعيه المنثور والمنظوم، وعين جائزة له، ولكننا لا نعلم على وجه اليقين هل كان هو البادئ بهذا أو أبوه الإمام الباقر (عليه السلام).
وكانت هيئة التحكيم تتألف في بادئ الأمر من الإمام نفسه واثنين من تلاميذه، ثم أصبحت تتألف من خمسة أعضاء، وتعطى الجائزة باتفاق ثلاثة منهم.
وكان من عوامل انتشار الأدب وذيوعه في أيام الإمام الصادق (عليه السلام) أن الإمام لم يكن يفرض على الناس رأياً بعينه أو اتجاهاً منصوصاً عليه في الكتابة. فكان الأديب يختار الموضوع الذي يتفق مع رغبته وذوقه، كما كان الإمام من ناحيته يرحب بالأثر الأدبي، منثوراً أو منظوماً، ويتقبله برحابة صدر وإنعام نظر.
وفي رأيه أن الأديب هو الذي يبدع أثراً في النظم أو النثر يتفق مع تعريف الإمام (عليه السلام) للأدب، وليس كل ما أوتي قدرة على ارتجال القصائد أو الخطب أو المواعظ، كما كان يرى أن الأدب ضرورة للثقافة الدينية، بل هو ضرورة لتعزيز مكارم الأخلاق في نفوس الناس وإعلاء شأنها والسمو بها
وكان من رأي الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أن نشر المعارف الشيعية التي أقيمت أركانها على أربعة دعائم، هي المذهب والأدب والعلم والعرفان، أهم من بناء مراكز وإقامة مؤسسات ضخمة للشيعة، كما هو الشأن عند الكاثوليك مثلاً. وكان يرى أن المجتمع الذي يتحلى أفراده بالعلم والأدب، والذي يبرأ من الظلم والعدوان على حقوق الغير، هو المجتمع الذي تنتظم فيه العلاقات بين أفراده، وتطرد أمورهم في سهولة ويسر.
ولهذا لم يشيد الإمام الصادق (عليه السلام) لأتباعه مركزاً ضخماً أو صرحاً باذخاً ككنيسة القديس بطرسفي الفاتيكان، ولكن الرصيد الذي خلفه من التراث الثقافي كان أدعى إلى الاستمرار والحيوية من الصروح البابوية الباذخة، فقد كان يدرك أن المشيدات من الأبنية قد تنهدم، كما كان مصير المبنى الأول لكنيسة القديس بطرس، ولكن المعارف والعلوم الشيعية التي أرسى الإمام قواعدها قويت رغم جميع المناوئين والمعارضين.
وقد شيدت كنيسة القديس بطرس للمرة الأولى بأمر من الإمبراطور قسطنطين الروماني، وكان أول إمبراطور مسيحي، واستغرق بناؤها عدة سنوات منذ شرع فيه عام 326م، ولم تلبث هذه الكنيسة أن هدمت بأمر من البابا يوليوس الثاني، وشيدت في مكانها الكنيسة الحالية، وهي بدورها تحمل اسم القديس بطرس.
ولو انصرف اهتمام الإمام الصادق (عليه السلام) إلى بناء العمائر أو المدارس العظيمة المشيدة، لكان من الميسور هدمها بفعل الأحداث أو المناوئين، ولاندثرت آثارها في يومنا الحاضر. ولكنه آثر أن يرسي أساس ثقافة دينية لا تزعزعها الأعاصير، فطاولت الزمن ولم يقو المناوئون على القضاء عليها. وحرص الإمام على توطيد أركان الدعائم الأربع التي سبق ذكرها، بحيث أن القرن الثاني الهجري لم يكد ينقضي حتى انتشر العلم والأدب في ربوع العالم الإسلامي، وانطلقا به إلى عصر النهضة.
فلولا مدرسة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ولولا تشجيعه الشخصي لجميع جوانب العلم والأدب، لما ازدهرت العلوم في العالم الإسلامي في القرنين الثالث والرابع للهجرة، وأن الذين ينسبون إلى الخلفاء العباسيين فضلاً في الازدهار الذي عرفته العلوم في العالم الإسلامي آنذاك، يخطئون في تقديرهم وحكمهم، لأن الخلفاء العباسيين الأوائل كان همهم الشاغل توطيد أركان حكمهم والقضاء على الأمويين وخصومهم، أما الخلفاء الذين أتوا من بعدهم، فلم يعرف عنهم إلا الانغماس في الملذات والفسق والشراب ومجالس اللهو واللعب، مما استفاضت أخباره في كتب السير والتاريخ، ولئن نسب إلى المأمون والمتوكل اهتمامهما بالعلم، فأن هذا لم يشغل من وقتهما إلا جانباً صغيراً، وإن قلة قليلة من مجموع الخلفاء العباسيين السبعة والثلاثين الذين تداولوا الحكم في معظم العالم الإسلامي طوال خمسمائة عام هي التي عزفت عن الملذات وانصرفت إلى العلم والأدب. وقد اضطلعت هذه القلة القليلة بدور كبير في تطوير العلوم والحضارة الإسلامية، بفضل ما توافر لها من الإمكانيات المادية الضخمة التي مكنتها من تقديم الهبات والعطايا السخية إلى العلماء والشعراء والأدباء، واجتذابهم من أقطار الأرض وتشجيعهم على التأليف والاستنساخ، فضلاً عن قيامهم بتأسيس دار الحكمة في بغداد.
ومما يذكر أن العرب في الجاهلية كانت لهم عناية فطرية وتقليدية بالشعر، أي الأدب المنظوم.
يقول الفيلسوف الألماني شوبنهاور إن البدوي العربي كان يستمع إلى إنشاد المقطوعات الشعرية فراراً من الكسل وتزجية للوقت.
وهذا الرأي لا ينسحب على العرب وحدهم، وإنما ينسحب على الناس جميعاً، لأن شوبنهاور كان يقول بأننا إذا استثنينا الوقت الذي يصرفه المرء في تحصيل الكسب، فإن كل الجهد الإنساني إنما ينصرف إلى الاهتمامات الشخصية وإزجاء الوقت.
وقد علق هذا الفيلسوف فوق مكتبه لوحة كتبت عليها عبارة (عدوك من دعاك إلى غداء أو عشاء، فمنعك بذلك عن العمل). ولا يسعنا إلا أن نقول بمنطق شوبنهاور نفسه إنه اشتغل بالفلسفة فراراً من البطالة، ذلك لأنه كان يدرس الفلسفة ويرتزق منها.
كان ديدن الشعراء العرب في الجاهلية وما بعدها التقرب من رؤساء القبائل والأمراء ونظم قصائد المدح فيهم، ولكن شعراء الجاهلية كانوا يتوخون الاعتدال في المديح ولا يذهبون في المغالاة مذهب الشعراء الذين جاءوا بعدهم في العصر الإسلامي والعصور المتأخرة.
ويعتقد البعض بأن أسواق العرب كعكاظ وسواها كانت مقصد الشعراء طمعاً في الأموال والهبات، ولكن الواقع أن هذه الأسواق كانت منصوبة لخدمة الأدب، وكان لها دور ثقافي واجتماعي هام في حياة العرب. وكان الشعراء يتسابقون في نظم قصائد التفاخر أو المديح أو الهجاء تحقيقاً لمآرب لا طلباً للعطايا والهبات.
ولكن هذه الأسواق لم تعرف إلا قصائد الشعراء وكلامهم المنظوم. أما الخطباء الذين ينثرون الكلام نثراً أو يجودون العبارة تجويداً، فلم تكن أسواق عكاظ وسواها تعرفهم، لأن النثر كان أدنى منزلة من الشعر. فلما جاء القرآن الكريم في لسانه المبين، أقام البرهان للعرب على أن الأدب المنثور قد ارتقى إلى قمة فاقت الأدب المنظوم، وحاول العرب تحدي لغة القرآن، فكتبوا (مقامات) تنكبت طريق الجد، ولكنهم أخفقوا في مساعيهم، وأصبحت اللغة القرآنية إعجازاً في البلاغة، ونموذجاً رفيعاً في الفصاحة، يستشهد بآياته وتستخرج منه الحكمة والأمثال في السياق الأدبي وفي السياق الديني في آن واحد.
ويعد القرآن الكريم أصلاً من أصول اللغة، بأسلوبه النثري الرائع، ولا غنى لأديب أو كاتب عنه لأنه أروع آيات البيان، وقد عجزت العرب عن الإتيان بمثله أو محاكاته. فلما جاء الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وحفيده علي بن الحسين(عليه السلام) اجتهدا في صنع أسلوب قرآني بلاغي فريد، فترك الأول مجموعة خطبه مسجلة في كتاب (نهج البلاغة)، وهي فصول في الموعظة والحكمة والسياسة والأدب، وترك الثاني كتاب (الصحيفة السجادية) وهو يضم أروع النماذج في الدعاء والابتهال إلى الله ومناجاة الحبيب، مما يردده كل عارف بالله وزاهد وصوفي (حقيقي).
ثم جاء الإمام الصادق، حفيد علي بن أبي طالب (عليه السلام) فشجع الناس على الكتابة، ودفع تلاميذه وأصحابه إلى التأليف والتصنيف، فاستهل بذلك عهداً جديداً من عهود الأدب المنثور، ولا غرو، فقد مر بنا قوله:
وضرب الإمام للناس أمثلة استقاها من التاريخ، فقال إن الإسلام انتشر في ربوع الأرض انتشاراً سريعاً ودخله الناس أفواجاً، ولكن أهل العلم والأدب في الأمم الأخرى تريثوا حتى استيقنوا من حقيقة الإسلام، وعرفوا نظمه، واتضحت لهم مزاياه الاجتماعية والمعنوية، ثم أقبـــلوا عليه وسخروا ملكاتهم العلمـــية في استيعاب الدين وعلـــوم القرآن وفهـــمها ونشرها.
وتعريف الأدب عند الإمام الصادق (عليه السلام) تعريف فريد ليس له مثيل. فهو يقول إن الأدب هو لباس العلم والفكر الذي يقر بهما من فهم السامع والقارئ، وبهذا التعريف وضع الأدب في موضعه الحقيقي، دون أن ينتقص من منزلة العلم والفكر. فللعلم قيمته، وللأدب زينته، وهو الوسيلة التي تقرب العلم إلى الأذهان.
وهذا أشمل تعريف للأدب منذ اثني عشر قرناً ونصف قرن، أي منذ وفاة الإمام الصادق (عليه السلام)، فلم يأت أحد بتعريف أجمع منه أو أوجز.
وللإمام تعريف آخر للأدب مؤداه أن الأدب قد لا يكون علماً، ولكن لا علم يخلو من أدب، وهذا بدوره تعريف جامع موجز أيضاً لعلاقة الأدب بالعلم.
وليس في وسعنا أن نجزم بأي الموضوعين كان أعز على الإمام وأقرب إلى قلبه: العلم أو الأدب، ولا يسعنا أن نعرف هل كان الإمام مثلاً يفضل الشعر على الفيزياء، أو نقيض ذلك.
والذي نراه في مجتمعنا الحاضر أن قلة من الناس هي التي يتساوى عندها حب العلم وحب الأدب، أما الأكثرية فينصرف اهتمامها إما إلى العلم وإما إلى الأدب. والذي ينهج نهجاً أدبياً، يرى في غيره قوماً ماديين لا يستهدفون إلا غايات مادية، ولكنه يرى في الأدباء قوماً رق ذوقهم ولطف تفكيرهم وتميزوا على غيرهم بقوة الخيال وشفافية الذوق ودقة الفهم.
أما الذي ينهج نهجاً علمياً، فهو يرى في الأدب ملهاة ومسلاة، ويعتقد أن الانصراف إلى الأدب ليس من دواعي العقل السليم، لأن الأدب لا يشبع من جوع.
وليس يهمنا رأي شاذ تقول به فئة من الناس انحازت إلى العلم، حتى قبل عصر المخترعات والصناعة، فلما تمخض العلم عن الصنعة، وجلبت الصنعة ثروات طائلة لهؤلاء القوم، استهانوا بالأدب، وفضلوا عليه العلم.
أما الإمام الصادق (عليه السلام) فقد كان من القلائل الذين أولوا العلم والأدب اهتماماً كبيراً، واستوى عندهم طالب العلم وطالب الأدب. وكان يقول:
ليس اليتيم الذي قد مات والده إن اليتيم يتيم العلم والأدب
وكان العرب قبل عصر الإمام الصادق (عليه السلام) يعنون بالأدب الشعر، وهناك آثار من الأدب المنثور نلمحها في العصر الجاهلي، ولكن الآثار الأدبية المنثورة كانت قليلة في القرن الأول من تاريخ الإسلام، باستثناء ما أبدعه المسلمون في هذه الفترة، وفي طليعتهم الإمام علي (عليه السلام)، الذي كان من أمراء النثر، وكانت خطبه في المناسبات المختلفة ذروة في البلاغة النثرية. وقد قام واحد من أحفاده بجمع خطبه في كتاب أسماه (نهج البلاغة.وبفضل الإمام الصادق (عليه السلام) وتشجيعه للأدب عند العرب، ظهرت كتابات منثورة اعتباراً من هذا العصر.
وقد قيل إن الإمام الصادق (عليه السلام) هو أول من رصد جائزة أدبية في تاريخ العرب، ولكن إذا كان المقصود بالجائزة الأدبية هو إعطاء الأديب أو المؤلف مبلغاً من المال، فإن جائزة الإمام (عليه السلام) تختلف عن ذلك، لأن العرب اعتادت منح جوائز إلى الشعراء وتقريبهم من الحاكم، وهي عادة استمرت بعد الإسلام، فكان الشعراء يمدحون الولاة تقرباً منهم.
ولكن العرب لم تألف تقريب أصحاب الأدب المنثور أو مؤلفي الدراسات الأدبية أو التاريخية إلى الولاة. وهنا جاء صنيع الإمام الصادق (عليه السلام) صنيعاً مقدراً.
والذي لا ريب فيه أن الإمام الصادق (عليه السلام) شجع الأدب بنوعيه المنثور والمنظوم، وعين جائزة له، ولكننا لا نعلم على وجه اليقين هل كان هو البادئ بهذا أو أبوه الإمام الباقر (عليه السلام).
وكانت هيئة التحكيم تتألف في بادئ الأمر من الإمام نفسه واثنين من تلاميذه، ثم أصبحت تتألف من خمسة أعضاء، وتعطى الجائزة باتفاق ثلاثة منهم.
وكان من عوامل انتشار الأدب وذيوعه في أيام الإمام الصادق (عليه السلام) أن الإمام لم يكن يفرض على الناس رأياً بعينه أو اتجاهاً منصوصاً عليه في الكتابة. فكان الأديب يختار الموضوع الذي يتفق مع رغبته وذوقه، كما كان الإمام من ناحيته يرحب بالأثر الأدبي، منثوراً أو منظوماً، ويتقبله برحابة صدر وإنعام نظر.
وفي رأيه أن الأديب هو الذي يبدع أثراً في النظم أو النثر يتفق مع تعريف الإمام (عليه السلام) للأدب، وليس كل ما أوتي قدرة على ارتجال القصائد أو الخطب أو المواعظ، كما كان يرى أن الأدب ضرورة للثقافة الدينية، بل هو ضرورة لتعزيز مكارم الأخلاق في نفوس الناس وإعلاء شأنها والسمو بها
وكان من رأي الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أن نشر المعارف الشيعية التي أقيمت أركانها على أربعة دعائم، هي المذهب والأدب والعلم والعرفان، أهم من بناء مراكز وإقامة مؤسسات ضخمة للشيعة، كما هو الشأن عند الكاثوليك مثلاً. وكان يرى أن المجتمع الذي يتحلى أفراده بالعلم والأدب، والذي يبرأ من الظلم والعدوان على حقوق الغير، هو المجتمع الذي تنتظم فيه العلاقات بين أفراده، وتطرد أمورهم في سهولة ويسر.
ولهذا لم يشيد الإمام الصادق (عليه السلام) لأتباعه مركزاً ضخماً أو صرحاً باذخاً ككنيسة القديس بطرسفي الفاتيكان، ولكن الرصيد الذي خلفه من التراث الثقافي كان أدعى إلى الاستمرار والحيوية من الصروح البابوية الباذخة، فقد كان يدرك أن المشيدات من الأبنية قد تنهدم، كما كان مصير المبنى الأول لكنيسة القديس بطرس، ولكن المعارف والعلوم الشيعية التي أرسى الإمام قواعدها قويت رغم جميع المناوئين والمعارضين.
وقد شيدت كنيسة القديس بطرس للمرة الأولى بأمر من الإمبراطور قسطنطين الروماني، وكان أول إمبراطور مسيحي، واستغرق بناؤها عدة سنوات منذ شرع فيه عام 326م، ولم تلبث هذه الكنيسة أن هدمت بأمر من البابا يوليوس الثاني، وشيدت في مكانها الكنيسة الحالية، وهي بدورها تحمل اسم القديس بطرس.
ولو انصرف اهتمام الإمام الصادق (عليه السلام) إلى بناء العمائر أو المدارس العظيمة المشيدة، لكان من الميسور هدمها بفعل الأحداث أو المناوئين، ولاندثرت آثارها في يومنا الحاضر. ولكنه آثر أن يرسي أساس ثقافة دينية لا تزعزعها الأعاصير، فطاولت الزمن ولم يقو المناوئون على القضاء عليها. وحرص الإمام على توطيد أركان الدعائم الأربع التي سبق ذكرها، بحيث أن القرن الثاني الهجري لم يكد ينقضي حتى انتشر العلم والأدب في ربوع العالم الإسلامي، وانطلقا به إلى عصر النهضة.
فلولا مدرسة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ولولا تشجيعه الشخصي لجميع جوانب العلم والأدب، لما ازدهرت العلوم في العالم الإسلامي في القرنين الثالث والرابع للهجرة، وأن الذين ينسبون إلى الخلفاء العباسيين فضلاً في الازدهار الذي عرفته العلوم في العالم الإسلامي آنذاك، يخطئون في تقديرهم وحكمهم، لأن الخلفاء العباسيين الأوائل كان همهم الشاغل توطيد أركان حكمهم والقضاء على الأمويين وخصومهم، أما الخلفاء الذين أتوا من بعدهم، فلم يعرف عنهم إلا الانغماس في الملذات والفسق والشراب ومجالس اللهو واللعب، مما استفاضت أخباره في كتب السير والتاريخ، ولئن نسب إلى المأمون والمتوكل اهتمامهما بالعلم، فأن هذا لم يشغل من وقتهما إلا جانباً صغيراً، وإن قلة قليلة من مجموع الخلفاء العباسيين السبعة والثلاثين الذين تداولوا الحكم في معظم العالم الإسلامي طوال خمسمائة عام هي التي عزفت عن الملذات وانصرفت إلى العلم والأدب. وقد اضطلعت هذه القلة القليلة بدور كبير في تطوير العلوم والحضارة الإسلامية، بفضل ما توافر لها من الإمكانيات المادية الضخمة التي مكنتها من تقديم الهبات والعطايا السخية إلى العلماء والشعراء والأدباء، واجتذابهم من أقطار الأرض وتشجيعهم على التأليف والاستنساخ، فضلاً عن قيامهم بتأسيس دار الحكمة في بغداد.
ومما يذكر أن العرب في الجاهلية كانت لهم عناية فطرية وتقليدية بالشعر، أي الأدب المنظوم.
يقول الفيلسوف الألماني شوبنهاور إن البدوي العربي كان يستمع إلى إنشاد المقطوعات الشعرية فراراً من الكسل وتزجية للوقت.
وهذا الرأي لا ينسحب على العرب وحدهم، وإنما ينسحب على الناس جميعاً، لأن شوبنهاور كان يقول بأننا إذا استثنينا الوقت الذي يصرفه المرء في تحصيل الكسب، فإن كل الجهد الإنساني إنما ينصرف إلى الاهتمامات الشخصية وإزجاء الوقت.
وقد علق هذا الفيلسوف فوق مكتبه لوحة كتبت عليها عبارة (عدوك من دعاك إلى غداء أو عشاء، فمنعك بذلك عن العمل). ولا يسعنا إلا أن نقول بمنطق شوبنهاور نفسه إنه اشتغل بالفلسفة فراراً من البطالة، ذلك لأنه كان يدرس الفلسفة ويرتزق منها.
كان ديدن الشعراء العرب في الجاهلية وما بعدها التقرب من رؤساء القبائل والأمراء ونظم قصائد المدح فيهم، ولكن شعراء الجاهلية كانوا يتوخون الاعتدال في المديح ولا يذهبون في المغالاة مذهب الشعراء الذين جاءوا بعدهم في العصر الإسلامي والعصور المتأخرة.
ويعتقد البعض بأن أسواق العرب كعكاظ وسواها كانت مقصد الشعراء طمعاً في الأموال والهبات، ولكن الواقع أن هذه الأسواق كانت منصوبة لخدمة الأدب، وكان لها دور ثقافي واجتماعي هام في حياة العرب. وكان الشعراء يتسابقون في نظم قصائد التفاخر أو المديح أو الهجاء تحقيقاً لمآرب لا طلباً للعطايا والهبات.
ولكن هذه الأسواق لم تعرف إلا قصائد الشعراء وكلامهم المنظوم. أما الخطباء الذين ينثرون الكلام نثراً أو يجودون العبارة تجويداً، فلم تكن أسواق عكاظ وسواها تعرفهم، لأن النثر كان أدنى منزلة من الشعر. فلما جاء القرآن الكريم في لسانه المبين، أقام البرهان للعرب على أن الأدب المنثور قد ارتقى إلى قمة فاقت الأدب المنظوم، وحاول العرب تحدي لغة القرآن، فكتبوا (مقامات) تنكبت طريق الجد، ولكنهم أخفقوا في مساعيهم، وأصبحت اللغة القرآنية إعجازاً في البلاغة، ونموذجاً رفيعاً في الفصاحة، يستشهد بآياته وتستخرج منه الحكمة والأمثال في السياق الأدبي وفي السياق الديني في آن واحد.
ويعد القرآن الكريم أصلاً من أصول اللغة، بأسلوبه النثري الرائع، ولا غنى لأديب أو كاتب عنه لأنه أروع آيات البيان، وقد عجزت العرب عن الإتيان بمثله أو محاكاته. فلما جاء الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وحفيده علي بن الحسين(عليه السلام) اجتهدا في صنع أسلوب قرآني بلاغي فريد، فترك الأول مجموعة خطبه مسجلة في كتاب (نهج البلاغة)، وهي فصول في الموعظة والحكمة والسياسة والأدب، وترك الثاني كتاب (الصحيفة السجادية) وهو يضم أروع النماذج في الدعاء والابتهال إلى الله ومناجاة الحبيب، مما يردده كل عارف بالله وزاهد وصوفي (حقيقي).
ثم جاء الإمام الصادق، حفيد علي بن أبي طالب (عليه السلام) فشجع الناس على الكتابة، ودفع تلاميذه وأصحابه إلى التأليف والتصنيف، فاستهل بذلك عهداً جديداً من عهود الأدب المنثور، ولا غرو، فقد مر بنا قوله:
ليس اليتيم الذي قد مات والده إن اليتيم يتيم العلم والأدب
منقول للفائدة
منقول للفائدة
تعليق